الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

فهم عترة الرسول (ص) من أفضل قريش ف «عترته خير العتر ، وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشجر ، نبتت في حرم ، وبسقت في كرم ، لها فروع طوال ، وثمر لا ينال» (٩٢ / ١٨٦).

ف «أنظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا» (٩٥ / ١٩٠).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٥٧) :

فلقد توسطت آية الولاية الحقة ـ تلك ـ بين آيتي الولاية الباطلة هناك لليهود والنصارى ، وهنا (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً ..) وبينهما متوسطات الولايات الخليطة من حق وباطل.

فعلى حزب الله ، المؤمنين بالله ، التركيز على ولاية الله وحده في ربوبيته للمحلّقة على كافة الشؤون ، وعلى ضوءها ولاية الرسول (ص) الشرعية الموحدة ، وعلى الضوء ولاية القادة المعصومين عليهم السلام بعده (ص) وليعيش الأمة الإسلامية قيادات معصومة موحدة زمنهم ، وفي زمن الغيبة الشورى العليا من الرعيل الأعلى من رباني الأمة حيث (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ).

فكما لا ولاية شرعية في القيادة الروحية والزمنية لأهل الكتاب وسائر الكفار على المؤمنين ، كذلك هؤلاء المسيطرين على الحكم الإسلامي بالسيف والنار ، غير المنطبق عليهم شروطات الولاية ، لا أصيلة معصومة ولا فرعية ربانية.

٦١

وهنا (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) تعم كل من يحملون هذه الرذيلة ومن أبرز مصاديقهم (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ثم «والكفار» بعدهم هم غير الكتابيين مشركين أو ملحدين ، والولاية المنفية هنا هي كافة معانيها محبة ومناصرة وسلطة (وَاتَّقُوا اللهَ) من تلك الولاية النجسة البئيسة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله غير تجار فجار مصلحيين.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٥٨) :

فلو أنهم عقلوا الدين بصلاته وسائر صلاته بالله ، عقلوه عقل دراية ورعاية ، لم يكونوا ليتخذوه هزوا ولعبا ، وهم (إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ـ وهي الأذان حيث لا يعرف للصلاة كأصل نداء إلّا الأذان والإقامة بحيعلاتها الثلاث (١) ـ (اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) وضمير التأنيث راجع إلى

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٤ ـ اخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبيد بن عمير قال ائتمر النبي (ص) وأصحابه كيف يجعلون شيئا إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها فائتمروا بالناقوس فبينا عمر بن الخطاب يريد ان يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام ان لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا بالصلاة فذهب عمر الى رسول الله (ص) ليخبره بالذي رأى وقد جاء النبي (ص) الوحي بذلك فما راع عمر إلّا بلال يؤذن فقال النبي (ص) قد سبقك بذلك الوحي حين أخبره بذلك عمر أقول : كيف يأتمر رسول الله (ص) أصحابه في امر تعبدي يختص بالوحي وهو القائل كما في قول الله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) فما هذا الحديث إلّا مختلقا يعني مضاهاة عمر في وحي المنام الرسول (ص) في وحي اليقظة! ولقد كان النداء الى الصلاة منذ فرضت الصلاة كما في متظافر السنة.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن شهاب الزهري قد ذكر الله الأذان في كتابه فقال : (وَإِذا نادَيْتُمْ ..) وفيه عن ابن عباس في الآية قال : كان منادي رسول الله (ص) إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون الى الصلاة قالت اليهود قد قاموا ـ

٦٢

الصلاة وإلى النداء إليها ، حيث كانوا يتخذونهما هزوا ولعبا.

ومن هنا نعرف المعني من مثل قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ..) (٦٢ : ٩) أنها الحيعلات ضمن الأذانات والإقامات فانها هي النداء للصلاة ، وكما ليس لها موضوعية لوجوب الصلاة ، فإنما هي إعلانات لحضور وقت الصلاة كذلك النداء للصلاة من يوم الجمعة لا تعني إلّا حضور وقت الجمعة ، فلا يشترط وجوب الجمعة بنداء لها خاص إذ لا نداء يخصها ، ولا بإقامتها فإنها ليست نداء لها ، وإنما إذا حضر وقت صلاة الجمعة وهو زوال الشمس عن وسط السماء «فاسعوا» أئمة ومأمومين (إِلى ذِكْرِ اللهِ) وهو مجموع الخطبتين والركعتين (١).

