الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

__________________

ـ مولى ام هاني عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية قال : برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان الى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك اهله ، قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا الى اهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره ، قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله (ص) المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم ان عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله (ص) فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم ان يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فانزل الله هذه الآية فقام عمرو بن العاصي ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.

وفيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله (ص) بالله ما كتماها ولا اطلعا ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيه نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ..) وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران الى مكة في الجاهلية ويطيلان الاقامة بها فلما هاجر النبي (ص) حولا متجرهما الى المدينة فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا الى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجزاه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا فقالوا لهما هذا كتابه بيده قالوا ما كتمنا له شيئا فترافعوا الى النبي (ص) فنزلت هذه الآية فأمر رسول الله (ص) ان يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلّا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموّه بذهب فقال أهله هذا من متاعه ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن ـ

٢٨١

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ

__________________

ـ نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا فترافعوا إلى النبي (ص) فنزلت الآية : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النبي (ص) رجلين من اهل بيت الميت ان يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه ، ثم ان تميم الداري أسلم وبايع النبي (ص) وكان يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ...

أقول : لأن شؤون النزول المنقول ليست قطعية ، وانها على قطعيتها لا تحدد الآية بنفسها فضلا عن ان تنسخها ، فلا نصدق مما نقلناه إلّا الموافق لما استفدناه من هذه الآيات حول الوصية.

٢٨٢

مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي

٢٨٣

نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠)

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(١٠٩) :

هنا يسأل المرسلون (ما ذا أُجِبْتُمْ) وفي أخرى يسأل المرسل إليهم ماذا أجبتم المرسلين : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ. فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٢٨ : ٦٧) وفي ثالثة يجمع بينهما في

٢٨٤

السؤال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧ : ٧).

فسؤال المرسل إليهم سؤال استفهام استفحام عمن خالف الرسل ، واستعظام لمن اتبعهم ، وسؤال المرسلين هو سؤال إعلام وتعظيم ، فهنا (لا عِلْمَ لَنا) لهم جواب ، ولأنهم لم يقصروا في رسالاتهم فليس لهم تباب وعتاب.

وهنا في استجواب الرسل نجد الجواب (لا عِلْمَ لَنا) وهم عارفون الجواب حيث واجهوا مصدقين ومكذبين؟ ثم الله أشهدهم على ما هم غائبون ليشهدوا يوم يقوم الأشهاد ، فقد يعنون تخضعا أمام الله حيث لا يسألهم استعلاما ف (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أم ويعنون (لا عِلْمَ لَنا) كما يحق حيطة على كل ما أجبنا ، فقد أجبنا أمام من واجهناهم كما (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧) فالمنفي من العلم هو علم الغيوب (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

ولأن العلم بالإجابة كأصل ، الغائبة عنهم أحياء وأمواتا ، ذلك مسلوب عنهم مهما علموا أقوالهم واعمالهم بما عرفهم الله كما تدل آيات شهادة الرسل على الأعمال ، ف (لا عِلْمَ لَنا) صادقة أولا وأخيرا ، فأولا وقبل أن يعرّفهم الله لا علم لهم إلّا ما واجهوه ، وأخيرا بعد ما عرفهم الله لا علم لهم محيطا كما يعلم الله ، ثم وقضية الأدب الرسالي ، هي الاعتراف بالجهل أمام الرب تبارك وتعالى.

ومن جهة ثالثة بما أن العلم بغيب النيات والطويات خاص بالله ف (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وليس العلم بالمظاهر ـ مهما حلق على كلها بإذن الله ـ ليس علما أمام العلم بالغيوب ، إذا (لا عِلْمَ لَنا) كما يكفي (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

٢٨٥

فشهداء الأعمال لا يشهدون إلّا بمظاهرها الحاضرة لديهم أو المحضرة بإذن الله عندهم ، وأما النيات وسائر الطويات فهي المختصة بعلام الغيوب ، وقد يكون ذلك التعليم يوم القيامة بعد ذلك التساءل ، حيث العلم الطليق يوم الدنيا لهؤلاء الشهداء هو مما يصد عنهم كل ضرّ وشرّ كما يجلب كل خير ، وذلك العلم مسلوب عن الرسول (ص) فضلا عمن سواه كما قال الله عنه : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧ : ١٨٨) فمن الغيب المستكثر للخير والصاد عن مسّ السوء هو العلم بأعمال المكلفين ككل ، وبنياتهم وطويّاتهم ما تشمله الشهادة يوم يقوم الأشهاد.

