الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ٤١.

كل بيت انما يتخذ للرياحة بيتوتة وسواها ، آويا أم ثاويا ، فالبيت ملجأ ومأوى ومثوى ، وهنا مثل المشركين بالله كمثل العنكبوت ، ومثل تولّيهم من دون الله مثل بيت العنكبوت ، وكما (إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كذلك أوهن الأولياء هم الأولياء من دون الله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وللعنكبوت فضلها عليهم إذ يعبد الله ولا تتخذ بيتا كولي من دون الله ، فأين ـ إذا ـ بيت من بيت وثاو من ثاو ، والمرغوب من المثل ليس إلّا البعض في الممثل به وهو هنا الوهن.

فكل خط او خيط سوى خيط الله وخطه هو كخيط العنكبوت ، لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا ، اللهم إلّا مكيدة الاصطياد لبعض الحشرات طعمة للعنكبوت ، وكما يصطاد الذين يدعون من دون الله ضعفاء العقول.

وكما لا يحصل للعنكبوت أي حاصل من بيته كبيت كذلك لأمثاله من الذين يدعون من دون الله لا يحصل اي حاصل من ولاية ، بل هم خاسرون مهما لم يخسر العنكبوت من بيته!

فالولاية حقها إنما هي لله ليست لسواه ، لا تكوينية ولا تشريعية ، إلّا ولاية شرعية فرعية كما يأذن الله لحملة شرعته إلى العالمين ، ف (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) ليسوا هم فقط عبدة الأوثان والطواغيت ، بل وعبدة

٦١

الملائكة والنبيين وسائر الأولياء المكرمين ، لا فحسب بل والمسلمون الذين اتخذوا النبي أو الولي وليا من دون الله ، وكالة او نيابة عن الله ، ام مستقلا بجنب الله ، كل أولاء مثلهم (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) مهما اختلفت دركات ذلك الاتخاذ إلحادا في الولاية أو إشراكا قل أو كثر ، إذ لا ولي إلّا الله ، أم من ولّاه الله حملا لشرعته ، لا تكوينية ولا تشريعية ، قوة الله هي وحدها القوة ، وولايته هي وحدها الولاية ، وما عداها واهن ضئيل ، مهما خيّل إلى الهائمين في سائر القوات والولايات أنها قوة أو ولاية ، فهي كبيت العنكبوت ، حشرة ضعيفة ضئيلة ، واهنة رخوة ، لا حماية لها من تكوينها ولا وقاية لها من بيتها الأوهن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) تلك المماثلة الماثلة بين أيديهم ، و «لو» هنا تحيل لهم ذلك العلم لعمق التجاهل وحمق التساهل ، فامتناع علمهم هذا مسنود إلى تقصيرهم المختار والامتناع بالاختيار لا ينافي الإختيار. وهل في الحق إن بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق ، وحتى من بيوت الجراثيم غير المرئية بالعيون غير المسلحة؟ علّه نعم سنادا إلى عموم «البيوت» وعلّه لا حيث «البيوت» هنا هي التي ترى ، متناولة لكل راء ، دون ما لا ترى.

فأمثل الأمثال فيما يرى للذين اتخذوا من دون الله أولياء هو العنكبوت اتخذت بيتا ، وان حياة العنكبوت العجيبة ، المنضدة المنظمة ، مما تجلب النظر وتجذب إلى الله الذي خلقها ، ولا يعني ذلك المثل تنديدا بالعنكبوت وبيته ، بل القصد فقط تنظير ما يتخذ من دون الله من أولياء في وهنه ببيت العنكبوت ، وأما هو كخلق مما خلق الله ، بالغريزة البارعة في نسج بيته ، هو في ذلك الحقل من آيات الله البينات الدالة على كمال قدرته.

٦٢

نسوج العناكب

فمما تحير العقول وتقنعها باستحالة الصدف في الخلق نسوج العناكب ، فدقة التنظيم والترتيب التي كشف عنها أبحاث العلم الحديث في ميادين عديدة تدعو للعجب والتأمل والتفكر ، فقد كشف بعض العلماء الآلمان عن أن بعض العناكب تنسج خيوطا دقيقة جدا ، إذ إنها تنسج بيوتها من خيوط ، كل خيط منها مؤلف من أربعة خيوط أدق منه ، وكل واحدة من هذه الخيوط الأربعة مؤلف من ألف خيط ، وكل واحد من الألف يخرج من قناة خاصة في جسم العنكبوت وهذا يعني ان كل خيط ينقسم إلى (٤* ١٠٠٠ ٤٠٠٠) خيطا.

