الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

ثم و «تتلو» تنفي كل ائتمام بأي كتاب قبل القرآن ، قراءة وإقراء وتعلّما وتفهّما ، وعلى الجملة سلبية التلاوة له مطلقة محلّقة على كل تلاوة قالبية أو قلبية ، والأولى تعم تلاوة السمع والبصر واللسان ، وتلاوته بيمنه وهي الكتابة ، وقد أفردت بالذكر بعد التعميم لأنها من المصاديق الخفية للتلاوة.

والثانية تعم التلاوة العقلية والقلبية ، ومن ثم التلاوة التطبيقية.

إذا فسلبية التلاوة كما تحلّق على كل كتاب قبل القرآن ، كذلك تحلّق على كل ائتمام واتباع لكتاب قبله ، فقد كان منفصلا عن كل كتاب تلاوة له وخطا بيمنه «إذا» لو كان يتلوا ويخط من قبله من كتاب (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) لحجة القرآن علّه مما تلاه من كتاب فجمعه خطا بيمينه كتابا سماويا كما يهرفه الخارفون أنه جمعه من كتابات السماء ، ام كتابا أرضيا ، كما يتقوله آخرون (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥ : ٥) ، ولما ذا «بيمينه» والكتابة بطبيعة الحال تكون «بيمينه»؟ علّها تعني ـ إضافة إلى يمين الجارحة وهي المتعودة للكتابة ـ تعني يمين القدرة ، فلم يكن بمستطاعه أي كتب لأي كتاب سواء في سجلات القراطيس وأشباهها ، ام في سجلات خاطراته المقدسة لو سمع شيئا من كتاب ، وهكذا كان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ أن كان فطيما حتى أنزل عليه القرآن ، لم تعرف منه أية تلاوة عن كتاب أم عن ظهر الغيب ، ولا مراجعة إلى أيّ من أهل الكتاب ولا مدراسة لوحي الكتاب وسواه ، ومن هنا نتلمح كصراح أنه ما كان يتّبع شرعة تقليدية من ذي قبل ، حيث السلبية المطلقة لتلاوة اي كتاب من قبل تنفي كل ائتمام واتباع لأي كتاب ، فاتباع كتاب الشرعة يتطلب قراءته ، او اقراءه لمن لا يقرءه ، حتى يتطلع إلى فرائضه ومحاظيره ، (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) تستأصل أية قراءة وابتّاع ، أن لم يأتمّ بأي كتاب ولا أي صاحب كتاب ، فما قلد محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل القرآن أية شرعة

٨١

تقليدية! إذا فما كانت شرعته ـ وهو أفضل المصطفين ـ قبل شرعته وبعده؟

حين نتأكد أنه ما كان يتلو من قبله من كتاب من ناحية ، وانه كان أعرف أهل زمانه وأعبدهم لربه قضية الاصطفاء للرسالة الأخيرة من أخرى ، إذا فأمره محصور بين أمرين : (١) أنه كان يوحي إليه بنبوءة شخصية ، معرفية متصلة متواصلة ، (٢) وعملية منفصلة الوحي ، وكما يشهد له قول الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام): «ولقد قرن الله به منذ ان كان فطيما أفضل ملك من ملائكته يسلك به سبيل المكارم ويرشده إلى أفضل أخلاق العالم ليله ونهاره ..»!

ومما يؤكد تلك السلبية الجامعة آية الشورى (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)(٥٢).

ثم و «من قبله» هنا تحدد تلك السلبية إلى حد نزول القرآن ، حيث أصبح بعده أقرء القراء واتلى التالين للكتاب والخاطين له بيمينه خطا في أية سجله من السجلات ، فهل توجد تلاوة لكتاب بكل حواياه وزواياه مثل تلاوته القرآن لنفسه وعلى الناس كافة؟ كما وكتاباته (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتوقيعاته إلى الملوك والرؤساء والشيوخ معروفة ، ومنها ما هي مسجلة في كتاب فذّ (٣).

فهذه الآية تستأصل جذور الارتياب في ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، إجابة عن شطحات القيلات الجاهلة القاحلة : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي

__________________

(١) لاطلاع اكثر على الموضوع راجع ج ٣٠ : ٣٤٧ من الفرقان وتفسير الآية «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» (٤٢ : ٥٢).

(٢ ، ٣). مثل مكاتيب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للشاهرودي ، وسواه.

