الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

ذكرت ووصفت فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى» (١).

وليس القهر هنا هو الجبر ، ف «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» إنما هو غلبة الإرادة الربانية على كل إرادة ومريد ومراد ، حتى في الأمور الاختيارية ما لا ينافي الإختيار ، فلا يستطيع المختار من تحقيق ما يختار إلّا ـ بالمآل ـ بإرادته تعالى وتقدس دونما تسيير على خير أو شر إلّا فيما يصح ويصلح فيه التسيير.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩) :

(أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) على صادق الوحي إليك؟ طبعا هو الله لأنه الأكبر على الإطلاق ، وان شهادة الوحي راجعة إليه ، فلا شاهد أكبر وأحقّ شهادة له منه : (قُلْ كَفى بِاللهِ) ولأن الجواب هنا بيّن للمشركين حيث يعتقدون في ألوهيته وربوبيته الكبرى ، لذلك طوي عن ذكره بقولهم وقوله ، أم إن «قل الله» جواب وهو مع الوصف مبتدء خبره «شهيد ... (٢)».

(قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وبماذا يشهد؟ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٦ في كتاب التوحيد عن الرضا (ع) حديث طويل وفيه يقول (ع): «وأما القاهر فانه ليس على معنى ...».

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٠٦ عن التوحيد باسناده إلى محمد بن عيسى بن عبيد قال قال لي ابو الحسن (ع) أما تقول إذا قيل لك أخبرني عن الله أشيء هو أم لا شيء؟ قال : فقلت له : قد اثبت الله نفسه شيئا يقول : قل أي شيء اكبر شهادة قل الله .. فأقول : إنه شيء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه إبطاله ونفيه ، قال لي (ع): صدقت وأصبت.

٣٦١

إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦)(١).

فالقرآن بنفسه شهيد وبينة من ربه وكما هو بنفسه بينة ويتلوه شاهد منه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١١ : ١٧).

وهنا (أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) تجعل القرآن المحور الأصيل للشهادة الإلهية على وحيه (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) عن عذاب الله في يوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

(وَمَنْ بَلَغَ) : من بلغ مبلغي منذرا كالأئمة المعصومين (٢) ، ومن بلغ

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٧ عن ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله (ص): (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) بذلك بعثت وإلى ذلك ادعو فانزل الله في قولهم (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ...).

وفي نور الثقلين ١ : ٧٠٦ في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السلام في الآية وذلك ان مشركي اهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ، وذلك في أوّل ما دعاهم وهو يومئذ بمكة ، قالوا : ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا انه ليس لك ذكر عندهم فأتنا من يشهد أنك رسول الله قال رسول الله (ص): (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ...).

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٠٧ في أصول الكافي بسند متصل عن مالك الجهني قال قلت لأبي عبد الله (ع) قوله عزّ وجلّ : الآية ، قال : من بلغ أن يكون إماما من آل محمد عليهم السلام فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (ص) ، ورواه مثله العياشي عن الصادقين عليهما السلام ، وفي تفسير البرهان ١ : ٥٢٠ عن تفسير العياشي عن أبي خالد الكابلي قال قلت لأبي جعفر عليهما السلام (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ ..) حقيقة أي ـ

٣٦٢

مبلغ الإنذار بعدي وبعدهم من العلماء الربانيين (١) ، فلا بد ـ إذا ـ للمنذر بالقرآن من بلوغ هو بلوغ العقلية القرآنية تلقيا وتطبيقا وإلقاء ، وذلك مثلث لهندسة الإبلاغ والإنذار بالقرآن ، عطفا ل «من بلغ» بفاعل «أنذركم».

ثم «من بلغ» من المنذرين ، بلغ عقليا إذ لا تكليف للصغار والمجانين ، ومن بلغه منهم طول الزمان وعرض المكان منذ بزوغه إلى يوم الدين ، ومن بلغ به (٢) عطفا له بمفعوله «كم».

إذا ـ «من بلغ» دون تقيد أدبي بالمنذر والمنذر ، أو كونه لازما أو متعديا ، إنّه تعبير قاصد إلى مسدّس المعاني : لأنذركم به وينذركم من بلغ

__________________

ـ شيء عنى بقوله : (وَمَنْ بَلَغَ) قال : فقال من بلغ أن يكون إماما من ذرية الأوصياء فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (ص) ، وعنه (ع) قال : علي (ع) ممن بلغ.

