الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

فقير ـ بطبيعة الحال ـ بل هو أفقر من هؤلاء الفقراء ، وكل ذلك تعريض جانبي بخصوص المسلمين نقمة منهم أنهم مسلمون ، فقد أخرجوا هذا القول مخرج الاستبخال لله سبحانه بسائر مخارجه ، وقد بلغ من غلظ حسهم الحيواني البغيض ، وجلافة قلوبهم ألّا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه تعريضا وهو البخل بلفظه المباشر الجانبي ك «ربكم بخيل» فقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ـ «إن الله فقير» فانه أشد وقاحة وتهجما وكفرا.

وهنا (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) إخبار وليست دعاء حيث الله لا يدعوا ، فممن يطلب طلبه حين يدعوا ، اللهم إلّا طلبا من نفسه أن يغل أيديهم أو طلبا من مؤمني عباده أن يتطلبوا منه غل أيديهم!.

وقد تعني (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) مثلث المعنى ، فهم مغلولو الأيدي أولا بمعنى ما لسائر الخلق من غل الأيدي ، إذ لا يد طليقة لأي من خلق في أيّ من الأعمال إلّا بما يطلقها الله ، ولا يطلقها طلاقة طليقة كما له تعالى وسبحانه عما يشركون.

ثم هم مغلولو الأيدي لمكان الفقر الجبلي لهم مهما كانوا أغنياء حيث (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) فهم أبخل بخلاء البشر طول تاريخهم ، كما غلت أيديهم عن أن يمسوا من كرامة الله ورسل الله إلّا وهم مفضوحون فيما يعملون.

اجل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أنفسهم دون يد الله (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) كما (لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ).

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهنا «يداه» دون «يده» المنقولة في قيلتهم ، لتدل على واسع قدرته ، ف «يده» قد تلمح لبسط جانبيّ ليد الرحمة أم يد

٨١

العذاب أماهيه ، ولكن «يداه» هي عبارة أخرى عن قدراته كما يقال : فلان مبسوط اليدين.

صحيح أن اليد تستعمل في اليد الجارحة ، ولكنها مستعملة اكثر منها بكثير في اليد القدرة المديدة ، ولأن الله ليست له يد جارحة فلتجرد اليد واليدان له عن أية جارحة ، إلى سائر اليد علما وقدرة ورحمة ، يد الألوهية والربوبية الطليقة الواسعة لكل شيء.

فقد يعبر عن كل ذلك بصيغة الإفراد ك (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (٣ : ٢٦) و (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣٦ : ٨٣) و (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (٦٧ : ١) و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٤٨ : ١٠) فيما يراد بها الربوبية الموحدة.

وأخرى بصيغة التثنية كما هنا (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) و (أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (٣٨ : ٧٥) و (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٤٩ : ١) فيما يراد بيان كامل الربوبية في بعدي صفات جلاله وجماله ، وعلى أية حال «كلتا يديه يمين» القدرة علما ورحمة رحمانية ورحيمية أماهيه.

فقد يعنى من يديه : يد الخلق والتدبير ، أو يد التكوين خلقا وتدبيرا ويد التشريع بدء ونسخا ، أو يد النعمة الدنيوية والأخروية ، أو يد العذاب والنقمة ، أو يد النقمة الظاهرة والباطنة ، وعلى الجملة يد السلب والإيجاب في ربوبياته كلها حسب المصالح الواقعية أو الابتلائية ، وقد تعني «يداه» كل هذه المثنيات على البدل ، ومعها بسط اليدين بمعنى طليق اليد في كافة الشؤون الربانية (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٧ ـ اخرج من عدة طرق عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص): ان يمين الله ملء لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه قال وعرشه على الماء وفي يده الأخرى القبض يرفض ويخفض.

