الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

الفاتحة ، وهي فاتحة الكتاب تأليفا وتنزيلا.

وملامح آيات الأنعام في سياقها المتصل الأليف تدلنا على وحدتها تأليفا وتنزيلا ، وكما تظافرت الرواية عن النبي (ص) وأئمة هل بيته عليهم السلام أنها نزلت جملة واحدة في مكة (١) وشذر من آياتها بين واحدة

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢ ـ أخرج الطبراني ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله (ص): نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد» وفيه عن أنس عنه (ص) مثله بزيادة ـ يسد الخافقين – وفيه عن جابر قال لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله (ص) ثم قال : «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» ومثله عن أبي بن كعب عنه في (جُمْلَةً واحِدَةً). وفيه اخرج البيهقي في الشعب والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال : «أنزل القرآن خمسا خمسا ومن حفظ خمسا خمسا لم ينسه إلا سورة الأنعام فانها نزلت جملة في ألف يشيعها من كل سماء سبعون ملكا حتى أدوها إلى النبي (ص) ما قرئت على عليل إلا شفاه الله».

وفي نور الثقلين ١ : ٦٩٦ عن أصول الكافي بإسناده إلى الحسن بن علي بن أبي حمزة رفعه قال : قال ابو عبد الله (ص) إن سورة الأنعام نزلت جملة ـ وذكر كما في ثواب الأعمال سواء إلّا في آخره : «ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها». وفي تفسير الفخر الرازي ١٢ : ١٤١ عن أنس قال : قال رسول الله (ص): «ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها وقد بعث بها إلي مع جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين الف ملك يزفونها ويحفونها حتى اقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض ولقد أعزني الله وإياكم بها عزا لا يذلنا أبدا ، فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه» أقول في انحصار النزول جملة واحدة في الأنعام تأملات فإن السور الصغار والبعض من الكبار نزلت جملة واحدة.

وفيه عن تفسير القمي حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : «نزلت الأنعام جملة شيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة».

٣٢١

وتسع (١) التي قيل إنها مدنية ، إنها كسائرها قد تكون مكّية حيث السياق لا يصدّق مدنيتها ولم يرد في ذلك نص يعتمد عليه.

وهي نموذجة كاملة عن القرآن المكي ـ ككلّ ـ عرضا فصيحا فسيحا لهامة الربوبية الوحيدة ، وسائر المواضيع العقيدية التي تعالجها من مبدءها

__________________

(١) في تفسير الفخر الرازي ١٢ : ١٤١ عن ابن عباس أنها مكية نزلت جملة واحدة فامتلأ منها الوادي وشيعها سبعون الف ملك ونزلت الملائكة ما بين الأخشبين فدعا الرسول (ص) الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلّا ست آيات فانها مدنيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات الثلاث وقوله «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» الآية وقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

وقيل المدنية فيها فقط (قُلْ تَعالَوْا ..) والتي بعدها ، وقيل هما آيتان غيرهما نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

وقيل إنها مكية إلّا آية واحدة وهي (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ).

وقيل مدنيتها الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ كما في تفسير البرهان ١ : ٥١٤.

وقد تلمح الآية (٩١) أنها مدنية حيث تذكر أهل الكتاب : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) ولكنه قد يكفي وجود البعض من اليهود فى العهد المكي مهما كانوا من السّفر المترددين للتجارة ، حيث القرآن المكي سيحلق في دعوته كسائر القرآن على كافة المكلفين قلوا أو كثروا قاطنين في مكة أو مسافرين.

وهكذا يكون دور الآية (١١٤) : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وهذه طبيعة حالة الخلط حينذاك بين المشركين والكتابيين في التسافر التجاري وغيره بين مكة والمدينة وغيرها.

ذلك ثم لا نجد في غيرهما من التسع أما هي اقل ما تلمح بمدنيتها!.

٣٢٢

إلى منتهاها ، بكل مقوماتها ، مبرهنة عليها بالآيات الآفاقية مع الأنفسية ، محلّقة على الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس والحس ، ويلمس كل الأبعاد العقلية والحسية.