(١) تفسير البرهان ١ : ٥١٩ ـ العياشي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في الآية «يعني من بعده وهم ينذرون به الناس».

(٢) الدر المنثور ٣ : ٧ عن ابن عباس وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ يعني من بلغه هذا القرآن فهو له نذير ، وفيه أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله (ص) إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ وليس بالنجاشي الذي صلى عليه ، وفيه أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال أتي رسول الله (ص) بأسارى فقال لهم هل دعيتم إلى الإسلام قالوا لا فخلى سبيلهم ثم قرأ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ثم قال «خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من اجل أنهم لم يدعوا» وفيه أخرج ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص): «من بلغه القرآن فكأنما شافهته به ثم قرأ هذه الآية» وفيه عن قتادة في الآية ان النبي (ص) كان يقول بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله.

وفي نور الثقلين ١ : ٧٠٧ في كتاب علل الشرايع بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) سئل عن قول الله عزّ وجلّ : (وَأُوحِيَ ... وَمَنْ بَلَغَ) قال : «لكل إنسان».

أقول : وفي نسخة أخرى «بكل لسان» رواه هكذا في تفسير البرهان ١ : ٥٢٠.

٣٦٣

في مثلثه ، ومن بلغ في نفسه منذرا ، وبلغه هذا الوحي ، وذلك من ميزات القرآن أن يجمع معاني عدة بلفظ واحد يتحملها (١).

إذا فالبالغ بالقرآن ينذر به وذلك بعد بلوغه وبلوغ القرآن إليه ، والبالغ عقل التكليف ينذر به ، والبالغ إليه القرآن وهو بالغ منذر به فمنذر به ، فلا

__________________

(١) و «بلغ» فاعلا ومفعولا لازما ومتعديا تعني المعاني التالية : من بلغ مثلي ، أم تلى تلوي ، من بلغ مبلغ العقل وبلغه القرآن ثم بلغ بالقرآن ، فشرط الإنذار بالقرآن هو البلوغ به مبلغ الرسول (ص) قدر المستطاع ، وشرط المنذر بلوغ حد التكليف ، فهنا احتمالات في جملتي هذه الجملة ، الصالحة منها معنية وغيرها غيرها.

ف «كم» قد تعني خطاب الحاضرين من أم القرى ، أم كافة المكلفين ممن حولها ، و «بلغ» عطفا على المفعول قد تعني بلوغ المعرفة وجاه قوم لد في الوجه الأول من الخطاب ، فهم البالغون مختلف مدارج العقل والعلم والمعرفة ، ما بلغوا ، لمحة إلى أن القرآن لا يغتنم المجاهيل لأنهم يقبلونه بجهلهم ، بل من بلغ ما بلغ.

و «بلغ» اللازمة في هذا الاحتمال قد تعني معه بلوغ عقل التكليف ، وبلوغ حالة التقبل للحق ، ثم هي المتعدية «بلغه» بين بلوغ نبإ القرآن إليه ، أو بلوغه نفسه إليه ، أو بلوغه ـ إذا ـ بذلك البلوغ ، وهذه احتمالات ست في الأولين تصبح اثنى عشر.

ثم «بلغ» عطفا على الفاعل قد تعني نفس الاحتمالات الست فهي مضروبة على الأولين اثنى عشر آخر فالمجموع اربعة عشرون.

وفي تقسيم آخر «من بلغ» فاعل أو مفعول والمفعول اما مفعول له أو بواسطة الجار بلغ إليه ـ فيه ـ به ـ واما بلوغ الفطرة أو العقل أو العلم أو المعرفة أو بالقرآن وهي مضروبة على وجهي «كم» خمسون ، وقد تعني «كم» في «لأنذركم» هؤلاء القوم اللد المجاهيل ، ولكيلا يظن اختصاص الدعوة القرآنية بهؤلاء المنحطين ثناهم ب «من بلغ» عقليا وعلميا مهما كان عليا غاليا ولا على قمم العصمة البشرية فطرية وعقلية وعلمية.

ف «من بلغ» في احتمالات كثيرة على وجهي الفاعلية والمفعولية وعلى وجهي اللزوم والتعدية ، بلوغا في نفسه في أية مرحلة من درجاته وبلوغا إليه وبلوغا به.

٣٦٤

بد من حمل القرآن لحد البلوغ به ، ثم إبلاغه إلى كل من يعقل عنه.