٨٢

ذلك وقد تجمع القيلة اليهودية بين هذه القيلات ، فمن فسلفتهم التي تسربت إلى الفلسفة الإسلامية فترسبت قاعدة «الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» ومن مهزلتهم وجاه المسلمين أن إلهكم فقير وإلّا فلما ذا أنتم المسلمون فقراء ولماذا يسألكم قرضا حسنا ، ومن قسمتهم الضيزى للربوبية أن له الخلق ولخلقه التدبير فقد فرغ من الأمر ، ومنه قولهم باستحالة النسخ فقد غلت يده في التشريع كما في التكوين وما أشبه هذه من غلّ وهي كلها غلّ وانحراف تجمع بينها العقيدة اليهودية وهي متفرقة بين سائر الأمم و «البداء» المتواتر في إثباته براهين الكتاب والسنة يعني بسط يدي الله في كافة ربوبياته دون فراغ من الأمر وفراق عن الربوبية ، فالبداء يعني استمرارية الربوبية دون وقفة في أي من شؤونها ، دون الظهور بعد الخفاء فان الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

ذلك ، ومنه البداء في القضاء بعد القدر ، فلا يعني البداء أنه قضي الأمر كما أراده الله فلا خيرة في أمر لأحد من الخلق ، إبطالا للتكليف فبطلانا للحساب والثواب والعقاب!.

بل يعني أن الله يقضي فيما قدر إذا قضى المكلف ما قدر له في القدر ، ف «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين».

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ولكنه ليس بسطا كما يهواه خلقه بل (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) توسعة وتقتيرا : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ).

ذلك ، وليس ما كتب على نفسه من الرحمة غلا ليده في طليق القدرة ، حيث القصد من (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) صفة نقص ومذمة ومذلة والرحمة كمال وخلافها خلافه ، ثم وليس غلا ليده من عند نفسه حيث الغلّ

٨٣

هو اللّااختيار وربنا هو المختار بذاته مهما كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه خلافها.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) كما وأن قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) هي من تلك الزيادة ، قولا غولا باستحالة النسخ ، غلا ليد التشريع الربانية ، وقولا ساخرا بأنه فقير فإن عباده المسلمين فقراء.

وترى أن زيادة طغيانهم وكفرهم بما أنزل إلى الرسول (ص) تحكم بعد إنزاله حفاظا على حالتهم الأولى كما يهرفه خارف يسمي نفسه مفسرا للقرآن؟ كلّا! إذ ليس القصد من ذلك الانزال تلك الزيادة حتى تنسب إلى الله فيقال لا تعني أفعاله تعالى مصلحة وحكمة(١).

ثم وإذا دار الأمر بين صالح إنزال القرآن بطالح المزيد من طغيانهم وكفرهم ، وبين صالح البقاء على قليل كفرهم وطالح ترك إنزال القرآن فأيهما أصلح؟! فإذا كانت رعاية الأقل مصلحة أولى من الأكثر مصلحة فلا أولوية لمصلحة إرسال الرسل وإنزال الكتب حيث سبّبا مزيد الطغيان والكفر للطاغين والكافرين : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢).

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وتراهم باقين زمن دولة المهدي القائم من آل محمد (ص) وهي تشمل العالم كله؟ أجل ولكن لا دور لغير الإسلام سلطة روحية وزمنية ، فغير المسلمين ـ إذا ـ كلّهم أهل ذمة في تلك الدولة السعيدة ، لا دور لهم إلّا كور.

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في ١٢ : ٤٤ من تفسيره : قال أصحابنا : دلت الآية على أنه تعالى لا يراعى مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفرا وضلالا فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات!.

٨٤

وتلك العداوة والبغضاء الملقاة بينهم أولاء اليهود ، ثم العداوة والبغضاء المغراة بين النصارى كما في آية اخرى ، هي من نتائج كيدهم وميدهم ضد دين الله والدينين المؤمنين بالله.

(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) وهنا (ناراً لِلْحَرْبِ) استعارة لطيفة حيث شبهت بواعث الحرب بالنار لاحتدام قراعها وجد مصاعها وأنها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها ، والقصد من نار الحرب هي التي ضد المسلمين القائمين بشرائط الإيمان ، ف (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣ : ١١١) ونارا للحرب قد تعني الحرب الباردة الدعائية ضد الإسلام ف (أَطْفَأَهَا اللهُ) هنا بارزة بحجة القرآن البالغة التي تذود عن ساحته كل وصمة وكل دعاية مضللة ، ثم الحرب الحارة دينيا وكذلك الأمر ، وأما العسكرية فهنا الحرب سجال ، وثالوث حربهم مطفية بما أطفأها الله ، اللهم إلّا الحروب التي تشن على المسلمين غير القائمين بشرائط الإيمان.