ذلك! مع بارع التناسق لمنهج العرض في شتى المشاهد والمعارض ، آخذة على الأنفس أقطارها بالروعة الباهرة ، باطنة وظاهرة ، وبالحيوية الدافقة والإيقاع تصويريا وتعبيريا ، مواجهة النفوس من كل دروبها ونوافذها وحتى في موسيقاها.

ومن ميّزاتها بين سائر القرآن مكيا ومدنيا تكاثر الحجاج فيها على ناكري الحق المبين.

وكما نزلت ـ على حد المروي عن الرسول (ص) ـ معها موكب من الملائكة سدّا ما بين الخافقين ، نرى ذلك الموكب الملائكي لائحة الأعلام في قطاعات السورة ، موكب ترتجّ له النفس ويرتج معها الكون ، وهي كالنهر الجاري المتدافق بالأمواج المتلاحقة ، ما تكاد تصل موجة منها إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية.

والموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة متصل متواصل لا يمكن تجزءة السورة إلى مقاطع كلّ يعالج جانبا ، إنّما هي موجات متفقات مع بعضها البعض ، مما يبرهن نزولها جملة واحدة ، فهي موحدة التأليف والتنزيل.

ولماذا سميت سورة الأنعام؟.

١ ـ ألأنها تحمل «الأنعام» ستا لم تحملها سواها لأكثر تقدير إلّا ثلاثا (١)؟

٢ ـ أم ولأن هؤلاء المشركين الأنعام (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (١٣٦) وكأنه بحاجة إلى أكل منها كما

__________________

(١) كسورة النحل في آياتها الثلاث ٥ ـ ٦٦ ـ ٨٠ ، والأنعام ل (٣٢) مرة في القرآن كله ـ

٣٢٣

يقتسمون! تنزيلا لساحة الربوبية إلى نازل الخلق المحتاجين بل وأحوج حيث حوّجوه إلى أنفسهم ، ثم جعلوا ما لله لشركائهم؟.

٣ ـ أم ولأنهم شاقوا الله في التشريع تحريما من الأنعام وتحليلا : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ)(١٣٨) ـ (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١٣٩)؟ وهذه شيمة الأنعام التي لا تعقل وهم أضل منها سبيلا ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٤٧ : ١٢). ذلك! ثم لا نجد في سائر سور القرآن ـ المذكورة فيها الأنعام ـ أمثال هذه التنديدات والحجاجات على هؤلاء الأناسي الأنعام إلّا قليلا ، مما يفضل ـ ككل ـ تسمية سورة الأنعام باسمها.

٤ ـ ثم الملاحظ فيها أنها تحمل آية يتيمة منقطعة النظير بحق الدواب ككل ـ الشاملة للأنعام بصورة أخرى هي أحرى ، حيث تجعلها من المحشورين يوم الدين كسائر المكلفين وهي : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨).

وذلك المربع بكل زواياه وحواياه يرجح اسم الأنعام لهذه السورة كأحرى ما تسمّى به سورة في القرآن وكلّه أحرى مهما اختلفت الدرجات.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١) :

__________________

ـ نجدها (٦) مرات فقط في الأنعام و (٢٦) مرة في (٢٣) سورة اخرى.

٣٢٤

نرى خمسا من السور تفتتح ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الفاتحة وهذه الأنعام والكهف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وسبأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) والفاطر : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فالحمد في أم الكتاب هو أم الحمد في الكتاب لمكان (رَبِّ الْعالَمِينَ) المحلّقة على ربوبية الله في الخلق والتدبير لكل كائن ، وربوبية التشريع الأخير الشامل لكل شرعة ربانية.

والحمد في الكهف ناح منحى التشريع ، وفي سبأ يختص ملكه وملكه السماوات والأرض و «في الآخرة» جزاء وفاقا عدلا وفضلا في حقلي الثواب والعقاب ، وفي الفاطر فطرا للسماوات والأرض وجعلا للرسل الملائكية حملة للتشريع وعمّالا للتكوين.