إذا فالجامع بين واقع الشهادة من الأشهاد يوم يقوم الأشهاد ، وعدم علمهم بمادة الشهادة ، هو ان ذلك العلم يختص بما بعد الموت وبعد ذلك التساءل ، ومما يشهد له قول المسيح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ..) (٥ : ١١٧).

ثم وهنا في (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لمحة إلى أن علمنا بغيب الأعمال الظاهرة حين نغيب عنها هنا أم بعد الموت ، هو علم قليل بغيب مّا كما علمتنا ، ولكن العلم الحق وحق العلم بكل الغيوب ، إنه يختص بك.

إذا ف (لا عِلْمَ لَنا) يعني علما وافيا بما أجبنا ، فالإجابات بالنيات والطويات وهي محاور الإجابات غائبة عنا لا علم لنا بها ، ثم إجابات الأقوال والأعمال وهي مظاهر الإجابات ، إنها ليست بالتي تحلّق على كل المسؤول عنهم هنا (ما ذا أُجِبْتُمْ)؟.

ذلك ، ومن جهة رابعة قد يكون موقف المسائلة أذهلهم عما كانوا يشهدون حياتهم وما أشهدهم الله حياتهم ومماتهم ، وفي الحق إنه موقف مذهل مزلزل كل الخليقة مهما كانوا من الرسل.

٢٨٦

فحين ينسى الإنسان ذاته أمام ربه فقد ينسى متعلقاته بأحرى ، وما علم الرسل بما أجيبوا وسواه علما لهم ذاتيا ، ولو كان لكان منسيا كما الذوات ، وقد تجمع هذه الثلاث : «لا علم لنا سواك» (١) فلولاك لما كان لنا علم ، ثم ولا علم لنا أمامك ، فنحن صغار صغار أمامك يا ربّ فيما أنت أعلم به منا ، وأما حين تستشهدنا بما أشهدتنا من أعمال عبادك فنقيم شهادتك بإذنك (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ..) (١٦ : ٨٩) ، أجل فعند ذلك «طاشت الأحلام وذهلت العقول فإذا رجعت القلوب إلى أماكنها (نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) (٢٨ : ٧٥)(٢).

__________________

(١)نور الثقلين ١ : ٦٨٨ في معاني الأخبار بسند متصل عن موسى بن جعفر قال : قال الصادق عليهما السلام في هذه الآية : «يقولون لا علم لنا سواك».

(٢) في الدر المنثور ٢ : ٢٤٢ ـ اخرج الخطيب في تاريخه عن عطاء بن أبي رباح قال جاء نافع بن الأزرق الى ابن عباس فقال : والذي نفسي بيده لتفسرن لي آيا من كتاب الله عزّ وجلّ أو لأكفرن به فقال ابن عباس ويحك أنا لها اليوم أيّ اي؟ قال : اخبرني عن قوله عزّ وجل : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا ، وقال في آية اخرى : ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله ، فكيف علموا وقد قالوا : لا علم لنا ـ الى قوله ـ : فقال ابن عباس ثكلتك أمك يا ابن الأزرق ان للقيامة أحوالا وأهوالا وفظائع وزلازل فإذا تشققت السماوات وتناثرت النجوم وذهب ضوء الشمس والقمر وذهلت الأمهات عن الأولاد وقذفت الحوامل ما في البطون وسبحرت البحار ودكدكت الجبال ولم يلتفت والد إلى ولد ولا ولد الى والد جيء بالجنة تلوح فيها قباب الدر والياقوت حتى تنصب على يمين العرش ثم جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام من حديد ممسك بكل زمام سبعون الف ملك لها عينان زرقاوان تجر الشفة السفلى أربعين عاما تخطر كما يخطر الفحل ولو تركت لأتت على كل مؤمن وكافر ثم يؤتى بها حتى تنصب عن يسار العرش فتستأذن ربها في السجود فيأذن لها فتحمده بمحامد لم يسمع الخلائق بمثلها تقول لك الحمد يا إلهي إذ جعلتني انتقم من أعدائك ـ

٢٨٧

فيا للهول من ذلك الاستجواب الرهيب العجيب الذي يذهل الرسل ما كانوا يعلمون بما علّموا ، فإنه يوم الحشر العظيم والحشر العميم من الملإ الأعلى والأدنى والمتوسطين من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، الاستجواب الذي يراد به المواجهة ، مواجهة المرسل إليهم أجمعين برسلهم أجمعين ، مواجهة المصدقين منهم والمكذبين ليعلن في موقف الإعلان أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوا من عند الله العزيز الحكيم ، وها هم أولاء مسئولون بين يدي رب العالمين في ذلك اليوم العظيم.

