الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

تطبيق المسؤوليات الإسلامية التي قد توجب العداوة والبغضاء في الذين يكرهون تلكم المسؤوليات ، كافرين ومسلمين.

فالخلافات العلمية من جراء ترك القرآن والإقبال إلى غيره من ضوابط مختلقة لا تتبنى القرآن والسنة ، هذه محرمة ، كما الإقبال إلى غير القرآن لحد يلهي عن القرآن ، هو كذلك محرم.

فالأصل الرباني في شرعة الله هو الاتجاه إلى الله بتوحيده وتوحيد عبادته.

ولأن أضرار الخمر تحلق على كافة المجالات الحيوية للإنسان ، روحيا وجسميا ، فرديا وجماعيا ، فلا تحل على أية حال وإن للاستشفاء بها من مرض ، وقد روي ألا شفاء فيها ، وقد اعترف بأطراف من مضارها القاطعة جمع من غير المسلمين (١) لحد منعوا عن الاستشفاءبها (٢).

__________________

(١) ففي كتاب (خواطر وسوانح في الإسلام) ل «هنري الفرنسي» : ان أحدّ سلاح يستأصل به الشرقيون وأمضى سيف يقتل به المسلمون هو الخمر وإدخالها ولقد جردنا هذا السلاح على اهل الجزائر فأبت شريعتهم الاسلامية أن يتجرعوه فتضاعف نسلهم ولو انهم استقبلونا كما استقبلنا قوم من منافقيهم بالتهليل والترحيب وشربوها لأصبحوا أذلّاء لنا كتلك القبيلة التي شربت خمرنا وتحملت أذلّاء لنا «وقال بتنام» المقنّن الانجليزي «من محاسن الشريعة الاسلامية تحريم الخمر فإن من شربها من أبناء افريقيا آل امر نسله للجنون ، ومن استدامها من اهل اوروبا زاغ عقله ، فليحرم شربها على الأفريقيين وليعاقب عقابا صارما الأوروبيون ليكون العقاب بمقدار الضرر».

(٢) في كتاب لطبيب أمريكي يسمى (كيلوج) منع التداوي بالخمر لأن ضرها في الجسم عند التداوي اكثر من نفعها بالشفاء الموقت لما تفعل في الأمعاء وباقي الأحشاء من الضراء ، وفي كتاب «اليد في الطب» يذكر نحوا من ثلاثين صفحة حول أضرار الخمر.

ويقول العالم الانجليزي (بنتام) في كتابه (أصول الشرايع) ترجمة المرحوم احمد

٢٢١

__________________

ـ فتحي زغلول باشا تحت عنوان : الجرائم الشخصية ما نصه : النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يصيره كالمجنون ، ففي الأوّل يكتفى بمعاقبة الأوّل على السكر كعمل وحشي وفي الثانية يجب منع ذلك بطرق أشد لأنه شبيه بالتشرر وقد حرمت ديانة محمد (ص) جميع المشروبات وهذه من محاسنها ـ وفي كتاب اليد الطبي تأليف الأستاذ كبلوج تحت عنوان : الاستعمال الطبي للخمر من الصفحة ١٧٥ ـ الى ـ ٥٠٤ ومما كتب فيه : إني لست أبحث في منع الخمر للسكر ، فهذا فرغ منه العلماء ، وان بحثي اليوم في مضاره الطبية وأن التداوي به يجلب للإنسان أمراضا لا قبل له بها فان التداوي به ممنوع طبيا وليس فيه أدنى فائدة. وقال الأستاذ (لبيج) إنه إذا اعتدل الإنسان في شربه قوي جسمه وأكسبه نشاطا ، وقد نقض هذه القضية ثلاثة من علماء الكيمياء الفرنسيين وهم الأستاذ للمان والأستاذ بيرن والأستاذ دروى ، ثم الأستاذ ادوارد سميث الانجليزي ، وقد برهن الثلاثة الأول على بطلان ما تقدم بقولهم : إن الخمر تخرج من الجسم ولا اثر لها ، وزاد الأخير بقوله : إنه حلل الدم فلم يجد فيه أدنى شيء من العناصر التي يتركب منها الخمر ، وقال الدكتور ملر الاسكوتلاندي : الخمر لا يشفي شيئا ، وقال الدكتور هيجنبوتوم أمام الجمعية الطبية البريطانية : أنا لا أعلم مرضا قط شفي بالخمر ، وقال الدكتور جونسون الأنجليزي : ان الخمر ليس ضروريا البتة ليستعمل دواء ، وقال في إبطال قولهم : إن الخمر غذاء وانه يحفظ الجسم أو يقوي العضلات : ما هذه القوة إن هي إلا اسم آخر من اسماء السموم ، فقولنا : فلان نشوان طرب ثمل ، معناه : مسموم وبرهن على ذلك بقوله : إذا أدخلنا الخمر أو أي سم آخر من العقاقير السامة التي تعدّ بالمئات في الجسم فإن جميع الأعضاء تستعد للمقاومة والمدافعة لإخراجه من الجسم ، ومن هنا كان النشاط ، وقال في نقض قولهم : إن الخمرة تمنع المرض : إن الناس يتعاطون الخمر لأمراض مختلفة ، فإذا كان ما تقولون حقا فأضرار الخمرة أشد من تلك الأمراض فتكا بالجسم ، فكيف بها إذا كانت لا تشفي منها شيئا ، فإن تجارب الأطباء السابقة تثبت أنها لا تترك أثرا في النسيج والأثر الحقيقي انما يكون في النسيج. وقال الدكتور سميث الأنجليزي ردا على الأستاذ لبيج : ان الخمرة يخسر بسببها الجسم جزء من الحرارة ، بل يزيد ذلك الفقد.