ذلك ، وهنا في الأنعام حمدا لخالقيته ككل إبداعا وربوبية وجعلا للظلمات والنور ، وهي مثلثة الجهات فإن فيها «ردّ على ثلاثة أصناف منهم ، فلما قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كان ردا على الدهرية الذين قالوا : إن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، ثم قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فكان ردا على الثنوية الذين قالوا : إن النور والظلمة هما المدبران ، ثم قال : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فكان ردا على مشركي العرب ـ وسواهم ـ الذين قالوا : «إن أوثاننا آلهة ...» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٩٧ في كتاب الاحتجاج للطبرسي قال أبو محمد الحسن العسكري ذكر عند الصادق (ع) الجدال في الدين وان رسول الله (ص) والأئمة المعصومين ـ

٣٢٥

وهنا «بربهم» تنديد شديد في «يعدلون» حيث المعترف بالربوبية الكبرى الإلهية كيف يسمح لنفسه أن يعدل به من المربوبين الذين لا يربون أنفسهم فضلا عمن سواهم.

و «يعدلون» من «العدل» لا «العدل» إذ العدل لا يتعدى بالباء فإنما عدل فيهم ـ بينهم ـ عليهم ـ و «بربهم» دليل آخر بعد دليل التنديد أنه جعل عدل وندّ ، فهم يعدلون بربهم من المربوبين.

فالعدل قد يكون عدلا وهو بين المتساويين في الكمال ، وهو من أعدل العدل ، وقد يكون ظلما وهو بين المختلفين في الكمال ولا سيما بين الرب والمربوب وهو من اظلم الظلم.

ثم العدل الظلم هو في كل دركاته ظلم ، عدلا بذات لله أم بصفاته أم بأفعاله ، عدلا في ألوهيته أو في ربوبيته ، عدلا في معبوديته وحرمته أم أيّ عدل به من خلقه.

فذلك محظور في كافة حقوله حتى في عبارة اللفظ فضلا عن اعتقاد الجنان وعمل الأركان.

__________________

ـ عليهم السلام قد نهوا عنه فقال الصادق (ع) : لم ينه عنه مطلقا ولكنه نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن أما تسمعون قول الله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ـ إلى أن قال ـ : «قال الصادق (ع) ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوما عند رسول الله (ص) أهل خمسة أديان اليهود والنصارى والدهرية والثنوية ومشركو العرب ـ إلى أن قال بعد سرد الحجج كلها وقد تأتي في المتن قطاعات منها ـ قالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله وقال الصادق (ع) قال امير المؤمنين (ع) فأنزل الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ..) وكان في هذه الآية رد على ثلاثة اصناف ..».

٣٢٦

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم كل الكافرين حيث العادلون بالله هنا هم كل العادلين ، من كافر بالله نكرانا لوجوده حيث يعدل به المادة كأنها هي الأزلية الخالقة ، أو مشرك بالله عدلا في الربوبية أو المعبودية ، سواء عبد مع غير الله الله ، أم لم يعبد معه الله ، أو مراء أم معتقد تأثيرا لغير الله مع الله.

فالعدل بالله يعم الإلحاد والإشراك وسواهما ، مهما لم يكن الملحد معترفا بوجود الله ، حيث يؤلّه المادة كأنها الله ، أو لم يكن المشرك يعبد مع وثنه الله ، حيث يعبده كما يعبد الله.

إذا فعدل الرب بما سواه أم عدل ما سواه به في أي من شؤون الألوهية والربوبية ، خارج عن العدل في القياس ، بل لا قياس بالله لما سواه فإنه «باين عن خلقه وخلقه باين عنه» ليس يشاركهم في شيء حتى يعدل به أو يفضّل عليه.

هذه ثلاث في أولى الآيات ، وكما في هذه الآيات الثلاث نجد موجات ثلاث ، أولاها في أولاها حيث تذرع الوجود الكوني كله في نفسها ، الثانية الوجود الإنساني كله ، والثالثة فيها إحاطة الألوهية بالوجودين كليهما.

آيتنا هذه تبدء ببرهان لطيف حفيف على حدوث الكون كله ، المعبر عنه ب «السماوات والأرض» : «الحمد لله خالق السماوات والأرض ...».