فالرسل ـ إذا ـ يعلنون أن العلم الحق وحق العلم هو لله وحده لا شريك له ، وان ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلّوا به بحضرة صاحب العلم المحيط ، بل وهم عما عندهم ذاهلون ، تحويلا للشهادة بأسرها إلى رب العالمين ، وحين يأتي موقفها فهو الآمر لإقامة الشهادة (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) حين (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وهكذا يكون أدب المتعلم أمام المعلم أن يكل العلم إليه مهما علم ما علّمه.

فكما أنه هو الذي يفتح مغاليق الشهادة الأرضية بأجواءها ، وشهادة الأبدان بأعضائها ، كذلك هو الذي يفتح مغاليق ألسنة سائر الشاهدين من المرسلين والكرام الكاتبين فيغرق المكلفون في خضمّ الشهادات أمام رب العالمين.

ذلك ، ولأن المسيح بن مريم عليهما السلام هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بمختلف الشبهات ومختلقها فخاض أناس في

__________________

ـ الى قوله ـ ويعلو سواد العيون بياضها ينادي كل آدمي يومئذ يا رب نفسي نفسي لا أسألك غيرها حتى ان ابراهيم ليتعلق بساق العرش ينادي يا رب نفسي نفسي لا أسألك غيرها ونبيكم (ص) يقول : يا رب امتي امتي لا همة له غيركم فعند ذلك يدعى بالأنبياء والرسل فيقال لهم : ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا طاشت ...

٢٨٨

أوهام وأساطير حول كونه وكيانه ، لذلك هنا يختصه الخطاب كنموذج من ذلك الاستجواب على ملأ الحشر ممن ألّهوه وعبدوه من دون الله ، ومن ألهوه وألغوه من درجات الصالحين ، ومن هم عوان حيث آمنوا به رسولا ، وأمام سائر المرسلين والمكلفين.

وحصالة البحث حول الآية أن ضرورة تلقي شهود الأعمال أعمال المكلفين ليست إلّا قبل إلقاءها ، دون ما قبله برزخا فضلا عما قبله في حياة التكليف.

إذا ف (لا عِلْمَ لَنا) بغيب الأعمال التي ما شهدناها (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قد تعني ـ فيما عنت ـ أننا لا نعلم غيب أعمال المرسل إليهم ، التي ما شهدناها ، إلّا أن تعلمنا إياها ولمّا ، ثم الله أعلمهم فاستشهدهم حيث (نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) (٢٨ : ٧٥).

ولو أن شهداء الأعمال كانوا يعلمونها ككل يوم الدنيا لاستكثروا من الخير وما مسهم السوء كما يقول الله تعالى عن الرسول (ص) : (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧ : ١٨٨).

وكيف يعلم كل الأعمال وهو لا يعرف المنافقين إلّا فيما قد يعرّفهم الله إياه : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٩ : ١٠١).

فكما قد تبرّر (لا عِلْمَ لَنا) بهول الموقف المذهل ، وأدب الحضور ، كذلك يبرر أنهم لمّا يعلموا غيب الأعمال ثم أعلمهم الله ليشهدوا.

ولماذا ذلك السؤال العضال؟ لكي نعلم أنهم على محتدتهم الرسالي ليسوا على شيء أمام الله ، وأن هول الموقف يذهلهم كما يذهل الآخرين : ف (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا

٢٨٩

أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ١).