وذكر بعض العلماء الآلمان الباحثين في هذا الميدان : أنه إذا ضمّ أربعة بلايين خيط (٠٠٠ و ٠٠٠ و ٤٠٠٠) بعضها إلى بعض ، لم تكن أغلظ من شعرة واحدة من شعر لحيته ، مع العلم ان متوسط شعر اللحية لا يتجاوز ١ و ٠ ميلى مترا وبذلك فان قطر مقطع الخيط الذي تنسجه العنكبوت يساوي (١) على (٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٤٠) من الميليمتر وإن الكيفية التي خلق الله بها في جسم العنكبوت ألف ثقب يخرج منها ألف خيط في آن واحد ، حيث يخرج الخيط الدقيق فيجتمع كلّ ألف خيط في خيط اغلظ ، ومن الخيوط الجديدة وتتجمع كل أربعة سوية لتشكيل خيط أكبر ، وهكذا تتجمع الخيوط لتنشئ مسكنا ومصيدة للعنكبوت ، وإنها لتدعو العاقل والعالم والمؤمن إلى التفكير في عظمة الخالق ، وهذا ما يقول الله تعالى : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وقد أثبت البحث العلمي من تحليل وتجزئة حقيقية وهن بيت العنكبوت ، فقد جاوزت خيوط العنبكوت الحدّ المعروف في الدقة وتناهت في التجزئة وجاءت برهانا ساطعا على النظام البديع والإتقان الفائق

٦٣

للصنعة الإلهية (١) كما جاءت مثلا يندد بالذين يدعون من دون الله اولياء.

ترى هنا لك خيوطا متينة بشبكات محكمة الوضع هندسية الشكل ، لحد لو اجتمع كل نساج وغزال في الدنيا وقوبلت صناعتهم بصناعات العنكبوت لفاق هذا الحيوان كل غزال من الإنسان.

ومادة هذه الخيوط خفيفة الوزن للغاية ، فرطل منها يكفي ان تطوّق به الكرة الأرضية كلها!

العنكبوت البناء

كل عنكبوت في الدنيا غزّال ونسّاج ، وبعض أنواعها تبني منازل يشاهدها الناس في أماكن كثيرة بحجم (الكستبان) يقفلها من الداخل بقفل لم يقف على كنهه أحد من علماء الحشرات ، حتى يأمن من دخول كل عدو مهاجم أو سارق ، سبحان الخلاق العظيم!

عناكب البساتين

وهنا نوع من العناكب تسكن البساتين ، فتضطر إلى الانتقال من شجرة إلى أخرى ومن غصن منها إلى آخر ، ولتسهيل التنقّل تبني قنطرة بين الشجرتين ، أو ممشى بين الغصنين ، هي خيط واحد يخرج من فمه من لعابه ، إذا لامس الهواء جمد ، فيمتد فيه بعد تثبيت أحد طرفيه ولا يزال الطرف الآخر يغدو ويجيء حتى يمسك بورقة أو غصن فتمر عليه العنكبوت ،

__________________

(١) يوسف مروة اللبناني في كتابه : العلوم الطبيعية في القرآن.

٦٤

وبذلك تسهل المواصلات وتنجو من الخطرات والمفاجآت (١).

إن العناكب ـ ككل ـ تنسج نسجها بمؤخر أرجلها دون حاجة إلى النظر بعينها فإذا قطعت خيطانها قبل الغروب ثم نظرت لها عند شروق الشمس في اليوم الثاني رأيت شبكتها منسوجة كما كانت ، وهي تأتي بقطع صغيرة من الأحجار والخشب فتضعها على نسجها حفاظا له من التكسر وإطاعة الرياح الهابّة والأعاصير والزعازع ، وإنها تبحث عن صمغ وغراء من أماكنها في أشجارها وتلطّخ بها خيطانها وشبكتها لتكسبها لزوجة فلا تتمزق إذا فاجأتها

__________________

(١) ومن ذلك ما حكي انه وضعت عنكبوت على عود في ماء قريب من شاطئ جزيرة فنزلت من أعلى العود إلى أسفله فوجدت الماء محيطا بها فرجعت إلى أعلى ثم أخذت تفكر في حيلة تهتدي بها إلى النجاة فغزلت خيطا وأثبتت احد طرفيه في رأس العود ولا زال الطرف يغدو ويروح حتى أمسكت بغصن من الشاطئ الآخر فسارت عليه حتى نجت سالمة.