ذلك ، ومما يقال في (اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أن أهل الكتاب قالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى فإن كنت نبيا فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فأنزل الله هذه الآية ، وكان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس ، وسائر الكفار حالهم معلومة بطبيعة الحال ، فذلك ثالوث من الهزء بالصلاة وأذانها.

وهنا (نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) تدل على مشروعية النداء إلى الصلاة

__________________

ـ «لا قاموا فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزءوا بهم وضحكوا منهم» وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في الآية قال كان رجل من الأنصار بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي اشهد ان محمدا رسول الله (ص) قال : احرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو قائم واهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله

(١) تفصيل البحث بحق الجمعة تجده عند تفسير آية الجمعة في الفرقان.

٦٣

بالحيعلات أذانا وإقامة كأصل ، في الأوقات المقررة للصلوات اليومية ، سواء أكانت الصلاة المنادى إليها في اوّل وقتها أم لا ، وقد يستثنى نداء الحيعلات عن صلاة الآيات والأموات بقاطع السنة انها فيها «الصلاة الصلاة» فقد تختص النداء إسلاميا بهما ثم لا نداء ثالثة إلّا فالسة كالسة إذ لم يدلّ دليل على غيرهما.

وهل الأذان والإقامة اليومية مفروضان فرادى وجماعات؟ أم هما مختصان بالجماعات لمكان «ناديتم إلى الصلاة»؟ أم هما مندوبان ام فيهما تفصيل؟ قد تلمح «ناديتم» لاختصاصها بالجماعات ، حيث الفارد لا ينادي غيره ، ونداءه نفسه ليس إلّا قيامه نفسه إلى الصلاة.

وقد يعني النداء إلى الصلاة بأذان وإقامة أيا كان ، حيث يجمع الشعار إلى استعداد المصلي الصلاة ، ك (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فإنها شعار مع الإقرار أنني أقولها فليقلها غيري ، فقد توافق جمعية النداء جماعات إلى فرادى السنة القطعية حيث تدل عليهما دون اختصاص بالجماعات؟

وعلى أية حال فلا تدل الآية على وجوب النداء إلى الصلاة ، والمستفاد من السنة تاكّد استحباب الأذان في الجماعة واستحبابه في الفرادى ، ورواية إعادة الفريضة إذا نسيهما(١) معارضة بأخرى (٢) في

__________________

(١) وهي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال : «إذا افتتحت الصلاة فنسيت ان تؤذن وتقيم ثم ذكرت قبل ان تركع فانصرف وأذن وأقم واستفتح الصلاة وان كنت ركعت فأتم على صلاتك» (الوسائل أبواب الأذان ب ٢٩ ج ٣).

(٢) كصحيحة زرارة قال : سألت أبا جعفر عليهما السلام عن رجل نسي الأذان والاقامة حتى دخل في الصلا؟؟ قال : «فليمض في صلاته فانما الأذان سنة» (المصدر ح ١) وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (ع) في رجل نسي الأذان والإقامة حتى دخل في الصلاة؟ قال : «ليس عليه شيء» (المصدر ح ٧) ـ