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(١١٠) :

هنا (إِذْ قالَ اللهُ) بصيغة المضي دليل أن ذلك السؤال كان في حياته أو بعد رفعه وإن كان قد تشمل بعد موته ويوم القيامة مضيا للمستقبل قضية تحقق الوقوع كأنه مضى وقد مضى ، فقد يصدق المروي عن النبي (ص): «إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها ..» (١) ثم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ..) في استجواب آخر تؤكد أن هذه الاستجوابات كلها بعد رفعه ، ثم بعد موته ، ومن ثم يوم القيامة ، مواقف ثلاثة قد تعنيها كلها (إِذْ قالَ اللهُ) بمرّيتها ف «إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان» (٢) وهنا وفي آيات بعدها يعدّ الله تعالى على المسيح ابن مريم عليهما السلام خمسا أصيلة من نعمه ، عليها أم عليه ، تذكيرا بعظيم مننه تعالى عليه في هذه الإذاعة القرآنية وليذكر أولوا الألباب فلا يقولوا : إنه الله أو ابن الله.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٤٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله (ص) : ... يقول يا عيسى ابن مريم : اذكر نعمتي .. ثم يقول : أأنت قلت للناس .. فينكر ان يكون قال ذلك فيؤتي بالنصارى فيسألون فيقولون نعم هو أمرنا بذلك ... فيجاثيهم بين يدي الله الف عام حتى يوقع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم الى النار.

(٢) نور الثقلين ١ : ٦٩٢ في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليهما السلام ...

٢٩٠

١ ـ (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) فقد كانت نعمة تكلّمه في المهد تبرءة لهما فهي نعمة عليهما ، ثم نعمة تكلمه كهلا برسالة الوحي تحقيقا حقيقا بالله لهما إذ أكد براءته وأمه مما قيل عليهما ، وأكد بركتهما في هذه الرسالة السامية ، فتكلم المسيح (ع) في المهد عني واقعا هو براءتهما ، ومستقبلا هو رسالته ، فلم يكن وقتئذ نبيا ، ومما يبرهنه «وكهلا» بعد «مهدا» حيث الفاصل بينهما خلو عن ذلك التكلم الرسولي ، فتكلمه في المهد كان رساليا في بعدية وهو «كهلا» كان رسوليا بكل الأبعاد ، ثم لا بعد رساليا ولا رسوليا لتكلمه بين «مهدا وكهلا» ، ومما تشهد له النعمة التالية :

٢ ـ (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إذا فما كان معلّما رسوليا هذه الأربع وهو في المهد ، فإنما علمها «كهلا» رسولا برسالة الوحي.

وهنا (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قبل (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) علّة من ذكر العام قبل الخاص ، حيث التوراة والإنجيل هما كتابان حكيمان ، فقد علم قبلهما أو معهما كل كتاب وحكمة بالوحي ، تحليقا لوحيه الرسالي على كل كتابات الوحي من ذي قبل وكل الحكم المطوية فيها.

ولأن تعليم هذه الأربع ـ وهو رسالته جمعاء ـ لا يكفي دليلا عليها عند الناس فإلى نعمة ثالثة هي آيته الرسولية بعد الرسالية المعطاة إياه :

٣ ـ (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ... وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) وهذه ذكرى شاملة لعديد آياته ومديدها ، تبيينا أنها كلها بإذن الله ، فلم يكن منه إلّا صنعة ونفخة ولكن الخلق إنما هو «بإذني» إذنا غير مخول إلى المسيح (ع) حتى يكون هو الخالق وكيلا أو بديلا ، فلم يأذن الله له في الخلق والإحياء أمّا أشبه من آية ، فإنما فعله في حقل الآيات ـ فقط ـ تخلق ، دون تخليق ، وتحيى دون إحياء ، وتبرئ دون إبراء ، فالجانب

٢٩١

الواقعي من هذه الآيات هو «بإذني» والجانب الصوري هو من فعلك ، فلا إذن تكوينا في هذه الأمور الربانية ، فإنما هو إذن رباني فيها بموازاة ما فعله المسيح (ع).

ذلك ، ف «تخلق» ك «تخرج وتبرئ» لا تعني أن حقيقة هذه الأعمال هي له ، فإن «بإذني» تحولها عن ظاهر فعله إلى واقع فعل الله.

ولا يعني الإذن تخويلا أو تحويلا أم توكيلا له في هذه الآيات الرسولية ، وإنما يعني قرنا لإذنه تكوينا مع هذه المحاولات المأذونة تكليفا ، ف (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣)؟ (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦ : ١٠٢).