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وذلك صبغة يهودية عالمية أينما وجدوا ، ولا سيما بعد ما شكّلوا دويلة أو دولة بما احتلوا فلسطين والقدس ، ويحاولون أن يوسعوا نطاق الاحتلال الصهيوني ، وقد أخبرنا الله بقضائه إليهم وعليهم : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً .. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ... فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (١٧ : ٧)(١) ومن لطيف الوفق العددي بين الحرب والأسرى بمختلف صيغهما ان كلا يذكر في القرآن (٦) مرة مما تلمح بان الحرب الاسلامية قضيتها الأولى الأسرى من الكفار!.

__________________

(١) لتفصيل البحث حول الآية راجع الفرقان ١٥.

٨٥

ذلك ، وليست وصمة العداوة والبغضاء على اليهود والنصارى لازبا لهم لزاما لأنهم ـ فقط ـ أهل الكتاب ولمّا يسلموا ، إنّما هي لكفرهم وتكذيبهم بآيات الله وكيدهم على شرعة الله :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٦٦) :

«لو» هنا وهناك تحيل مدخلوها واقعيا لا إمكانيا ، فالواقع الأكثري من أهل الكتاب عدم الإيمان والتقوى وإقامة الكتاب ، (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) بكتابهم «واتقوا» مخالفة الكتاب إلى ما يهوون (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي عملوها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

وليس الإيمان بالكتاب ـ فقط ـ هو قراءته والإعتقاد به ، بل هو إقامته عمليا كما يقام عقيديا ولفظيا ، إذ ليس الكتاب الرباني إلّا لإصلاح واقع الحياة دون تصورها فقط والإعتقاد بذلك التصور.

فإقامة التوراة والإنجيل هي بعد الانتساب إليهما والإقرار بهما ، عبارة عن تحقيق محتوياتهما في ميادين العمل والتبشير ، فقد يذهب العلم بالكتاب حين لا ينتفع به كما يروى عن النبي (ص) «يوشك أن يرفع العلم .. حين تركوا أمر الله» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٧ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير ان رسول الله (ص) قال : يوشك أن يرفع العلم قلت كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال ثكلتك أمك يا ابن نفير ان كنت لا أراك من افقه أهل المدينة أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما اغنى عنهم حين تركوا امر الله ثم قرأ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ..) وفيه عن زياد بن لبيد قال ذكر النبي (ص) فقال وذلك عند ذهاب أبنائنا ـ

٨٦

هنا إقام التوراة والإنجيل يقتسمان بين أهليهما ولا سيما أهل الإنجيل إذ يؤمنون بالتوراة تلقائيا ، مهما كان إيمان أهل التوراة بالإنجيل تكليفا ربانيا ، وكما أن من إقامهما بتمحيصهما عن كل زيادة وتأويل عليل ، كذلك تطبيقهما عمليا على ضوء الإيمان بهما ، ومن ثم الإيمان بالمبشّر به فيهما وهو القرآن ورسوله ، فمثلث إقام التوراة والإنجيل مطوي في إقامهما.

ثم (ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) قد تعني إلى كل كتابات السماء ـ بين الكتابين حيث توضّح الدخيل فيهما عن الأصيل ، وتبين منهما كل إدغال وتدجيل ـ تعني القرآن فإن الإيمان به وإقامه هما من القضايا الرئيسية لإقامهما ، وليست «إليهم» لتختص النازل إليهم بالكتابات الإسرائيلية ، حيث الواجهة القرآنية لأهل الكتاب هي قبل غيرهم ، فهم الركيزة الأولى من وحي القرآن لمعرفتهم بطبيعة الوحي أكثر من سواهم.