وهذا النوع البستاني من العناكب تنسج على الأغصان والأوراق شبكة عجيبة تقتنص بها الذباب وغيرها ، فتتخذ بها مركزا تقيم فيه وتمد خيوطها إلى جميع الجوانب ، فشكل أطرافها محيط ذلك على الأوراق والأغصان ، وتلك الخيوط أقطارها والعنكبوت رسامها وغازلها وناسجها ومهندسها والصائد بها ، وما أشبه تلك الخيوط باعمدة العجلة (البسكليت) فإذا حكمت تلك الأعمدة بخيوطها المجدولة أخذت العنكبوت تجدل خيوطا اخرى فأدارتها على هذه وربطتها ربطا وثيقا محكما عليها مع التناسب في الوضع والإحكام والهندسة بحيث ترى بين كل خيطين من تلك الأعمدة وآخرين من الملتف عليها مسافات متساويات هندسية ومنها تكون شبكة للصيد عجيبة الصنع جميلة الوضع ، وهذه الشبكة قلدها الإنسان في صيد السمك للقوت وفي صنع زينة منسوجة من الحرير منقوشة مرصعة بالحلي اهتدى لها الإنسان المتمدن بعد الآلاف من السنين تفتخر به الفتيات الأفرنجيات في إتقان الصنعة وحسنها (تفسير الجواهر للشيخ الطنطاوي ١٤ : ١٤٣ ـ ١٤٤).

٦٥

الرياح وهاجت عليها الأعاصير ، وإذا مر بها الذباب التقطته بمادتها اللزوجة ولم يؤثر على الشبكة حركتها (١) ، ذلك طرف من إتقان العنكبوت في هندسة بيتها على أنه أوهن البيوت ، وضرب المثل هنا جاء من واجهة وهنه دون إتقانه ، وإذا كان أوهن البيوت المبنية بالغريزة الحيوانية بذلك الإتقان فكيف يكون ـ إذا ـ أقوى البيوت؟

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٤٢ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ٤٣.

ولأنه يعلم تماما ما يدعون من دونه من شيء ، فإنه هو الذي خلقها ، لذلك يحكم أنها كبيت العنكبوت أوهن البيوت ، لا وهنا في خلقه كفعله تعالى ، وإنما وهنا لكل مخلوق أمام الخالق العزيز الحكيم ، مهما كان من الإتقان ما يحير العقول.

و «ما» هنا تحتمل انها موصولة او استفهامية أو مصدرية أو نافية ، ولكن «من» تنفي كونها نافية إلّا إذا كانت زائدة ولا زائدة في القرآن بلا عائدة ، وحتى إذا كانت للتأكيد فالمعنى أن الله يعلم انهم لا يدعون من دونه شيئا أبدا ، رغم أنهم يدعون من دونه كل شيء حتى الموحدين غير الحقيقيين فضلا عن الملحدين والمشركين.

ثم الثلاثة الأول قد تكون كلها معنية ، فهو يعلم الذي يدعون من دونه من شيء ، ويعلم ما ذا يدعون .. ويعلم الدعوة من دونه ، علما شاملا لا يبقي كائنا ولا يذر إلّا ويشمله بكمه وكيفه ، بزمانه ومكانه ، بكونه وكيانه ، وذلك قضية عزته وحكمة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقد يعني النفي في «ما» بتأكيد «من» انه يعلم انهم لا يدعون من دونه من شيء ، إنه ليس شيئا يدعى من دون الله ، فان شيئيتها ليست إلّا عارية من الله دونما استقلال

__________________

(١) المصدر ناقلا عن كتابه جمال العالم.

٦٦

فكيف تدعى من دون الله ، وهذا وإن كان في نفسه صحيحا ولكن الصيغة الصالحة له صحيحة فصيحة هي «يعلم انهم لا يدعون من دونه من شيء» إلّا ان عنايتها ضمن الثلاثة الأولى لا بأس بها ، فعلّ الأربعة كلها معنية ، ويا لها من جماع العلم المحيط لله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وإن الأمثال المضروبة للناس في هذا القرآن بالغة لحدّ من التمثيل منقطع المثيل أنها (ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فرغم ان جماعة من المشركين المجاهيل يتخذونها مادة للسخرية والتهكم قائلين : ان رب محمد يتحدث عن الذباب والبعوضة والنحل والعنكبوت ، (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ..) (٢ : ٢٦).

فالعالمون هناك هم المؤمنون هنا ، كما الذين لا يعلمون في آيات عدة هم الذين كفروا ، فالإيمان بالله يزيل الأغشية عن الأبصار والبصائر فأصحابها يعقلون تلك الأمثال الحكيمة القرآنية ، كما والعالمون العلوم التجريبية يعقلون ، فان كانوا مؤمنين فأحرى واكثر ، وان كانوا كافرين فقد يهتدون بها ان أرادوا الهدى ، حيث العلم بنفسه طريق الهدى إذا لم تخلطه الردى.

والعقل الحرّ أيا كان يعقل هذه الأمثال مهما كان مجردا عن علم الايمان وسائر العلم ، إذا فالعقلية الايمانية ، ثم العلمية ، ثم العقلية المجردة ، هي شركاء ثلاثة في ان تعقل هذه الأمثال دون اختصاص بعقلية الايمان ، وإلّا لم تعد هذه الأمثال تنفع غير المؤمنين ، والذين اتخذوا من دون الله اولياء هم الموجّه لهم في الأصل ذلك المثل الأمثل ، تحريضا لهم ان يعلموا الحق منه ومن أمثاله بالتعقل ، وما القولة الكافرة (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) إلّا جاهلة تخالف العقل.