ذلك وفي صحيح مسلم مع شرح الامام النووي ص ٣٦٤ ـ ان طارق بن ـ

٢٢٢

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٩٢) :

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في محكم كتابه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في سنته الجامعة غير المفرقة : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ «واحذروا» من عصيان الله ورسوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عما فرض عليكم (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : لوحي الكتاب والسنة ، والله هو المبلّغ عنه ، الواجبة طاعته على أية حال ، فهو المثيب وهو المعاقب.

__________________

ـ سويد سأل النبي (ص) عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال : إني أصنعها للدواء ، فقال الرسول (ص): «إنه ليس بدواء ولكنه داء».

ذلك ، وقد أثبت الدكتور (باركس) و (السيرجون هيل) مفتش عام في الجيش البريطاني والدكتور هنري مارتس وآخرون : أن الخمر لا يشفي المرض ولا ينفع الجسم ، وقال (باركس) في ابطال القول : «لا ضرر في الخمر الصافي : إن الخمر الصافي هي سم صاف» وقد أخذ يبطل القول : ان الخمر يمحو الهم والكسل ويجعل الفقير الذي لا منزل له ولا صاحب يشعر بأنه غني أو ملك أو ... : ان الإنسان إذا سكر حتى أصبح لا يشعر بما هو عليه وفقد الإحساس ونسي ما هو فيه من شقاء الحياة ومتاعبها لعاجز عن الاعتبار بتلك التجارب العالية الرفيعة القدر الشريفة المنزلة ، والشعور الشريف الذي تكون فيه البهجة العالية بالحياة الحقيقية.

ويذكر الطنطاوي الجوهري في تفسيره ١ : ١٩٦ منذ ثمان سنين جاء رجل الى مصر من أعضاء دار الندوة (البرلمان) للسويد والنرويج ، وذكر انه رئيس جمعيات منع الخمر في العالم وانه زار جميع دول أوروبا والشرق كفرنسا وانجلترا والروسيا والصين واليابان ـ وكل الحكومات ساعدته ـ وأن أعضاء الجمعية العاملين يبلغ عددهم ستمائة الف رجل ، وذكر أنه في امريكا حرم خمسة وأربعون مليونا من أهلها الخمرة على أنفسهم ، وقال : إن ولي العهد لبلاد السويد ربي على ألّا يشرب الخمر ونحن نفتخر بأنه أوّل ملك لا يشرب الخمر في اوروبا.

٢٢٣

وهنا «فاعلموا» إعلام صارخ بحجة بارعة أخيرة للأسماع الصاغية «أنما» حصرا لكيان الرسول في (عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وكل بلاغاته حول الخمر طول العهدين كانت مبيّنة رغم تطلّبات الخليفة عمر «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» ويكأن بيان الله غير شاف في سائر الآيات المحرمة للخمر!.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)) :

هنا ينفى «جناح» أيا كان عن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) مضيا ، فليس النص «يطعمون» ـ أيا كان شرط الإيمان وعمل الصالحات أولا ، ثم تقوى بعدهما ومعها إيمان وعمل الصالحات ، ثم تقوى وإحسان ، فما هي صالحات هنا بعد صالحات ، ودرجات ثلاث من التقوى ودرجات ثلاث من الايمان ثم إحسان ـ أخيرا ـ بعد درجات التقوى والإيمان؟.

