الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

ذلك كفارة مخيّرة بين هذه الثلاثة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) شيئا منها وهو ما زاد عن مؤنة أهله (١)(فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) ولا يشترط فيها التتابع إذ لم يشترط ، خلاف البعض الآخر ك (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ)(٢) و (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) في اللّاغية غير الأولى (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) كما يجب (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وفي نظرة أخرى إلى الآية لمحات :

١ ـ (لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) تنهى فيما تنهى عن اللغو في

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٦٦ عن الكافي الحبي عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : هو كما يكون انه يكون في البيت من يأكل اكثر من المد ومنهم من يأكل اقل من المد فبين ذلك وان شئت جعلت لهم أدما والأدم أدناه ملح وأوسطه الخل والزيت وارفعه اللحم.

«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» ما حدّ من لم يجد وان الرجل يسأل في كفه وهو يجد؟ فقال : إذا لم يكن عند فضل عن قوت عياله فهو ممن لم يجد.

(٢) المصدر عن الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين متتابعات لا يفصل بينهن ، وفيه عنه (ع) قال : السبعة الأيام والثلاثة الأيام في الحج لا تفرق انما هي بمنزلة الثلاثة الأيام في اليمين. وفي الدر المنثور ٣ : ٣١٤ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله (ص) نحن بالخيار قال : أنت بالخيار إن شئت اعتقت وإن شئت كسوت وان شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات.

أقول : ولا قوة لهذه الثلاث على تقييد اطلاق الآية فالأقوى إجزاء الأيام المتفرقات والأحوط ان تكون متتابعات.

ذلك وقد يروى عن النبي (ص) ان رجلا قال له علي ايام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال (ص) : أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم اما كان يجزيك؟ قال : بلى قال : فالله أحق ان يعفو ويصفح (تفسير الفخر الرازي ١٢ : ٧٨) أقول : وهذه استفادة لطيفة من طليق الآية وكما هنا ، ولا تطبق فيما نص على واجب التتابع ك (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).

٢٠١

الأيمان ، فلا تعني (لا يُؤاخِذُكُمُ) هنا إلا أصل المؤاخذة فإنه «بما عقدتم الأيمان ـ و ـ بما كسبت قلوبكم». وتعقيد اليمين عما يجب تركه محرم في كل مصاديقه.

٢ ـ (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) قد تعني الأوسط شخصيا لا جماعيا ، فليس الأوسط في الجماعة المؤمنة مفروضا على البائس الفقير الذي لا يطعم أهليه بأوسطه إلّا خبزا طازجا ، ثم «كسوتهم» طليقة لا تتقيد بأوسطها إذ لا دليل عليه هنا.

٣ ـ وهنا (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) دون تقيّد بمؤمنة ، هي مثل (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (٥٨ : ٣) و «في الرقاب» في واجب إيتاء المال كما في (٢ : ١٧٧) أم واجب الزكاة والصدقات كما في (٩ : ٦٠) وكذلك واجب (فَكُّ رَقَبَةٍ) (٩٠ : ١٣).

فقد قيدت الرقبة بالمؤمنة في قتل الخطأ (٤ : ٩٢) لا سواه ، ولم تقيد فيما سواه إطلاقا ، فهل تقيّد «رقبة» في هذه العديدة المديدة ب «مؤمنة» لأنها قيدت في قتل الخطأ؟ وهذا خطأ من التقييد ، بعيد عن صالح التعبير الطليق!.

وحصيلة الحكم في الآية هي حرمة اللغو في الأيمان أيا كان ، ولكن المؤاخذة مختصة بتعقيد الأيمان كفارة وسواها ، ثم سائر اللغو الذي ليس فيه تعقيد الأيمان لا مؤاخذة فيه بكفارة وسواها كأن تحلف دون أن تعقد على شيء أم تحلف بغير الله.

فالحلف بالله دون نية الالتزام ، أو الحلف به بما هو محظور ، أو الحلف مع النية ثم النقض ، فالكفارة هي في هذه الثلاث لا سواها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ

٢٠٢

يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ (١) الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(٩١) :

لقد حرّمت آيات تحريم الإثم ال (٤٨) بصورة طليقة كل إثم وهو ما يبطئ عن الثواب ، وكانت في قمتها الخمر فإنها مفتاح لكل المنكرات ، مبطئة عن كل ثواب هو قضية عقل الإيمان ، فإذا زال العقل زالت الإنسانية والإيمان وانفتحت كل أبواب الشر واللّاإيمان.

نرى (١١) آية من آيات الإثم مكية والباقية مدنية ، ومن المكية : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..) (٧ : ٣٣).

وإذا كان الإثم محرما فما ذا ترى في كبائر الإثم : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) (٤٢ : ٣٧) كما (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤ : ٤٨) ثم نسمع الله يكبّر إثم الخمر في آية البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (٢١٩) ، وبينهما مكية ك (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (١٦ : ٦٧) حيث عد السكر رزقا سيئا ، ومدنية ك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ..) (٤ : ٤٣) مهما كانت نازلة قبل آية البقرة أو بعدها ، فإن لها دورا عظيما في تحريم الخمر إذ تقرر الحظر عن الصلاة ـ وهي عمود الدين ـ عند السكر ، إذا فهو عمود اللّادين حيث يصد عن عمود الدين صدا فارضا محتوما.

