الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٩٧) :

هنا في (الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) بما (جَعَلَ اللهُ) قيام للناس تحمل قيامات فيها قوامات للناس في مناسك الحج والعمرة التي هي إشارات إلى كل هذه القيامات.

فلقد «جعلها الله لدينهم ومعاشهم» (١) فهي قيام لهم وقوام لدينهم ومعاشهم حيث تتلاقى عندها مختلف جماهير المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ، فليجعلوا أمرهم في الدين والدنيا شورى بينهم حتى يحصلوا على حصالة من صالحة الآراء والتصميمات لصالح دينهم ودنياهم ، إصلاحا لسلطتهم الزمنية والروحية ، وتوحيدا لهما في الشورى الصالحة بين الرعيل الأعلى من الربانيين.

فالحج مؤتمر ومنتدب لا تنوب عنه أية عبادة أخرى أو صدقة (٢) ، إذا كان حجا فيه قيام للناس ، دون مجرد مناسك لا يعرفون معناها ومغزاها ، ف «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه» (٣).

وهنا «جعل» جعل تشريعي لذلك القيام للناس وجاه النسناس ، فكما للنسناس مؤتمرات يوحي فيها بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٨٠ عن ابان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله (ع) جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس قال : ...

(٢) المصدر ٦٨٠ في كتاب علل الشرائع باسناده الى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قلت لأبي عبد الله (ع) ان ناسا من هؤلاء القصاص يقولون : إذا حج رجل حجة ثم تصدق ووصل كان خيرا له؟ فقال : كذبوا لو فعل هذا الناس لتعطل هذا البيت ان الله عزّ وجلّ جعل هذا البيت قياما للناس.

(٣). نور الثقلين ١ : ٦٨٠ عن مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد الله (ع).

٢٤١

ويدرسون فيها شيطنات على الناس يحققونها فيهم في كافة الأبعاد الحيوية الإنسانية والاسلامية.

كذلك على الناس القائمين بشرعة الحق الهائمين في الإيمان بالحق أن يحققوا كفاحا صارما ضد النسناس الخناس ، فضحا لخططهم الساحقة الماحقة للحق وأهله ، وخير مؤتمر لذلك القيام والإقدام هو مؤتمر الحج السنوي بعد مؤتمر الجمعة الأسبوعي ، ومؤتمرات صلوات الجماعة.

و «الكعبة» هي المربعة المرتفعة من كلّ شيء ، ثم أصبحت علما للكعبة المباركة ، الموصوفة هنا ب (الْبَيْتَ الْحَرامَ) وهي بيت الله الحرام ، حرمة الاحترام دون أي اخترام ، ومن حرمتها حرمة الصيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أمنا لكل ذي حيات بل والنبات اللهم إلّا الخطر فمقابلة بالمثل.

ذلك ، وكل محرمات الحرم إلى محرمات الإحرام هي من حرمة الكعبة البيت الحرام (قِياماً لِلنَّاسِ) لخلق أجواء الأمن.

وهنا محور (قِياماً لِلنَّاسِ) هو الكعبة المباركة ويلحقها زمانا (الشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو الأشهر الحرم الخمس جمعا بين ثلاثة الحج وأربعة القتال بترك المتكرر بينهما ، وهذه الخمس هي «محرم ـ رجب ـ شوال ـ ذي القعدة ـ ذي الحجة» كما فصلناه في بداية المائدة ، ومن ثم في مناسك الحج : (الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ).

في كل هذه الأربعة يكمن (قِياماً لِلنَّاسِ) ففي الهدي والقلائد قيام للناس المطعمين في سماحة الإنفاق وفي رمز الفداء ، وللناس المطعمين في شبعهم من اللحم وعلى حد قول الرسول (ص): «إنما جعل الله هذا الأضحى لتشبع مساكينهم من اللحم فأطعموهم منها».

وأما إذا تهدرت هذه اللحوم حرقا أو دفنا فهنالك الطامة الكبرى ، قياما

٢٤٢

للنسناس الضاحكين علينا أغنياء وفقراء ، وقعودا لنا عن تطبيق حكم الله أغنياء وفقراء (١).

في كل هذه قيام للناس في الحفاظ على أنفسهم وسماحتها وشجاعتها وخلقها الطيبة ، تمرّنا على صالح الأقوال والأعمال وأمن الحياة وطمأنتها.

ولقد ألقى الله في قلوب العرب منذ جاهليتهم فضلا عن إسلامهم حرمة هذه الأشهر فكانوا لا يروّعون فيها نفسا ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه ، فكانت مجالا فاسحا آمنا لكل الناس ، ولا سيما العائشين الحرم المبارك المكي.