هنا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم هؤلاء الذين كانوا يشربون الخمر قبل هذه الآية ثم انتهوا (١) فلا يبقى عليهم جناحه (إِذا مَا

__________________

(١) في الدر المنثور ٣ : ٣٢٠ عن ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا يا رسول الله (ص) فكيف باصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر فنزلت (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ...) وفيه عن البراء بن عازب قال : مات ناس من اصحاب النبي (ص) وهم يشربون الخمر فلما نزل تحريمها قال أناس من اصحاب النبي (ص) كيف باصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فنزلت هذه الآيات ، أقول : لا تعني «لما نزل تحريم الخمر» إلّا نزول آية المائدة بهذه الصراحة والتأكيدات دون نزول اصل التحريم حيث سبقتها فيه مكيات ومدنيات ، ولو كان نزول اصل التحريم لما كان جناح على الذين كانوا يشربونها قبل التحريم حتى يسألوا عنهم وتنزل آية براءتهم!.

٢٢٤

(اتَّقَوْا) الخمر منذ نزول الآية فتركوها فإنها كفارة له ، فكلما يقرب إليه راجح واجبا وسواه ، وكلما يبعد عنه مرجوح محرما وسواه ، وأصل ثان هو الموادة بين المؤمنين على توحيد الله وعبوديته ، فكل ما يورث العداوة والبغضاء بينهم محرم ، اللهم إلّا ما هو مفروض يفرضه الله ويرفضه متخلفون عن طاعة الله كافرين ومسلمين.

وهنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تنظيم في حقل الإيمان بعقل الإيمان ، اعتصاما بحبل الله دون تفرق عنه أو تفرق فيما بينهم ، حيث إن الايمان هو رمز الوحدة في كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، فلا عداوة ـ إذا ـ ولا بغضاء.

وعلّ الفارق بينهما أن العداوة هي الباطنة أم هي أعم من الظاهرة ، والبغضاء هي الظاهرة قضية صيغة التفضيل ، فهما العداوة باطنة وظاهرة ، والمفروض بين قبيل الإيمان الاعتصام بحبل الله جميعا دون أي تفرق.

فالمفروض على المؤمنين تكريس كل طاقاتهم وامكانياتهم في الاعتصام بحبل الله جميعا ، وسلب كافة التفرقات حتى يسودوا سائر الناس النسناس الذين يتربصون بهم كل دوائر السوء ف (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فإن تركوا المعصية توبة فالله يتوب عليهم دون أن يبقى جناح الشرب لزاما عليهم.

ذلك ، ولأن شرب الخمر ناقض للإيمان فلا بد بعد التقوي عنه من تجديد الإيمان وعمل الصالحات التي تصلح لجديد الإيمان ، ومن ثم تقوى ثانية علّ منها التقوى في التصميم بعد التقوى في ترك الشرب حتى تكون توبة نصوحا ، فإن مجرد الترك لا يستلزم واقع الترك إلّا بتصميم عليه ، وإيمان ثان بعد جديده يتبنّى ذلك التقوى ، ثم تقوى في الصميم

٢٢٥

بعد التصميم فإن من التصميم ما هو غير صميم ، وأخيرا «أحسنوا» إحسانا لمراتب الإيمان وعمل الصالحات والتقوى ، مما يدل على غلظ الحرمة في الخمر وأخواتها حيث يبقى جناحها لو لا هذه التنقيات التقيات.

ومن هنا نتبين أن هذه المذكورات في هذه الآية كانت محرمة طول العهد الرسولي مكيا ومدنيا ، ولم تكن لأحد عاذرة في شرب الخمر واقتراف أخواتها ، فإن كرور الآيات هنا وهناك مرارا وتكرارا كانت تمنع عنها بأشدّه مهما اختلفت صيغ التحريم ، حتى وصلت إلى ذلك التهديد الحديد (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) مهما لم تنتهوا طوال كرور الآيات المذكرات الناهيات بمختلف التعبيرات.

وهنا «ما طعموا» تعم طعم عوائد الميسر وذبائح الأنصاب والأزلام إلى طعم الخمر ، حيث الشرب طعم مهما لم يكن كلّ طعم شربا ، وكما في مثل «ومن لم يطعمه إنه مني» فالعبارة الصالحة لجامع شرب الخمر وطعم الثلاثة الأخرى هي «طعموا».