٨٢

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٦) (١) ، ولقد ذكرت امية محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كتابات السماء بصيغ مختلفة كما في كتاب اشعياء ٢٨ : ٩ ـ ١٤ عن أصله العبراني :

«إت مي يوره دعاه وإت مي يا بين شموعا غكمولي محالاب عتيمي مشادايم» (٩) : لمن ترى يعلّم العلم ولمن يفقه في الخطاب أللمفطومين عن اللبن للمفصولين عن الثدي» (٩) ... ثم يستمر في مواصفات وحي القرآن (٢).

وفي نص عبراني آخر من التوراة : «يدعو ييسرائل إوايل حنبيا مشوكاع إيش هاروح عل روب عونخا ورباه مشطماه» :

بنو إسرائيل يعلمون ويعرفون ان النبي الأمي المصروع صاحب روح إلهامي وصاحب الوحي ، وهنا يقول «ربي حييم ويطال» في كتاب «عصحييم» أن القصد من النبي الأمّي هنا إنما هو محمد بن عبد الله الذي بعث في عهد عبد الله بن سلام.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ٤٩.

«بل» هنا إضراب عن كل قيلة عليلة حول القرآن «هو» القرآن

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٦٤ في عيون الأخبار في باب مجلس للرضا (عليه السلام) مع أهل الأديان والمقالات في التوحيد قال الرضا (عليه السلام) في أثناء المحاورات : وكذلك امر محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما جاء به وامر كل نبي بعثه الله ومن آياته ان كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلم كتابا ولم يختلف إلى معلم ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم السلام واخبارهم حرفا حرفا واخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة.

(٢) راجع كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ١٠٨ ـ ١٠٩.

٨٣

«آيات» تدلنا بنفسها على انها إلهيات «بينات» الدلالات على ذلك : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : ما به يميز الآية عن سواها ، سواء في ذلك علم الكتاب كما لأهل الكتاب ، أم علم لغة الكتاب كما لسواهم كالمشركين وسواهم ، العارفين لغة الكتاب ، وحتى غير العارفين حين يترجم لهم الكتاب ، فالفطرة والعقلية السليمة تكفيان للإتقان أنها آيات الله ، مهما اختلفت درجاته حسب درجات (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وأعلاهم هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل بيته عليهم السلام ، فكما آياته لهم بينات الدلالة على إلهيتها ، كذلك هي بينات الدلالة على مداليلها فإنهم هم الراسخون في العلم في بعدي الدلالة والتدليل للقرآن العظيم ثم «بينات» تحلّق على كل بينة في كافة الحقول المعرفية ، بينات الدلالة وبينات التدليل لأعلى القمم العالية الكافية لمن يتحرى عن هدى.

فلا يختص (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالرعيل الأعلى من أهل بيت الرسالة المحمدية صلوات الله عليهم أجمعين ، حيث القصد هو العلم الذي يكون ذريعة للحصول على بيّنات الكتاب وهو درجات بين العبارة والإشارة واللطائف والحقايق ، فقد تكفي العبارة وهي المعاني المطابقية الترجمانية الساذجة ، دليلا على بينات آياته.

و (أُوتُوا الْعِلْمَ) يعم العلم الفطري والعقلي المؤتيان لكل مكلّف ، والعلم التعقلي المؤتى لمن يطلبه بتفكير أو دراسة ، وعلم الإلهام ثم علم الوحي المؤتيان للآهلين لهما على درجاتهم ، فالعلم أيا كان طبيعته الكشف عن الحق ، فبقدر العلم المستخدم لتفهّم الكتاب (هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) درجات حسب الدرجات ، ان استعمل العلم في صالحه كشفا عن الحق المرام.

(بَلْ هُوَ آياتٌ ... فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم منازل وحي

٨٤

القرآن ، دون وسيط كالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ام بوسيطه كما الأئمة المعصومون عليهم السلام ، كما (هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ككل ، فمهما لم تكن آياته في صدورهم ، فهي ببينات في صدورهم لمّا تتلى عليهم أم يتلونها.

إذا ف (هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ ..) ـ «آيات في صدور» و (بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ) بينات الدلالة والتدليل (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) كلّه بالكتاب وهم الرعيل الأعلى(١).

ثم في صدور الحفاظ لها لفظيا ومعنويا كالعلماء الربانيين في علوم القرآن ، في الدلالة والتدليل على أقدارهم ، ثم في صدور حفاظها معنويا مهما لم يحفظوها لفظيا ، في الدلالة والتدليل ، على أقدارهم.