فكما الحرم منطقة أمن من حيث المكان ، كذلك الشهر الحرام منطقة أمن من حيث الزمان ، ولا سيما حين يتلاقيان فيتلافيان كل ما يسبب اللّاأمن ، وجعل الهدي والقلائد أمنة من كلّ أذى للمهدين والمقلدين ، وكل هذه من خلفيات الحرمة البالغة المدى ل (الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) حيث جعلت بشعائرها الزمانية والمكانية والعملية (قِياماً لِلنَّاسِ) فيما يتوجب عليهم أو يرجح لهم فيه قيام للناس وجاه النسناس ، فالكعبة البيت الحرام هي منطقة أمان في المكان والزمان لا للإنسان فحسب بل وللنبات والحيوان أيضا نفسيا وفي ضمير الإنسان ، منطقة أمان في مصطرع الحياة الثائر الفائر الطاغي بشواظه الشذاذ وبدخانه على المكان والزمان ، حتى ليتحرج الحرم أن يمدوا أيديهم إلى أي ذي حياة اللهم إلّا ما يزهق الحياة أو يحرجها.

ذلك ، وقد نستشعر من كل مناسك الحج قيامات فردية وجماعية اسلامية ، لو أن حجاج البيت استشعروها وطبّقوها لأصبحوا بسائر

__________________

(١). لمعرفة واسعة حول واجب الأضاحي راجع الفرقان ١٧ : ١٠٤ ـ ١١٩ ورسالتنا الفارسية (اسرار مناسك ـ ادلة الحج.

٢٤٣

الملتحقين بهم قضية الخلفية الصالحة لهذه الاستشعارات والقيامات ، لأصبحوا أصحاب طاقات في كافة الحيويات الإسلامية ، علمية ـ عقيدية ـ خلقية ـ سياسية ـ اقتصادية وحربية أماهيه من قيامات فيها قوامات لدولة موحدة إسلامية سامية تستقل أمام سائر القدرات التي امتلكت الأرض بمن عليها.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ولعلمه المحيط بكل شيء يريد ليجعلكم تحيطون على مختلف الطاقات نتيجة ذلك المؤتمر ، فليعلموا أنه تعالى يعلم طبائع الإنسان بسؤله أيا كان فيقرر شرعته تلبية لكل سؤل له صالح وزيادة لا يعلمها إلّا الله.

وقد تلمح «لتعلموا» هنا أن الحج يضمن في مشاعره كل جنبات شرعة الله فقد قال الله فيه بصورة مجملة وإشارات عملية كل ما أراد أن يقوله لكافة المكلفين إلى يوم الدين.

ذلك ، فقد «فرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام ، يردونه ورود الأنعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام ، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم لعزته ، واختار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته ، وصدقوا كلمته ، ووقفوا مواقف أنبيائه ، وتشبهوا المطيفين بعرشه ، يحرزون الأرباح في متجر عبادته ويتبادرون عنده موعد مغفرته ، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما ، وللعائدين حرما ، فرض حقه ، وأوجب حجّه ، وكتب عليكم وفادته فقال سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) لخطبة ١ / ٣٥).

«ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض

٢٤٤

حجرا ، وأقل نتائق الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقوى منقطعة ، لا يزكوا بها خف ولا حافر ولا ظلف ، ثم أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا عطافهم نحوه فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملتقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار الأفئدة ، من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتى يهزوا مناكبهم ذللا يهللون لله حوله ، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له ، قد نبذوا السراويل وراء ظهورهم ، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما وامتحانا شديدا واختبارا مبينا وتمحيصا بليغا ، جعله الله سببا لرحمته ووصلة إلى جنته» (١٩٠ / ٢ / ٣٦٤).

انتباهة ضافية :

وهنا توافقات بين مختلف الزمن سنة وشهرا وأياما ، ف (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) (٨ : ٢٦) توافق تكرار عديد الشهر في كتاب الله اثني عشر مرة ، ثم لفظ اليوم بمختلف صيغه تكرر (٣٦٥) مرة عديدا أيام السنة ، ثم نجد لفظ اليوم جمعا (٢٣) مرة ومثنى (٣) مرات وبلفظ «أياما» (٤) مرات والمجموع (٣٠) عدد أيام الشهر في الأكثر.