فإن «السماوات والأرض» تدلان بحدوثهما ـ ذاتيا وصفاتيا وأفعاليا ـ على أن هناك محدثا لا يجانسهما ، فهو الذي أحدثهما ، ولا مشاحة في تسميته ، فنحن نقول عنه : «الله» وليس المادة لأنها أصلهما الوالد لهما ، وليست الخالقة إياهما.

ذلك وإلى قول فصل عما لمحت له الآية ، من حجاج الرسول (ص)

٣٢٧

على المشركين : «وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال.

فوجدتم لها قدماء أم وجدتم لها بقاء أبد الأبد؟ فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون الذين يشاهدونكم؟.

بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء ابد الأبد.

فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التمييز لها مثلكم فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الأبد»؟.

ـ إلى هنا نجده شكّكهم في قولة الأزلية للعالم ، ثم نراه يثبت حدوثه كالتالي : «أولستم تشاهدون الليل والنهار وأن أحدهما بعد الآخر؟» ـ نعم –

أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ ـ نعم –

أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ ـ لا –

فإذا ينقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده؟ ـ كذلك هو –

فقد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرة –

أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أو غير متناه؟ فان قلتم متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله ، وإن قلتم إنه متناه فقد كان ولا شيء منهما؟ ـ نعم ـ

٣٢٨

أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به ومعنى ما جحدتموه؟ ـ نعم –

فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض مفتقر لأنه لا قوام لبعض إلّا بما يتصل به ، ألا ترى البناء محتاجا بعض اجزاءه إلى بعض وإلّا لم يبق ولم يستحكم ، وكذلك ساير ما ترى ، فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا تكون صفته؟.

فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للحدث صفة يصفونه بها إلّا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم فوجموا وقالوا : «سننظر في أمرنا» (١).

(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

وذلك التعبير عن «الظلمات والنور هو منقطع النظير في القرآن كله ، ولماذا بالنسبة لها «وجعل» دون «خالق ـ أو ـ خلق» حيث اختص بالسماوات والأرض؟.

علّه لأن (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ماديا وروحيا ، هما لواحق الخلق ولزاماته في عالم الاختبار والإختيار.

وجمعية الظلمات هنا وفي سائر آياتها الثلاثة والعشرين ، وجاه وحدة النور ، هي للتدليل على أن صراط الله واحد غير مختلف ، كما هو غير متخلف ، ولكن السبل الأخرى متشتتة متشعبة.

ثم «الظلمات» كما «النور» ـ محسوسة ومعقولة ـ إنها ليست إلّا من جعل الله دون سواه ، حتى تتبنى الظلمات إلها آخر أم مخلوقة لإله الشر

__________________

(١). الاحتجاج للطبري عنه (ص).

٣٢٩

كما يقوله الثنوية ، فإنما الله هو الذي جعل الظلمات كما جعل النور ، كلّا لمصلحة ابتلائية تربوية في عالم الاختيار والاختبار ، دون تسيير لا إلى النور ولا إلى الظلمات ، فإنما (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

ذلك! (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) :

(الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الخالق للسماوات والأرض الذي جعل الظلمات والنور ، «يعدلون» به غيره ، عدلا للظلمات بالنور وهم يعرفونها! كما «الذين كفروا» ـ «بربهم» ذلك الخالق الجاعل «يعدلون» عدلا به من خلقه وهم ظلمات بالنسبة لخالق النور والظلمات.

فذلك العدل الانحراف الانجراف تطارده وحدة الخالقية والخالقية الوحيدة غير الوهيدة ، تسوية بالله سواه وهي ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨).

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٢٧ : ٦٠) ـ (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٦ : ١٥٠) كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا (١).

ذلكم الله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) بالله سواه عدلا بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠١ في تهذيب الأحكام في الموثق عن أبي عبد الله قال : «وإذا قرأتم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ان يقول : كذب العادلون بالله ، قلت لهم فان لم يقل الرجل شيئا من هذا إذا قرأ؟ قال : ليس عليه شيء ...».