ف «لا جناح» هنا وجاه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هناك تبيّن كبيرة عدم الانتهاء والعفو عن المنتهين بتلك الشروط المسرودة التي لا نظيرة لها في شروطات التوبة في سائر الكبائر ، مما يدل على أن هذه الأربعة هي من أكبر الكبائر.

ذلك ، فليس نفي الجناح هنا فيما طعموا تحليلا للمحرمات قضية أنهم آمنوا وعملوا الصالحات واتقوا وأحسنوا ، فإن قضيتها ـ وبهذه التأكيدات المتكررة ـ ترك المحرمات دون اقترافها حيث القضية لا تحمل نقيضها ، فإنما ينفى الجناح عن المؤمنين الصالحين شرط أن يكفّروا عما طعموا فيما سبق من حرام إذا طعموه ، أم يتركوه مهما لم يطعموه ، تحليلا للمأكولات

٢٢٦

المحللة ككل ، وتوبة على الذين أكلوا محرمات ثم تابوا هكذا توبة نصوح (١).

ذلك ، والتقوى بحالها قضيتها العليا ترك أمهات المعاصي وهذه الأربع هي من اكبر كبائرها ، فكيف تجتمع مع طعم الخمر بعد تحريمها بهذه التأكيدات الوطيدة ، ولا نجد تأكيدات وتنديدات بكبيرة مثل ما نجدها في الخمر والميسر ، وإليكم نصوصا من امير المؤمنين ومولى المتقين إيضاحا لما ورد في القرآن من قضايا التقوى وصفات المتقين فضلا عما في آيتنا من مثلث التقوى والايمان ومثنى عمل الصالحات وموحّد الإحسان الذي يجمع في خضمه مثلث الايمان والتقوى وعمل الصالحات :

«فاتقوا الله عباد الله ، وفروا إلى الله من الله ، وامضوا في الذي نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم ، فعلي ضامن لفلجكم آجلا ، إن لم تمنحوه عاجلا» (الخطبة ٢٧ / ٧٥) ـ «أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي» (٤٠ / ٩٩) ـ «فاتقى عبد ربه ، نصح نفسه ، وقدم توبته ، وغلب شهوته» (٦٢ / ١٨٨) (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٢١ ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن محارب بن دثار أن ناسا من اصحاب النبي (ص) شربوا الخمر بالشام فقال لهم يزيد بن أبي سفيان شربتم الخمر؟ فقالوا : نعم ، لقول الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...) فكتب فيهم الى عمر فكتب إليه إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم الليل وإن أتاك ليلا فلا تنتظر بهم النهار حتى تبعث بهم إليّ لا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فلما قدموا على عمر قال : شربتم الخمر؟ قالوا : نعم فتلا عليهم : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) قالوا : اقرأ التي بعدها (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) قال : فشاور فيهم الناس فقال لعلي ما ترى؟ قال : أرى أنهم شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله فيه فان زعموا انها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وان زعموا انها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين.

(٢) و «أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال ، ووقت لكم الآجال ، وألبسكم ـ

٢٢٧

فهذه شرذمة من التقوى وإليكم جماعها من إمام المتقين ويعسوب الدين حيث يصف المتقين عن بكرتهم لمن يستوصفهم (١) :

__________________

ـ الرياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاط بكم الإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنعم السوابغ ، والرفد الروافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عددا ، ووظف لكم مددا ، في قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ، ومحاسبون عليها» (٨١ / ١ / ١٣٧) ـ «أوصيكم بتقوى الذي أعذر بما أنذر ، واحتج بما نهج ، وحذركم عدوا نفذ في الصدور خفيا ، ونفث في الآذان نجيا ، فأضل وأردى ، ووعد فمنى ، وزين سيئات الجرائم ، وهون موبقات العظائم» (٨١ / ٢ / ١٤٥ ـ «عباد الله إن تقوى الله حمت أولياءه محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ، فأخذوا الراحة بالنصب ، والري بالظمإ ، واستقربوا الأجل ، فبادروا العمل ، وكذبوا الأمل ، فلاحظوا الأجل» (١١٢ / ٢٢٠) ـ ف «أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ، والأبصار اللامحة الى منار التقوى ، اين القلوب التي وهبت لله ، وعوقدت على طاعة الله» (١٤٢ / ٢٥٦) ـ «ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا» (١٥٥ / ٢٧٧) ـ «فاتقوا الله تقية من سمع فخشع ، واقترف فاعترف ، ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وأيقن فأحسن ، وعبر فاعتبر ، وحذر فحذر ، وزجر فازدجر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، وأري فرأى ، فأسرع طالبا ، ونجا هاربا ، فأفاد ذخيرة ، وأطاب سريرة ، وعمر معادا ، واستظهر زادا ليوم رحيله ووجه سبيله وحال حاجته وموطن فاقته ، وقدم أمامه لدار مقامه ، فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له ، واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه ، واستحقوا منه ما أعد لكم بالتنجز لصدق ميعاده ، والحذر من هول معاده» (٨١ / ٢ / ١٤١) ـ «فاتقوا الله عباد الله ، تقية ذي لب شغل التفكر قلبه ، وأنصب الخوف بدنه ، وأسهر التهجد غرار نومه ، وأظمأ الرجاء هو اجر يومه ، وظلف الزهد شهواته ، وأوجف الذكر بلسانه ، وقدم الخوف لأمانه ، وتنكب المخالج عن وضح السبيل ، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب ، ولم تفتله فاتلات الغرور ، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور» (٨١ / ٢ / ١٤٤).