٦٤

ترك الإعادة وهذه موافقة للقرآن (لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٤٧ : ٣٣) وتلك مخالفة له ، وعلى فرض تصديق القائلة «فانصرف» فهي دالة على سماح الانصراف إذا نسيهما ولا تدل على وجوبهما ، اللهم إلّا تأكد الاستحباب حيث يسمح عند النسيان بالانصراف عن الصلاة ، ولكن الانصراف على أية حال منصرف عنه لمكان حرمة إبطال الأعمال ، وأن النسيان يسقط التكليف فكيف يجوز ابطال الصلاة لجبران المنسي منهما ، فحتى إذا تركهما عمدا وهما واجبان لا يسمح ذلك للانصراف عن الفريضة ، ولا دليل على وجوب الإقامة إلّا الروايات الدالة على الانصراف ، فلا حجة ـ إذا ـ لوجوبهما ولا سيما الأذان من كتاب أو سنة وإن كان الأحوط الإتيان بالإقامة إذ لا نجد أمثال هذه الأسئلة حول ترك الأذان والإقامة إلّا لمورد النسيان مما قد يلمح أن موارد الذكر مفروغ عنها للوجوب ، والقدر المعلوم منه الإقامة ، وقد تشهد له أخبار ولكنها لا نص فيها على الوجوب ولا سيما الأذان وإن كان الأحوط الإتيان بها لكرور التأكيدات المتواترة فيها.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ

__________________

ـ أقول : وقد يدل «انما الأذان سنة» على عدم فرض الأذان ولا اقامة فإنهما معا مورد السؤال في الرواية ، وكصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال : في الرجل ينسى الأذان والإقامة حتى يدخل في الصلاة؟ قال : «إن كان ذكر قبل ان يقرء فليصل على النبي (ص) وليقم وإن كان قد قرء فليتم صلاته» (المصدر ح٤).

٦٥

اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ

٦٦

آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)(٦٦)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)(٥٩).

هنا «تنقمون» منا تتبنّى ككلّ فسقهم عن الايمان بالله في مثلث (أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) وأنتم غير مؤمنين بالله ، لا إيمانا به إلها واحدا حيث الصبغة الشركية المتخلفة المختلفة الحاكمة فيكم ، ولا إيمانا به تسليما وإلّا فلما ذا تكفرون بشرعته الأخيرة المبينة ببراهين الصدق أكثر من كل شرعة.

٢ ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن حيث ينسخ ما أنزل من قبل في بعض الطقوس ، وهو نازل على رسول غير إسرائيلي.

٣ ـ (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) حيث الايمان بما أنزل من قبل لزامه الإيمان بهذه الشرعة الأخيرة بما يحمل من بشارات في تصريحات وإشارات لها ولرسولها وكتابها.

فثالوث النقمة علينا بمثلث الايمان يجعل منكم فاسقين في هذه الثلاث ، فإذا كانت هنا نقمة فلتكن لنا منكم لفسقكم عن شرعة الله وايماننا.

وقد يعني الكثير وجاه «أكثركم» الذين هم مؤمنون بهذه الشرعة ،

٦٧

ومعهم المستضعفون الذين لا يعلمون الكتاب إلّا أماني ، قاصرين عن ذلك الإيمان الإسلامي الذي هو قضية الإيمان الكتابي السليم (١).

والنقمة هي الإنكار بقال أم حال أم أعمال ، ولقد جمع أهل الكتاب ثالوث النقمة منا ، وقد تندد (ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) بديلة عن «ما أنزل إليكم» تندّد بهم كأنه ما أنزل إليهم إذ عاملوا كتبهم معاملة النكران بكفر أو كفران

ولأن كلا من أهل الكتابين لهم تفرقات بين رسل الله وشرائعه ، فالجمع بين الإيمان بالله ورسله وكتبه ككل ، يناحر سيرتهم المتخلّفة ، إضافة إلى انحرافهم في كلّ من زوايا الإيمان الثلاث ، فهم ـ إذا ـ كافرون بها جمعا وإفرادا ، فلو كانوا يؤمنون بالله إيمانا سليما لكانوا مؤمنين بكل رسالاته وكتاباته دون تفريق ، ولو كانوا يؤمنون بما أنزل إليهم لكانوا ـ بأحرى ـ مؤمنين بهذا القرآن العظيم ، فإن سلسلة الرسالات الربابية بكتاباتها سلسلة واحدة موحدة ، رسالة واحدة من إله واحد لاتّجاه واحد يحملها كل رسل الله مهما اختلفت شرائعهم في بعض الطقوس ابتلاء ف (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ..) (٥ : ٤٨).