ومن أغرب الغرايب أن جماعة مثل الخليفة عمر ما كان يترك الخمر طوال هذه الآيات مكيات ومدنيات قائلا : «اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب المال والعقل فنزلت هذه الآية فدعي عمر فقرأت عليه

٢٠٣

فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال عمر : انتهينا انتهينا» (١).

وقد شرب الخمر قبل آية المائدة كما تعوده فأخذ بلحى بعير وشجّ به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر فبلغ ذلك رسول الله (ص) فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه به فقال عمر : أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فأنزل الله (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) فقال عمر : انتهينا انتهينا (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٥٢ ـ اخرج ابن أبي شيبة واحمد في المسند ١ : ٥٣ وأبو داود في سنة ٣ : ١٣٨ والترمذي في صحيحه والنسائي في السنن ٨ : ٢٨٧ وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخة وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في المستدرك ٣ : ٢٧٨ و ٤ : ١٤٣ وصححه والبيهقي في سننه ٨ : ٢٨٥ والضياء المقدسي في المختارة عن عمر انه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فانها تذهب المال فنزلت: (يسألونك عن الخمر والميسر ..) في البقرة فدعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) فكان منادي رسول الله (ص) إذا أقام الصلاة نادى ان لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر فقرأت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرأت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال عمر : انتهينا انتهينا.

أقول : وأخرجه الطبري في تاريخه ٧ : ٢٢ والجصاص في احكام القرآن ٢ : ٢٤٥ وأقره الذهبي في تلخيصه والقرطبي في تفسيره ٥ : ٢٠٠ وابن كثير في تفسيره ١٥ : ٢٥٥ و ٢ : ٩٢ نقلا عن احمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه وعلي بن المديني في اسناد صالح صحيح وفي تيسير الوصول ١ : ١٢٤ وتفسير الخازن ١ : ٥١٣ وتفسير الرازي ٣ : ٤٥٨ وفتح الباري ٨ : ٢٢٥ وتفسير الآلوسي ٧ : ١٥.

(٢) في لفظ الزمخشري في ربيع الأبرار وشهاب الدين الأبشيهي في المستطرف ٢ : ٢٩١ شرب عمر الخمر قبل آية المائدة.

٢٠٤

فهلا يكون بيان الله في آي التحريم قبل المائدة بيانا شافيا حتى أبتلي بما أبتلي به ثم انتهى عند آية المائدة؟! وهذا مسّ من كرامة القرآن ، ذلك الكتاب البيان!

ذلك! وقد يتحسر الخليفة حين تنزل آية المائدة قائلا : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر (١) ويكأنها ما قرنت به في آية البقرة؟

ذلك وبعد قولة الانتهاء لم يكن لينتهي عن شرب النبيذ الشديد أخت الخمرة اللعينة (٢) وليس ينقضي العجاب من تفقّه الخليفة وطغواه في تقواه أمام أكبر الكبائر فضلا عن سائرها وسائر الصغائر!.

آيات تحريم الخمر تلويحا وتصريحا هي متفقة الدلالة عليه ، مهما كانت متدرجة المدلول في بيان آماد التحريم وأبعاده ، وهذه الخاتمة لها في القرآن كله تحمل آكد التأكيدات وأشد التشديدات في حرمة الخمر وخلفياتها الخطرة فردية وجماعية.

هنا «إنما» «رجس» (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) «فاجتنبوه» (يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) و (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذه السبع تفتح على حقول الخمر الدركات السبع الجهنمية ، بأخواتها (الْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) وهي تتقدمها كرئيسة لها ، وهي حقا

__________________

(١) المصدر ٣ : ٣١٥ وفيه ايضا قوله : «أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام بعدا لك وسحقا»؟ وقد قرنت بالميسر في البقرة!.

(٢) للاطلاع على مدارك شربه راجع تفسير آية البقرة في الفرقان وكما تطلع عنده على أبعاد أخرى في حقل الخمر.

٢٠٥

كماهيه مفتاح كل شر (١) وأكبر الكبائر (٢) ولذلك نراها محرّمة في كافة الشرائع (٣).

كما وأن (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) و «واحذروا» ترغيبات ثلاث في تركها ، وتلك ـ إذا ـ عشرة كاملة هي عشيرة لحقل الخمر ، مصرحة ومشيرة إلى بأسها ونحسها وبخسها وفلاح التاركين إياها.

في هذه الآية يردف ذلك المربع مع بعضها البعض لأنها كلها حزمة واحدة ذات رباط عريق في مزاولتها ، وأنها من معالم الجاهلية المتغلغلة فيها ، فقد كانت الذبائح على النّصب أو المستقسمة بالأزلام يصاحب شواءها نوادي الخمور كما يصاحبها الميسر ، شركاء أربع في شهواتهم

__________________

(١) في الكافي عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال : ان الله جعل للمعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا ثم جعل للباب غلفا ثم جعل للغلف مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر ، وفيه عن أبي عبد الله (ع) قال : ان الله جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب.

وفي الدر المنثور ٣ : ٣٢٢ ـ اخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص): اجتنبوا الخمر فانها مفتاح كل شر ، ورواه مثله عنه (ص) أبو الدرداء.