فكما أن من قضية إقام التوراة هي تصديق الإنجيل فإقامه ، كذلك إقام القرآن هو رأس القضايا لإقامهما ، إذ لا يختص إقام كتاب الوحي بمواصلة التطبيق لأحكامه ـ فقط ـ بل ومن إقامه النقلة إلى كتاب آخر يؤمر بها في الكتاب.

إذا فالانتقال من هذين الكتابين إلى القرآن إقام لهما وللقرآن ، وفي الترسب فيهما دون نقلة إلى القرآن ترك لإقامهما.

فاليهودي والمسيحي الحقيقي هما اللذان يقيمان الكتابين بالإيمان

__________________

ـ قلنا يا رسول الله (ص) وكيف يذهب العلم ونحن نقرء القرآن ونقرؤه أبناءنا ويقرءه أبناءنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال : ثكلتك أمك يا ابن لبيد ان كنت لأراك من افقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء.

٨٧

بالقرآن لمكان البشارات المتظافرة فيهما بحق القرآن ونبيه.

وليس يختص هنا وعد الرحمة على ضوء إقام الكتاب بالمذكورين ، فليس ذكرهم إلّا لأنهم أهم الكتابيين الموجودين زمن نزول القرآن ، وإلّا فقد تعم الرحمة الموعودة أهل القرى كلهم على ضوء الإيمان والتقوى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٧ : ٩٦).

فتواتر الرحمة الربانية من السماء والأرض هو طبيعة الحال بما وعد الله للذين آمنوا بالله واتقوا ، (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) حيث تعني لباس الرحمة من كل الجوانب لهم ، والأكل هنا يعني كل الحاجات المعيشية فهو سعة الرزق ورفاهة العيش كما يقال : فلان مغمور في النقمة من قرنه إلى قدمه.

كما وأن (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤٢ : ٣٠) فقد (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٠ : ٤٢) معاكسة النتيجة عند معاكسة الأعمال (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ذلك و (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) حيث يقيمون كتابات السماء دونما تدجيل وتأويل (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) حيث يعيشونها في أهواءهم ورغباتهم بكل تأويل وتدجيل.

وهنا يجمع الله بين بركات الآخرة والدنيا على ضوء الإيمان والتقوى لأهليهما كتابيين أو مسلمين ، فللآخرة (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وللدنيا كما تلائم الآخرة : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وهكذا يدعو عباد الله الصالحين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا

٨٨

كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٢ : ٢٠١).

فقد يبدوا أن الإيمان والتقوى لا يعنيان ـ فقط ـ حسنى الآخرة ، بل وكذلك معها حسنى الدنيا ، فالمنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا عن الدنيا ، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلة عن سعادة الدنيا ، فلا يجعل طريق الآخرة غير الطريق في الدنيا فإنما «الدنيا مزرعة الآخرة» كلّ يمسك على الآخر ، إذا فليس في تحصيل الآخرة إهمال الدنيا ، ولا في تحصيل الدنيا إهمال الآخرة ، حيث المؤمن دنياه آخرة حين يتذرع بها إليها ، فحياته فيها حسنة مهما كانت الآخرة هي الحسنى.

فخلاف ما يزعم ليس العداء بين الحياتين والنشأتين عداء لازبا أصيلا ، بل هو طارىء من انحراف أهل الدنيا حيث يؤصّلونها فيستأصلون الحياة الأخرى ، فلا استئصال بينهما كأصل ، وكما نجد في وعد الله أن تواتر البركات الدنيوية قبل الأخروية هو من قضايا الإيمان الصادق والتقوى ، فكيف ينافيان تعمير الحياة الدنيا ، اللهم إلّا التركيز عليها كأصل أخير.

فكما المنهج الإيماني يقرر أن الصلاة والصوم والحج عبادة ، كذلك العمل للحصول على عيشة راضية هنا عبادة محسوبة على الآخرة كما هي محسوبة على الدنيا.

كيف لا وقد استعمرنا الله في الأرض دونما استهدام ف (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (١١ : ٦١).

فاستعمار الأرض المطلوب من ربنا لنا هو الذي لا يستهدم الآخرة بل ويستعمرها جمعا بين الاستعمارين الصالحين وهو للكادحين الصالحين ، ف (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٨٤ : ٦) كدحا في كلا الاستعمارين.