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٤ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال أتى رسول الله (ص) نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد بن خالد بن أبي إزار وأسقع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل قال : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بعيسى فأنزل الله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ..).

٦٨

عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٦٠) :

ف (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) الفسق بثالوثه (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ ..) وكيف «مثوبة» وهي عقوبة مغلّظة تخطت الآخرة إلى الدنيا؟ المثوبة هي من أصل الثوب وهو رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها ، أو إلى الحالة المقدرة المقصودة ، ولأن جزاء الأعمال ليس إلّا ظهور الأعمال فحقائقها فهو مثوبة في خيرها وشرها ، مهما غلب استعمالها في خيرها حيث المثوبة الخيّرة هي المقصودة ، كما أن سببها هي الحالة السليمة الفطرية.

وقد تعني «مثوبة» هنا ـ إضافة إلى أصل الرجوع إلى الحالة الأولى ـ التعريض بهؤلاء أن ثوابهم هو أشد العقاب حيث تخلفوا عن الايمان بالله معاندين.

ذلك ، كما وأن (حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) (٣ : ١٤٨) تقتسم الثواب إلى حسن وسوء والثاني هو العقاب ، وكذلك (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٢٨ : ٨٠) تنحو منحى ذلك التقسيم وهذا مثل البشارة الخاصة في أصلها بالخيرات وتأتي تهكما للشر ك (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) حيث تعني لو أن لهم بشارة فليست إلّا العذاب الأليم فضلا عن الإنذار.

وقد تعني (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) شرا من مثلث الإيمان مجاراة وتنازلا بتهكم ، إلى شر فسقهم بثالوثه ، فلئن كان ذلك الإيمان شرا عندكم ف (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَ ..) أشر من ذلك ، وإن صدقتم أن فسقكم ذلك شر ف (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَ ..) أشر من ذلك ، والمعنيان معنيّان حيث يحملان كلا الحقيقة والمجاراة ، ولكن الأصل هنا هو المجاراة حيث المقام مقام النكران.

٦٩

ومن عجيب التماثل بين ثالوثهم السالف ذلك الثالوث الذي هو شر منه : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ـ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ـ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)!

وهنا (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوفة على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) بفاصل ـ وجعل .. ـ أم على «جعل ..» أي جعل منهم من عبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير.

ولا يرد على الثاني أنه يقتضي كون عبادة الطاغوت من جعل الله حيث يعني الإذن تكوينيا بما اختاروا عبادة الطاغوت ، لا تسييرا عليها ولا تشريعا لها ، وذلك مثل (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) والكل من باب (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

ثم المعنى الأوّل وهو أسلم منه ، لا يرد عليه ذلك الفصل فإن «غضب عليه ـ إلى ـ والخنازير» مواصفة ل (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ، ثم (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوفة على (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ، وقد يعني العطف كليهما عناية لهما وهو أجمع وأجمل دلالة ومدلولا.

ذلك ، فمن (لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) جماعة من اليهود حيث تغلّب عليهم غضب الله مهما شمل غيرهم كما في آيات (١).

وأما من جعل منهم قردة فهم المتخلفون من أصحاب السبت (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦).

وقد يرجح من جعل منهم خنازير أنهم من النصارى وكما هدّدهم الله تعالى في إجابة دعاء المائدة : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ

__________________

(١) كالآية ١٦ : ١٠٩ و ٤٢ ـ ١٦ و ٧ : ١٧١ و ٢٠ : ٨١ و ٨ : ١٦ و ٤ : ١٣ ، حيث تجعل غضب الله على كل من يستحقونه من كافة الملل والنحل دون اختصاص.

٧٠

مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٥ : ١١٥) ولا يحمل ذلك الجعل إلّا هذه الآية ، فحيث المقام هو مقام التنديد بكفرة أهل الكتاب فليكن للنصارى نصيب كما لليهود ، أم إنهم كالقردة من اليهود و (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) من النصارى ، أم كل هذه منقسمة على كل من هو شر مكانا وأضل عن سواء السبيل من جمع أهل الكتاب ، اللهمّ إلّا القردة الخاصة باليهود حسب النص (١) و «من عبد الطاغوت» هم كل هؤلاء الذين استسلموا للطواغيت حيث (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..)(٩ : ٣١).