فهل إن هذا تناسق لاغ أم هو قاصد كما في سائر التناسقات القرآنية التي لم يكشف العلم عنها النقاب حتى الآن؟!.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٨) :

هذا تحذير عن كل تهذير وتهدير بجنب الله (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) كما هو بشارة (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة» ومن العقاب الشديد ما هو على «من أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا وهو لا يعلم أن لي أن أعذبه أو أعفو

٢٤٥

عنه لما غفرت له ذلك الذنب أبدا ، ومن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا وهو يعلم أن لي أن أعذبه أو أن أعفو عنه عفوت عنه» (١).

ذلك ، ومن بعده تعقيبة التحذير للعصاة الذين لا يتوبون إلى الله ولا يثوبون :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٩٩) :

أجل (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) وليس الرسول ليبلغ إلّا ما عليه رسالة ، دون أي بلاغ آخر أم حساب (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) فهو يحاسبكم بما يعلم من سرّ وعلانية.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١٠٠) :

«قل» لهؤلاء الذين تعجبهم كثرة الخبيث (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فلا تعجب الكثرة إلّا الخاوي عن العقلية الإيمانية وأنت لك عقلية الوحي ، ف (لَوْ أَعْجَبَكَ) خطاب من الرسول بوحي الله لهؤلاء المعجبين بكثرة الخبيث وليس خطابا إياه ، وحتى لو شمله فيما شمل ، ف «لو» هنا تحيل له الإعجاب من كثرة الخبيث ، فهي بحقه إحالة واقعية وبحق الآخرين إحالة تكليفية تعني أن قضية الإيمان هي ترك ذلك الإعجاب العجاب اللهم إلّا ممن هو ضعيف الإيمان ، لذلك :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٨١ في كتاب التوحيد بسند متصل عن معاذ الجوهري عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله عن جبرائيل قال : قال الله جلّ جلاله : من أذنب ...

٢٤٦

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) عن محاظيره ، فلا تستوحشن في طريق الهدى لقلة أهله ، حيث اللب الإيماني هو قيد الفتك وإن عارضك العالمون (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) حيث تفلجون كافة العراقيل التي تحول بينكم وبين قضاء الإيمان الصادق المتين.

ذلك و (الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) تعمان القال والحال والأعمال ، وما تقدم الخبيث هنا في الذكر إلّا لتقدمه في المظاهر الجلابة الغلابة ف (قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

ذلك ، والأكثرية هي دوما مفنّدة مزيفة اللهم إلّا بين الصالحين ، فلا اعتبار بطليق الأكثرية ، إلّا ما هي بين القلة المؤمنة الصالحة أحيانا ، ولكن القلة بين الكثرة منهم أيضا هي الأصلح كضابطة.

وهنا عدم استواء الخبيث والطيب أمر فطري عقلي حسي شرعي وفي كل الحقول ، اللهم إلّا من يرى الخبيث طيبا والطيب خبيثا فيرجح الخبيث رغم طيبه على الطيّب زعم خبثه بلبسه بينهما قاصرا أو مقصرا.

وعدم الإستواء هذا في مثلث القال والحال والأعمال قد يحوله إلى الإستواء أم رجاحة الخبيث على الطيب كثرة في عدد وعدد بالمظاهر المختلقة التي تجلب العيون والأهواء ، ولكن العقلية الإنسانية فضلا عن الإيمانية تناحر خرافة الإستواء أو الأفضلية المعكوسة حين تتحكم على مختلف الموازين والمقاييس ، وأما حين تتحكم الأهواء الماردة والعقول المعقولة بطوعها ، الشاردة ، فهنالك الويل كل الويل ، حيث تختل الموازين حين يحتل الخبثاء الأمكنة والمكانات والكراسي والزعامات.

ذلك ، ف (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٣ : ١٩٧).

وحين يختلط الخبيث والطيب على المجاهيل قصورا أو تقصيرا فالله

٢٤٧

هو الذي يميّز بينهما : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٨ : ٣٧) فمآل الخبيث الفضيحة مهما طال وكثر ، كما أن مال الطيب كحاله النصوع فقد (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً(١)كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (١٤ : ٢٧).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢) :

هذه الآية تقتسم السؤال عن أشياء إلى محظور ومحبور اعتبارا بالعاقبة المحظورة والمحبورة ، فالسؤال هو كسائر الموضوعات التكليفية بحاجة إلى سماح لولاه فليس محبورا سواء أكان محظورا أم سواه.

فالسؤال عما لا يتوجب على السائل علمه ولا يرجح غير محبور ، فإن نفس السؤال محظور على أية حال إلّا فيما يرجح علمه على جهله ، وهنا محور الحظر (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) فكما الإساءة إلى النفس دون مبرر هو أرجح منها محظور ، كذلك السؤال عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.