(٢) في الكافي عن إسماعيل قال اقبل ابو جعفر عليهما السلام في المسجد الحرام فنظر اليه قوم من قريش فقالوا : هذا إله أهل العراق فقال بعضهم : لو بعثتم اليه بعضكم فأتاه شاب منهم فقال : يا عم ما اكبر الكبائر؟ قال : شرب الخمر.

وفيه عن أبي البلاد عن أحدهما عليهما السلام قال : ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر ان أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على أمه وابنته وأخته وهو لا يعقل.

(٣) أخرجنا خمسة عشر آية من التوراة والإنجيل وملحقاتهما تصرح بحرمة مغلظة للخمر ، راجع تفسير آية البقرة : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» في الفرقان.

٢٠٦

الجماعية بملابساتها الأخرى التي نفتح مغاليقها الخمر ومعها الميسر.

فالأنصاب هي ما ذبح على النصب وهي الأوثان ، ذبحا للتقديس والتقريب والتبرك ، والأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها الذبيحة وكما في أخرى بداية المائدة (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) فإنه قتل للحيوان بصورة الميسر ، فالذي قدحه هو المعلّى يأخذ النصيب الأعلى وإلى من لا نصيب له حيث لا يصيب قدحه الهدف المرام مهما كان هو صاحب الذبيحة أو المشترك فيها فيخسرها كلها.

ف «الميسر» هنا محرم على أية حال ، والأزلام ميسر خاص فيه الذبح غير المشروع بالميسر المحرم على أية حال فهو محظور على محظور ، والأنصاب ذبح للحيوان على النصب (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) فهو أيضا محظور على محظور ، فأصل الحظر في الأنصاب والأزلام هو الميسر المشترك بينهما ، مع ما يختص كل واحد بخاصة خاصة.

وما هو دور هذه المحرمات في نهاية العهد الرسالي والمسلمون هم مسلمون طيلة سنين؟ إن لها الدور العام لكافة المكلفين على مدار الزمن ، إضافة إلى اجتثاث الجذور الجاهلية التي ترسبت في هؤلاء المسلمين من ذي قبل ، فبقيت منها بقايا وزوايا لا بد من القضاء عليها ، فلا بد من تنقية تلكم الرواسب عن بكرتها ، استئصالا لها بأسرها حتى يكون الحاكم ـ فقط ـ هو الله بشرعته النقية التقية.

هنا رأس الزاوية في هذه الزوايا الأربع الجاهلية هي : الخمر ، وهذه هي المرحلة الأخيرة في علاج مشكلتها في المنهج الإسلامي السامي ، فقد حرمت على طول الخط التشريعي مكيا ومدنيا بأنها من الإثم ، ثم أنها الرزق السيّئ كما في العهد المكي ، ثم في العهد المدني مانعة عن الصلاة ، وإن فيها إثما كبيرا ، ومن ثم (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وإلى سائر السبعة والعشرة الكاملة.

٢٠٧

وهنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تستجيش القلوب المؤمنة حسب درجات الإيمان ، وأن الانتهاء عن الخمر وأخواتها هو قضية الإيمان ، مما يوحي أن اقترافها خروج عن الإيمان ، كما وأن قرن «الأنصاب» وهي للمشركين بأخواتها يوحي بأنها كلها في صف الإشراك بالله ، مهما اختلفت من الناحية العقيدية والعملية ، فهناك عقيدة الإشراك وفي الثالوث الباقية عملية الإشراك ، وقد جمعت كلها بأحكام (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ...)

ثم «رجس» ترجس الخمر ذاتيا وعمليا ، شربا وسواه من محاولات فيها تقريبا وتقديما لشربها ، كما وترجس الثلاثة الأخرى ، فالميسر رجس في نفسه ورجس في الأموال المستفادة منه ، ورجس فيما يتقامر به ، فهو ثالوث من الرجس! والأنصاب رجس في أصلها وهي النّصب لأنها أوثان : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ورجس فيما ذبح عليها : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) والأزلام رجس في الاستقسام بها وفي المستقسم بها ، ثم وهي (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ).

وترى «رجس» في الخمر دليل نجاستها كسائر النجاسات العينية؟ ورجس الميسر لا يعني نجاسة آلات القمار ولا نجاسة المقامرين ، إنما هو نفس الميسر رجاسة عملية تنجس الأرواح والمجتمعات!.

والرجس لغويا هو كل ما استقذر من عمل وأصله من الرّجس وهو الصوت الشديد ، وسحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد ، فالرّجس ـ إذا ـ في مثل الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هو العمل القبيح الذي فيه رعد القباحة صاعقة والوقاحة ، وليس هكذا أي نجس ظاهري في مجرد مسّه ، كما وأن (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) يؤكد ذلك القبح الوقيح.

ثم وكيف تعني «رجس» تلك النجاسة الجسمية المتعدية الخبيثة وقد عد الله المنافقين من الرجس : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ

٢٠٨

لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩ : ٩٥) (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٩ : ١٢٥) كما (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٢٢ : ٣٠) و (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣ : ٣٣) فلا تعني الرجس فيها ولا فيما سواها (١) النجاسة الخبيثة المعروفة ، إنما هي النجاسة العقيدية والعملية والأخلاقية ، ولا نجد ـ ولا مرة يتيمة ـ يعني من الرجس في آياته هذه النجاسة ، فكيف يستدل بمجرد لفظة الرجس هنا على نجاسة الخمر جسميا ، فهي فيها نجاسة عقلية وخلقية فعقيدية وعملية أماهيه.