وهل إن كل القردة والخنازير هي من أنسال هؤلاء الذين جعلهم الله قردة وخنازير؟ كلّا ، فقد خلقت القردة والخنازير قبل هؤلاء وتستمر ، و «إن الله لم يهلك قوما أو يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير قبل ذلك» (٢) ، «ولكن ذا خلق فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم» (٣).

وهذه قضية العدالة الربانية أن يعذب من يستحقه أن يجعل قردا أو خنزيرا دون نسله حيث (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومن جعل قردا أو

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٢ : ٣٦ قال أهل التفسير عني بالقردة اصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى وروي ايضا ن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبابهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٢٩٥ ـ اخرج مسلم وابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله (ص) عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله فقال : ...

(٣) المصدر اخرج الطيالسي واحمد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله (ص) عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؟ فقال : لا إن الله لم يلعن قوما قط فمسخهم فكان لهم نسل ولكن ..

٧١

خنزيرا إنما يجعل جسمه مثلهما دون روحه حتى يتحقق العذاب بما يشعر أنه إنسان بصورة قرد أو خنزير.

(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) منكم ، أو ومنا لو كنا من الأشرار «وأضل» منا ومنكم (عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) فيا اخوان القردة والخنازير الذين لعنهم الله وغضب عليهم وعبدوا الطاغوت هل نحن المسلمين المؤمنين بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل شر مكانا أم أنتم؟.

ذلك وليست النقمة اليهودية والنصرانية من المسلمين تقف لحد ، بل انها في شدّ ومدّ ما شد الإسلام ومدّ ، فهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء العشواء التي لم تضع أوزارها قط ولن ، منذ أن قام للمسلمين كون وكيان في المدينة وتميزت لهم شخصية.

فهم يشنّون عليهم مختلف الحروب الباردة الدعائية والحارة الحارقة لا لشيء إلّا لأنهم مسلمون لله مستسلمون ، ولا تطفأ هذه النار عنهم إلّا أن يرتدوا عن دينهم فيتبعونهم رغم ظاهر إسلامهم الفاضي عن الحقيقة والحيوية ف (لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) (٢ : ١٢٠).

فالإسلام الفائض بمثلث الإيمان بالله وما أنزل من القرآن وما أنزل من قبل ، ذلك الإسلام ينقم منه ومن المسلمين له ما طلعت الشمس وغربت من قبل اليهود والنصارى ، إلّا أن يصبح فاضيا عن حقيقته تابعا للاستعمار اليهودي والنصراني كما نراه في الأكثرية المطلقة من الدول الإسلامية حيث يساندها الاستعمار ولا يحاربها.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)(٦١) :

٧٢

(وَإِذا جاؤُكُمْ) أنتم المؤمنين هؤلاء الناقمون منكم (قالُوا آمَنَّا) نفاقا عارما وشقاقا خارما ، تجسسا فيكم لا تحسسا لكم (وَقَدْ دَخَلُوا) هكذا في ظاهر الإيمان الإقرار «بالكفر» كما (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) فدخولهم في ظاهر الإيمان كخروجهم ليس إلّا «بالكفر» مهما كانوا يكتمون (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) كما ويعلمكم بحالهم حتى تأخذوا منهم حذركم وترقبوهم داخلين وخارجين (١).