(٢) المصدر عن أبي ابراهيم (ع) قال : «لكل صلاة وقتان ووقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية قال : «يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل» وفيه «كذب العادلون بالله إذ شبهوه بمثل أصنامهم وحلوه حلية المخلوقين بأوهامهم ، ـ

٣٣٠

«فمن ساوى ربنا بشيء فقد عدل به والعادل به كافر بما تنزلت به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيناته ، لأنه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في نهب كيفها مكيفا ، وفي حواصل روايات همم النفوس محدودا معرفا ، المنشئ أصناف الأشياء بلا روية احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمرها ، ولا تجربة أفادها من موجودات الدهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور» (١).

وترى ما هو دور «ثم» وهي للتراخي؟ علّه أنهم بعد التصديق والاعتراف بخالق السماوات والأرض وجاعل الظلمات والنور ، بعد هذه الطائلة التي تصدقها الفطرة والعقلية الإنسانية وتصدقها الكائنات بأسرها ، هم أولاء بعد كل ذلك (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) المربوبين ... وهذه هي اللمسة الأولى من الحجاج لتوحيد المبدء ثم :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢):

هنا دور لخصوص الإنسان بعد عموم الخلق للخلق كله ، لمسة ثانية تندد بالممترين بحق الحق واليوم الحق.

ذلك الإنسان الذي هو نموذج عن الكون كله ، وكما يروى عن علي (ع): «أتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر».

فالذي (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) بعد ما خلق السماوات والأرض (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) نقلة عجيبة من عتمة الطين المظلم عن الحياة إلى نور

__________________

ـ «وجزوه بتقدير منتج خواطرهم ، وقدروه على الخلق المختلفة القوى بقرايح عقولهم».

(١). المصدر عن كتاب التوحيد خطبة لعلي (ع) يقول فيها : ....

٣٣١

الحياة البهيجة الوليجة في ذلك الطين الميت.

ولقد كان بالجدير أن تنقل تلك النقلة الهائلة العاقلة يقينا صالحا إلى قلوب المنقولين ، بعد طائل خلقهم من طين كما خلق السماوات والأرضين ، ولكن (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ).

انه «قضى أجلا» حياة عاجلة لدار الإختيار والاختبار ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لعودة الحياة بعد الممات «عنده» لا سواه (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) «ثم أنتم» المأجلون «تمترون» في الحياة الأخرى وهي أحرى وأنتم تعلمون أنه (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ).

ترى (أَجَلٌ مُسَمًّى) تعني ـ فقط ـ الأجل المحتوم شخصيا وجمعيا وجاه الأجل المعلق كذلك؟.

إنه بطليق العبارة قد يعنيهما ، حيث الأجل المسمّى هو المقطوع ، وكل الآجال عند الله مقطوعة.

ومما يشهد للأول : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠) حيث تعني الأجلين قبل القيامة ، معلقا ومحتوما.

و (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ..) (٣٩ : ٤٢) وكثيرة أمثالها.

ومما يدل على الثاني : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١٣ : ٢) و (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٣٠ : ٨) وكثيرة أمثالها.

ذلك ، طالما الأجل المسمى بالنسبة للكون كله يخص الثاني ، وهو

٣٣٢

بالنسبة للإنسان يعم الآجال الثلاثة ، الأجل الفردي المحتوم لكل احد ، ثم الجماعي (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٧ : ٣٤) ومن ثم الأجل الأخير وهو القيامة.

ذلك ، وقد تعني (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) مثلث الأجل ، دنيا وبرزخا وعقبى ، ثم (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) تختص بالآجال المحتومة ، حيث تعني ثابت العندية التي لا حول عنها ، ولكن الأجل المعلق ـ وإن كان عنده ـ لكنه قد يحوّل عنه ، أم تعني (أَجَلٌ مُسَمًّى) بتنوين العظيم اجل القيامة الكبرى لأنه عظيم بين الآجال ، أم ومجاراة مع الذين يخيل إليهم أن الآجال الدنيوية هي عندهم (١).