٦٧

فالأمثال المضروبة في القرآن ، فضلا عن حقائقه المجردة ، إنما تعقل بالعلم على درجاته ، علم الفطرة والعقل والايمان وسائر العلم الذي به تكشف الحقائق حسب درجات الفاعليات والقابليات ، فالعلم أيا كان مستخدم لعقل الحقائق ، كلما ازداد عقلها فالإيمان بها ، فتلك الأمثال ليست مجرد تمثيلات شعرية ودعاوى خاوية ، بل هي حجج بدورها توضّح الحقائق البعيدة عن العقول.

ولأن التفكر والتذكر هما من شئون العقل والعلم : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (١٤ : ٢٥) (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩ : ٢١) فالعالمون ـ إذا ـ هم الذي يتفكرون ويتذكرون ، علما فتفكرا فعقلا فتذكرا فإيمانا! وعلى حد تعبير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» (١).

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ٤٤.

«خلق» ـ «بالحق» ـ «الله» ـ «بالحق» ـ (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ـ «بالحق» ـ ف «بالحق» لها هنا تعلقات ثلاث ، والباء فيها بين سببية وغائية ومصاحبة ، فما السبب والغاية في خلقهما إلا الحق ، دون باطل هازل ، وما هما في خلقهما إلّا مصاحبتين للحق.

فحق الخلق فيهما مصاحبا اتقانا ونظاما بارعا وتصميما حكيما قاصدا

__________________

(١) المجمع روى الواحد بالإسناد عن جابر قال : تلا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية وقال : ...

٦٨

دون تفاوت : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ذلك دليل أن خالقهما واحد عزيز حكيم.

وحق الخلق فيهما سببا وغاية دليل حياتنا الحساب بعد الموت ، فان هذه الضئيلة القليلة ، الفانية الهزيلة ، البالية البلية ، هذه لا تستحق ذلك الخلق الطائل الحكيم : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤ : ٣٩).

كما وحق الخلق لهما كخلق ينفي الولاية عنهما وما فيهما وما بينهما كخلق ، فأين الخلق والولاية الخاصة بالخالق في الآخرة والأولى «ولله الآخرة والأولى»؟!

إذا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) التوحيد والمعاد والولاية «للمؤمنين».

ولما ذا فقط «للمؤمنين» وكافة المكلفين يكلفون بالنظر فيهما حتى يعرفوا حق المبدء والمعاد؟ «المؤمنين» هنا هم الذين يؤمنون بالآيات البينات ، فمن الناس من يؤمن بها مهما كان ملحدا أو مشركا ، إذ بقيت له منافذ المعرفة ، وهو يتحرى عن الحق المبين ، فهم من المعنيين مع سائر المؤمنين المتفتحة قلوبهم لآيات الله الهية وأنفسية ، المبثوثة في تضاعيف ذلك الكون البارع وحناياه ، المشهودة في تنظيمه وتنسيقه ، المنشورة المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار ومدت البصائر والأفكار ، ومنهم من يجحد بها مهما كان مدعيا للايمان ، فهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ـ (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) المتعنتون المتعندون الذين (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)! (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ٤٥.

هنا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يؤمر ـ بعد عرض مسارح

٦٩

الغابرين ومصارعهم ـ ان يتلو ما أوحي إليه من الكتاب ويقيم الصلاة ، معللة بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتأكيدا أن ذكر الله أكبر (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) إزاحة لما تخالجه من صعوبات الدعوة لقوم لدّ ، فما هي تلاوة الكتاب؟ وما هو نهى الصلاة ، وما هو هنا ذكر الله ، ومم هو اكبر؟

التلاوة ليست هي ـ فقط ـ القراءة ، بل هي ـ ككل ـ متابعة الشيء أن يجعله أمامه وإمامه ، فهو يكون تابعه وخلفه كما (الشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٩١ : ٢) (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) حيث القمر لا يقرء الشمس ، وشاهد من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يقرءه ، وإنما هي متابعة المأموم إمامه ، ان يجعله أمامه في كل الحقول والحالات أم في قسم منها مقسّم حسب قضية الائتمام والإمامة.

ف «اتل» هنا دون (اتْلُ عَلَيْهِمْ) تعم تلاوة الكتاب لنفسه ان يجعله إمامه ، وتلاوة الكتاب عليهم ان يقرءه عليهم ليجعلهم تالين الكتاب ، والأولى هي الأولى في طبيعة الرسالة ، فما لم يتلوا الرسول ما اوحي اليه من الكتاب ائتماما به ككل ، ليس عليه ولا له أن يتلوه عليهم ، حيث الآمر بائتمام الكتاب عليه ان يأتمر من قبل حتى يأمر.