صحيح أن الرسول (ص) هو الصادع الأول لهذا البلاغ المبين ، ولكن الإنذار بالقرآن لا ينحصر فيه وفي المعصومين من أهل بيته الكرام عليهم السلام ، لأنه يحمل دعوة عالمية تشمل الطول التاريخي والعرض الجغرافي.

ذلك و «كم» في «لأنذركم» تعني مع الحاضرين زمن الخطاب كلّ المكلفين في وجهي الخطاب ، فإن «من بلغ» في وجه الفاعلية تجعل «كم» هم المنذرين ككل ، وهي في وجه المفعولية تخص الحاضرين ، فانها من بلغه القرآن وهو بالغ لحمل التكليف بالقرآن.

كما وان «بلغ» تعني وجهي اللزوم والتعدي ، «من بلغ» في نفسه و «من بلغه» وحي القرآن ، ووجه اللزوم ألزم فانه أعم فهو أتم.

والدعوة الإسلامية تتمحور القرآن لمكان آيات التذكير والإنذار بالقرآن و (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١٧ : ٩) (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) (٢٧ : ٩٢) (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٤ : ١٠٥) (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧٠) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١٤ : ١) (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً ..) (١٦ : ٨٩) (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٢٩ : ٥١) ، ذلك ولا نجد حتى لمحة في القرآن لسماح الدعوة بغير القرآن إلّا طاعة للرسول وأولي الأمر لتفهّم القرآن فيما عضل من تأويل تطبيق القرآن.

وهكذا نسمع آيات الإنذار أنها تخصه بالقرآن أو بالوحي الشامل للسنة

٣٦٥

كهامش (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (٢١ : ٤٥).

ومن لطيف الوفق بين القرآن والإسلام والوحي والملائكة ويوم القيامة أن ذكر كلّ (٧٠) مرة مما يلمح كأن القرآن هو الوحي كله والإسلام كله ، الذي يحمله الملائكة ، ثم يظهر يوم القيامة كما لمحت آية الشورى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ...) (٤٢ : ١٣) حيث اختص الوحي من بين الخمس بوحي القرآن.

فعدم البلوغ بالقرآن ذنب ، وعدم إبلاغه ذنب على ذنب ، فان كتاب الدعوة لا ينتشر إلّا بحملته البالغين به وكما أمر الرسول (ص) (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٥٠ : ٤٥) (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) (٦ : ٧٠).

وترى كيف يبلغ القرآن العربي إلى من لا يعرف لغته؟ والجواب أن التبليغ بكل لغة واجب حملته البالغين به ترجمة له صالحة وترجمانا صالحا.

وليس من المفروض في كتاب الوحي الداعي أن ينزل بكل لسان ، وإنما الدعوة والبلاغ بكل لسان هو واجب المنذرين به ، كما وأن تفهمه بكل لغة هو واجب المنذرين به.

وهنا نتأكد واجب السيادة القرآنية في لغته كما في أصله ، فعلى المسلمين به ككل أن يحملوا لغته جادّا صالحا ، ثم يحملوه بكل لغة بلاغا لأهلها ككل.

ف «من بلغ» في كل حقوله لا يخلوا عن منذر به ومنذر به ، فمن لم يبلغه القرآن بلغته غير العربي فانما إثمه على حملة القرآن الذين لم يبلغوه بلغته ، كما أن من بلغه بلغة عربية وسواه ولم تبلغه معانيه الحقة ومغازيه

٣٦٦

فإثمه على من لم يبينه ، ثم الذين لم يبلغهم وهم عارفون بحجته أم علّه من الله هم شركاء مع سائر المقصرين في الإثم.

إذا مسئولية بلوغ القرآن ليس فقط على عواتق حملته ، بل والذين يعرفون وحيه أو يحتملون ثم لا يفحصون عن بالغة حجته وحالقة محجته.

فالمتحري عن الحق أيا كان عليه التحري عن بالغ حجة القرآن بكل الإمكانيات المستطاعة له ، كما على حملة القرآن أن يبلغوه إلى كل من بلغ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) شهادة أنفسية : بالوجدان فطرة أو عقلية أو علمية ، أو آفاقية ، أم بوحي من الله؟ وكل هذه منفية تدل الآيات الآفاقية والأنفسية على خلاف هذه الشهادة الكاذبة ، إضافة إلى شهادة الله بذاته وبكتابه على وحدته.