(١) هذه الخطبة اجابة لهمام صاحب له (ع) حين قال : يا أمير المؤمنين صف لي المتقين ـ

٢٢٨

«أما بعد فان الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنه لا تضره معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدنيا مواضعهم.

فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب ، وملبسهم الإقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ، ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ، ولو لا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقا إلى الثواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون ، قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم ، إرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها ، أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا انها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم ، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من

__________________

ـ حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل (ع) ثم قال : يا همام «اتق الله وأحسن» ف (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فلم يقنع فخطب (ع) هذه الخطبة فلما انتهت صعق همام صعقة كانت نفسه فيها.

٢٢٩

مرض ، ويقول لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم ، لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن اعمالهم مشفقون ، إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي اعلم بي مني بنفسي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ، فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين ، وحزما في لين ، وإيمانا في يقين ، وحرصا في علم ، وعلما في حلم ، وقصدا في غنى ، وخشوعا في عبادة ، وتجملا في فاقة ، وصبرا في شدة ، وطلبا في حلال ، ونشاطا في هدى ، وتحرجا عن طمع ، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل ، يمسي وهمه الشكر ، يبيت حذرا ويصبح فرحا ، حذرا لما حذّر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة ، ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب ، قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ، ميّتة شهوته ، مكظوما غيظه ، الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين ، يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه ، لينا قوله ، غائبا منكره ، حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شره ، في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب ، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحق ، إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغي عليه صبر ، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له ، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة ، أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من

٢٣٠

نفسه ، بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوه بمكر وخديعة» (الخطبة ١٩١ / ٣٧٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٤) :

هنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دون خصوص الحرم ، و (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) دون تقيد بصيد الحرم قد تدل على الحظر عن الصيد كأصل ، فأصله محظور والاعتداء فيه أشد حظرا حيث (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فحين تنال الصيد الأيدي والرماح بسهولة فهنا الابتلاء ، فليس لغير المحتاج إليه أن يناله على وفره ، وليس للمحتاج أن يناله أكثر من سؤله (١) كما وليس للحرم نيل منه على أية حال ، فطالما البلوى بالصيد الوفير لغير الحرم غير خطير ، فهي للحرم خطير خطير (٢).

وطالما صيد اللهو حيث لا يعنى إلّا إياه حرام على أية حال ، فمطلق صيد البر حرام على الحرم على أية حال مهما كان لحاجة ، وهذه الآية تبيّن حرمة الصيد كأصل ثم التالية تغلظ حرمته وأنتم حرم.

وهنا مواصفة «الصيد» ب (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) دليل اختصاصه بصيد البر ، وكما في آيات عدة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٧١ في الكافي علي بن ابراهيم عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) قال : حشر عليهم الصيد في كل مكان حتى دنا منهم ليبلوهم الله به.

(٢) المصدر عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : حشرت لرسول الله (ص) في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم.

٢٣١

ذلك (لِيَعْلَمَ اللهُ) علما منه علامة عليكم لا علما : معرفة (مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) الطليق بذاته ، فإنه حاضر بآياته ، و «بالغيب» عن الناس ولكنه ليس إلّا في صيد بالغيب.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) البلاء أن يصيد دون مبرر أو ان يعتدي في الصيد المحظور (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ولا سيما فيما يصيد تلاعبا بحياة الصيد دونما حاجة إليه فانه ظلم خالص كالس.