وأخيرا في صدور المستدلين بها على كونها إلهيات ، مهما اختلفت صدور عن صدور ، وبينات بين الأدنى والأعلى وبينهما متوسطات.

فهنا مثلث : الحفظ لفظيا ، والدلالة على كل حقائقها ، والتدليل بها على إلهيتها ، هي الخاصة بالمعصومين عليهم السلام (٢).

ثم التدليل بها ـ فقط ـ على إلهيتها ، يعم كل من بامكانه التعرّف إلى حالة المعنى وهالة المعني منها ، وبينهما متوسطات في أبعاد الحفظ لفظيا ومعنويا ، والدلالة والتدليل.

__________________

(١) حسب هذا الاحتمال فالقرآن آيات بينات في صدورهم بكل مراحله دون إبقاء آيات في صدورهم ، هي بينات في صدورهم ، ثم يتلوهم من هي بينات في صدورهم مهما كانت آيات ـ كذلك ـ في صدورهم كالحفاظ ام ليست في صدورهم إلا بينات ، وكما الصدور درجات فالبينات ايضا درجات.

(٢) نور الثقلين ٤ : ١٦٤ ـ روى بأسانيد عدة عن الصادقين عليهما السلام انهم الأئمة عليهم السلام.

٨٥

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أيّا كانت : آفاقية وأنفسية ، رسوليا ورساليا وكتابيا (إِلَّا الظَّالِمُونَ) أنفسهم والظالمون الحقّ الناصع ، تغافلا عن فطرهم وعقولهم وفكرهم ، وتجاهلا عن العلم الذي أوتوه من ربهم ، فكل بصيرة ـ مهما كانت كليلة ـ تبصر ربوبية الوحي الرسالي في القرآن ونبيه ، فما أظلمهم وأجهلهم هؤلاء الأوغاد المناكيد الجاحدين لآية القرآن وسواه من آيات الله البينات!

وهنا «الظالمون» قبال (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بدلا عن «الذين لم يؤتوه» أو «الجاهلون» للتدليل على ان الجاحدين بآيات الله ليسوا يفقدون العلم الذي به تعلم آياته البيّنات ، بل هم ظلموا الذي أوتوه من العلم ، تنازلا عنه وتجاهلا وتغافلا عامدا أم متساهلا ، فقد ظلموا بذلك ما أوتوه من العلم ف (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ام لم يدّبّروا القرآن لكي يستيقنوا فيؤمنوا.

فليس الجاحد بآيات الله إلّا ظالما ، عالما أو جاهدا ، ما دام انه مقصر في ذلك الجحود ، حيث لم يستعمل العلم المؤتى له في صالحه.

ولما ذا «في صدور ..»؟ لأنها أولى مقامات الايمان الإتقان ، حيث يغربل العلم فطريا وعقليا وعلميا وحسيا إلى الصدور ومنها إلى القلوب ، فما لم يصل إلى الصدور لم تحصل بينة على ضوءه ، فكثير هؤلاء الذين يعلمونها دون صدورهم وليست لهم بينات!

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ٥٠.

«من ربه» هنا دون «الله ـ أو ـ رب العالمين» تعريضة عليه ساخرة ، أنه لو كان ربّه فكيف أهمله إذ أرسله دون آية تدل على رسالته ، فهل ضنّ به

٨٦

أم غفل عنه ، أم هو كاذب في دعوى الرسالة؟!.

وهنا الآيات المقترحة عليه هي الملموسة المحسوسة المتعود عليها طيلة الرسالات السالفة جهلا منهم أو تجاهلا ان ليس على الله إلّا الآية التي تثبت الرسالة ، واما كون الآيات الرسالية على نسق واحد فلا ، بل المفروض في كل رسالة ان تلائمها الآية الرسالية ، فالرسالة المحدودة تكفيها الآيات الوقتية المحدودة ككل الرسالات قبل الأخيرة ، والرسالة المحلّقة على كل عصر ومصر لا تكفيها الآيات المحدودة ، بل الآية الخالدة التي هي أقوى من كل الآيات الرسالية مادة ومدة ، مادة تجذب كل العقلاء على مراتبهم وفي كل حقولهم العقلية والعلمية ، ومدة تستمر إلى آخر زمن التكليف.