ذلك ، وتكرار «بإذني» مرات أربع في هذه الآيات الرسولية الأربع ، دون أن تذكر مرة واحدة بعدها أجمع ، إنه تكرار قاصد إلى تزييف القول : أنه أعطي الإذن علما وقدرة ثم حققه تدريجيا عند كل آية.

كلّا! فكما أنه لم يكن خالقا بنفسه ، كذلك لم يكن خالقا بالإذن المخول تكوينا إليه ، فإنما كان الله هو الذي يأذن في تحقيق كل آية آية ، لا أنه يأذن له في تحقيق أية آية ، ولأن الآية الربانية ليست إلّا بعلم طليق وقدرة طليقة هما من اختصاصات الربوبية ، فلا تنتقل إلى أيّ من المربوبين كما لا تنتقل ذاته إلى ذواتهم ولا صفاته إلى صفاتهم فإنه «باين عن خلقه وخلقه باين عنه»!.

وفي نظرة عميقة هنا يقتسم كيان الخلق للطير اقتساما بينا بين المسيح المأذون وبين الله الخالق ، فللمسيح (تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) فلم يكن مخلوقة بالأذن الأول هو خلق الطير حتى في جسمها ، وانما (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) وهي شاكلتها الطينية ، فقد يشاركه كل خالق من الطين وسواه كهيئة الطير دون أية ميزة هنا اللهم إلّا «بإذني» حيث أذن له الله في

٢٩٢

ذلك الخلق تقدمة لما يأذن الله في خلق الطير ، فالإذن الأول تكليفي بسماح ذلك الخلق أمرا من عنده تعالى لما يرومه من خلق الطير.

وعملية ثانية هي كالأولى في عدم كونها من الخلق (فَتَنْفُخُ فِيها) كمرحلة ثانية منه تحضيرا للتكوين الرباني (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) والإذن هنا ذو بعدين ، فالأول كالأول في تشريعية الإذن ، فلو لم يأذن الله له أولا وثانيا لم يكن له ما فعله لغاية التكوين الرباني ، وأما الثاني فهو تكوين الطير جسميا وروحيا ومما صنعه بإذن الله كهيئة الطير ونفخ فيه ، فالنص هنا (فَتَكُونُ طَيْراً) لا (فَتَكُونُ طَيْراً) فذلك الإذن التكويني موجّه إلى مصنوع المسيح المنفوخ فيه وليس إلى المسيح الصانع النافخ.

وليس (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) إلّا ك (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) حيث المتعلّق للإذن هو متعلق التكوين دون وسيط ، بفارق أن سائر تكوينه تعالى هو خالص التكوين ، وهذا تكوين كحجة على رسالة المسيح حيث كوّن طيرا بإذنه قرنا ل (تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي).

وصيغة الخلق هنا بالنسبة للمسيح ـ ولا خالق إلّا الله ـ إنما تعني أنه صنع بإذن الله ما هو مادة لخلق الله دون سائر الصانعين لتماثيل حيث لا يخلقها الله حيوانا أو إنسانا ، إذا فبين صنع الإنسان وخلق الله تعالى عموم من وجه ومادة الاجتماع هي الآيات الرسولية التي فيها محاولات للرسول قرن فعل الله ، ثم الإفتراق هو في خلق الله دون آية ، وصنع غير الله دون قرن لخلق الآية الربانية.

ذلك ، والإذن التكويني لا يتعلق بطبيعة الحال إلّا بمادة الخلق (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) دون وسيطه المسيح وإلّا لكان (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي).

ولو عني من الإذن نيابة المسيح ووكالته عن الله في ذلك الخلق لم

٢٩٣

يعبر عنها بالإذن مهما كان «فتكوّن» بديلة عن «فتكون» بل هو عبارة أخرى ك «فتخلق طيرا بقوتي التي أعطيتك» وما أشبه.

ولو كان المسيح هنا هو الخالق المخوّل والموكل بذلك الخلق لما صح طائل التعبير هكذا ، فإنما العبارة الصالحة الناصحة عنه «وإذ تخلق من الطين طيرا بقوتي».

وهكذا تعني «وتبرئ الأكمه والأبرص باذني» فإشارة الإبراء وإرادته الظاهرة منه ، واذن التكوين منه تعالى ، وكذلك (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) إخراجا عن أجداثهم بإذن السماح التكليف ، وإخراجا عن الموت إلى الحياة بالإذن التكوين ، فالأذن الأول موجه إلى المسيح نفسه والثاني موجه إلى الموتى المخرجين.