وترى (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) الشامل على الأبدال كل الآجال هلّا تشمل الأجل الأوّل وهو بقية بقاء الجنين في الرحم؟ «ثم» المراخية هنا قد تعني الآجال منذ الولادة ، لا سيما وان الأجل قبلها ليس مصبّ أمر تربوي.

فترى (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) هيكلا إنسانيا حيا لأوّل مرة هو أهون ، أم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٣ في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) في قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء ويؤخر ما شاء وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل فذلك قول الله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وفيه عن حمران عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن قول الله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة وهو الذي قال الله : (إِذا جاءَ ...) وهو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر والآخر له فيه المشية «إن شاء قدمه وإن شاء أخره».

وفيه عن حصين عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : «الأجل الأول هو ما نبذه الى الملائكة والرسل والأنبياء والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق».

٣٣٣

الإعادة : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) مهما لم يكن عند الله في خلقه هيّن وأهون ، ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وهنا (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) هي من عساكر البراهين القرآنية على أن خلق الإنسان الأول ليس إلّا بقفزة طينية ، دون انتسال من حيوان آخر إنسانا أو غير إنسان ، ومن غريب الوفق العددي بين النطفة والطين ان كلا منهما يذكر (١٢) مرة!.

ولو أن الإنسان كان خليق التكامل لكان صحيح التعبير عن خلقه عبارة آخر الحلقات ، ولا إشارة لخلقة غير طينية للإنسان في القرآن كله.

ولأن «كم» تعم الأرواح إلى الأجساد ، بل الأرواح أحرى في الكيان الإنساني من الأجساد ، فقد تعني (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) خلق الأرواح من الطين كما الأجساد ، وكما تدل عليه أمثال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢٣ : ١٤) وسائر الآيات المصرحة بخلق الإنسان ـ بجزئية ـ من تراب ـ طين ـ ماء ـ نطفة أماهيه من مادة.

و «قلوبهم» وجاه «أبدانهم» في الأثر ، قد تعني أرواحهم ، وذلك من تجاوب الكتاب والسنة في جسمانية الأرواح كما الأجساد مهما اختلف جسم عن جسم (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٠٢ في اصول الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن رجل عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : «إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة وجعل خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك وخلق الكفار من طينة سجين قلوبهم وأبدانهم فخلط بين الطينتين فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن ومن هاهنا يصيب المؤمن السيئة ومن ها هنا يصيب الكافر الحسنة فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه وقلوب الكفار تحن إلى ما خلقوا منه».

٣٣٤

ذلك ، وإلى لمسة ثالثة هي الحيطة الربانية على الكون كله :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(٣) :

ولا تعني «في» هنا ظرفية هذا الكون لذات الله سبحانه ، إنّما هو ظرف لألوهيته وربوبيته للكون كله. ف (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٤٣ : ٨٤) ردا على مزعمة أن ألوهيته خاصة بالسماوات وللأرض رب مخوّل من عنده أمن هو؟.

وأما (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) (٦٧ : ١٦) فهم عمال الله من ملائكة السماء وليس هو الله كما فصلنا القول فيه عندها.

كلّا! بل إن ربوبيته تعالى تشمل السماوات والأرض على سواء ، و (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) على سواء ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) في مثلث الزمان على سواء ، وهو في مستقبله أخفى من «سركم» إذ لا تعلمون أنتم مستقبل مكاسبكم ونياتكم وطوياتكم : (وَإِنْ (١) تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧).

و (ما تَكْسِبُونَ) هنا قد تعم مكاسب السر والجهر في النشآت الثلاث ، الى (ما تَكْسِبُونَ) من نيات وطويات وأعمال في المستقبل بمكاسبها.

وقد تعني «سركم» هنا ما أسررتم وأنتم تعلمون ، أمّا أسرّ عنكم وأنتم تجهلون ، وهو الأخفى من السر.

ذلك ، وخير تفسير لآيتنا هذه في آية الزخرف (٨٤) وعلى ضوءهما ما يروى من حوار بذلك الشأن عن الامام الصادق (ع) حيث يجيب بعد ما يسأل عنها : «كذلك هو في كل مكان» قال : بذاته؟ قال :

٣٣٥

ويحك إن الأماكن أقدار ، فإذا قلت : في مكان بذاته ، لزمك أن تقول : في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وليس علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء ، ولا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا واحاطة (١).