فالآيات الرسالية المادية التي صاحبت اصحاب الرسالات من قبل في غضون البشرية وعنفوانات الوحي ما كانت حجة إلا زمن كل رسول حين تظهر على يديه ، وهذه الرسالة الأخيرة البالغة لأعلى القمم الرسالية ، من الضروري لها الحجة الحاضرة في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، محلقة على كل المجالات في كل الحالات ، دون أية غيبوبة لشمسها ، بل ولتزدد إشراقة فوق إشراقة على غرار تقدم العقول والعلوم ، متفتحة كنوزها لكافة الأجيال.

فآيتها الرسالية «القرآن» دائبة الدلالة في كل زمان ومكان ، دون اختصاص بالحياة الرسولية كما في سائر الآيات الرسالية لسائر المرسلين ، بل وتحيى في الحياة الرسالية كما الرسولية بل وأقوى واندى ـ حيث تظهر منها حقائق ورقائق وتبهر ، ما لم يكن الجيل الحضور زمن الرسول ليدركوها فإن للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن.

وهؤلاء المجاهيل حين يقترحون على هذا الرسول آيات مادية وقتية

٨٧

كالسالفة ، قد يسخرون منه بقولتهم المتحدية (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) إن كان ربه ، فكيف تركه ربه وهو يدعي خاتمة الرسالة وأقواها؟!

والجواب القاطع القاصع يتشكل من سلب وإيجاب ، فالسلب يعني انه لا يملك من الله آيات حتى يبرزها أو يستزلها : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) : كل الآيات الرسالية مادية ومعنوية هي عند الله لا سواه ، عند الله علما وقدرة وحكمة لإنزالها (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠ : ٢٠) ـ فالآيات الرسالية هي من الغيب المخصوص بالله بكل أبعادها : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : رسالتي انا محصورة في «نذير» عن بأس الله «مبين» في نذارتي دون إبهام ، واما سند الرسالة ، فهو كاصلها ، فليس إلّا عند الله ، فكما الله هو الذي أرسلني وأوحى إلي ، كذلك هو الذي ينزل علي آية الرسالة المثبتة لها ، ثم الجواب الإيجابي هو آية القرآن الكافية عن كل آية :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٥١.

والواو هنا تعطف إلى محذوف هو بطبيعة الحال آية كما القرآن آية ، وليست إلّا الرسول نفسه ، ألم تكفهم أنت بما تحمل أعلى قمم التربية الرسالية (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ..) وكما المرسلون دونه يستدلون لرسالتهم الإلهية بالتربية الرسالية اللامعة فيهم : (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (٣٦ : ١٦).

فقد يكفي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنفسه ، بحاله وأفعاله وأقواله وان لم يأت بالقرآن ، يكفي آية بينة رسالية برسوليته ، فهو هو القرآن ، متجسدا في كل أحواله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ

٨٨

مُبِينٌ) .. فهو القرآن نفسه تكيمينا كما كتابه المنزل عليه قرآن تدوينيا! وقد تلى عليكم كتاب حياته رسالية قبلها! وإذا لم تكفهم أنت آية لرسالتك لكلّ البصر وقصر النظر (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ..) تلاوة هي على الأسماع أسهل ، وعمرها أطول ، فهي على هذه الرسالة أدلّ وأنبل ، فقرآن محمد ومحمد القرآن آيتان بارعتان كلّ تؤيد الأخرى ، ام هما آية واحدة والثانية القرآن هي استمرارية للأولى : رسول القرآن ، حيث يعيش في كل الحياة الرسالية ويعيّش بآيتها البارعة كل متحر عن حق الرسالة وحاقها.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) عن كل آية رسالية ان يحلق الوحي الآية الزمن الرسولي بنجومه ليل نهار ودونما انقطاع نزولا على الرسول ، ثم ويحلّق الزمن الرسالي بما بين دفتيه مؤلّفا بوحي كما نزل بوحي ، شمسا مشرقة على قلوب وأفكار الكلفين إلى يوم الدين.

إن القرآن آية كافية ، آية خالدة وكتاب شرعة خالدة على حد قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): و «كفى بقوم حمقا أو ضلالة ان يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم ..» (١) وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم انا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٨ عن يحيى بن جعدة قال جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : .. فنزلت هذه الآية وفيه عن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثله.