٨٩

فليس المنهج الإسلامي ليفوّت على ناهجيه دنياه لنيل الآخرة ، ولا آخرته لنيل الدنيا ، إذ ليستا ـ في الأصل ـ نقيضين أو بديلين في ذلك المنهج ، وإلّا لم تستخدم الدنيا كمدرسة ومزرعة للآخرة.

وما مذمة الحياة الدنيا في القرآن والسنة إلّا جانبية تعني التي تفوّت الآخرة ، فهي على حدّ تعبير الأمير عليه السلام تبصرة للآخرة : «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

فالمذاهب الروحية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة وعملية بعيدة عن نظام الحياة ، كما المذاهب المادية التي تحاول استئصال الدين كأنه يناحر مصالح الحياة ، أو أن الدين لله والحياة للناس ، إنها مذاهب بين إفراطية وتفريطية بحق الدين والحياة ، حيث لم تعرف الدين ولا الحياة ، فالدين الحق هو الذي يكفل صالح الحياة الدنيوية إلى جانب صالح الحياة الأخروية ، دون تفدية لإحداهما للأخرى اللهم إلّا تأصيلا للأخرى لأنها الحياة الدائمة وهذه هي الفانية.

ذلك ، وليس الرخاء الظاهرة في الأمم المتحلّلة عن الإيمان والتقى مما تبقى حيث تبغى ، إنما هي جولات عابرات ، وهي مع الوصف حافلة بكل شقاء وخوف وعناء.

فمن ذلك سوء التوزيع في هذه الأمم مما يجعلها حافلة بالشقاء وبالأحقاد والمخاوف من الثورات والانقلابات المتوقّعة حينا بعد حين ، نتيجة الأحقاد الكظيمة والمظلمات العظيمة ، فهي بلاء رغم ظاهر الرخاء بالنعماء.

ذلك وعلى حد التعبير القرآني العبير (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤).

ولقد نلمس مختلف مظاهر الضنك في المعيشة خلقية وسياسية

٩٠

واقتصادية حيث الانهيار محلّق على كل حلقاتها مهما كانت الظواهر والمظاهر برّاقة.

ذلك ، ولكن الصلة بالله في كل زوايا الحياة تجعل الحياة طيبة في الفقر والغنى ، في الضيق والسعة وعلى أية حال ، وتنمي محاولة النماء في مختلف جنبات الحياة ، مادية إلى روحية ، وروحية إلى مادية ، تعيشان مع بعضهما البعض فتعيّشان الإنسان كما يرضاه الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟!.

ولقد نسمع تلك القدسية في حديث قدسي يرويه الرسول (ص) عن الله مخاطبا لعباده في بلاده :

«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم .. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم .. يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم .. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا .. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا .. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم فيها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (١).

__________________

(١) رواه مسلم عن أبي ذر عن النبي (ص) عن الله تبارك وتعالى.

٩١

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ

٩٢

وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

٩٣

ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

٩٤

خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٨٦)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٦٧) :

آية التبليغ هذه هي من معتركات الآراء بين الفريقين المسلمين ، هل هي تبليغ ما أنزل إلى الرسول (ص) ككل؟ أم كبعض مما أنزل إليه ونحن لا نعرفه؟ أم هي تحمل أمر التبليغ لولاية الأمر بعد الرسول (ص) (١).

وهذه الآية نفسها ، ودون النظر إلى ملابسات نزولها ـ العدة ـ تدلنا إلى المعنيّ منها صارحة صارخة ، حين تكون النظرة مجردة عن ملابسات متعوّدة وقضايا مذهبية وزوايا العصبية ، فكما الله مستقل بذاته في ألوهيته ، كذلك كتابه مستقل في دلالته في دعوته.

فترى ماذا يعنى هنا من (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهي من أخريات ما نزلت في المائدة وقد نفض الرسول (ص) يديه عن تبليغ الرسالة الإسلامية بكل أصولها وفروعها ، فلم يبق إلّا أن يرتحل إلى جوار رحمة ربه ، نافضا يديه عن كل ما كان عليه؟ اللهم إلّا ..