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤).

(آياتِ رَبِّهِمْ) هي الآيات الدالات على ربوبيته تكوينا وتشريعا ، أم قد تعم الآيات الأنفسية الى الآفاقية ، وإيتائها ـ إذا ـ بروزها مهما أخفوها أو اختفوا عنها ، فقد تبرز الآيات الفطرية إذا انقطعت الأسباب وحارت دونه الألباب ، فينقطعون اضطراريا إلى الله ثم هم معرضون : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٢٩ : ٦٥).

ولا يعني إعراضهم عن آيات ربهم إلّا إعراضهم عن ربهم تعمية عليهم كونه وكيانه ، وهم يعيشون آيات ربهم ليل نهار!.

ذلك ، والمفروض على من يعرف ربه أو يحتمل كونه أن يفتش استنباطا عن آياته حتى تكتمل معرفته به على ضوءها ، وحتى الذكري ينكره ، عليه أن يبرهن على نكرانه فليفتش عما يدعي كونه من آياته ، فإما سلبا كما خيّل إليه ـ ولن يكون ـ وإمّا إيجابا كما تهديه إليه فطرته وعقليته والكون بأسره ، حيث الكائنات ككل هي براهين ساطعة قاطعة على وجود الله وتوحيده.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٥١٧ ـ ابن بابويه بسند متصل عن محمد بن النعمان قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) قال : «هو كذلك في كل مكان ...».

٣٣٦

والمشتاق إلى ربه ، المفتاق إلى هدايته ورحمته ، ليس ليصبر حتى تأتيه آيات من ربه ، بل ويفحص عنها فحصا باحثا ما حصا غير قالص ولا فالس ، ولكي يزداد به إيمانا وفيه اطمئنانا.

فالناس وجاه آيات ربهم على ضروب شتى ، فمنهم من يفتش عنها ، ومنهم المعرض عنها ، ومنهم عوان بينهما ، فالأولون هم المتقون والآخرون هم الطاغون ، والعوان بينهما عوان بينهما.

وهذه موجة عريضة في مطلع السورة ، تخاطب ضمير الإنسان بدليل آيات الرب الكامنة في الأنفس ، والمكتملة في الآفاق.

وليس ذلك خطابا لاهوتيا فلسفيا يختص بالمتفلسفين واللّاهوتيين ، إنما هو خطاب موجه إلى كل الفطر والعقول والحواس والعلوم في كل الحقول على درجاتها.

والتذكير بآيات ربهم هو الموجه الغامرة الكون كله ، بكل الآيات الربانية آفاقية وأنفسية ، وترى ما هو سبب إعراضهم عن آيات ربهم حين تأتيهم؟ :

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٥) :

«الحق» ـ ككل ـ الآتي من قبل الحق ، المزود بآيات ربوبيته ، إنهم كذبوه إعراضا عنها كيلا يصدقوه ، ومثلهم كمثل من قال عنهم نوح (ع) : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً)(٧١ : ٧).

ذلك «فسوف» في مثلث النشآت (يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ومن أنباءه هنا عذاب الاستئصال ، ومن ثم عذاب البرزخ والقيامة.

ولأن النبأ هو خبر ذو فائدة عظيمة ، وهو يعم واقع النبإ إلى الإخبار

٣٣٧

به ، لذلك فقد تشمل الإنباء مثلث النشآت إخبارا وواقعا ، مهما لم تفدهم أنفسهم إلّا هنا لو كانوا ينتبهون كما في قوم يونس ، أم ولا أقل من إفادتها سائر الناس ، وأما في البرزخ والقيامة فلا فائدة لهم منها إلّا بائدة.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦) :

القرن ـ وهو الردف والاقتران ـ وهم هنا القوم المقترنون في زمن واحد متصل ، ولأن العمر المتعود للإنسان لا يعدو مائة سنة ، لذلك سميت قرنا قضية اقترانهم في كل مائة مائة ، انقراضا للسابق وافتتاحا للّاحق ، فقد لا يختص القرن بذلك الزمن المحدد ، حيث الأصل هو كل ردح زمني لأمة تعيشه ، مائة أما زاد أو نقص.