(٢) المصدر اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن الضريس والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الايمان عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال دخل عمر بن الخطاب على النبي ـ

٨٩

ويقول لعمر بن الخطاب حين قال له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا ان نكتبها! يا ابن الخطاب! أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى

__________________

ـ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب اعرضها عليك فتغير وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تغيرا شديدا لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحارث لعمر اما ترى وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال عمر رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فسرى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : لو نزل موسى .. وفيه عن الزهري ان حفصة جاءت إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرءه عليه والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتلون وجهه فقال : والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وانا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ، وفيه اخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة ان عمر بن الخطاب مرّ برجل يقرء كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل اكتب لي من هذا الكتاب قال نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجعل يقرءه عليه وجعل وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتلون فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب اما ترى وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ اليوم وأنت تقرء عليه هذا الكتاب فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند ذلك انما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون ، وفيه عن عمر بن الخطاب قال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن تعلم التوراة فقال : لا تتعلمها وآمن بها وتعلموا ما انزل إليكم وآمنوا به» و (٤٤) الثانية في نفس المصدر.

أقول : وهذه النواهي لا تشمل ما إذا قورنت آيات من الكتب السماوية بآيات قرآنية تثبيتا لوحي القرآن وصدقه وانه أفضل وأكمل من سائر الوحي ، وقد الفنا في المقارنات كتبنا الثلاثة «المقارنات ـ رسول الإسلام ـ عقائدنا» والقرآن يأمرنا في آيات بتلك المقارنات التي فيها اثباتات وتأييدات لموقف القرآن.

٩٠

أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصارا» (١).

اجل وفي هذا القرآن كفاية عن كلما دق وجل ، المذكورة في كل كتابات السماء والأرض ، وهو المحور الأصيل ردا لكل شارد وإيرادا لكل وارد ، لا يقبل إلّا ما وافقه ، وينكل بكل ما فارقه ، و (إِنَّ فِي ذلِكَ) الوحي الآية ، البالغ في بعدي وحي الرسالة وبرهانها ، النهاية «لرحمة» رحيمية ربانية خالدة على مدار الزمن «وذكرى» تذكّر كل منسي ومجهول (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بآيات الله ، حيث القرآن خير آية رسولية ورسالية قاصعة قاطعة لا ريب فيها ، فقوم يؤمنون زمن الرسول وبعده إلى يوم الدين ، لهم في آية القرآن الكفاية التامة الطامة ، دون حاجة إلى آية أخرى بصرية أو بصيرية ، فانها الشهادة الكاملة الكافلة الإلهية بين الرسول وكافة العالمين :

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ٥٢.

وليس هذا كلاما خطابيا ودعوى فاضية عن برهان ، بل هو اتقن برهان لوحي القرآن انه شهادة إلهية كافية بين الرسول وكافة العالمين ، فطالما لله شهادات لسائر الرسل في سائر الآيات الرسالية ، ولكنها ما كانت لتكفي إلّا وقتية محدودة بحدودها المقررة لها ، واما القرآن ـ كما ورسول القرآن ـ فهو شهادة ذاتية كافية ما أكفاها لحق الرسالة بحاقها ، لا تختص بزمان دون زمان ، ولا بأهل زمان دون آخرين ، بل هي حجة رب العالمين إلى يوم الدين ، فكما الله (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كذلك كتابه الشهيد يحوي من علم الله ما في السماوات والأرض ، علما يختص بالله ، فالقرآن الحاوي لذلك العلم ليس إلّا من الله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ

__________________

(١) المصدر ١٤٨.

٩١

وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦) والرسول بقرآنه هما بينة من ربه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١١ : ١٧) وهو شاهد (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ..) (٣٣ : ٤٥) كما القرآن شاهد : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... (٦ : ١٩) فكلّ من القرآن والرسول شاهد باني على هذه الرسالة السامية ، وهما متعاضدان ، ف (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤٨ :) ٢٨).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو هنا وجاه الله كل ما سوى الله ، اللهم إلّا ايمانا برسل الله وهو ايمان بالله (.. آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ) وبرسل الله الحاملين شرعة الله .. «أولئك هم» لا سواهم «الخاسرون» نشأتي الحياة مهما اختلف خسران عن خسران في الآخرة والأولى.

فالإيمان بالله كسب في ذاته ، وكسب في اتجاهاته وإنتاجاته ، فانه طمأنينة في الحياة ككل ، واستقامة في مكاسب الحياة ، وثقة على أحداثها ومتراس في أكراثها ، ويقين بالعاقبة الحسنى ، وكل ذلك يخسره الكافرون ، ومن خسارهم :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ٥٣ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ٥٤.