ذلك ، ومن السؤال في غير موقفه ما يشدّد التّكليف كما تسائل بنو إسرائيل حول البقرة (١) كما منه ما يسيء في نفسه حين يبدو كأن يسأل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٣٥ ـ اخرج ابن حبان عن أبي هريرة ان رسول الله (ص) خطب فقال ايها الناس ان الله تعالى قد افترض عليكم الحج فقام رجل فقال : لكل عام يا ـ

٢٤٨

المعصوم عن بعض النسل ، أو يتهدر في السؤال ويهذي ويتمسخر ، فقد «خرج رسول الله (ص) وهو غضبان محمر وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين آبائي؟ قال : في النار ، فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال : أبوك حذافة» (١) وهو غير من يدعى إليه!.

__________________

ـ رسول الله (ص)؟ فسكت عنه حتى أعادها ثلاث مرات قال : لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ذروني ما تركتم فانما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبياءهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم.

وفيه عن ابن عباس ان رسول الله (ص) أذن في الناس فقال : يا قوم كتب عليكم الحج فقام رجل من بني اسد فقال يا رسول الله (ص) في كل عام؟ فغضب غضبا شديدا فقال : والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم واذن لكفرتم فاتركوني ما تركتكم وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا فأنزل الله (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا ، أي إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلّا وجدتم تبيانه» وفيه عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله (ص): «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته».

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٣٥ ـ اخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله (ص) .. فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (ص) نبيا وبالقرآن إماما انا يا رسول الله حديث عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباءنا فسكن غضبه ونزلت هذه الآية.

أقول : وذلك من جراء كثرة الاسئولة المحرجة لخاطره الخطير ، غير المعنية في ما يحتاجون اليه ، وكما في المصدر ٣٣٤ عن انس في الآية ان الناس سألوا نبي الله (ص) حتى احفوه بالمسألة فخرج ذات يوم حتى صعد المنبر فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلّا انبأتكم به فلما سمع ذلك القوم ارموا وظنوا ان ذلك بين يدي امر قد حضر فجعلت ـ

٢٤٩

ذلك ، وقد يعني السؤال الاستجهال ، كأن الله لم يعرف السؤال فما بين حكما يتساءل عنه ، و «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها» (١).

وأما سؤال الاستعلام فيما يرجح فرضا وسواه فهو فرض أو سواه وكما يقول الله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ويقول رسول الله (ص): «خذوا العلم قبل رفعه وقبضه ..» (٢).

__________________

ـ التفت عن يميني وشمالي فإذا رجل لاف ثوبه برأسه يبكي فقال يا رسول الله (ص) من أبي؟ فقال : أبوك حذافة وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه .. فقال النبي (ص) : ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط ان الجنة والنار مثلتا لي حتى رأيتهما دون الحائط ، وفيه عن ابن عباس قال : كان ناس يسألون رسول الله (ص) استهزاء فيقول الرجل من أبي ويقول الرجل تضل ناقته اين ناقتي فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وفي نور الثقلين ١ : ٦٨٢ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بسند متصل عن إسحاق بن يعقوب قال سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد في التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان : واما ما وقع من الغيبة ان الله عزّ وجلّ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا ...) انه لم يكن أحد من آبائي إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه واني اخرج حين اخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٣٦ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله (ص) :

(٢) وفيه اخرج احمد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن أبي امامة ان رسول الله (ص) وقف في حجة الوداع وهو مردف الفضل ابن عباس على جمل أدم فقال : ايها الناس خذوا العلم قبل رفعه وقبضه ، قال : وكنا نهاب مسألته بعد تنزيل الله الآية : «لا تسألوا ...» فقدمنا اليه أعرابيا فرشوناه برداء على مسألته فاعتم بها حتى رأيت حاشية البرد على حاجبه الأيمن وقلنا له : سل رسول الله (ص) كيف يرفع العلم وهذا القرآن ـ

٢٥٠

ذلك (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فإن نازل القرآن إجابة عن كل سؤال وكل سؤال صالح للإجابة ، وأما أن تحرّجوا موقف الرسول (ص) في غير حين نزول القرآن فلا ، فإنه لا يجيب إلّا بالوحي ، وحين جاء الوحي كتابا أو سنة بأمر فلا سؤال بعدئذ ، حيث يعني أن بيان الله غير شاف أم إنه نقص عما يجب للمكلفين ، وأما السؤال عن حكم لمّا ينزل في الكتاب أو السنة أم هو مجهول لدى السائل مهما نزل فلا محظور فيه ، فإنما السؤال عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم أحكاما أو موضوعات ، هذا هو المحظور وما سواه محبور.