ذلك ، وعبارة أخرى عن فعلة المسيح واذن الله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) (٣ : ٤٩).

فإن بإذن الله في خلق الطير ذو قواعد ثلاث : ـ أخلق ـ فأنفخ .. فيكون طيرا ، وكله (بِإِذْنِ اللهِ) مهما اختلف الإذن في «فيكون» عنه في الأولين تكوينا وتشريعا.

وفي تذكير الضمير هناك : (فِيهِ ـ فَيَكُونُ) وتأنيثه هنا (فِيها ـ فَتَكُونُ) لمحة باهرة أن المنفوخ فيه لم يكن إلّا (الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) فقد ذكّر الضمير اعتبارا بالطين وأنث اعتبارا بهيئة الطير ، فلا عاذرة للمتشبثين بمثل هذه الآية في تخيل الولاية التكوينية لغير الله أيا كانوا.

ولأن تكملة الرسالة وتحقيقها كما يريد الله ليست إلّا بالكف عمن ينقصها أو ينقضها فإلى نعمة رابعة :

٤ ـ (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا

٢٩٤

مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فقد كفهم عن تغلّب حجاجهم عليه ، وأخيرا لما أرادوا صلبه كفهم عن صلبه ف (ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

ثم «الأكمه» هو من ولد أعمى ، كما الأعمى من ولد بصيرا ثم عمي ، و «الأبرص» من به برص خلقيا ، ولا يقدر على تغيير الأصل إلّا من خلق الأصل.

ومن ثم (إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) فالإخراج له نسبة إليك دعاء وإشارة ، ثم النسبة الأصيلة إلى الله حيث تخرج الموتى بإذني دون إذنك وحولك وقوتك ، والإخراج بديل الإحياء ، حيث يدل على إخراجهم من قبورهم ، للتدليل على ثابت الموت دون ظاهره ، فإن غير المقبور ، الساكن الحس ، قد لا يكون ميّتا في الواقع.

وهنا الإذن التكويني متعلق ب (فَتَكُونُ طَيْراً) حيث تتكون طيرا بإذن الله ، فلم يقل (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) حتى يكون الإذن موجها إليه في ذلك التكوين ، إذا فالأذن هنا ك «كن» في سائر التكوين (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فإنما المحور في هذه الأربع وغيرها من آيات الله البينات رسولية ورسالية ، هو إذن الله تكوينا لها قرينا بظاهر المحاولة في إبرازها ، فلا فارق بين محاولات الرسل في إظهار الآيات وبين سائر المحاولات إلّا أن الله يأذن تكوينا عند محاولات الرسل تدليلا على اختصاصهم بالله وصدقهم في رسالة الوحي ، ولا يأذن عند ما سواها من محاولات فإنه تضليل ، فقد يأذن في محاولات لإبراز آيات ، ثم يأذن عندها بتحقيقها ، والرسل إنما هم في ذلك الحقل بين إذنين اثنين : تكليفا في الأوّل وتحقيقا منه في الثاني ، ف «تخلق» تسوية للطين على شاكلة الطير ، ثم تحولا له إلى الطير ، كلاهما «بإذني» ثم (فَتَنْفُخُ فِيها ـ فَتَكُونُ طَيْراً) كلاهما «بإذني»

٢٩٥

و (تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) محاولة الإبراء وتحققه كلاهما «بإذني» (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) محاولة وتحققا كلاهما «بإذني».

فكما لم يكن واقع هذه الخوارق إلّا بإذن تكويني من الله ، كذلك لم تكن المحاولات المناسبة لها إلّا بإذن تكليفي من الله ، فليس الله ليأذن في حقل الآيات تحقيقا إلّا بعد ما يأذن لمحاولة الرسل كما يحق.