ذلك ، إضافة إلى أن واجب الاجتناب المتفرع على (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) لا يفرض الاجتناب الخبثي فإنه ـ قطعا ـ غير واجب ، اللهمّ إلّا شربا للخمر وما أشبه من محاولات لها ، وعملا للمسير والأنصاب والأزلام ، ثم النجاسة الظاهرية ليست من عمل الشيطان وإلّا لكان المعصومون عليهم السلام مصحوبين بعمل الشيطان لمكان النجاسات الخبثية الطائرة عليهم كما على سواهم! كما ولا يلزم من كون شيء من عمل الشيطان نجاسته الخبثية كالميسر والأنصاب والأزلام وسائر الأشياء والأعمال المحرمة.

ذلك ، والروايات الواردة بحق الخمر نجاسة وسواها معروضة على

__________________

(١) ومما سواها «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (٦ : ١٢٥) «قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (٧ : ٧١) «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» (١٠ : ١٠٠) ثم و «رجس» في «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» (٦ : ١٤٥) لو دلت علي النجاسة الجسمية ، لم تكن قرنية على ان الرجس في سائر القرآن هو هيه ، وقد تلمح «فانه» ان ليس الرجس هو النجاسة الجسمية حيث الميتة والدم المسفوح كذلك نجسان فلما اختصت هذه النجاسة بلحم خنزير؟.

٢٠٩

الآية الساكتة لأقل تقدير عن نجاستها ، أو الظاهرة في النجاسة غير الظاهرية ، أم تتساقط لكون الدالة على طهارتها نصا ، وسواها لأكثر تقدير ظاهرة ، ولكن الأمر بالتجنب أعم من النجاسة الظاهرية (١) فالأقوى طهارة

__________________

(١) ذهب الى طهارة الخمر من أصحابنا الصدوق وأبوه والجعفي والعماني وجماعة من المتأخرين كالمحقق الخراساني والأردبيلي والسيد في المدارك والفاضل الخراساني ، ومن المعاصرين المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي ، وأما إخواننا فالشهرة المطلقة بينهم كما عندنا على النجاسة والقائلون منهم كما منا بالطهارة قلة مثل ربيعة شيخ الامام مالك وحكى عن حبل المتين انه قال : اطبق علماءنا الخاصة والعامة على نجاسة الخمر الا شرذمة منا ومنهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم.

ومن الأخبار الدالة على الطهارة صحيحة ابن أبي سارة قال قلت لأبي عبد الله (ع) : إن أصاب ثوبي من الخمر أصلي فيه قبل أن اغسله؟ قال : «لا بأس ان الثوب لا يسكر». أقول : وهي انتباهة حسنة حيث ربط الامام (ع) الرجاسة بالاسكار ، إذا فهي الرجاسة العقلية حيث تسكر العقل ، دون الرجاسة الظاهرية حيث لا تسكر الملابس أو مظاهر الجسم ، وموثقة ابن بكير قال : سأل رجل أبا عبد الله (ع) وانا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ قال : «لا بأس» وصحيحة علي بن رئاب المروية عن قرب الأسناد قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو اصلي فيه؟ قال : صل فيه إلّا ان تقذره فتغسل منه موضع الأثر ان الله تبارك تعالى انما حرم شربها» (وسائل الشيعة أبواب النجاسات ب ٣٨ ج ١٠ و ١١ و ١٤) وغيرها من الروايات.

ومما استدل بها للنجاسة موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال : إذا غسل فلا بأس» (المصدر ب ٥١ ح ١) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال : تغسله سبع مرات» (المصدرباب الأشربة ب ٣٠ ح ٢) وموثقته الأخرى عن دواء يعجن بالخمر؟ فقال : «لا والله ما أحب أن انظر اليه فكيف أتداوى به انه بمنزله شحم الخنزير أو لحم الخنزير» (المصدر ٣٠ : ٤) وموثقه عمار الساباطي عن أبي عبد الله (ع) قال : لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر واغسله ان عرفت ـ

٢١٠

الخمر فضلا عن الفقاع والعصير العنبي قبل الثلثين ، وإن كان الأحوط التطهير عنها.

١ ـ ثم (رِجْسٌ ـ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ـ فَاجْتَنِبُوهُ) تعم كل المحاولات الناحية منحى شربها حيث التحريم موجّه إلى نفس الخمر وأخواتها (١) وكما في

__________________

ـ «موضعه فان لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كله فان صليت فيه فأعد صلاتك».