(أَلَمْ يَرَوْا) رؤية تأريخية جغرافية بما وصلتهم من أنباء من (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) وقد (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٦ : ٢٦).

«مكناهم» بسلطات زمنية وقدرات مالية ورحمات منها غزيرة ، ولكنهم ـ بما كانوا يجحدون بآيات الله وما كانوا يستهزءون ـ (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) دون أن تغينهم عن بأسهم مكنتهم ولا عن بؤسهم مكانتهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) مثل قرنهم ، قرنا بهم بعدهم ليبلوهم فيما آتاهم ، ف (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (١٩ : ٧٤) و (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) (٥٠ : ٣٦) ف (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) (١٩ : ٩٨)؟ كلّا بل (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣٨ : ٣) وقد مضى يوم خلاص!.

٣٣٨

فالذنوب هي التي تخلّف الهلاك ، هنا نزيرا ، وهناك بعد الموت غزيرا ، ومن رحمات الله على المؤمنين أن قد يأخذهم بذنوبهم هنا كيلا يؤخذوا بها هناك واين أخذ من أخذ؟.

وهنا (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) تعني جماعة بعدهم إذ أهلكوا بالطاغية.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧):

هؤلاء المعرضون عن آيات ربهم لا يفرّقون بينها في تكذيبهم مهما تطلبوا كتابا في قرطاس ينزل من السماء ملموسا لهم بأيديهم حيث يتقولون قولتهم الفاتكة الهاتكة : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فما تفيدهم إذا آيات مقترحات كما سواها من آيات.

لقد اقترح مشركون ومعهم كتابيون تنزيل كتاب من السماء ، فكما لهؤلاء : (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (١٧ : ٩٣) كذلك لأولاء (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ...) (٤ : ١٥٣).

إذا فتجاوبهم في تحقيق آيات مقترحات ـ ولا سيما التي ليست هي في الحق بآيات ـ إنه تجاوب معهم في التكذيب والاستهزاء بها وتهديرها وتهذيرها دون اهدائها أو تحذيرها.

وهنا (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ) تبيّن أن هؤلاء الحسيين الناكرين لما وراء الحس بلغوا في عناد النكران لحد ينكرون المحسوس الملموس كما ينكرون غير المحسوس ، لأن تصديق ذلك المحسوس ذريعة إلى تصديق لغير المحسوس.

٣٣٩

وترى تنزيل كتاب في قرطاس مستحيل كما تدل عليه «لو»؟ والله على كل شيء قدير!

إنه مستحيل مصلحيا في أبعاد : «أن نازل كتاب الوحي من السماء لمحة إلى أن المنزل هو ساكن السماء وليس به ، وان منزل الوحي هو قلب الرسول وليس حسّه حتى ينزل عليه كتاب في قرطاس ، ثم في تحقيق اقتراحهم هذا مسايرة معهم في باطل حيث هم بعد منكرون.

ذلك! وكما (لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥ : ١٥).

ذلك انما هو من خلفيات نكرانهم البغيض الحضيض ، فليس الذي يجعلهم يعرضون عن آيات ربهم أن البرهان على صدقها قاحل أو ضعيف ، أو غامض لا يعرفه إلّا عباقرة ، أو أنها تختلف فيها أرباب العقول ، إنما هو المكابرة الغليظة البغيضة والعناد الصفيق السحيق.

ثم ومن عاذرتهم كما يهوون أن لم يبعث الله إليهم ملكا يحمل وحيه وهم شاهدوه :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) :

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) يصدقه ونراه يوحي إليه لنا ، أفلم يكن ـ إذا ـ برهانه أمتن وتصديق أمكن؟

والجواب الحاسم أولا (لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) وثانيا (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ..) فما هو الأمر المقضي؟

هل هو قضاء أمر الحياة فلا تكليف ـ إذا ـ فلا نتاج لنزول الملائكة؟ كما (لَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ

٣٤٠