قائلين : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) : هم يتحدّونك إبطالا لرسالتك

٩٢

استعجالا بالعذاب الذي تنذرهم به ، هزء بك وتعجيزا لك (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لأمد العذاب وهو الحياة الوسطى البرزخية والأخرى الآخرة (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) كما يستعجلون ، وقد يعم العذاب هنا عذاب الآخرة والأولى ، ولكلّ أجل مسمّى لا سيما الأخرى ، وليس الله ليخرق الضابطة الثابتة في «اجل مسمى» لأنهم يستعجلون «وليأتينهم» العذاب الذي يستعجلون «بغتة» إمّا هاهنا كما في قرون هالكة مضت ، ام بعد الموت ، وكل ذلك فيه مباغته العذاب ، وهي عذاب فوق العذاب (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إتيانه المباغت ، ولا أصله ، وهم لا يشعرون الحق تجاهلا وتغافلا ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حين (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أن (لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ).

ومن الغريب انهم (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) وهم في أنفسهم بكفرهم جهنم العذاب (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) تحملهم ويحملونها يوم الدنيا ، ثم تبرز لهم يوم الدين :

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ٥٥.

فذلك العذاب الذي يغشاهم يومه ، هو الذي عاشوه بكفرهم قبل يومه ، فلذلك «يقول» الله لهم هناك (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالأعمال السيئة التي قدمتموها هي عذاب الجحيم ، ف (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) باطنة يوم الدنيا وظاهرة يوم الدين ف : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)!

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ٥٦.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا

٩٣

حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩ : ١٠).

وترى إذا المخاطبون هنا هم (عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) فهم عابدون ـ إذا ـ ومتقون ، فكيف يؤمرون بهما؟

ذلك لأن ارض الكفر والفسق تضيّق عليهم مجالات الإيمان وجلوات أعمال الإيمان ، فإذا استمروا فيها يقلّ فيهم الإيمان وعمل الايمان ، فليهاجروا منها إلى أرض اخرى بإمكانهم فيها ان يستمروا في الايمان والعبادة والتقى ، ام وزيادة فيها.

ثم وقد يصح امر المؤمن بالايمان ويعني مزيده على أيّة حال ك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ...). وعلى الجملة (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) لعبادي ، فلا تضيق بكم بما رحبت ، فلا عذر لكم في المضايق إذ ضيّقت ما دام الفرار إلى غيرها ميسور ، وهو قطعا ميسور ، وأدناه الفرار إلى الأقل مضايقة : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٤ : ١٠٠) ، وقد يروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «البلاد بلاد الله والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرا فأقم» (١) ، وهنا نتأكد من الحصر في (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) متفرعا على «ان

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٩ ـ اخرج احمد عن الزبير بن العوام قال قال رسول الله (صلّى

٩٤

أَرْضِي واسِعَةٌ» امكانية إخلاص العبادة ككل وحصرها في الله في واسعة ارض الله ، اللهم إلّا لمن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا للفرار عن ارض الظلم والضغط ، فعليهم ـ إذا ـ سنة التقية حفاظا على البقية الممكنة من عبادة الله وطاعته.

فما الطفه وأرأفه الخطاب (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) حفاظا على ايمانهم أيا كانوا ، وهجرة بايمانهم في ارض الله الى ما هي أءمن لإيمانهم ، فأنتم عبادي وهذه ارضي تسعكم ان تعبدوني انا ، فإذا خفتم على ايمانكم أم على عمل الايمان في جانب من ارضي فهاجروا إلى اخرى ف (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فليس وطن المؤمن إلّا ما يتوطن بإيمانه ، قريبا فيها أم غريبا ، بعيدا عن اهله ام قريبا ، فلا يهجس المؤمن هاجس الأسى لمفارقة الوطن المولد ، أو الوطن المسكن ، ما دامت الأرض كلها لله ، والمؤمن هو عبد الله ، فليعبد الله في ارض الله مواطنا ام مهاجرا ، والهجرة في دين الله محنة وليست مهنة ، وأحب البقاع إلى الله ما تعبد فيها الله كما يرضاه.

واخطر الخطر الذي قد يهجس في بعض القلوب مانعا عن الهجرة عن أرض الوطن هو الموت ولكن :

__________________

ـ الله عليه وآله وسلّم) : .. وفيه عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سافروا تصحوا وتغنموا.