فقد تعني الآية ما عنته «أسكتوا عما سكت الله عنه» فإن الله لم يسكت عما سكت عنه جهلا أو بخلا ، وهذا يختص بما بيّن بوجه طليق أو عام دون تقيّد ، أم أمر لم يبيّن مع ما بيّن من أضرابه.

ومرجع الضمير في «عنها» هو (أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)؟ وأي فرق في السؤال المسيء حين ينزل القرآن وحين لا ينزل؟!.

__________________

ـ بين أظهرنا وقد تعلمناه وعلمناه نساءنا وذرارينا وخدامنا فرفع رسول الله (ص) رأسه قد علا وجهه حمرة من الغضب فقال : أو ليست اليهود والنصارى بين أظهرها المصاحف وقد أصبحوا ما يتعلقون منها بحرف مما جاء به أنبياءهم ألا وإن ذهاب العلم أن تذهب حملته.

وفي نور الثقلين ١ : ٦٨٣ في أصول الكافي عن أبي الجارود قال : قال ابو جعفر عليهما السلام إذا حدثكم بشيء فاسألوني من كتاب الله قال في بعض حديثه ان رسول الله (ص) نهى عن القيل القال وفساد المال وكثرة السؤال فقيل له يا بن رسول الله (ص) اين هذا من كتاب الله؟ قال : ان الله عزّ وجل يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

٢٥١

من الفارق أن الإجابة حين ينزل القرآن هي حسب الحكمة الربانية دون الخارجة عنها ، فقد يأتي الجواب عن سؤال الأهلّة (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) حيث الجواب يختص بما يحتاجون في دينهم ، دون ما لا يعنى فيه من مختلف الأهلة من الواجهة الكونية ، وأما حين لا ينزل القرآن فسؤال الرسول محرج وسؤال غيره مخرج عن صالح الإجابة لمكان عدم العصمة أم نفاد الحكمة الصالحة.

فلأن القرآن هو إجابة عن كل سؤل وسؤال صالح للإجابة فلا يبدي ما يسوءكم من الجواب ، ولكن سائر الإجابة كسائر السؤال لا يختص بما هو صالح في حقل التكليف ، ك «من أبي» و «كم أعيش» وما أشبه مما لا يعنى ، كالسؤال حول حكم عام أو مطلق يعنى منه تقيّد أو تخصص كما كان في قصة البقرة لبني إسرائيل ، فإن المطلق والعام وما أشبه في مقام البيان نصا أو ظاهرا ليس قاصرا عما يرام ، إذا فسؤال القيد تجاهل عن صالح البيان ، كأن الله لم يرد ما يصلح أو لم يبين ما أراد ، كما حصل من الخليفة عمر في قصة الخمر!.

إذا فكل سؤال عن أي مسئول فيما لا يعنى من صالح الدين أو الدنيا محظور ، وكل سؤال فيما يعنى من صالح الدارين محبور ، ونازل القرآن يعم صالح النشأتين ، فلذلك (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ).

وهنا (عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) هو عفو عن السؤال المحظور والإجابة المحظورة المسيئة في وحي القرآن بالنسبة لهذه الأمة المرحومة ، وعفو عن مادة السؤال التي هي في إجمال ، مثلث من العفو شمله : (عَفَا اللهُ عَنْها) وهي في الأخير مواصفة ثانية ل «أشياء» أولاها (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

ولو تقدمت (عَفَا اللهُ عَنْها) على (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) لم تشمل الأولين ،

٢٥٢

إذا فتأخيرها تأخير قاصد إلى هذه العنايات الثلاث.

فقد عفى الله عن أشياء لم يبينها فلا تسألوا عنها ، وعفى الله عن ذلك السؤال المحظور فلا تكرروه ، وعفى الله عن إبداءها بعد السؤال فلا تحفوا.

ذلك ، ومن ثم تذكير بسابق هكذا سؤال بجوابه العضال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) كالسائلين حول البقرة في قصتها الإسرائيلية فقد كفروا بكرور سؤالهم في مثل (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ ..) والسائلين (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) أو (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧ : ٧٠) وكسؤال قوم موسى (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) و (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ... فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وما أشبه من السؤالات الكادحة القادحة غير المعنية لعاقل فضلا عن مؤمن ، فإنما سؤال المؤمن هو عن سؤل الإيمان ، مزيدا للمعرفة دون استجهال أو استعجال.