وذلك النفاق العارم من أهل الكتاب كان ويكون على مر الزمن يقصد من وراءه إضافة إلى التجسس عن خبايا المسلمين البلبلة فيهم وكما يقولون (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣ : ٧٢) بسبب ذلك التشكيك اللئيم.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٢) :

«ترى» أنت الرسول (ص) و «ترى» أنت المخاطب بالقرآن أيا كنت من المسلمين وأيان (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أولاء الناقمين منكم (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) ثالوث من العصيان الجاهر المائر (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فالإثم هو كل ما يبطئ عن الخير والثواب ، فالمسارعة فيه والسباق إليه سباق ومسارعة في سد أبواب الثواب وفتح أبواب التبات.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٥ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية (وَإِذا جاؤُكُمْ ..) قال أناس من اليهود وكانوا يدخلون على النبي (ص) فيخبرونه انهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالهم وبالكفر فكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند رسول الله (ص).

٧٣

والعدوان هو العداء في ثالوثه المنحوس ضد المسلمين لله وللقرآن وما أنزل من قبل ، مسارعة في حروبهم الباردة والحارة طول تاريخهم المنحوس المركوس.

وأكلهم السحت والباطل من مختلف مجاريه ومؤتلف مهاويه ومساويه (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وإنها صورة ترسم للتبشيع والتشنيع حيث النفوس ألبئيسة التعيسة يستشرى فيها الفساد وتسقط القيم ، من سائقين متسابقين في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ، وآخرين منساقين في تياره ، وهكذا تكون كل المجتمعات الهابطة الى دركات البهيمة النهماء ، حيث يشمل الفساد عاليهم وسافلهم ، وفي ذلك الموقف المزري البئيس :

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)(٦٣) :

«لو لا» و «هلا» هما بمعنى التوبيخ والتحضيض والتخفيض لموقف الموجه إليهم.

وذلك صوت قرآني صارخ على مدار الزمن في رسالته العالمية ان على العلماء الربانيين تكفل الأمر والنهي في أوساطه الأمة ، فلا بد من حافظين لحدود الله في كل امة هم ربانيوها كرعيل أعلى من علماءها ، ثم أحبارها حيث المكانة التالية للربانيين.

فليس الأمر والنهي فوضى جزاف يتكفلهما أيّ كان ، فشرط الربانية علميا وعمليا شرط اصيل بمراتبها في حقل الأمر والنهي ، مع سائر الشروط الفرعية المسرودة في الكتاب والسنة.

إذا فسمة السكوت لمدراء الشرعة والربانية عما يقع في الأمة من اثم وعدوان وأكل السحت ـ وهي رؤوس المحرمات في أية شرعة ـ هي وصمة

٧٤

المجتمعات التي كسدت وفسدت آذنة بالانهيار.

فالمجتمع الذي يسوده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الصالحين هو المجتمع الراقي الحبيب ، والذي لا يسودانه هو مجتمع الباغي الكئيب.

وهنا سوط اللائمة على الربانيين والأحبار لتركهم المتخلفين عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ، إنه سوط على كافة العلماء والمؤمنين الذين لهم ذلك المنصب ، صوت النذير بذلك السوط لكلّ ودونما اختصاص بالربانيين والأحبار ، وهو أشد والم لرباني الأمة الاسلامية حيث الشرعة كلما نضجت وارتقت وأخلدت وتوسعت اكثر فالمسئوليات أمامها لحملتها وسائر متشرعيها اكثر ، والخروج عن عبء هذه المسؤوليات أعسر.

ف «يا ايها الناس إنما هلك من هلك قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار اخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا» (١).

«وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه ، وأيامه ووقائعه ، فلا تستبطؤوا وعيده جهلا بأخذه ، وتهاونا ببطشه ، ويأسا من بأسه ، فان الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي» (الخطبة ١٩٠ / ٤ / ٣٧٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٩٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه انه قال في خطبته ، وفي نور الثقلين ١ : ٦٤٨ رواها عن الكافي بسند متصل عن يحيى بن عقيل عن حسن قال خطب امير المؤمنين (ع) ..

٧٥

فيا «أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسّخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه : فعقروها فأصبحوا نادمين ـ فما كان إلّا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوّارة» (الخطبة ١٩٩ / ٣٩٥).

و «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم» (الخطبة ٢٨٦ / ٥١٢).

«والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف الكافرين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة» (٣٠ ح / ٥٧٠).