وهنا (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) تعم إلى قسم من نوع الصيد وهو البري ، قسما من أي صيد بري كالفروخ والبيض حيث تناله الأيدي على أية حال.

وقد يلمح ذلك التهديد الشديد ببلوى الصيد أنه كان في السنة محرما كأصل ، وإلّا فلا دور للتهديد عن الصيد ولما يأت النهي عنه ، وهكذا تتأيد الروايات الناهية عن صيد اللهو ، فقد امتحن الله هذه الأمة بصيد البر ولا سيما وهم حرم ، كما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٧ : ١٦٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٩٥) :

لقد مضى قول فصل حول (الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) في الآية الأولى من المائدة ، ومنه أن «حرم» تعني إلى حالة الإحرام الكون في الحرم ، فيا ويلاه إن كان الصيد في كلتا الحالتين! وهنا محور النهي هو قتل الصيد متعمدا دون الآية الأولى الطليقة في حرمة الصيد بكل المحاولات الإيجابية بحقه ، وعلّ الإختصاص هنا لبيان الجزاء الخاص ، فليس في غير قتله

٢٣٢

عمدا ذلك الجزاء قضية النص الخاص لموضوعه وهو القتل المعمد.

وطليق «الصيد» هنا حقيق للدلالة على حرمة قتل أي صيد ، من محرم اللحم (١) إلى محلّله ، بل وعلّ المحرم الأكل أشد محظورا من محلّله حيث لا يبرره حل أكله على أية حال ، اللهم إلّا ما يصاد لغير الأكل من المنافع المحللة ، فما يصاد دون أي نفع فمحظور صيده على أية حال وإن لم تكونوا «حرما» فإنه إيذاء وظلم دون أي مبرر ، تلاعبا لاغيا بحياة حيوان لا يضرك ولا ينفعك.

إذا فقتل هكذا صيد وأنت محرم في الحرم يحمل ثالوثا من المحظور بل وزيادة هي اللهو في الصيد فإنه محرم في غير الحاجة الحيوية.

وهل يضاعف الجزاء في قتل الصيد محرما في الحرم؟ طليق «فجزاءه» الراجع إلى طليق القتل متعمدا ، هو كالنص في وحدة الجزاء

__________________

(١) كما في صحيح معاوية «إذا أحرمت فاتق قتل الدواب كلها إلا الأفعى والعقرب والفارة فانها توهي السقاء وتضرم اهل البيت واما العقرب فان نبي الله مد يده إلى حجر فلسعته العقرب فقال : لعنك الله لا تذرين برا ولا فاجرا والحية إذا ارادتك اقتلها وإذا لم تردك فلا تردها والكلب العقور والسبع إذا أراداك فاقتلهما فان لم يرداك فلا تؤذهما والأسود الغدر فاقتله على كل حال وارم الحوأة والغراب رميا على ظهر بعيرك» (الكافي ١ : ٧٧) وفي صحيح حريز «كل ما خاف المحرم على نفسه من السباع والحيات وغيرها فليقتله ولو لم يردك فلا ترده» (التهذيب ١ : ٥٥١ والاستبصار ٣ : ٢٠٨ والكافي ٤ : ٣٦٣) وصحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : لا تستحلن شيئا من الصيد وأنت حرام ولا أنت حلال في الحرم ولا تدلن عليه محلا ولا محرما فيصطاده ولا تشر اليه فيستحل من أجلك فان فيه الفداء لمن تعمده (الكافي ٤ : ٣٨١).

أقول : فاستثناء هذه المذكورات دليل حرمة غيرها من الصيد ولا سيما «شيئا من الصيد» الشامل لكل صيد.

٢٣٣

فالصحاح الواردة في المضاعفة (١) غير صحاح إلّا أن تحمل على الرجحان.

والقول إن الصيد هو المحلّل فقط لا والمحرم ، بحجة أنه لا ضمان في قتل الضاريات ، مردود بأنه مخصّص بدليل ، كما الاستدلال ب (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ... وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) اعتبارا بحل صيد البحر مطلقا وحيوان البحر يعم المحلل والمحرم! وحل صيد البر خارج الإحرام كذلك! هو كذلك مردود بأن المحلّل من الصيد لا يختص بحل الأكل برا وبحرا ، وأن صيد البر لهوا محرم في حقل المحلّلات ، والصيد هو كل وحشي غير أهلي لا تصل إليه الأيدي بصيده ، وطليق الصيد يشمل المحرم أكله إلى المحلل ، ما فيه منافع أخرى أم ليست.