ذلك! فلقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، أو شريعة فحسب ، بل ليربّي أمة صالحة في كافة الحقول ، إنشاء لهم على منهج عقلي وخلقي ، فهنا يعلّمهم أدب السؤال ، فطالما هناك في وحي الكتاب والسنة أمور مجملة أو مجهلة فهي قاصدة بالوحي نفس الإجمال والإجهال ، وقد يروى عن النبي (ص) قوله بهذا الصدد : «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبياءهم».

فإنما المعرفة في الإسلام تطلّب لمواجهة حاجة واقعة أو مدققة وفي حدود الواقع المرام ، دون التكهنات غير المعنية في سؤل الحياة الإنسانية المسلمة.

٢٥٣

أجل ، إن الإسلام منهج واقعي جاد يعيّش الإنسان بكل متطلبات الحياة الحقة الواقعية ، بعيدة عن طائلة الفروض فقهية أو فلسفية أماهيه مما لا تعني الحياة الإسلامية الواقعية وكما لا تعنيها ، من دراسات مجردة بفقه الفروع أم فلسفة العقول ، لا مجال لها إلّا في المدارس تلهية للطالب وتضخيما لحجم العلوم ، وهناك علوم لا تدرس أم تهمل هي التي تتبنى الحياة الاسلامية وهي العلوم القرآنية اليتيمة بين أهل القرآن!.

فلم يأت هذا الدين المتين ليكون مجرد شارة أو شعار ، أو ليكون موضوع دراسة مجردة لا علاقة لها بالحياة ، ولا ليعيش مع الفروض التي لم تفرض إذ لم تقع ، أو يضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية تطير عبر الأثير.

ذلك ، والآية التالية تذكر مواضيع من هكذا أسؤلة لا تعنى ، المستجرّة لمتعودات جاهلية جهلاء :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٣) :

ومن هذا القبيل جاهلية التبنّي الفارغ والتحول المارق لزوجة أمّا : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٣٣ : ٤).

وهنا هذه الأربع مواصفات لأنعام أربعة ، اختلقوا في الجاهلية حدودا بهذه المواصفات لحلها أو حرمتها ، وقد سألوا عنها فأجيبوا ب (ما جَعَلَ اللهُ ..) تعني جعلا شرعيا حيث هي مجعولة تكوينيا.

و «بحيرة» من البحر : السعة ، وهي هنا الناقة التي ولدت عشرة أبطن فكانوا ـ إذا ـ يشقون أذنها فيسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها ،

٢٥٤

فكما كانت بحرا في ولادها ، كذلك فلتكن بحرا في حريتها.

و «سائبة» هي التي تسيّب في المرعى فلا ترد عن حوض ولا علف إذا ولدت خمسة أبطن أم عشرة (١).

و «وصيلة» هي الشاة الأنثى الوصيلة بأخيها فلا يذبح من أجلها لأنهما توأمان ، أم طليق التوأم فلا تذبح من أجلهما (٢).

و «حام» من الإبل إذا أدرك له عشرة من صلبه كلها تضرب حمى ظهره فسمي حاما فلا ينتفع له بوبر ولا ينحر ولا يركب له ظهر ، فإذا مات كانوا فيه سواء ، أم هو فحل الإبل ككل (٣).

ذلك ، ومهما اختلف في تفسير هذه الأربع لم يختلف في أن أي

__________________

(١ ـ ٣) نور الثقلين ١ : ٦٨٣ في معاني الأخبار عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : ان اهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن قالوا وصلت فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها والحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلونه فانزل الله انه لم يكن يحرم شيئا من ذاك ، وقد روي ان البحيرة الناقة إذا أنجبت خمسة ابطن فان كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وان كان الخامس أنثى بحروا اذنها اي شقوه وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء ، والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل ان سلمه الله عزّ وجلّ من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك والوصيلة من الغنم كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فان كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء وان كانت أنثى تركت في الغنم وان كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح وكان لحومها حراما على النساء إلّا أن يكون يموت منها شيء فيحل أكلها للرجال والنساء والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره وقد يروى ان الحام هو من الإبل إذا نتج عشرة ابطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء في تفسير العياشي قال ابو عبد الله (ع) البحيرة إذا بحرت وولد ولدها نحرت.

٢٥٥

اختلاق لحل أو حرمة في الأنعام أم سواها ، مما لم يجعل الله ، إنه هذر هدر لا موقع له من القبول (١).