أقول : وغير الأخير لا صراحة فيه ولا ظهور في النجاسة والأخير معارض بما سبق وليس وجوب الغسل دليلا على النجاسة فقد يكون كوجوب ازالة اجزاء ما لا يؤكل لحمه مثل الشعر والوبر ، وأما الحمل على التقية فلا دور له في أمثال هذه الموارد التي تقل فتاوى اهل السنة الموافقة لها ، وأما تقديم هذه الأخبار بصحيحة علي بن مهزيار بالإسناد عن سهل بن زياد قال قرأت في كتاب عبد الله بن محمد الى أبي الحسن (ع) جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل انهما قالا : لا بأس بأن يصلي فيه انما حرم شربها وروى غير زرارة عن أبي عبد الله (ع) انه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ ـ يعني المسكر ـ فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله وان صليت فيه فأعد صلاتك ، فأعلمني ما آخذ به؟

فوقع بخطه (ع) وقرأته : خذ بقول أبي عبد الله (ع) (جامع أحاديث الشيعة ص ٣٣ ب ٧ رقم ٢ من التهذيب والاستبصار والكافي).

أما هذه الصحيحة فليست هي بصحيحة ، فان في تعارض المنقول عن الإمامين ، إن كان الحق مشكوكا بينهما ليس من المرجح قول أبي عبد الله على قوله الآخر مع الباقر (ع) وان كان كلاهما صادرين كما هو نص الرواية فكيف يصح الأخذ بقول لأبي عبد الله وترك قوله الآخر الذي يقول به الباقر (ع)؟ ولا موقف للتقية في اي من الطهارة والنجاسة ، بل ان كان هناك تقية فالقول بالنجاسة موافق للتقية والقول الآخر مخالف له.

(١) في الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قال : لعن رسول الله (ص) في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة اليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها.

أقول : وحول الخمر لعنات اخرى بالنسبة لحضور مائدة يشرب عليها الخمر وبيع ـ

٢١١

حديث رسول الله (ص) ولا معنى لحرمتها في نفسها إلّا للمحاولات المرغوبة المترقبة منها ، ولذلك لعن فيها عشرة ، لا فقط شاربها ، فكل المحاولات حول الخمر ، الناحية منحى شربها ، هي محرمة قضية حرمتها في نفسها حيث تعني كل ملابساتها إلى شربها.

٢ ـ ومن ثم «رجس» وأخواتها تدل ـ فيما تدل ـ على حرمتها الذاتية على مدار الزمن الرسالي ، فلا تجد رسالة ربانية إلّا بتحريم الخمر كما فصلناه على ضوء آية البقرة.

و «رجس» هذا يعم ترجيس صالح الروح والجسم والقال والحال والأعمال ، رجسا فرديا وجماعيا ، خلقيا وخلقيا وعقيديا وعلميا ومعرفيا وفي كل الحقول الإنسانية عن بكرتها ، أسرا لها بأسرها في وثاقها حيث تحرّر الإنسان وتطلقه عن عقليته الإنسانية بل وعن العقلية الحيوانية حيث يصبح حيوانا مجنونا شرسا.

ومن ثم (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) كوصف ثان لهذه الأربعة فيه وجهان ، إنها ـ وفي قمتها الخمر ـ من صنع الشيطان ، فهو أوّل مبتدع لها كما وهو من عمله المستمر في شيطنة الأعمال ، ومن عمله وسوسته في صدور الناس بحق الخمر وأخواتها ، ثالوثا من عمل الشيطان ، فأين المؤمن ومبتدع الشيطان وعمله الشيطاني ووسوسته؟ ولذلك نراها أنها من أوليات المحرمات (١).

__________________

ـ العنب ممن تعلم أنه يعمله خمرا كما في الدر المنثور ٣ : ٣٢٥ ـ اخرج البيهقي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله (ص): من حبس العنب ايام قطافه حتى يبيعه من يهودي او نصراني أو ممن يعلم انه يتخذ خمرا فقد تقدم في النار على بصيرة.

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٤٣ ح ٢٠ في الأمالي بسند متصل عن محمد بن مسلم قال سئل ابو عبد الله (ع) عن الخمر فقال : قال رسول الله (ص): «ان أول ما نهاني عنه ربي ـ

٢١٢

٣ ـ (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهنا واجب الاجتناب متفرع على مثنّى (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فهذه ضابطة ثابتة أن كل رجس وعمل للشيطان هو واجب الاجتناب رجاء الإفلاح في معتركات الحياة ، فإفلاج الشيطان لشيطناته ، وضمير الغائب في «فاجتنبوه» راجع إلى «رجس» فيشمل كل هذه الأربعة ، تفريعا لواجب الاجتناب على «رجس» الموصوفة ب (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أم هو راجع إلى عمل الشيطان ، أم إلى المذكورات الست.

ذلك ، ولا تختص الخمر بما يؤخذ من العنب والتمر ، بل هي كل ما تخمر العقل بطبيعة حاله أيا كان مأخذه ، وكما فيما استفاض نقله عن النبي (ص) (١) والخمر تعني كل مسكر ، فقد «حرم الله الخمر وكل مسكر

__________________

ـ جل جلاله عن عبادة الأوثان وشرب الخمر وملاحاة الرجال» وأخرجه مثله عنه (ص) أم سلمة كما في الدر المنثور ٣ : ٣٢٦.

أقول : فالأحاديث الواردة عنه (ص) ان آية المائدة هي التي حرمت الخمر ، انها مختلقة معروضة عرض الحائط إلّا أن تعني غلظ الحرمة لا أصلها.