(قُلْ لا أَشْهَدُ) بأية شهادة (أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) على ضوء كافة الشهادات الصالحة الصادقة (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

هنا «لا أشهد» دليل عدم الشريك لله وحيا ، إضافة إلى سائر الأدلة ، لأن الموحى إليه شاهد قبل كل شيء كيان الربوبية للموحي وإلّا فكيف يرسل من عنده ، فكما «لا يعلم» هي من الله دليل عدم المعلوم عن بكرته لأنه يحيط علمه بكل شيء : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ١٨) كذلك (لا أَشْهَدُ) هي من رسول الله (ص) دليل على عدم وجود المشهود عن بكرته ، «وأعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ورأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا

٣٦٧

يضاده في ملكه أحد ولا يزول أبدا» (١).

ثم من يقول : «إني أقول إن صانع العالم اثنان فما الدليل على أنه واحد ـ يقال له : ـ قولك إنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد فالواحد مجتمع عليه والثاني مختلف فيه» (٢).

ذلك طرف طريف عريف من شهادة الله لهذه الرسالة السامية ، ومن ثم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مدى معرفتهم بوحي الكتاب ، حيث الوحي نمط واحد مهما تفاضلت الدرجات ، كما الرسل والرسالات درجات ، كما وان هذه الكتب تحمل له شهادات :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٠) :

هذه والتي في البقرة : (... وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦) «شهادة كتابية ذات بعدين على هذه الرسالة السامية ، فصلناها هناك فلا نعيد.

فكما أن الله شهيد للرسول بنفس الرسول وقرآنه المبين و (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) كذلك هو شاهد بسائر كتاباته بطبيعة وحيها والبشائر التي تضمها.

إذا فهو مشحون بمثلث الشهادة الصادقة القاطعة القاصعة في هندسة

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (ع).

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٠٧ في كتاب التوحيد باسناده الى الفضل بن شاذان قال : سأل رجل من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) وأنا حاضر فقال : «اني أقول : ... فقال : قولك : ...».

٣٦٨

الرسالة الختمية ولا ينبئك مثل خبير (١).

ف (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فقدانا لنفسياتها العاقلة وفطرياتها الكاملة ، ومعرفتها الشاملة ، فلم يفتقدها لمّا فقدوها (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا الرسول (ص) قضية المتاركة لأثافيّ الايمان ودلالاته.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢١) :

أجل إنه لا أظلم ممن افترى على الله كذبا كما افترى من أهل الكتاب على الله أنه ختم بكتبهم الوحي وما أشبه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) رسالية ورسولية كما كذبوا بآيات الرسالة المحمدية في كتبهم وفيه نفسه وفي كتابه الذي كله آيات رسالته فإنه آيته الخالدة.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) مهما أبرقوا وعربدوا وحاولوا كل المحاولات

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٨ عن تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى يقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني رسول الله (ص) (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) لأن الله عزّ وجلّ قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمد (ص) وصفة أصحابه ومبعثه ومهاجره وهو قوله تعالى : «محمد رسول الله ... ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ...» فهذه صفة رسول الله (ص) في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه فلما بعثه الله عزّ وجلّ عرفه أهل الكتاب كما قال جلّ جلاله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).

وفي تفسير البرهان ١ : ٥٢٠ قال علي بن إبراهيم ان عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام هل تعرفون محمدا (ص) في كتابكم؟ قال : نعم والله نعرفه بالنعت الذي نعته الله لنا إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان والذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد هذا أشد معرفة مني بابني قال الله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

٣٦٩

لكل الحيل الحائلة بين آيات الله وبيناته ورسالته المدلول عليها بها.

وهنا «من أظلم» يعرّف بالبعض ممن لا أظلم منهم ، ومنهم : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (٢ : ١٤٠) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) (١٨ : ٥٧) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) (٢ : ١١٤).

ذلك ، وهذه الثلاث أيضا راجعة إلى افتراء الكذب على الله والتكذيب بآيات الله ، وهذه من محادة الله ومشاقته تعالى مهما كانت دركات كما الايمان به درجات.

والظلم ـ في ثالوثة مادة وحالة للظالم ومحتدا للمظلوم ـ دركات أسفلها ظلم المفتري على الله كذبا أو تكذيبا بآياته ، وليس هنا الله هو المظلوم المنتقص ، إنّما الحق وآيات الحق هي المظلومة ، حيث الظلم هو الانتقاص ولا ينتقص عن الله شيء ، فقد ظلموا أنفسهم بما ظلموا آيات الحق المبين!.