ذلك والناس على أقسام «فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه فذلك المستكمل لخصال الخير ، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة ، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميّت الأحياء وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّي ، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر» (٣٧٤ ح / ٦٤٢).

ذلك واجب ربّانيّ الأمة ، وعليهم أن يصغوا إليهم ويعوا ما يصدرونه عن كتاب الله ف «اين تذهب بكم المذاهب ويستر بكم الغياهب وتخدعكم الكواذب ومن اين تؤتون وأنى تؤفكون ولكل أجل كتاب ولكل غيبة إياب

٧٦

فاستمعوا من ربانيكم وأحضروه قلوبكم واستيقظوا أن يهتف بكم» (١).

فالربانيون التاركون للنهي عن المنكر ، (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والآثمون العادون الآكلون للسحت (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والصنع أركز وقيعة من العمل ، حيث الصنع هو الذي يصنع العمل ، فالمنكر الواقع في مجتمع له عامل هو عامله ، وله صانع هو تارك النهي عنه.

وقد عبر عن كلا (الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) هنا ب «قول الإثم» لأنه غول في توغل الإثم من القائل وممن يسمعه متقبلا من المستضعفين ، فقد يعمل بالإثم دون أن يحمل إشاعة له وتحريضا للآخرين ، ولكن القول الإثم ـ وهو بطبيعة الحال مع فعل الإثم ، إنه إشاعة وتشجيع للإثم

ف «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل من المعاصي هم أعز منه وأمنع أن يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب» (٢).

ذلك ، ومن قولهم الإثم الذي يتهدم به الايمان من أصله :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤):

(يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)؟! .. «يد الله» هي قدرته ورحمته وعلمه ، أم بصيغة

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٤٩ في نهج البلاغة قال (ع) في خطبة له وهي من خطب الملاحم : ...

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٩٦ ـ اخرج ابو داود وابن ماجه عن جرير سمعت رسول الله (ص) يقول : ...

٧٧

واحدة كل قدراته رحمانية ورحمية على علمه الطليق ، كما أن قدرته طليقة ، فهذه اليد المغلولة تعني تحديدها عن طلاقتها ، مغلولة بما غلّها هو نفسه بخلا ، أم بما غلّها غيره سلطة عليه ، أم بما كانت مغلولة منذ الأزل قصورا ذاتيا! والجمع هو ثالوث الغل ، في تكوين وتقدير وتشريع ، فقد كانوا يحيلون النسخ على الله وهذا غل ليده في التشريع.

وذلك الثالوث تشمله (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) مهما تشعبت الآراء المعلولة المغلولة فيما بينها.

وهنا (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) تختص غلها بحقل الإنفاق كما في (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وعلّ المعني من (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) يد الرحمة والغضب ، أنه ليس مسيّرا فيها فله الخيار حسب الحكمة الربانية في البسط والإقتار ، فلا بسطه في الإنفاق دليل أنّه مجبر ولا إقتاره دليل الغل المسيّر.

لقد قيل في الله كثير من القيلات الغيلات ولم يسد أبوابها تسييرا عن نفسه تعالى وتقدس فكيف يسده عن خلقه اللهم إلّا فضحا لأصحابها بقيلاتهم أنفسهم الويلات فإنه لا يفلح الظالمين «إن يحيى بن زكريا سأل ربه فقال يا رب اجعلني ممن لا يقع الناس فيه فأوحى الله يا يحيى هذا شيء لم أستخلصه لنفسي كيف أفعله بك اقرأ في المحكم تجده : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالوا يد الله مغلولة وقالوا وقالوا» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٦ ـ اخرج الديلمي في مسند الفردوس عن انس مرفوعا ان يحيى ...

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال : إذا بلغك عن أخيك شيء يسوءك فلا تغتم فانه إن كان كما يقول كانت عقوبة أجلت وإن كانت على ـ

٧٨

ذلك ويداه المبسوطتان في الإنفاق يقضي على قيلة «فرغ من الأمر» (١) أنه خلق ما خلق ثم أمسك حيث خول أمر التدبير إلى خلقه أم جعل أمرهم فوضى جزاف.