وفي عيون الأخبار باسناده الى الريان بن الصلت قال سمعت الرضا (ع) يقول : ما بعث الله عز وجل نبيا إلّا بتحريم الخمر ، وفي سيرة ابن هشام عن خلاد بن قرة وغيره من مشايخ بكر بن وائل من اهل العلم ان اعشى بن قيس خرج الى رسول الله (ص) يريد الإسلام فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره انه جاء يريد رسول الله (ص) ليسلم فقال له يا أبا بصير فانه يحرم الخمر ...

(١) في الدر المنثور ٣ : ٣١٨ ـ عن ابن عباس ان رسول الله (ص) حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام ، وفيه قال رسول الله (ص): ان من الحنطة خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وأنهاكم عن كل مسكر ، وفيه مثله عن ابن عباس عنه (ص) «وكل مسكر حرام».

وفيه أخرج مسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله ان رجلا قدم من اليمن فسأل ـ

٢١٣

«حرام» (١).

ذلك ، والخمر والميسر هما أختان متماثلتان في الرجاسة والنحوسة ، كما وتختصان بالذكر في (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) مما يدل على زيادة الرجاسة فيهما على الأنصاب والأزلام.

ف (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) وهما من أخطر الأخطار على الأمة الاسلامية وكافة الناس ، فإن عامل العداوة والبغضاء عامل لكل إفساد في الأرض بمختلف حقوله (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ككلّ عشوا عن ذكره تعالى إلى كل لغو ولهو (وَعَنِ الصَّلاةِ) التي هي عمود الدين وعماد اليقين ، فهذه أقانيم ثلاثة لثالوث الخمر والميسر بين إيجابية العداوة والبغضاء وسلبية ذكر الله والصلاة ، فهي ذاهبة بمعنى (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) المتمثلة لزاما بين المؤمنين ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟.

هنا يتبين لنا بوضوح هدف الشيطان بخيله ورجله ، وغاية كيده وميده وثمرة رجسه بعمله أنه فصم عرى المحبة والوداد بين خلق الله وبينهم وبين الله ، بالعداوة والبغضاء هناك ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة هنا ، وهل الدين إلّا الحب؟ وهو ذاهب به بالخمر والميسر في هذا البين.

فالخمر بما تفقد الإنسان من الوعي ، وما تثير من عرامة اللحم والدم

__________________

ـ النبي (ص) عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال النبي (ص) أو يسكر هو؟ قالوا : نعم قال رسول الله (ص) : كل مسكر حرام إن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله (ص) وما طينة الخبال؟ قال : عرق اهل النار او عصارة اهل النار.

(١) الدر المنثور ٣ : ٣١٧ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن رسول الله (ص) قال :

٢١٤

وبما تهيج من شهوات ونزوات فتطلق صاحبها عن أسر العقلية الإنسانية ـ بل والحيوانية ـ بأسرها!.

والميسر بما تصاحبه ـ على أية حال ـ من خسارات فأحقاد ، مهما لم يخسر ماليا فإنه يخسر من كيانه في سباق اللعب ، وإن كان يزيده عداوة وبغضا أن ذهب ماله! ، هاتان أختان شرستان هرجتان محرجتان من يصاحبهما.

لذلك ، فكما الخمر قليلها محرم إلى جنب كثيرها ، كذلك الميسر محرم في غير شرط إلى جانب ما فيه شرط ، فإن نفس التغلب في ميدان الميسر تورث العداوة والبغضاء ، كما أن نفس الإلهاء عند المقامرين يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة.

فحتى ولو لم يورث الميسر عداء بين المقامرين ، فهو لا بد وأن يصد عن ذكر الله وعن الصلاة بطبيعة الحالة الملهية فيه.

إذا فكل ما يوقع العداوة والبغضاء أو يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ـ فضلا عما يورثهما ـ إنه محرم ، غضا عما في الخمر والميسر من توتّر الأعصاب وخسار الصحة البدنية والعقلية.

وهل ترى محرما قط مثل الخمر والميسر ـ في تحليق الضرر على كل الحقول ، ولا سيما الخمر التي تذهب بالعقول وتجعل من شاربها بهيمة مجنونة شرسة؟!.

لذلك نرى في الخمر حدا أدبيا ليس في الميسر إلّا تأديبا تعزيريا ، مما يدل على مدى فاعلية الخمر في حقول الإفساد أكثر من الميسر ، بل وهي التي تيسّر الميسر وكل محظور.

٢١٥

فشارب الخمر علما وعمدا يضرب الحد (١) وإن شرب قليلا لا يسكر (٢) فإن شارب القليل يورد في مشرب الكثير ، ثم ولا داعي له في ذلك التذوّق اللعين إلّا ازدياد ، فيه فاعلية الخمر ، وحده ثمانون جلدة لتظافر الأثر على ذلك الحدّ (٣).