فهو يتلوا في نفسه الكتاب تعلما وتزكيا ، ثم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كما (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فإن «رتل» تقتضي ترتلا أولا ثم ترتيلا لآخرين ، وهو فيهما تحريك القلب بالقرآن كما يروى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

ثم (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) تختص التلاوة بما مضى وحيه ، ولأن «أتل» أمر

__________________

(١) حيث يسأله ابن عباس عن معنى الآية فقال : يعني حركوا به القلوب.

٧٠

رسالي يستمر طول رسالته ، فقد أمر بها أن يتلو كلما اوحي اليه طول الزمن الرسولي ، ولأن وحي الكتاب مستمر حتى ارتحاله إلى جوار ربه ، فالتلاوة ايضا مستمرة كوحي الكتاب ، فهو دائب في مثلث الوحي وتلاوته لنفسه وتلاوته عليهم ، وقد قرّرت هذه التلاوة ككلّ رسالته (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) (٢٧ : ٩٢).

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) هنا لها أبعاده عدة ، صلة الى حال الرسول ، وتلاوته الكتاب ، فحاله المتأذية من تعنّد قومه اللّد تقتضي رياحة وهي الحاصلة بالصلاة ، لأنها صلات بالرب ، واطمئنان للقلب المتأرجف برجفات المتخلفين عن شرعة الله ، وهكذا «كان إذا غمه أمر استراح إلى الصلاة» وبعد ثان أنّ أنتج ما تنتجه تلاوة الكتاب لنفسه وعليهم هو إقام الصلاة فانها عمود الدين ، و «أقم» هنا تجعل الصلاة مقامة بشروطها وأجزائها وأركانها ظاهرة فقهيا وباطنة معرفيا ، فقد تؤتى الصلاة دون إقامة ، وهي الصلاة في سكر أم في كسل ذلك بأنهم : (لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) (٩ : ٥٤) فهي صلاة قاعدة ، متخلفة عن القاعدة فيها وهي إقامتها ، وهي ـ في الحق ـ ليست إلّا التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، مهما شملت الصلاة كل صلاة بريئة عن النفاق ، وقد «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ان فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : انه سينهاه ما تقول» (١) وهذا من اقل ما تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر واقل منه ان «الصلاة حجزة الله وانها تحجز

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٦ ـ اخرج احمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال جاء رجل ... وفي نور الثقلين ٤ : ١٦٢ عن مجمع البيان وروي ان فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ان صلاته تنهاه يوما ما.

٧١

المصلي عن المعاصي ما دام في صلاته» (١) ، وكضابطة ثابتة للصلاة «من صلى صلاة لم تأمره بالمعروف وتنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدا» (٢) و «من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته» (٣) ف «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر» (٤).

فكما تقام الصلاة ، فهي بقدرها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فيها وهو أقلها ، وفي كافة الحالات عن كل دركات الفحشاء والمنكر وهو قمتها وبينهما متوسطات.

فملابس المصلي تنهاه عن اغتصابها ، وطهارته عن خبث وحدث تنهاه عن التصرف في طهور من غير حله ، وطهارته ككل تنهاه عن التقدر ككل ، واستقباله القبلة تنهاه عن استقبال ما سواها ، وافعال الصلاة من قيام لله وقعود وركوع وسجود تنهاه عن كل ذلك لغير الله ، واقوال الصلاة تأمره أن يعتنق (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وألّا يعبد ويطيع إلّا الله.

ونية الصلاة تنهاه أن ينويها لغير الله شركا جليا ، ام خفيا أن يصلي رئاء الناس ، كما تنهاه ان ينوي أية عبادة أم وسواها لغير الله.

__________________

(١) المصدر ١٤٥ ـ اخرج الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ...

(٢) نور الثقلين ٤ : ١٦١ في كتاب التوحيد وقد روى عن الصادق (عليه السلام) انه قال : ... قال الله عز وجل : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

(٣) نور الثقلين ٤ : ١٦٢ عن المجمع وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : ...

(٤) نور الثقلين ٤ : ١٦١ عن المجمع وايضا عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

٧٢

كما وأهم من كل ذلك اتجاه القلب إلى الله حضورا عنده في الصلاة ، ينهاه عن كل فحشاء ومنكر قلبي قدر ذلك الحضور والاتجاه.