ذلك ومن افتراءهم الكذب على الله أنه اتخذ لنفسه شريكا أو شركاء ، وأمرهم أن يعبدوها من دون الله ، ويتخذوها شفعاء عند الله ، وأنه لم يوح بشيء إلى أحد ، وأن الملائكة بنات الله ، وأنه أحلّ ما أحلوه وحرّم ما حرموه افتراء الكذب على الله ، وأنه امر بالفاحشة ، ثم ولا يعذب اليهود والنصارى لأنهم أبناء الله وأحباءه!.

ومن تكذيبهم بآيات الله تكذيب الآيات الرسولية والرسالية ، وتكذيب الآيات التي تحمل بشارات بحق محمد (ص) وما أشير من سائر الآيات.

فقد ظلموا آيات الله وظلموا ناصع الحق حين افتروا الكذب على الله ، فحين يعذبهم الله بما ظلموا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن ظلمهم ـ أيا كان ـ راجع إلى أنفسهم وهم لا يفلحون وصولا إلى

٣٧٠

بغيتهم اللئيمة ، وهي واقع الظلم الانتقاص في افتراءهم على الله وتكذيبهم بآيات الله ، فقد ظلموا بما ظلموا أنفسهم ولم ينتقصوا من الله ولا من آياته.

فلا أن الله ينتقص بظلمهم في فريتهم عليه ، لا في ذاته ولا في صفاته أو أفعاله ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ولا أن آيات الله تنتقص في واقعها الدلالي على الله ، اللهم إلّا تغطية إياها على أنفسهم وأنفس الضعفاء والمستضعفين ، فهم ـ على أية حال ـ لا يفلحون ويفلجون ، بل ويفلجون ولا ينجون.

فكما الظلم في نفسه هو أقبح الأمور ، ولا عصيان ولا تخلف إلّا وهو ظلم ، كذلك الافتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته هو من أظلم الظلم (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

فلا عبرة بما تراه العيون القاصرة المائرة في قريب الأمد فلاحا للظالمين ونجاحا ، فإنه الاستدراج المؤدي إلى خسار أخسر وبوار أبور (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً).

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٢٢) :

«نحشرهم» من موحدين ومشركين (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أيا كان إشراكهم في ثالوثة ، عبادة أوثان وطواغيت ، أم انحرافا ثنويا أو ثالوثيا وما أشبه عن التوحيد ، أم انحرافا عن إسلام التوحيد كملامح الشرك في المسلمين في فلسفاتهم وعرفاناتهم المتحللة عن الوحي.

ذلك ، ولكن مصبّ السؤال التنديد هنا ـ كأصل ـ هو رأس زاوية الإشراك ، ف «نقول» لهم (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) دون شركائي ، فإنهم مختلقون من عند أنفسهم دون رباط لهم بالله ، أين هم حيث (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ولا

٣٧١

بد لهم أن يكونوا أبرز أهل الحشر ، سواء أكانوا من الآلهة الأصول كما الله! أم الشفعاء ، ـ على زعمهم ـ عند الله ، فكيف تضل الآلهة الشفعاء أو المحاسبون كأصول الألوهة عن محشر الحساب؟.

وترى (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) استحالة لبروز شركائهم هناك؟ ولا بد من بروزهم لمشافهة ذلك الحوار البوار! استفهام الإنكار هنا منصب على كيان الشركاء دون كونهم كخلق من خلق الله : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) (١٦ : ٨٦) (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١٠ : ٢٨)) لذلك وقد زيّل بينهم وزالت عنهم ألوهتهم المزعومة : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) (٢٨ : ٦٤).

وهل تحشر ـ مع سائر أهل المحشر ـ الشركاء غير العاقلة كالجمادات؟ ولماذا! إنها تحشر للمقابلة ، بل وتحرق حرقا قلوب عابديها (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) (٢١ : ٩٩).

وترى هل لهم من فتنة أمام ذلك الاستجواب الحاسم القاصم؟ :

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤) :

هنا هم (كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وكذلك شركاءهم (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (١٠ : ٢٨)! تكاذب وتسالب في استجواب (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) وقد فات يوم خلاص.