فلو صنع المسيح ألف صنعة ، أم نفخ ألف نفخة في آلافات من السنين ، لم يكن الله ليأذن في تحقق هذه المحاولات ما لم يأذن بها من ذي قبل ف (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) و (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) فالقدرة والعلم الناتجة عنها الآيات يختصان بالله دون سواه.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ)(١١١) :

الحواريون هم المؤمنون الأولون بالسيد المسيح (ع) وترى «أوحيت» تعني وحي الرسالة؟ ولا يساعده (أَنْ آمِنُوا بِي) حيث الإيمان بالله يسبق وحي الرسالة بأشدّه وأشدّه ، لأن الرسل مصطفون بين الأصفياء! بل ويضاده (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) وما أشبه في الآية التالية حيث تدل على بسيط الإيمان لأضعفه دون وسيطه فضلا عن أشدّه بأشدّه.

إذا فقد «ألهموا» (١) دون رسالة مهما كانت جزئية هامشية ، وذلك هو الإيمان الأوّل ، ومن ثم الأخير ، وهو بطبيعة الحال أكمل وأفضل : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٥٣).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٨٠ في تفسير العياشي عن محمد بن يوسف الصنعاني عن أبيه قال سألت أبا جعفر عليهما السلام : (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ)؟ قال : ألهموا.

٢٩٦

ذلك ، وإلهام الإيمان في أصله أدنى من الإلهام إلى المؤمن كما (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ..) (٢٨ : ٧) إذ كان أفضل وأعلى من وحي الإلهام إلى الحواريين. ولقد كان ذلك الإيحاء إليهم :

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١١٢) :

فلقد أوحى الله إليهم أن آمنوا عند هذه القالة الغائلة فقالوا (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) وعلّه بعد سابق الآيات الرسولية للمسيح (ع).

وترى الموحى إليه بالرسالة يقول لمحور الرسالة (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) شكا في استطاعة الله ، وهتكا في التعبير عن الله ب «ربّك» دون «الرب ـ أو ـ ربنا ـ أو ـ رب العالمين» فكان جوابهم (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حيث هددوا توبيخا بعدم الإيمان الصالح لحدّ اللّاإيمان.

وتوجيه الآية بما يعارض نصها قبيح ، مثل «هل تستطيع ربك» (١) زعما أنها تعني هل تستطيع أن تطلب من ربك أو «هل يطيعك ربك» (٢) سنادا لهما إلى معصوم ، ذلك تزييف للثقل الأكبر فرية عليه بالثقل الأصغر ، ولا سيما في الآخر فإنه يجعل الله في طوع عبده!.

وكل ذلك للحفاظ على زعم رسالتهم ، فقد أولوا الاستطاعة بمعنى الإطاعة ، والإطاعة بمعنى الطوع ، والطوع بمعنى الرضا ، سلسلة من

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٦ ـ اخرج الحاكم وصححه الطبراني وابن مردويه عن عبد الرحمن بن غنم قال سألت معاذ بن جبل عن قول الحواريين : هل يستطيع ربك أو تستطيع ربّك؟ فقال : اقرأني رسول الله (ص) هل تستطيع ربّك.

(٢) المصدر اخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي ان عليا (ع) كان يقرءها : هل يستطيع ربك ، قال : هل يطيعك ربك ، ومثله عن السدي.

٢٩٧

التأويلات العليلة في «هل يستطيع» حتى يستطيعوا الحفاظ على عصمة متخيلة للحواريين.

وهذه من التأويلات الهارفة الخارفة من هؤلاء الله الذين لا يرجون لكلام الله وقارا ، ويكأن الدلالات القرآنية لا تمشّى إلّا كما يهوون ويمشّون!.

وترى ما هو الفارق بين هذه القيلة الغيلة وبين قالة اليهود : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ ...) بل ان قالتهم أولاء أقل إساءة من قالة هؤلاء!.

ذلك ، وفي اقتراح آية سماوية وبهذه الصيغة المهينة بعد ما رأوا آيات المسيح (ع) الرسولية حيث (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ..) (٣ : ٤٩) تدل على ان بزوغ دعوته كان بآيات إضافة إلى آية ولاده من ذي قبل.

إن في ذلك الاقتراح إساءة أدب من هؤلاء ، فأوحى إليهم أن آمنوا بي وبرسولي حيث كانت قالتهم قالة اللاإيمان.

فقد استحقوا من الله تنديدات شديدة تحملها الآيات التالية ومنها هنا (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : تقوى عن طغواهم على الله ، وعن قيلة الشطحات وتطلّبة مثل تلكم الآيات من الله ، مسحوبة بالتشكك في استطاعة الله!.