وفي نور الثقلين ٤ : ١٦٧ عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية يقول : لا تطيعوا اهل الفسق من الملوك فان خفتموهم ان يفتنوكم عن دينكم فان ارضي واسعة .. وفيه عن المجمع قال ابو عبد الله (عليه السلام) معناه إذا عصي الله في ارض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها ، وفيه في جوامع الجامع عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من فر بدينه من ارض إلى ارض وان كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق ابراهيم ومحمد عليهما السلام.

٩٥

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ٥٧ (١).

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٤ : ٧٨) ثم الموت في المهجر حياة ، كما الحياة في الوطن ـ حين يضيّق على الايمان وقضاياه ـ هي موت ، و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) لا أنها تموت موت الفوت ، فذوق الموت عبارة عن الانتقال عن الحياة الدنيا الى الحياة البرزخية ، فالنفس تذوق الم الانتقال على أية حال ، ولا تعني «الموت» في آياتها إلا ذوق الموت دون الفوت المطلق ، فإنما الموت عن الحياة الدنيا ، وكما تدل عليه آيات الحياة البرزخية وجنتها ونارها.

ولأن «نفس» لا تطلق على الله إلّا إضافة إليه «نفسه» كما «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» فلا تشمله «كل نفس» حتى يخرج بأدلة خارجية عقلية ونقلية ، وانما تشمل نفوس ما سوى الله ومن سواه ، ما له نفس حية حيث تنتقل بالموت من حياة إلى أخرى «ثم» بعد ذوق الموت (إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أحياء بحياة أخرى هي أحرى ان تسمى حياة من الأولى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤) كأن الأولى ما كانت حياة ، وترى «الموت» هو غير «القتل»؟ فالقتيل إذا ـ في حق أو باطل ـ لا بد أن يرجع يوم الرجعة حتى يموت قضية هذه الشمولية ل (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)؟

__________________

(١) في الدر المنثور ٥ : ١٤٩ ـ اخرج ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما نزلت هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) قلت : يا رب أيموت الخلايق كلهم وتبقى الأنبياء فنزلت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

أقول : الآية الأولى صريحة في موته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فباحرى في موت سائر الأنبياء ، والثانية ظاهرة في موته وسائر الأنبياء ، فكيف يقنع بالآية الظاهرة دون الصريحة ، فالعكس قد يصح وقد حصل القلب خطأ من الراوي.

٩٦

ولا يرجع يوم الرجعة إلّا من محض الايمان محضا أو محض الكفر محضا كما في مستفيضة الأحاديث ، على ضوء آيات الرجعة ، وهذه رجعة بالاستعداد ، ثم من يستدعي من المؤمنين الرجعة ، وهي رجعة بالاستدعاء ، ومن يقتل في سبيل الباطل ليس ـ ككل ـ ممن محض الكفر محضا ، كمن يقتل في سبيل الحق ، فانه ليس ـ ككل ـ ممن محض الايمان محضا ، فضلا عمن يقتل في صدفة غير متقصّد لا في سبيل الايمان ولا اللّاإيمان!

ومهما عنت مقابلة الموت بالقتل ، الموت بغير القتل كما العكس ، فليست الموت دون مقابلة لتعني ـ فقط ـ غير القتل ، مهما خص القتل بمعناه دون حتف الأنف (١)

ثم الرجوع إلى الله يتطلب البداية منه أن كنا عنده ثم نرجع كما كنا ، وهكذا كنا قبل ان نمنح حيوية إنسانية مختارة ، ثم هبانا الله العقل والإختيار للاختبار ، ثم نرجع دون اختيار نتيجة الإختيار ، وهذه لمسات تلمس قلوبنا لتزيل عنها همسات واحتياطات لترك الهجرة والهجرانات في سبيل الله ، فمن ذا الذي يساوره الخوف ، او يحاوره القلق بعد هذه اللمسات؟.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٦٧ في تفسير العياشي عن زرارة قال : كرهت ان اسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجعة واستخفيت ذلك قلت لأسألن مسألة لطيفة ابلغ فيها حاجتي فقلت : أخبرني عمن قتل أمات؟ قال : لا ، الموت موت والقتل قتل ، قلت : ما احد يقتل إلّا وقد مات؟ فقال : قول الله أصدق من قولك ، فرق بينهما في القرآن فقال : فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ» وقال : (لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وليس كما قلت يا زرارة ، الموت موت والقتل قتل فان الله يقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قال : من قتل لم يذق الموت ثم قال : لا بد ان يرجع حتى يذوق الموت.