إن يوم القيامة مواقف لكلّ حكمه دون تضاد ومنها «ثم يجتمعون في مواطن أخرى فيستنطقون فيه فيقولون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل

٣٧٢

معصية كانت منهم ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء» (١).

وترى كيف يكذبون على أنفسهم وهو في العمق كذب على الله في استجوابهم قضية شركهم؟ وذلك يوم (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٧٧ : ٣٦)!

إنهم في ذلك الموقف يتكلمون بكذبهم حيث هم مأذونون فضحا لهم بما يكذبون ف «إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال حتى يقول أهل الشرك : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٨ في كتاب التوحيد عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل يذكر فيه احوال اهل المحشر وفيه.

(٢) المصدر عن تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال : «ان الله يعفو ..».

وفي تفسير البرهان ١ : ٥٢٠ عن تفسير العياشي عن أبي معمر السعدي قال : أتى عليا (ع) رجل فقال : يا أمير المؤمنين إني شككت في كتاب الله المنزل فقال علي (ع) : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟ فقال له الرجل : إني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا وينقض بعضه بعضا؟ فقال : هات الذي شككت فيه فقال : لأن الله يقول : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) ويقول حيث استنطقوا قال الله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ويقول (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)) ويقول لا : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ويقول : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) ويقول : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

فمرة يتكلمون ومرة لا يتكلمون ومرة ينطق الجلود والأيدي والأرجل ومرة لا يتكلمون إلّا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، قال : فأنى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له علي (ع) : إن ذلك ليس في موطن واحد وهي في مواطن في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون الف سنة فجمع الله الخلائق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون فيه فيكلم ـ

٣٧٣

ذلك ، وأما الكذب الذي به يحتجون على الله فلا ، ولا حتى سؤلهم الكذب بسؤالهم الخاوي حين يسألون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (٢٣ : ١٠٨).

ذلك بالنسبة للمشركين الأصلاء الرسميين ، وأما الموحدون الذين تخلفوا عن شرعة التوحيد تخلفا مّا عقيديا أو عمليا ، فقد تكون لمقالتهم صحة مّا إذ لم يكونوا وثنيين ، ولكنهم ـ أيضا ـ يعتبرون من المشركين مهما بان بينهم بون.

والشرك المتفرع يعم الشرك الكتابي ، والتجسيم والمشاقة في الرسالة الربانية أو الخلافة المعصومة إلى المرسومة بالأهواء والآراء (١).

__________________

ـ بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم بعضا من الذين بدت منهم المعاصي في دار الدنيا وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا والمستكبرون منهم والمستضعفون يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض ثم يجتمعون في موطن يفر بعضهم من بعض وذلك قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) إذا تعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ثم يجتمعون في موطن يبكون فيه فلو أن تلك الأصوات مدّت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلائق عن معايشهم وانصدعت قلوبهم إلّا ما شاء الله فلا يزالون يبكون حتى يبكون الدم ثم يجتمعون في موطن فيستنطقون فيه فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين ولا يقرون بما عملوا فيختم على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتنطق فتشهد بكل معصية كانت منهم ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم لم شهدتم علينا؟ فتقول : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ثم يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلائق فلا يتكلم أحد إلّا من اذن له الرحمن وقال صوابا ويجتمعون في موطن يختصمون فيه ويدان الخلائق من بعض وهو القول وذلك كله قبل الحساب فإذا أخذ بالحساب شغل كل امرئ بما لديه نسأل الله بركة ذلك اليوم.

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٨ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (ع) حديث ـ

٣٧٤

وترى كيف أصبح كذبهم على أنفسهم هناك فتنتهم؟ لأن الفتنة هو إخلاص الحق عن شوب الباطل كما تفتتن الذهب الخليط لتصبح من الخليص ، فهم لم يكن لهم إخلاص لأنفسهم في ذلك الموقف الحاسم إلّا كذبهم على أنفسهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فالحقيقة التي تجلت عنها وتبلورت فيها «فتنتهم» هي تخليهم عن ماضي شركهم كله وإقرارهم بربوبية الله الوحيدة غير الوهيدة ، ولكن قد فات الأوان!.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٢٥) :