__________________

(١) كما استفاض به الأثر من طريق الفريقين فمن طريق أصحابنا صحيحه محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن (ع) قال : سألته عن الفقاع فقال : هو خمر وفيه حد شارب الخمر» (التهذيب في حد المسكر رقم ٣٦) ومعتبرة ابن فضال قال : كتبت الى أبي الحسن (ع) وسألته عن الفقاع فقال : «هو الخمر وفيه حد شارب الخمر» (الكافي ٦ : ٤٢٤ رقم ١٥) وصحيحة سليمان بن خالد قال كان امير المؤمنين (ع) «يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر ويقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر» (الاستبصار ٤ : ٢٣٥) ومن طريق إخواننا في الدر المنثور ٣ : ٣١٦ ـ اخرج ابو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس ان الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله (ص) بالايدي والنعال والعصي حتى توفى رسول الله (ص) فقال ابو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله (ص) فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفى ثم كان عمر من بعده فجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأوّلين وقد شرب فأمر به ان يجلد فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله قال : وفي اي كتاب الله تجد ان لا أجلدك ـ الى أن قال ـ : فقال عمر فما ذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب نرى انه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة فامر عمر فجلد ثمانين أقول : لا نصدق خلاف ذلك الحد على عهد رسول الله (ص) مهما كان مستفادا من القرآن أو هو سنة ، إذ انقطع الوحي كتابا وسنة بعد الرسول فكيف يتجدد حد لم يكن في زمن رسول الله (ص)؟!.

(٢) كما في خبر إسحاق بن عمار الساباطي سأل الصادق (ع) عن رجل شرب حسوة خمر؟ قال : يجلد ثمانين جلدة قليلها وكثيرها حرام (علل الشرايع ٣ : ٢٢٥).

(٣) منه موثق أبي بصير «كان علي (ع) يجلد الحر والعبد واليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ ثمانين» (الكافي ٧ : ٢١٥ والتهذيب في حد المسكر رقم ٩١) وهنا روايات ـ

٢١٦

أفبعد ذلك كله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وهو استفهام انكاري يلمح أن جماعة من المسلمين لم يكونوا لينتهوا عنه مع كرور المناهي مكيا ومدنيا في الذكر الحكيم! كما سبق نقله عن الخليفة عمر من قوله : انتهينا انتهينا ، وخطاب الإيمان الموجه إلى أمثاله من المتورطين في هذه الكبيرة وأمثالها ليس إلّا لإقرارهم بالشهادتين سواء أكان مع إيمان مّا أم بنفاق ، فلا يدل على صالح الإيمان بمجرد خطابه ، بل هو إلى صالحه وطالحه وكالحه حيث لم يك ينتهي صاحبه رغم كرور المناهي عن الخمر.

ذلك ، فكل المحاولات حول الخمر محرمة حتى بيع العنب ممن تعلم

__________________

ـ اخرى تجعل حد العبد نصف الحر وقضية درء الحدود بالشبهات وان الأقل هو الثابت الاقتصار بالأربعين.

وفي الدر المنثور ٣ : ٣٢٥ ـ اخرج عبد الرزاق واحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن أبي سفيان عن النبي (ص) قال : من شرب الخمر فاجلدوه قالها ثلاثا ان شربها الرابعة فاقتلوه ، وفيه اخرج عبد الرزاق عن أبي موسى الأشعري ان النبي (ص) حين بعثه الى اليمن سأله قال : إن قومي يصنعون شرابا من الذرة يقال له المزر فقال النبي (ص) أيسكر؟ قال : نعم قال فانههم عنه قال نهيتهم عنه ولم ينتهوا قال : فمن لم ينته في الثالثة منهم فاقتله ، وفيه اخرج عبد الرزاق عن مكحول قال : قال رسول الله (ص) من شرب الخمر فاضربوه ثم قال في الرابعة من شرب الخمر فاقتلوه ، ورواه مثله عنه (ص) أبو هريرة ، والزهري وعمرو بن دينار إلّا أن فيه فحدوه بل فاضربوه ، أقول : وقصة الحد والضرب في شرب الخمر متواترة عن النبي (ص) رواها عنه مثل هؤلاء في اصل الحد قبيضة بن ذؤيب وأبي الرمد البلوي ، وشرحبيل بن أويس وام حبيبة بنت أبي سفيان.

وفي لفظ الديلمي قال وفدت على رسول الله (ص) فقلت يا رسول الله إنا نصنع طعاما وشرابا فنطعمه بني عمنا فقال : هل يسكر؟ قلت : نعم فقال : حرام ، فلما كان عند توديعي إياه ذكرته له فقلت يا نبي الله انهم لن يصبروا عنه قال : فمن لم يصبر عنه فاضربوا عنقه.

٢١٧

أنه يعمله خمرا ، أم حضور مائدة يشرب عليها الخمر ، أمّاذا من ملابسات في حقل الخمر.

هذا ، ومن غرائب لوفق العددي بين ثالوث «الأصنام والخمر والخنزير» ان كلّا منها مذكورة مرات خمس في الذكر الحكيم.

تلك هي الخمر ، المحرم قليلها وكثيرها ، الثابت حدها فيهما ، وأما الميسر فقد يعم القمار ككل بشرط وسواه حيث الحكم المذكورة في الآية مشتركة بينهما ، والقول إن «الميسر» لامحة إلى شرط الانتفاع بيسر فيه وإلّا فلا ميسر ، مدفوع بنص الحكم هنا ، ولو اختصت الحرمة بيسر الحصول على المال لكان كل ما في تحصيله يسر محرما ، ولم يكن الميسر بالنسبة لمن يدفع الشرط محرما!.