٩٧

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ٥٨ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ٥٩.

فالمهاجرة في الله حفاظا على الايمان وعمل الصالحات ، هي من أصلح الصالحات ، كما الصبر على مفارقة الأوطان وغضاضات الغربة في المهاجر ، والتوكل على الرب في كل ذلك ، هو من أصلح الصالحات ، وهؤلاء (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) هم أولاء موعودون بواء من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم اجر العاملين .. الصالحات الصائبات المستصعبات.

ويا لها من لمسات التشجيع والتثبيت لهذه القلوب المؤمنة المطمئنة بالإيمان ، في مواقف القلق والخوف والحرمان.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ٦٠.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ) (١١ : ٦) ، وحين يهجس في النفس المهاجرة خاطر الاضطراب على الرزق في المهاجر قضية مغادرة الوطن والأهلين أقارب وأنسباء وأحباء ، وكذلك الأموال ومجالات الأعمال ، إذا يطمئن الله تلك النفوس وأضرابها بانه هو الرزاق لكل مرزوق أيا كانوا وأيّان.

فإذا أنت ـ بزعمك ـ يحملك رزقك في الموطن فتخاف على عدمه أو قلته في المهجر ، ف (كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) بنفسها وفي اية محاولة منها (اللهُ يَرْزُقُها) وهي دابة أدنى من المؤمن المهاجر «وإياكم» حملتم رزقكم أمّا

٩٨

حملتم ، حين تؤدون واجب الاتجاهات الحيوية الايمانية (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقالاتكم وقالات الآخرين منكم ، السميع دعاءكم «العليم» بحالاتكم وحاجياتكم.

فليست هذه الآية واضرابها تسمح للبطلة والبتلة عن طلب الرزق ، بل هي تعني الذين يطبّقون واجبهم في المهاجرة وسواها بايمانهم فتنقطع عنهم أسباب الرزق في تقديراتهم ، فهنا يأتي دور الرزق من حيث لا يحتسب : (.. وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٦٥ : ٣).

وليست المهاجرة المضمون فيها الرزق من حيث لا يحتسب مختصة بترك الأوطان في الله ، بل هي كل مهاجرة في الله ، وأفضلها من يهاجر عن المكاسب المادية إقبالا على تعلم دين الله وتعليمه ككل الطلاب الربانيين لعلوم الدين ، فان الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

وليس الرزق المضمون لأهله هو الكثير الغزير دوما ، إنما هو أقله أم يزيد ، ما يقيم الأود وهو لقمة القوت ، البقية على حياة ، كيف لا والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على محتده العالي في تقوى الله مضى عليه ما لم يذق طعاما لأيام ، وعلى حدّقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ... وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ..» (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٩ ـ اخرج عبد وابن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عمر قال خرجت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال لي با ابن عمر مالك ـ

٩٩

إذا فالأصل المضمون من الرزق لأقل تقدير هو القوت ، وفي الدعوة الزيادة حسب الفاعليات والقابليات.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ٦١

فحين يصدق المشركون أنه تعالى خالق السماوات والأرض ، لا سواه ، وهو مسخّر الشمس والقمر لا سواه (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) اتجاه الإفك الكذب إلى غير الله ، طلب الرزق ام سواه؟.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ٦٢.

فما بسط الرزق معلّلا ـ ككل ـ ببسط السعي وقدره ، ولا قدره ـ ككل ـ بقدر السعي وقدره ، فكم من باسط السعي قدر عليه رزقه ، وكم من قدر السعي مبسوط له رزقه ، فما التعرض للرزق بأسبابه إلّا سببا من أسبابه وليس كلّ الأسباب ، فإنما هو بيد مسبب الأسباب ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سعيا وسواه ، وقدر الحاجة والحكمة في بسط الرزق وقدره.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ٦٣.

فحين يصدقون ان منزّل الماء من السماء ويحيي الأرض من بعد موتها

__________________

ـ لا تأكل؟ قلت : لا أشتهيه يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة ... فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين ، قال فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت : وكأين من دابة ... فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ان الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات ألا واني لا اكنز دينارا ولا درهما ولا ادخر رزقا لغد.

١٠٠