وكضابطة عامة قالات الصلاة وفعالاتها وحالاتها ، إذ كانت مقامة ، إنها بأقدارها وحدودها تنهى عن الفحشاء والمنكر قالا وفعالا وحالا ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). فالصلاة بكل أحوالها وأفعالها وأقوالها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، انتهى المصلي بنهيها أم لا ، فقد تنهي الفحشاء والمنكر بما تنهى وذلك لمن ينتهي ، وقد لا تنهي رغم ما تنهى ، فالنهي ـ إذا ـ طبيعتها ، والإنهاء قد يتخلف عنها فإنها تنهى دون تسيير وكما الله ينهى ورسله والدعاة إليه تخييرا دون تسيير.

وحين تقام الصلاة بكل ما يتوجب فيها بظاهرها وباطنها ، وتكون مزيجا لنفس المصلي بظاهرها وباطنها ، إذا فهي تنهي بنهيها الفحشاء والمنكر ، من فحشاء العقيدة والأخلاق والأعمال والأقوال ، وهي المتجاوزة حدها في التخلف عن شرعة الله ، أو المتجاوزة إلى غير العاصي ، ام المتجاوزة في بعديها ، والمنكر هو كل ما تنكره الشرعة صغيرة وكبيرة ، وهو هنا أدنى من الفحشاء.

ولأن جوهرة الصلاة هي ذكر الله ، وسائر ما فيها إنما هي تعبئة وتقدمة لذكر الله ، إذا (وَلَذِكْرُ اللهِ) ـ وهو الصلاة ككل ـ «اكبر» من ذكر غير الله ، وغير ذكر الله ، كما وان «ذكر الله» في الصلاة غير التامة في الذكر ، انه اكبر من سائر اجزاء الصلاة ، كما وهو اكبر من كل ذكر وذكر كل كما (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢٠ : ١٤) فذكر الله هو الرادع عن الفحشاء والمنكر ، وكلما كان ذكر الله اكثر وأقوى ، كان نهيه عن الفحشاء والمنكر اشمل وأحوى ، وليست المعصية على أية حال إلّا بنسيان ذكر الله ، والغياب عن حالة الحضور ، ف «اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك».

٧٣

الله هناك مفعول الذكر حين تعني «ذكر الله» ذكرك الله «عند ما أحل وحرم» (١)

عامة وفي الصلاة خاصة ، وإذا كان فاعلا فهي ذكر الله إياك و «ذكر الله لأهل الصلاة اكبر من ذكرهم إياه ألا ترى أنه يقول : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(٢) ، فهو ـ إذا ـ اكبر من الصلاة التي هي ذكرك الله كما ان ذكرك الله هو اكبر شيء في صلاة وسواها ، وقد أمرت بالصلاة لذلك الذكر (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

فذكرنا الله يمنحنا روحية على قدر المستطاع لنا وهو محدود قد يحصل معها عصيان أو لمم ، واما ذكر الله إيانا ان يعصمنا عن الزلل فهو عصمة عن كل عصيان أو لم ، وعن كل جهل أو جهالة أو خطا علمي أو عملي ، وهي المعبر عنها ببرهان الرب (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (١٢ : ٢٤) وهو التثبيت من الرب : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤).

إذا ف «ذكر الله» هنا في مثلث : الصلاة ـ ذكر الله في الصلاة ـ أن يذكرنا الله بما نذكره فيتم الحضور ويطم كل كياننا فنعبد الله كأننا نراه.

فكما الصلاة هي قلب العبادات ، كذلك الذكر هو قلب الصلاة ، وليس هو إلّا في قلب المصلى ، وليس ذكر الأفعال والأقوال إلّا إذاعة عن ذكر القلوب والأحوال ، والمصلي الحقيقي يصبح كله ذكرا الله ، في حاله وقاله وأفعاله ، لا يغيب عن حضرة الربوبية في صلاته ، فالفحشاء هنا أن يتجاوز عن ذكر الله إلى سواه ، والمنكر أن يذكر نفسه وهو تارك ما سوى الله ، فكما

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٦٢ عن المجمع وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ولذكر الله اكبر ـ قال : ذك الله ...

(٢) المصدر عن تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله : (ولذكر الله أكبر) ...

٧٤

تزول عنه سائر الحجابات بينه وبين الله وهي الفحشاء ، كذلك يزول عنه حجاب نفسه بينه وبين الله وهو المنكر ، فلا يبقى بينه وبين الله أحد حتى نفسه :

بيني وبينك إني ينازعني

فارفع بلطفك إني من البين

وأعلى القمم من ذكر الله ما حصل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معراجه حين (دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ففي دنوه أزال حجابات الفحشاء وهي التوجه إلى غير الله ، وفي تدلّيه أزال حجاب نفسه وهو التوجه إلى نفسه ، فأصبح بكلمة منمحيا في الاتجاه إلى الله فلم يبق بينه وبين الله إلّا حجاب ذات الألوهية الذي لن يرتفع لمن سوى الله.