والقول إن تحرير الأنعام من الذبح أو النحر ليس إلّا كتحرير الإماء والعبيد فكيف جاز هنا دونما هناك؟ إنه غول وزور من القول ، قياسا أمام النص ، فالله يقول : (ما جَعَلَ اللهُ) وأنت تقول أنا أجعل قياسا على سائر التحرير.

ذلك ، وكل تقييد أو تحرير في أي قال أو حال أو فعال ، إنما تقبل بدليل من كتاب أو سنّة حيث الشارع ـ فقط ـ هو الله دون سواه ، مهما كان رسولا فضلا عن سواه!.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٣٧ ـ اخرج احمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر لأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله (ص) في خلقان من الثياب فقال لي : هل لك من مال؟ قلت : نعم ، قال : من أي المال؟ قلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق ، قال : فإذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال : تنتج إبلك رافعة آذانها؟ قلت : نعم وهل تنتج الإبل إلّا كذلك؟ قال : فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحر وتشق آذان طائفة منها وتقول هذه الصرم؟ قلت : نعم ، قال : فلا تفعل ان كل ما آتاك الله لك حل ثم قال : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، قال أبو الأحوص : أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا اشعارها ولا ألبانها فإذا ماتت اشتركوا فيها ، وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة ابطن وتلد السابع جديا وعناقا فيقولون قد وصلت فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض وإذا ماتت كانوا فيها سواء ، والحام من الإبل إذا أدرك له عشرة من صلبه كلها تضرب حمى ظهره فسمي الحام فلا ينتفع له بوبر ولا ينحر ولا يركب له ظهر فإذا مات كانوا فيه سواء.

٢٥٦

ومهما اختلفت الروايات في معاني هذه الأربع ، وأن تحريرها كان لنذر أو أمر سواه أم للأصنام ، فالأصل المعلوم هنا حرمة كل تحرير وسواه ما لم يأذن به الله.

هذا ، وليست الجاهلية لفترة غابرة من الزمان ، بل وقد نلمسها الآن بمختلف صورها كأبشع ما كان ، فهي حالة متكررة في كل زمان ومكان لم تتمكن فيهما شرعة الله كأصل يحلّق على كافة الحركات والسكنات من أقوال وأحوال وأعمال.

وقد نجد جاهليات بين المسلمين تشبه سائر الجاهليات مهما اختلفت الأسماء ، حيث الأسماء الخاوية ليست لتقرر الحقائق كما الحقائق لا تتبدل بتبدل الأسماء.

فحينما ينفك رباط القلب بالإله الواحد على ضوء شرعته ، ينفك عنه كثيرا أو يسيرا ، نجد فكاكا عارما عن الحقائق بنفس القدر.

أفليس المسلم الذي يحرر حيوانا للأولياء والقديسين ، أو ينذر لهم عملا ، أليس يماثل الوثني الذي يحرّر أو ينذر لوثنه؟ ولا نذر أو تحرير إلّا لله فيما أذن به الله!.

وهكذا يتيه الجاهل في منحنيات ودروب لا عداد لها مهما كان موحدا لله في مبدءه.

أجل (ما جَعَلَ اللهُ ... وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وبوحي الله (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ومهما كان قليل منهم يعقلون فيفترون عن عقلية شيطانية تزييفا لشرعة الله وهم حملة مشاعل الضلالة ، ولكن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) حيث يفترون ما يفترون تقليديا دون أية عقلية أو علم ، ومن عدم عقلهم :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٠٤) :

٢٥٧

ذلك التقليد الأحمق الأعمى في تلك الأكثرية غير العاقلة شرعة جاهلة قاحلة لهم يتبعون فيها هم وآباءهم شيطنات الأقلية المضلّلة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أولاء الشارعين ما لم يأذن به الله (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) في كتابه (وَإِلَى الرَّسُولِ) الحاكم بين الناس بما أراه الله وهو سنته النازلة بوحي ثان بعد القرآن (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لأنهم آباءنا الأقدمون ، فللقدم قداسة تؤتسى ، ولكن (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) كما هم لا يعلمون ولا يهتدون ، فذلك تقليد من جاهلين أقدمين ، وليست القدمة حجة لصدق الجهالة السابقة ، إنما هي البرهان المبين وليس إلّا لله ولرسل الله.

فحتى إذا كان آباءهم يعلمون ويهتدون فلا يصح في ميزان العقل إتباع غير الله ورسوله حيث الخطأ لزام غير المعصوم.