عناية كل (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) برمتها تحوّل الآية إلى تهديد السلب بالسلب : «وإن لم تبلغ ما أنزل إليك فما بلغت ما أنزل إليك» توضيح

__________________

(١) ذكر الفخر الرازي وجوها عشرة عاشرها الذي لم يرض بها تماما هو انها نزلت بحق الامام علي (ع) رغم أن الوجوه التسعة قبلها لا تناسب دلالة الكتاب والسنة ، بل هي وجوه مخترعة لتسد عن الوجه الوجيه لمنزل الآية.

٩٥

فضيح للواضح وضح النهار ، أن كل تارك لشيء تارك له! ذلك ، ولم يسبق لذلك التعبير من نظير لهذا البشير النذير.

ثم وتراه أمر بتبليغ كل ما أنزل إليه دفعة واحدة؟ ولم ينزل إليه دفعة واحدة حتى يبلغها دفعة واحدة! كيف وقد نزل ما نزل إليه نجوما تدريجية : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٧ : ١٠٦) ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

ومن ثم فما هو الحكم النازل عليه منذ بزوغ رسالته حتى الآن لم يبلغه؟ والأحكام القرآنية معروفة ، كلما نزلت آية أو آيات كان يقرءها مباشرة ودون مكث ، فلم يكن مكثه إلّا حسب مكث نزولها ليس إلّا وكما أمر دون أي تباطئ.

إذا فهو بعض ما أنزل إليه ، فما هو ذلك البعض الذي لو لم يبلغه لم يبلغ شيئا من رسالته؟ فإن «رسالته» تعني كلها دون البعض منها وإلّا لكانت العبارة «لم تبلغ ما أنزل إليك» أو «لم تبلغه» والنص (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ككلّ ، فقد كانت رسالته هذه مربوطة النياط بتبليغ (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو النازل الخاص إليه الذي يضمن في حضنه كل النازل عليه من رسالة الله من حيث المحتد والمنزلة.

فما هو (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الذي (إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وهو تعبير منقطع النظير في سائر القرآن يحمل حكما منقطع النظير يبلغه ذلك البشير النذير تحقيقا لبلاغ رسالة الله هذه الخالدة إلى يوم الدين؟.

ومن سمات (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هنا المسماة تلويحا فوق كل تصريح أنه «من ربك» دون «الله» أو (رَبِّ الْعالَمِينَ) مما يلمح صارحا صارخا أن (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يجمع في حضنه كل الربوبية الربانية الخاصة بهذه الرسالة

٩٦

السامية! فهو في وحدته يحمل كل رسالات الله! ف (إِنْ لَمْ تَفْعَلْ) تبليغ (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وأنت في حالة الارتحال إلى ربك بين آونة وأخرى (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) المتمثلة فيما ربّاك به ربك رسولية ورسالية.

ذلك ، لأن «من ربك» تجمع تلك التربية الرسولية والرسالية القمة المنقطعة النظير عن كل بشير ونذير ، وهي الشرعة الخالدة القرآنية بمن ينذر بها ويبشر إلى يوم الدين كما (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

أتراها بعد أنها التوحيد؟ وقد بزغت به الرسالة وحتى النفس الأخير ، أم هو من سائر الأصول الاسلامية؟ فكذلك الأمر! فضلا عن فرع من الفروع أم وسائر الفروع! إضافة إلى أن الفروع غير مترابطة لحد لا يصح بعض دون أخرى وهكذا الأصول.

هنا نتأكد أن (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ليس لا من هذه الأصول ولا من هذه الفروع ، حيث الرسول (ص) عاش حياته الرسالية بلاغا لها كلها فور نزول كلّ منها دونما أي إبطاء ، ثم (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) حيث نجد ها هنا ولمرة يتيمة في القرآن كله ، هذه لا تناسب أهم الأصول وهو التوحيد وقد أعلنه منذ البداية حتى النهاية إعلانا وإعلاما دائما دونما تخوّف من جوّ الإشراك ، ولا الرسالة الجديدة الجادّة التي كانت تحاربها الشرعة الكتابية مع سائر الطوائف ملحدين ومشركين ، فضلا عن الفروع الأحكامية المخاطب بها المؤمنون بهذه الرسالة!.