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) وتعمّد القتل حالة الإحرام والحرم المحظور فيهما القتل يلمح بشرط العلم بالإحرام والحرم كالعلم بالحرمة وقصد القتل مع العلمين ، كما و (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ثم (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) تؤيدان شرط العلم بالإحرام والحرم إذ لا وبال ولا انتقام في قتل الصيد في غير الإحرام والحرم إلّا لهوا ، وهنا المحظور المعاقب عليه هو قتل الصيد وأنتم حرم مطلقا ، فما لم تجتمع أعمدة العمد الثلاث لم يحكم على القاتل بالجزاء.

إذا فالجاهل بالحرم أو الإحرام ، كالجاهل الحرمة إلى غير العامد في

__________________

(١) مثل قول الصادق (ع) على المحكي في الحسن الصحيح عن معاوية بن عمار : ان أصبت الصيد وأنت حرام في الحرم فالفداء مضاعف عليك وان أصبته وأنت حلال في الحرم فقيمة واحدة وان أنت أصبته وأنت حرام في الحل فانما عليك فداء واحد(الكافي ٤ : ٣٩٥) والموثق عنه (ع) وان أصبته وأنت حرام في الحرم فعليك الفداء مضاعفا(التهذيب ١ : ٥٥٣).

٢٣٤

القتل ، هم شركاء ثلاث في الخروج عن «متعمدا» فالروايات الواردة خلاف ذلك مأولة أو مطروحة (١).

ثم (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) تعني مماثلة الجزاء من النعم لما قتل من الصيد ، فإن كان في النعم ما يماثل المقتول فليقتل كفارة عما قتل ، وإن لم يكن مماثل إلّا أقل منه أو اكثر جسما وقيمة فليقتل الأقل ويدفع بقية الثمن لأهله ، وليدفع قيمة الصيد المقتول في الأكثر ، فالمماثلة هي المفروضة عينا وقيمة ، وإلّا فقيمة.

ففي حمار الوحش أو بقره حمار أهلي أو بقر ، وفي الظبي شاة (٢)

__________________

(١) وفي نور الثقلين ١ : ٦٧٣ في مجمع البيان : فاما إذا قتل الصيد خطأ أو ناسيا فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عليه وهو مذهب عامة اهل التفسير وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام ، وفيه ٦٧٨ في تهذيب الأحكام عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه الكفارة فان اصابه ثانية خطأ فعليه الكفارة ابدا إذا كان خطأ فان اصابه متعمدا كان عليه الكفارة فان اصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله ولم يكن عليه الكفارة.

(٢) في صحيح حريز عن الصادق (ع) في قول الله عزّ وجل (مِثْلُ ما قَتَلَ) في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الظبي شاة وفي البقرة بقرة(التهذيب ١ : ٥٤٤) وفي صحيح زرارة وابن مسلم في محرم قتل نعامة عليه بدنة فان لم يجد فإطعام ستين مسكينا وان كانت قيمة البدنة اقل من اطعام ستين مسكينا لم يكن عليه إلّا قيمة البدنة وفي صحيح أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله (ع) قال : إذا أصاب المحرم الصيد ولم يجد ما يكفر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد قوم جزاءه من النعم دراهم ثم قومت الدراهم طعاما لكل مسكين نصف صاع فان لم يقدر على الطعام صام لكل نصف صاع يوما(الكافي ٤ : ٣٨٧ والتهذيب ١ : ٤٠٣) أقول : نصف الصاع محمول على الرجحان لما قدمناه من لمحة الآية وصحيح ابن عمار عن الصادق (ع) من أصاب شيئا فداءه بدنة من الإبل فان لم يجد ما به يشتري بدنة فأراد ان يتصدق فعليه ان يطعم ستين ـ

٢٣٥

وهكذا ، ولأن المماثلة العادلة بحاجة إلى خبروية عادلة ، إذا فل (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) بالمماثلة.

ذلك ، وليكن المماثل (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) مما يدل على وجوب المماثلة العينية ، فلا تكفي القيمة ما أمكنت تلك المماثلة ، و (بالِغَ الْكَعْبَةِ) تعني البلوغ المناسب للكعبة وهو قربها خارجها وخارج المسجد الحرام ، وكما في (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حيث يعني الحرم.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) وهي طبعا فيما لا يسطع على المماثل عينا أو قيمة ، وطليق «مساكين» يطلق واجب الإطعام في طليق الجمع ، وهو بطبيعة الحال قدر المستطاع.