مقام (دَنا فَتَدَلَّى) هو قضية أن يذكره الله فيعصمه ، وقبلهما من مقامات القرب والحضور هي قضية أن يذكر هو الله ، والعصمة حصيلة الذكرين ان تذكر الله كأعلى القمم المستطاعة لك فيذكرك الله ، ذكرا على غرار الذكر فانه فيهما درجات ، و (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) تلمح أن قدر ذكر الله لك هو قدر ذكرك الله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) و «ان السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز وجل ومن أحب ان يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز وجل» (١). فالصلاة بدرجاتها تنهى عن الفحشاء والمنكر بدركاتهما ، من فحشاء ومنكر قالبيين قالا وافعالا ، وقلبيين أحوالا ، إلى أن تصل إلى خرق الحجب ، ثم وخرق حجاب نفسك ، فتصل إلى القمة المعرفية وهي خاصة بصاحب المعراج.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٦٢ عن معاذ بن جبل وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يا معاذ ان السابقين ... وعنه قال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اي الأعمال أحب إلى الله؟ قال : ان تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجلّ.

٧٥

فكل ما سوى الله ومن سوى الله في صلاتك هي بين فحشاء ومنكر ، بين محرم في شرعة الفقاهة ، ومحرم في شرعة المعرفة ، فلا يحل الاتجاه في الصلاة إلى غير الله ، ولا على أية حال ، (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) في صلاتكم وسواها ، يعلم صلات صلاتكم وانفصالاتها ، وكما يعلم من ذكركم فيما يذكركم ، وقد يعلم ان كلها انفصالات فلا يذكركم ، فلو لا أن الله أمرنا بالصلاة لكانت اكثرية الصلوات محرمة لأنها تمس من كرامة الربوبية ، حين نصلي الله ، وقلوبنا خاوية عن ذكر الله ، نفتش عن سائر ضالاتنا في الصلاة وننسى ضالتنا المنشودة فيها وهو الله والصلاة كلها تصوغ بصيغتها (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ)!

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ٤٦.

يروى عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : «نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا» (١) فلقد كان يجادل اهل الكتاب وسواهم بالوحي الرسالي كله ، المجموع في القرآن كله ، فالقرآن برمته هو الجدال بالتي هي احسن في كل الحقول ، وبمستوى كل العقول ، فلا أحسن منه ولا يسامى ، فلنجادل أهل الكتاب كما يجادلهم الله في القرآن ، دون سائر الأساليب المختلفة المختلفة مهما كانت حسنة حيث الفرض هو الأحسن ، ومن جدالهم بالتي هي أحسن : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وهي قولة المواصلة دون أية

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٦٢ عن الاحتجاج للطبرسي وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

٧٦

مفاصلة ، فأحسن الجدال أن تتبنّى المواصلات بينك وبين مجادلك ، فتخرج بذلك عن المفاصلات فتوصله إن استطعت إلى حقك ، أم ولأقل تقدير لا تبعده عنك أكثر مما هو بعيد عنك ، وقد يروى عن رسول الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١) ، وهنا (بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) هو القرآن ، و (الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ) هو سائر الوحي النازل إلى أهل الكتاب توراة وانجيلا وسواهما من كتاب ، وذلك لا يعم كل الذي عندهم من خليط الوحي بسواه وإنما (الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ).

وأما (إِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) فالمثلثون من النصارى وسائر المنحرفين منهم ومن اليهود عن حاق التوحيد وحقه ليس إلهكم إلهنا ، فكيف يكون (إِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ)؟

الإله الأصل هو المتفق عليه بين كافة أهل الكتاب وهو الذي نوحّده بيننا وبينهم ونؤمن به ، ثم الأقنوم الثاني والثالث ، والولد ، والجسمانية وأشباهها هي الفاصل بيننا وبينهم ، ونحن لا نتفق معهم إلّا في المتفق عليه بيننا «ونحن له» لا لسواه «مسلمون» : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ١٤٧ عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفيه عن أبي نملة الأنصاري ان رجلا من اليهود قال لجنازة انا اشهد انها تتكلم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا ...) فان كان حقا لم تكذبوهم وان كان باطلا لم تصدقوهم ، وفيه عن جابر قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تسألوا اهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ما إن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلّا ان يتبعني.

٧٧

كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٦٤).

وفي حوار للإمام الرضا (عليه الإسلام) قيل له : أتقول إن الله واحد؟ قال : قولك إنه اثنان دليل على أنه واحد ، والواحد متفق عليه والثاني مختلف فيه».

هناك يستثنى عن الجدال معهم بالتي هي أحسن (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين لا يقنعهم وينفعهم تلك الجدال الحسنى ، بل ويتلقونه هوانا منها وضعفا ومذلة ، إذا فالجدال معهم بالتي هي أحسن إساءة وتضعيف للحق ، وهنا يكون آخر الدواء الكي كلاميا أم واقعيا ذودا عن حرمة الحق وكرامته.