ثم الفراغ من الأمر قد يكون بعد خلقه الخلق ألّا تدبير له فيهم كما في قيلة اليهود ، ولكنه هو الخالق للخلق كله ، أم وأفضح منه أنه خلق الخلق الأول ثم سائر الخلق يخلقه الخلق الأول والثاني كما في خرافة العقول العشرة سنادا إلى قاعدة بائدة متفلسفة : «الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» فلأن الله واحد بحقيقة الوحدة فلا يصدر منه إلّا خلق واحد!.

رغم أن هذه القاعدة فاشلة في العلل الخلقية فضلا عن الخالق.

__________________

ـ غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها قال وقال موسى يا رب احبس عني كلام الناس فقال الله عزّ وجل : لو فعلت هذا بأحد لفعلته بي.

(١) نور الثقلين ١ : ٦٤٩ في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا (ع) مع سليمان المروزي بعد كلام طويل له (ع) في اثبات البداء وقد كان سليمان ينكر ثم التفت إلى سليمان فقال : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟ قال : أعوذ بالله من ذلك وما قالت اليهود؟ قال : قالت اليهود يد الله مغلولة ، يعنون ان الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا فقال عزّ وجلّ : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وفي كتاب التوحيد باسناده إلى إسحاق بن عمار عمن سمعه عن أبي عبد الله (ع) انه قال في قول الله عزّ وجلّ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) لم يعنوا انه هكذا ولكنهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص وقال الله جلّ جلاله تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ..) الم تسمع الله عزّ وجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

وفي الدر المنثور ٢ : ٢٩٦ عن ابن عباس قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس ان ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ ..).

وفي تفسير القمي قال : قالوا قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الأول فرد الله عليهم فقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي يقدم ويؤخر ويزيد وينقص وله البداء والمشيئة.

٧٩

فهب إن النار لا تصدر منها إلّا الحرارة النارية ، فهل لو كانت مريدة مختارة لكانت ـ بعد ـ هكذا والفاعل بالإرادة يفعل ما يشاء دون حد إلّا في المحدود الإرادة.

فالعلل المادية التي هي مولدات لمعاليلها ، هي مسانخة لها لا محالة فلا تلد إلّا ما في ذواتها ، ولكنها إذا كانت ذات إرادة وتصميم بإمكانها أن تولد ما تشاء من ذاتها أم من ذوات أخرى ، وأما الله تعالى وهو تجردي الذات فليس خلقه ولادة حتى يشابه خلقه ذاته ، إنما هو خلق بالمشيئة ولا حد لها ولا حدود ، فكيف تنطبق عليه «الواحد لا يصدر منه إلّا واحد»؟!.

ذلك ، فيهود هذه الأمة القائلين هذه المقالة هم أهود من سائر اليهود إذ هم ما غلّوا يد الله تعالى عما سوى الخلق الأوّل مهما غلوها عن التدبير دائما أو أحيانا.

أو قد عنت اليهود الأغبياء فقر الله في المال وكما (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ..) (٣ : ١٨١) فعلّهم عنوا هنا نفس المعنى ، وهو في نفس الوقت تعريض بالمسلمين الفقراء في البداية إن إلههم فقير ، لا أن الله الذي هم يعتقدونه فقير.

فقد بان البون بين قيلة اليهود «إن الله فقير ـ يد الله مغلولة» وبين قيلة يهود هذه الأمة إن «الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» حيث غلّوا يدي الله عن كل خلق إلّا الخلق الأوّل الذي هو واحد كما أنه نفسه واحد لانطباق هذه القاعدة وقاعدة مسانخة العلة والمعلول!.

لقد قالت اليهود أمثال هذه القولة «إن الله فقير» بمناسبات عدة منها فقر المسلمين

الأولين ، ومنها أمثال قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٢ : ٢٤٥) قائلين إن الله الذي يستقرض من عباده الفقراء هو

٨٠