وهذه عساكر من البراهين المجنّدة لتبيين أن (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) لا تعني الوجوه غير الوجيهة المسرودة في بعض الكتابات التفسيرية المشككة ، إنما هي نفس الرسالة المحمدية باستمراريتها إلى يوم الدين ، فهي هي الخلافة العاصمة لها المعصومة كنفس الرسالة ، لأنها استمرارية صالحة لهذه الرسالة السامية ، فمهما صرح القرآن بخلوده ـ في آيات عدة ـ كقانون ، كان مكان التصريح بالقيادة المعصومة الحاكمة بالقرآن خاليا.

٩٧

وترى (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو النازل عليه بلغة القرآن أم بلغة السنة؟ علّة بلغة القرآن وعلى ضوءه السنة في آيات الولاية الرسالية (١) ورواياتها حيث الأهمية الكبرى لمادة ذلك البلاغ تقتضي أن تذكر في القرآن والسنة بصيغ مختلفة ، ولكنها لمّا تبلّغ بصورة رسمية واضحة لا تقبل التأويل ، فللجمع بين نصوص الولاية بتفسير بليغ في ذلك الحشد العام الهائم أهميته المنقطعة النظير لهذا البشر النذير.

ولذلك نرى في خطبة البلاغ تركيزا بارزا على هذه الآيات وتلكم الروايات ، تبليغا بليغا فائق التصور ، بالغ التصديق الحقيق ، وأهم الآيات

__________________

(١) وتلكم الآيات أمثال آية : ٥ ـ التطهير ٢ ـ والمباهلة و ٣ ـ : آية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) وآية : ٤ ـ الطاعة : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وآيات ٥ ـ المودة في القربى وآية : ٦ ـ ميراث الكتاب (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) مكية ٧ ـ وأولوا الأرحام ، وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، ٨ ـ وآية «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي ..» ٩ ـ ويوم يعض الظالم ١٠ ـ واني جاعلك للناس اماما ١١ ـ ويتلوه شاهد منه ١٢ ـ ومن عنده علم الكتاب و ١٣ ـ آية النصب «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» وهي بين مكيات ومدنيات تدل بمختلف الدلالات على خلافة العصمة بعد الرسول (ص) ومن الأحاديث حديث الثقلين والوزارة والباب والأخوة.

والمصرحة من هذه الآيات هي آية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ..) النازلة في نفس المائدة وآية الطاعة وآية الميراث وآية النصب ، ثم من بينها آية الولاية تبيينا لمعناها انها الأولوية وكما يظهر من «ألست أولى بكم من أنفسكم ..».

فآية التبليغ تحمل واجب البلاغ العام الجماهيري ببيان واضح ناصح عن هذه الخلافة المعصومة حيث الأفضلية الروحية قد لا تكفي سدا لثغر الاغتصاب فقد يقال إن القيادة الزمنية أمر غير القيادة الروحية وهما وإن اجتمعا في شخص الرسول (ص) ولكنهما بعده قد يقتسمان ، ولكن الولاية بمعنى الأولوية الطليقة الشرعية الشاملة للقيادة الزمنية والروحية تكفي بيانا عن هذه المهمة الكبرى ، فآية ميراث الكتاب والعض وذا القربى مكيات وبقية الثلاث عشر مدنيات.

٩٨

في مادة البلاغ هي آية النصب في الانشراح وآية الولاية في نفس المائدة ، فان سائر الآيات إنما تثبت الأفضلية الروحية ، وقد يذب عنها بأن القيادة الزمنية قد تنفصل عن الروحية ، وبلاغ آية الولاية تبيين لمعناها الأولوية كما الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم (١).

__________________

(١) وهذا أهم الوجوه التي اعتمد عليها الرازي في تفسيره بين الوجوه العشرة ، حيث رفض وجه ولاية الأمر واختار البقية وركز على مخافة أهل الكتاب لاحتفاف الآية بآيتي التنديد بهم قائلا : واعلم أن هذه الروايات ـ التي تعني نزول الآية بشأن الغدير ـ وإن كثرت إلّا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى!.