ذلك ، وطليق الآية وأضرابها وطليق الرواية في حرمة الميسر يحرّمانه على أية حال ، بشرط وسواه ، وبآلته الخاصة وسواها ، مهما كان بالشرط وخصوص الآلة أشد تحريما ، ثم بشرط دون آلة ، ومن ثم بآلة دون شرط ، وأخيرا دون شرط وآلة.

والضابطة الأصيلة في حرمة الميسر كما الخمر هي حصيلة (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ... وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وكما يروى أن «كلما ألهى عن ذكر الله فهو الميسر» (١) مهما اختلفت دركاته في رهن وسواه ، وبآلة خاصة وسواها.

__________________

(١) كما في مجالس المفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي بسنده عن امير المؤمنين (ع) في تفسير الميسر ... وفي رواية جابر عن أبي جعفر عليهما السلام قيل يا رسول الله (ص) ما الميسر؟ قال : كل ما يقامر به حتى الكعاب والجوز ، والمقامرة هي المغالبة وهي تتحقق دون شرط كما تتحقق بشرط ، وفي رواية تحف العقول ان ما يجيء منه الفساد محضا لا يجوز التقلب فيه من جميع وجوه الحركات ، ولا ريب في فساد القمار.

٢١٨

ثم «الميسر» هو اسم مكان وليس اسم آلة ، فهو مكان اليسر ومجاله ، وهو بطبيعة الحال يسر محرم يورث العداوة والبغضاء ، من يسر الحصول على مال دونما سعي فانه أكل بالباطل ، حيث لم تفد في الميسر حتى تستحق عنه بديلا ، ويسر الحصول على تغلب ، ولا تغلب إلّا في فضيلة ، ويسر بثّ العداوة والبغضاء ، ويسر الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وعلى الجملة هو يسر في محظور دونما سعي تستحق به أي حق ، فضلا عن باطل من مال أم وأهم منه رجاحة الحال في تخيل البال.

اجل يجوز الشرط في سباق الخيل أو السباحة وما أشبه لمكان رجاحة السباق في أمثالها حيث تنفع لنضال وما أشبه من فوائد عامة وعوائد هامة ، حسب ما تدل عليه النصوص ، مثل سباق الرمي والخيل والسباحة ، حيث تنفع المسلمين في حقل الجهاد ، فسباق الرمي يشمل كافة الأسلحة المتطورة ، كما الخيل تشمل كل المركوبات جويا وبريا وبحريا ، ثم السباحة هي كماهيه مهما اختلفت اشكالها.

فهذه الثلاثة مما لا بد منها في جبهات الحرب ، ولذلك هي محبورة غير محظورة ، وهكذا الأمر في سائر الإعدادات الحربية لمكان عامة الأمر

__________________

ـ وفي الدر المنثور ٣ : ٣١٩ عن النبي (ص) قال : اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فانها من الميسر رواه عنه (ص) أبو موسى الأشعري وسمرة بن جندب وابن مسعود ، فلم يشترط فيه الشرط ، وفيه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله (ص) من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ، وعن عبد الرحمن الخطمي سمعت رسول الله (ص) يقول : مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقول فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقول فيصلي ، وعن يحيى بن أبي كثير قال : مر رسول الله (ص) بقوم يلعبون بالنرد فقال : قلوب لاهية وأيد عاملة وألسنة لاغية.

أقول : وذكر الآلات الخاصة للقمار لا يدل على حصر الحرمة في الميسر فيها ، وإنما هو بيان للمصاديق المتعددة في القمار.

٢١٩

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ولكن الأشبه في الكل أن يكون الجعل من ثالث حتى يبعد عن الميسر كل البعد.

ولئن قلت : كما أن صالح التدرب على معدات حربية للجهاد يتقدم على محظور العداوة والبغضاء ، كذلك صالح الاستقواء فكريا قد يتقدم عليها وكما في الشطرنج وما أشبه.

قلنا : نحن على حرفية النص المختص بالسباق في حقل التدرب الحربي ، ثم القوة الفكرية لا تختص بمثل اللعب بالشطرنج فلها مندوحة في حقول المباحات والراجحات واجبة وسواها ، إضافة إلى أنها فائدة شخصية ، ولكن التدرّب للجهاد فائدة جماعية لا مندوحة عن السباق فيها من غيرها.

ثم وبالإمكان أن تخصّص أموال لهذه السباقات المشروعة دون أخذ وعطاء بين المتسابقين.

إذا فلا يعني الاستثناء إلّا تقديم الأهم على المهم ، ولا مهمة في سائر الميسر السباق إلّا اللهو ، وأما السباق في نطاق الأمر فهو عبادة وليس لهوا حتى يلهي عن ذكر الله أو يورث العداوة والبغضاء.

ولو أن عبادة مّا أورثت العداوة والبغضاء فليست بالتي تترك صدا عنهما حيث المعادي البغيض في حقل العبادة هو خارج عن كتلة الايمان!.

إذا فكل السباقات التي تنحو منحى الحصول على الطاقات والقوات الجهادية ، هي محبورة غير محظورة ، وعلّ منها السباق في الحقول العلمية.

والضابطة المستفادة من هذه الآية أن كلما يورث العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة محرمة كحرمة الخمر والميسر ، اللهم إلّا

٢٢٠