هذه مع (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) هما صفحتان متقابلتان من صحيفتي الأولى والأخرى ، يرتسم في أولاهما العناد والإعراض وفي أخراها الندم والحسرة ، يرسمها القرآن الآن ، خطابا للفطر الجاسية هزّا لها تساقطا للركام الذي ران عليها ، علّ مغاليقها الصّلدة تنفتح وتفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) دون تدبر وتذكر ، فإن «إلى» هنا لامحة إلى ظاهر الاستماع دون واقعة ، حيث الاستماع الحق متعد بنفسه ك (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٣٩ : ١٨) و «(إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ

__________________

ـ طويل يذكر فيه احوال يوم القيامة وفيه : ثم يجتمعون في مواطن أخر فيستنطقون فيه فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، وهؤلاء خاصة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد فلم ينفعهم إيمانهم بالله تعالى لمخالفتهم رسله وشكهم فيما أتوا به عن ربهم ونقضهم عهدهم في أوصيائهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير فكذبهم الله فيما انتحلوه من الايمان بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).

وفيه عن تفسير القمي وروضة الكافي عن الصادقين عليهم السلام في الآية قال : يعنون بولاية علي (ع).

٣٧٥

نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (٤٦ : ٢٩).

فالمستمع القول له أذن واعية صاغية ، والمستمع «إلى» هو من الصّمّ عن استماع الحق المبين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) (١٠ : ٤٢) (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (١٧ : ٤٧).

وهنا أكنة القلوب ألّا تعي القرآن ، ووقر الآذان ألّا تسمع مهما استمعت ، هما من الجزاء الوفاق يوم الدنيا (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) استدراجا فيما هم درجوا فيه من ضلال ، ضلالا على ضلال.

فالأكنة هي الأغلفة النفسية التي تحول دون تفتح القلوب المقلوبة بما قلبوها ، والوقر هو الصم الذي يحول دون آذانهم أن تؤدي واجب السمع إنسانيا.

فهذه نماذج شريرة من البشرية المعاندة التي (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩).

فلما ترك هؤلاء الأوغاد المناكيد فقه قلوبهم وإبصار أعينهم وسمع آذانهم (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢ : ٧).

أترى (قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) اعتذار صادق بما ختم الله عليها فهم يحتجون؟ كلّا وإنّهم محجوجون بما أجابهم الله (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٨٨).

٣٧٦

فلم تكن غلف قلوبهم بداية من الله حتى يحتجوا ، إنما هو لعن من الله بكفرهم أن أزاغ الله قلوبهم لما زاغوا.

ولأن ثالوث وقر الآذان وغشاوة الأعين وأكنة القلوب ، سدت عليهم منافذ الدرك إنسانيا مهما أدركوا دركات الحيوانية النحسة ، لذلك :

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) رؤية بالبصر أو بالبصيرة (لا يُؤْمِنُوا بِها) لمكان مضاعف الوقر والكنّ والغشاوة (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) كأبي جهل وأضرابه من آباء الجهالات (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فهم لا يجيئونك مفتوحي الأعين والآذان والقلوب ليتدبروا ما تقوله من وحي ربك ، ولكن ليجادلوك التماسا لأسباب الرد والتكذيب ، والتحريف والتجديف ، ومنها (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وأباطيلهم وخرافاتهم التي سطروها : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٦).

فمعالم السر في السماوات والأرض التي يحويها القرآن العظيم ، فضلا عن معالم الواقع العلن ، تدل أصحاب السّر الرباني والعلن أن لن يكون القرآن من منتوجات التعقلات والتفلسفات البشرية ، فضلا عن أساطير الأولين.

فقضية وحي القرآن هي من القضايا التي قياساتها معها ، دون حاجة له إلى برهان سوى نفسه : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٩ : ٥١) ذلك! :

٣٧٧

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦):

«وهم» أولاء المفترون على الله الكذب ، المكذبون بآياته ، الذين على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر ، المفترون على القرآن أنه من أساطير الأولين ، هؤلاء حين يستمعون إليك (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) من سواهم من المستضعفين وسواهم ، كما وهم أنفسهم «ينأون عنه» ظلمات بعضها فوق بعض» (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بالمآل (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) إذ يخيّل إليهم أنّهم يهلكون المؤمنين به الصادقين ، فهم ـ رغم أنفهم ـ ليسوا لينأوا عنه بنهيهم أو الضعفاء ، فإنّهم هم أنفسهم في ضلال ، أو أنهم يهلكون القرآن بدعوته وداعيته ، وليس القرآن ليهلك بما هم ينهون عنه وينأون عنه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩ : ٣٣).