ثم (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) حين لا يسطع على ذلك الطعام ، وأقل العدل في عدل ذلك عدل ثلاثة مساكين وهو ثلاثة أمداد ، كما وهي كفارة ثلاثة أيام من الصيام في أقلها ، لطليق «كفارة» الشامل لأقلها دون أكثرها وأوسطها.

ذلك و (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) حيث جاء بالمحظور المحظور ، صيد بقتله وهو من الحرم.

وهنا (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) يختص بمن أدى الكفارة الواجبة ، ف (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) تلمح أن ليست في العدد كفارة ، لأنه عصيان كبير كبير لا تمحيه وتكفّره أية كفارة إلّا النقمة الربانية بعد الموت (١) «والله عزيز ذو

__________________

ـ مسكينا لكل مسكين مد فان لم يقدر على ذلك صام مكان ذلك ثمانية عشر يوما مكان كل عشرة مساكين ثلاثة ايام» (التهذيب ١ : ٥٤٥).

(١) نور الثقلين ١ : ٦٧٨ في الكافي عن أبي عبد الله (ع) في محرم أصاب صيدا؟ قال : عليه الكفارة قلت : فإن أصاب آخر؟ قال : إذا أصاب آخر فليس عليه كفارة وهو ممن قال الله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ).

٢٣٦

انتقام» ، ولأن الكفارة توبة عملية حيث تكفّر الخطيئة ، والعائد هنا مهدد بالانتقام دون أية كفارة ، فذلك دليل على أنه ليس في العود المعمد كفارة.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٩٦) :

هنا «صيد البحر ـ و ـ صيد البر» تعنيان المصدر والصادر من البحر : عمل الصيد ونفس الصيد ، مهما كان حل الأكل أم سائر الحل ، ثم «وطعامه» تختص بحل طعمه ، سواء أكان طعام الصيد وهو الحلّ أكله منه ، أم طعام البحر دون صيد وهو ما يلقيه البحر بأمواجه دون صيد (١) مما يدل على عدم اختصاص الحل في طعام البحر بصيده ، خرج الميت في الماء صيدا وغير صيد ، كما خرج غير السماك والروبيان بقاطع السنة اللهم إلّا ما ليس له فلس.

إذا فصيد البحر طليق في حلّه ، في حلّه وإحرامه ، في حاجته ولهوه ، اللهم إلّا ما لا يستفاد منه إطلاقا فغير حلّ لمكان (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) ، وللإيذاء والتبذير ، وإلّا ما خرج بقاطع السنة من أكل غير السمك الأملس غير المفلس والروبيان.

وتحريم صيد البر ما دمتم حرما تحريم عميم وأنتم حرم ، وجاه الحل المشروط وأنتم غير حرم ، وهو شرط الحاجة متاعا وعدم اللهو في صيده ، ثم (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تعني عامة التقوى في سائر الحقول

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٣١ ـ اخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) «أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ، قال ما لفظه ميتا فهو طعامه ، أقول : يعنى لفظه دون صيد ومات خارجه.

٢٣٧

إلى خاصة التقوى في حقل الصيد برا وبحرا ، فما دل دليل من قاطع الكتاب والسنة على حله كان حلا ، أم على حرمته كان حراما ، وفي العوان بينهما عوان حكمه الحل للضوابط الفوقية العامة في حل كل شيء إلّا ما أخرجه الدليل ك (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وهنا (حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) كما تحرّم صيد البرّ على الحرم كذلك تلمح بحله لغير الحرم ، فقد يجوز أكل صيد البر من الحرم لغير الحرم ، لاختصاص حرمته بالحرم.

ولأن إحلال صيد البحر وطعامه طليق ففيما يشك كونه من المحرم المستثنى نرجع إلى ذلك الإطلاق فحلّ كالسماك التي نشك أنها من ذوات الفلوس لكون حاضرها ملساء فيما احتمال كونها ذوات فلوس واردا أنها ذهبت عبر المنازعات ، وأما التي لا أثر عن الفلس فيها ولا تحت آذانها فهي شاردة عن ذلك الاحتمال اللهم إلّا إذا كانت من الصنف الذي لا فلس تحت آذانها وهي قليلة الفلوس في مظاهرها وخفيفتها لحد تذهب عبر الاصطكاكات البحرية وسباقاتها بين الرفاق أو المتنازعات.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)

٢٣٨

ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ

٢٣٩

تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ

٢٤٠