فالمسيح (ع) الذي هو بنفسه آية وقد أتى بآيات فهم غرقى آيه البينات ، كيف يسوغ لهم أن يتطلبوا إليه (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ..)؟ فلذلك يوحي إليهم هنا (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي).

فعجبا من أناس يحاولون تأويل الآية خلاف نصها حفاظا على عصمة متخيلة للحواريين في بداية أمرهم ، تقديما لها على عصمة القرآن العظيم وكما أوّلوا عصيان آدم إلى ترك الأولى وما أشبه من تأويلات عليلات هي

٢٩٨

مس من كرامة العصمة القرآنية.

ولا يذكر الإنجيل قصة تطلّب المائدة إلّا بصورة أخرى هي أنكى وأضل سبيلا ، أنهم تطلبوا منه أن يحول لهم الماء خمرا فآمنوا به لما تحول (١)!

وبصورة أخرى هي أخف وطأة وأقل مسا من كرامة الإيمان (٢) والصورة الواقعية هي المذكورة هنا بما يليها ، محافظة على كرامة الله

__________________

(١) في إنجيل يوحنا ٣ : ١ ـ ١١ ـ ١ ـ «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت ام يسوع هناك ٢ ـ ودعي ايضا يسوع وتلاميذه الى العرس ٣ ـ ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر ٤ ـ قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد ٥ ـ قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه ٦ ـ وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة ٧ ـ قال لهم يسوع املأوا والأجران ماء فملأوها إلى فوق ٨ ـ ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا الى رئيس المتكإ فقدموا ٩ ـ فلما ذاق رئيس المتكإ الماء المتحول خمرا ولم يكن يعلم من اين هي ولكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء وعلموا دعاء رئيس المتكإ العريس ١٠ ـ وقال له كل انسان انما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سكروا فحينئذ الدون اما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة الى الآن» هذه بداءة الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل واظهر مجده فآمن به تلاميذه!

(٢) ففي إنجيل متى في منتهى الأصحاح الخامس عشر : واما يسوع فدعا تلاميذه وقال : اني اشفق على الجميع لأن لهم الآن ثلاثة ايام يمشون معي وليس لهم ما يأكلون. ولست أريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق. فقال تلاميذه من اين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده؟ فقال لهم يسوع كم عندكم من الخبز؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك. فأمر الجموع ان يتكئوا على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وشكر وكسر واعطى تلاميذه والتلاميذ اعطوا الجمع فأكل الجمع وشبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة والآكلون كانوا اربعة آلاف ما عدا النساء والأولاد.

أقول : وورد مثلها في سائر الأناجيل.

٢٩٩

ومسيحه ، وبيانا لقلة إيمان الحواريين رغم توفر الآيات الرسولية للسيد المسيح (ع).

ذلك! وإلى عاذرتهم الغادرة المائرة المايدة في تطلب المائدة حيث تضيف إلى قالتهم غالة أخرى.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ)(١١٣) :

فهنا لا (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ولا (تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ولا (نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ولا (نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لا تبرر شيء منها ذلك السؤال الهاتك الفاتك ، حيث الأكل غير مخصوص بمائدة السماء ، والحاجة المدقعة إلى أكل ، أم التبرك بمائدة السماء ، تقضى بعبارة أدبية ك «هل تطلب من الله أن ينزل عليها مائدة ..».

وهلّا تأخر (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) على الثلاثة الأخرى ، تقدما للحاجة الباطنية على البطنية الروحية؟.

فهذا مما يبرهن أن تطلبهم الخواء البواء لم يك يقصد منه ـ كأصل ـ مزيد الإيمان والإيقان ، حيث الدور الأوّل فيه (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ومن ثم (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا).

ثم كيف (تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) فحين لم تطمئن قلوبهم بسائر الآيات البينات الرسولية العيسوية فلا دور للإيمان أو مزيدة بآية في سؤال الأكل ، وكذلك (نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ومن ثم (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أفلم يكونوا شاهدين في سابقة الآيات السابغة؟ أم هم اعلم من الله بنوعية الآيات القاطعة؟ فهذه الطلبة هي بعبارة أخرى نكران لآيات المسيح الرسولية ، الظاهرة البارزة لهم من ذي قبل.

إذا فما زادتهم هذه الأعذار القاحلة غير تخسير ، ظلمات بعضها فوق

٣٠٠