وترى (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) يحتمل النهي عن أذاه لتصدق الرواية المختلقة أنها نازلة في أبي طالب رحمه الله حيث كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله (ص) ويتباعد عما جاء به(١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٨ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين ...»وعن القاسم بن مخيمرة في الآية قال مثله .. ولا يصدق به ، وعن عطاء بن دينار في الآية قال مثله ... وينأى عما جاء به من الهدى.

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به وينأون عنه يتباعدون عنه ، ومثله عنه من طريق العوفي وعن محمد بن الحنفية وعن مجاهد وعن قتادة.

٣٧٨

«وهم» يعني ـ ككل ـ المشركين المفترين المكذبين الذين كانوا يؤذونه حياتهم ، ويتربصون به كل دوائر السوء.

ثم و (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) كما (يَنْأَوْنَ عَنْهُ) هما في مصب الذم والتنديد على سواء ، كما (إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يهددهم بالهلاك بما (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ).

ومن ثم لم ينه عنه ـ فيما يختلقون من إضافة النأي عنه ـ إلّا أبو طالب وعوذا بالله ، فكيف يقول (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ولو أن (يَنْأَوْنَ عَنْهُ) هم غير من (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) لتساقط النظم إلى أسفل دركات الركاكة ، وماهية إلّا

__________________

ـ فالروايتان متعارضتان ولا تقبل الآية إلّا الثانية ، والأولى معروضة عرض الحائط.

ذلك ولقد اجمع أئمة أهل البيت عليهم السلام على ايمان أبي طالب رحمه الله ، وفيه روايات تبلغ حد التواتر ومنها ما رواه ابن عمران أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله (ص) فقال : ألا تركت الشيخ فآتيه؟ وكان أعمى ، فقال أبو بكر : أردت ان يأجره الله تعالى والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي التمس بذلك قرة عينك فقال (ص) صدقت.

وروى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (ص) اجتمعوا عليه وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وجودا وشهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا وسفه أحلامنا فنقلته فقال أبو طالب : ما انصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه وأعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل منكم بولده فأقتله وقال :

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذود وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق

وأقواله وأشعاره المصرحة بإيمانه كثيرة لا تحصى ومنها :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا

نبيا كموسى خط في أوّل الكتب

ومنها :

ألا إن أحمد قد جاءهم

بحق ولم يأتهم بالكذب

٣٧٩

قضية بغضهم لأبي طالب رحمه الله ، لأنه أبو علي عليه السلام!.

وترى (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) تختص بهؤلاء المشركين ، ولا تشمل معهم هؤلاء المسلمين! الذين ينهون عن القرآن باعتذار أنه لا يفهم ، وأن التدبر فيه لتفهمه تفسير له بالرأي ، وكما هم ينأون عنه ، فأصبحت الحوزات العلمية خلوا عن القرآن كأصل حيث يجب أن تتبناه كل الحوزات الإسلامية في كل الإسلاميات عقيدية وفقهية وفلسفية وسياسية أماهيه من حيوياتهم؟!.

وكل نهي عن القرآن ونأي عنه ـ أيا كان ومن أيّ كان وأيان ـ قضيّته هلاك الأنفس الناهية النائية ، فالناهي عن القرآن والنائي عنه أيّا كان هالك كما أن علومه حلوم هالكة حالكة.

وهنا المنهي عنه والمنتهى عنه هو القرآن وهو رسول القرآن ، ولكن القرآن هو الأصل الخالد طول حياة التكليف منذ بزوغه إلى يوم الدين ، فالنهي والنأي عنه ، نهي ونأي عن الرسول ، كما النهي عن الرسول والنأي عنه ، نهي ونأى عن القرآن ، والنهي عن القرآن أنحس من النهي عن رسول القرآن.

فقرآن محمد ومحمد القرآن هما اللذان يبنيان صرح الإسلام ، فالمفروض أن تتبناهما الحوزات الإسلامية ، فالقرآن إمام محمد (ص) وهو أمامه ، هما المحوران الأصيلان للأمة الاسلامية في قرونها دون فصال اللهم إلّا فصالا عن أصل الإسلام وأثافيّه.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢٧) :

ذلك المشهد هناك خزيا واستخذاء وانتداما يقابل مشهد الاعراض هنا والجدال والنهي والنأي وأين مشهد من مشهد؟!.

٣٨٠