وهذه الآية هي من عساكر الآيات التي تفرض الرجوع إلى كتاب الله وسنة الرسول (ص) ، دون أي سناد إلى غيرهما مهما كان سنادا عليما عيلما إذ لا أعلم من الله ولا أصدق منه حديثا.

ذلك ، فالتقليد ذميم ليس إلّا من ذميم غشيم ، اللهم إلّا في ضرورة مفروضة كأن يقلد الجاهل عالما يعلم علمه وتقواه ، ولكنه ايضا محظور إذا كان هناك أعلم منه أو أتقى ، فضلا عن الله ورسوله الحامل عنه حكمه.

فلا يبرّر تقليد الجاهل جاهلا مثله أي عقل أو أدنى شعور ، ولا تقليد عالم غير تقي أو تقي غير عالم وهناك عالم تقي ، ولا تقليده على علمه وتقواه وهناك من هو أعلم منه أو أتقى ، فأنحس دركات التقليد هو تقليد الأعمى أعمى مثله وكما هو سنة جاهلية في تقليد الآباء القدامى لا لشيء إلّا لقدمتهم على جهلهم كما هم جاهلون ، ثم وهناك بين الآباء القدامى عالمون كالأنبياء وسائر الأولياء! هم ليسوا ليتبعوهم حيث يخالفون

٢٥٨

أهواءهم ، فإنما يتبعون نظرائهم من المجاهيل.

وهنا (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ضربة قاسية قاضية على هكذا تقليد حيث المقلّد ـ كما المقلّد ـ لا يعلم شيئا فيه يقتدى ، ولا يهتدي إلى علم حتى يعلم فيقتدى.

فقد يقلد الجاهل جاهلا مثله بفارق أن المقلّد يهتدي إلى علم فيقلّد فيه ، ولكن الذي سدت عنه منافذ الهدى كيف يقتدى ويحتذى فيما لا يهتدي (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)!.

وهنا الواو في «أولو» عطف على محذوف معروف هو أدنى منه محظورا ك : أإذا كان آباءهم يعلمون أنهم ضالون تقلدونهم ، أم إذا كانوا علماء يخالفون وحي الله تتبعونهم؟ (أَوَلَوْ كانَ ...) وهو أنحس تقليد أن الآباء لا يعلمون شيئا من هدى ولا ضلال بل هم كما هم أولاء جاهلون ، حلقات جاهلة تشابه بعضها البعض في الجاهلية الجهلاء.

إذا فذلك تقرير لواقع تقليدهم الأنحس الأركس ، دون أن يبرر تقليدا يضاد وحي الله مهما كان المقلّد عالما عيلما.

إذا فكافة التقاليد عمياء هباء خواء إلّا ما يحصل فيه على هدى ليست فوقها هدى ، وهي في جو وحي القرآن والسنة منحصر فيهما منحسر عما سواهما مهما كان فيه وفر من العلم والهدى فان وحي الله أهدى وأنقى سبيلا.

ولقد فصلنا القول حول الاجتهاد الصالح وصالح التقليد بمناسبات في طيات آيات كالزمر والنجم وما أشبه فلا نعيد (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

«فيا عجبا ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها

٢٥٩

في دينها ، لا يقتصون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المهمات على آرائهم ، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات» (الخطبة ٨٦ / ١٥٧).

وحين يصل أمر التقليد الأحمق والضلال الأعمق إلى ذلك العمق من الحمق فلا تفيد دلالة ولا هدى ف :.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥) :

ترى هكذا يؤمر الداعية الرسالية والرساليون المؤمنون به؟ وهي (عُذْراً أَوْ نُذْراً)؟ لا يسمح للداعية ترك الدعوة مهما كان المدعوون صلتين هكذا وصلبين! وقد سجن ذا النون إذ ذهب مغاضبا تاركا للدعوة الرسالية وهم مصرون على الضلال!.

فعلى الداعية مواصلة الدعوة (عُذْراً أَوْ نُذْراً) ولا سيما رسل الله ، فمهما كان (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ولكن ليس سواء عليك ، فإن في استمرار الدعوة الرسالية قطع لأعذار هؤلاء الذين قد يعتذرون بانقطاع الدعوة ، وفسح لمجال الهدى للذين قد تؤثر في هداهم تواتر الدعوة!.

هنا يخاطب (الَّذِينَ آمَنُوا) لا الرسول ، فإن رسالته غير رسالتهم إذ هي أعلى وأنبل ، ثم (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فرض أصلي لا حول عنه على أية حال ، ثم إذا أثرت دعوتكم فيمن سواكم فواقع لفرض آخر ، وإذا لم تؤثر

٢٦٠