وبقية الوجوه كالتالية : ١ ـ انها نزلت في قصة الرجم والقصاص! وهل كان يخاف اليهود وهم كانوا تحت ذمته؟ ٢ ـ نزلت في عيب اليهود واستهزاءهم بالدين والنبي سكت عنهم فنزلت! ومتى كان يسكت عن ذلك ولم يكن يسكت عن هزء المشركين في العهد المكي؟ ٣ ـ لما نزلت آية التخيير (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا فنزلت! ولا خوف عن قراءة آية التخيير إذ لم تكن مهمته المقام معهن وهن يردن الحياة الدنيا! ٤ ـ انها نزلت في امر زيد وزينب؟ ولم يكتم الرسول (ص) اصل زواجه بها اللهم إلّا هواه فيها كما امر الله وقالت عائشة من زعم ان رسول الله (ص) كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفردية على الله والله تعالى يقول : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ولو كتم رسول الله شيئا من الوحي لكتم قوله (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ). ٥ ـ انها نزلت في الجهاد فان المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحيانا عن حثهم على الجهاد! وكيف هابهم ولم يكن يهاب المشركين الرسميين أن بقاتلهم؟ ٦ ـ لما نزل قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) سكت الرسول (ص) عن عيب آلهتهم فنزلت هذه الآية! وهل نزلت بسبهم وعصمه عن ان يسبوا الله عدوا بغير علم؟ ٧ ـ نزلت في حقوق المسلمين وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرايع والمناسك هل بلغت؟ قالوا : نعم قال (ص) اللهم اشهد! وهلا بيّن الشرائع حتى بينها في حجة الوداع وما هي الشرائع التي لما يبنيها؟ ٨ ـ روى انه (ص) نزلت تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه اعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : الله فرعدت ـ

٩٩

إذا ف «بلغ» أمر ببلاغ ما أنزل عليه في العهدين : المكي والمدني كتابا وسنّة ، فمن المكي (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ومن المدني آية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ...) وكما نسمع الرسول (ص) في تبليغه الهام يوم الغدير يجمع بين هامتها ما نزل عليه في العهدين ، شارحا لها كما يجب بشأن الأولوية الزمنية والروحية لأئمة أهل البيت عليهم السلام.

فليس ذلك لأن آيات الولاية ورواياتها لم تكن لتدل على هذه الهامة الرسالية ، فقد دلت واضحة وضح النهار! ولكن «بلغ» تعني بعدي الإيضاح البارع الذي لا يقبل أي تأويل ، والإفصاح على رؤوس الأشهاد في حشد عامّ هامّ تمد إليه الأعناق ، ويعرف هامة بلاغه خاص وعام ، ولا يقدر على إخفاءه أصلا ودلالة أي مسلم ، خلاف النصوص الخاصة من السنة التي قد تخفي ، أم آيات قد تؤول ، اللهم إلّا آية الولاية في نفس السورة ، وقد أمر بتبليغها تفسيرا لها يوم الغدير.

لذلك نراه صميما على كتابة الوصية بذلك البلاغ حتى يتم اللفظ إلى الكتب ، ولكنه حصل ما حصل!.

فلقد حصحص الحق المعنيّ من (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أنها البلاغ الذي لولاه فكأنما لم يكن الرسول مبلغا لرسالة الله ، فسواء ألم يبلغ رسالة الله بأسرها أم بلغها ولم يبلغ استمراريتها فيمن يمثلها رسولا ورسالة.

__________________

ـ يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؟ وترى ما هو الذي أنزل اليه ولم يبلغها حتى حصل ما حصل وهكذا يضطرب مثل الرازي كالأرشية في الطوى البعيدة ويرجح ما لا يناسب تخوفه عن بلاغ ما انزل إليه ، فان هذه الأمور هي كلها ادنى تخوفا بكثير من اصل الدعوة التوحيدية في جموع المشركين وهذا القوم اللد!

١٠٠