فالكتابي بين متحر عن الحق فليجادل بالتي هي أحسن لكي يهتدى بالتي هي أحسن ، أم لا يتحرى عن الحق ولا يتجرأ عليه إذا حصل عليه فيصدقه ، ام لا يصدقه ولا يكذبه ولا يعمل دعاية ضده ، أم يكذبه في حرب باردة أم وحارة ، فالآخرون هم من (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فليس الجدال بالتي هي أحسن فرضا معهم بل قد لا يجوز ، فإما تركا لجدالهم ، أم بالحسنة أم بالسيئة أم بالتي هي أسوء ، كل ذلك رعاية لحرمة الحق وصدا عن بأسهم ضد الحق.

فالأصل في الجدال ـ على أية حال ـ أن تكون بالتي هي أحسن تقريبا للهدى وتوصيلا إليها ، وأما الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فعليهم ما يستحقونه من الجدال أو تركها حسب ما تقتضيه المصلحة في ميزان الحق.

وانها لحقيقة ضخمة عظيمة رفيعة ، حقيقة ان يتبناها كل مؤمن بالله ،

٧٨

ان دعوة الله التي تحملها رسالات الله هي واحدة الانبعاث والاتجاه ، والمؤمنون بكل رسالة حقة هم في الحق إخوة في دين الله ، أمة واحدة تعبد إلها واحدا (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣ : ٥٣).

ثم ولا تحكم في زمن واحد لعامة المكلفين إلّا شرعة واحدة من الخمس للدين ، فعلى كل المؤمنين بالله ان ينضموا إلى شرعة الحق الحاكمة في كل زمن ، تاركين الخلافات المتخلفة عن الدين وعن شرعة الدين.

وقد يفترى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه جادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن في العهد المكي وهو في ضغط المطاردة من المشركين ، ثم في العهد المدني ـ وقد قويت شوكته ـ أخذ يحاربهم تركا للحسنى إلى السوأى!

وهذه فرية وقحة عليه يعالجها هذا النص حيث يأمره أن يجادلهم بالتي هي أحسن على أية حال ، حال الضعف وحال القوة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فلا ، سواء في حال الضعف أم حال القوة ، ضابطة صارمة ثابتة في كل الحالات والمجالات بايجابيتها وسلبيتها ، والأصل فيهما هو ضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور الدعوة ، الموافقة لما قبلها ، المكملة لها كلها كما أرادها الله.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) ٤٧.

«وكذلك» الأسلوب الذي أنزلنا إلى من قبلك الكتاب (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) فالمصدر واحد والصادر وحي واحد مهما اختلفت شرعة من الدين

٧٩

عن شرعة في البعض من الطقوس الظاهرية ، حلقات متصلة من الوحي ، موصولة الهدى إلى الله ، والله اعلم حيث يجعل رسالته.

«وكذلك» البعيدة المدى ، الشاملة الهدى ، الصادرة الردى (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) يا رسول الهدى ، الكتاب الذي يحلّق وحيه على كل كتاب وزيادة ، مشابها وحيه وحيها وزيادة (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم بطبيعة الحال ، ونتيجة الاطلاع على وحي الكتاب والبشارات المودعة فيه بحق هذا الكتاب ونبيّه «يؤمنون به» حيث الملامح نفس الملامح والمسارح والمصارح نفس المسارح والمصارح ، مهما تعنت عنه جماعة متعندة! وبإشراقة أقوى وإناقة أندى وأبدى ، ثم (وَمِنْ هؤُلاءِ) المشركين البعيدين عن وحي الكتاب (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) حيث الكتاب بنفسه برهان لا مرد له أنه من الله ، مهما كانت الخبرة السابقة بوحي الكتاب تزيد برهانا مشيا على برهانه الأصيل (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) كتابا ورسولا وحجة أخرى للرسالة غير الكتاب «إلّا الكافرون» الذين عميت بصائرهم وأغلقت أبواب قلوبهم ، فتجاهلوا عن آيات الله البينات التي هي كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.

ومما يقرّب الفريقين إلى الايمان به ، شاهدا ممن أرسل به اضافة إلى آية الكتاب :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) ٤٨.

هنا «من كتاب» تستأصل كل كتاب سماوي أو أرضي (وَما كُنْتَ) تستأصل كيانه كرسول القرآن ان يتلو من قبله من كتاب ، لا أنه ما تلاه وهو قادر على تلاوته تقية مصلحية الحفاظ على وحي القرآن ، فان «ما كنت» تحيل عليه كل تلاوة وكتابة لأي كتاب قبل القرآن إحالة تكوينية وتشريعية ، فلم يكن يستطيع أية تلاوة قبله ، ولا كانت مسموحة له لو استطاعها.

٨٠