الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

وهذا درس للمسلمين في ضرورة اعتصامهم بحبل الله جميعا ، كفاحا صارما في كل ميادين النضال بين الكفر والإيمان.

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١) :

وترى «النبي» هنا هو نبينا؟ والقضية الأولى للإيمان به وما أنزل إليه هي ولاية المؤمنين به حيث (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)! أم هو «النبي» الذي به يعتقدون ـ على حدّ دعواهم ـ؟ والإيمان به يصونهم ـ لأقل تقدير ـ عن اتخاذ المشركين أولياء فإنه القضية الأولى للإيمان الكتابي!.

وقد يعني «لو كانوا» إلى ذلك المعني «لو كانوا» هؤلاء الكفار الذين اتخذوهم هؤلاء أولياء (لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ) محمد (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) كما المسلمون (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) لانطباعهم على الكفر ، فهم يحيدون عن الإيمان والمؤمنين بالله ، وتصديق ذلك العداء العارم على المؤمنين المسلمين :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(٨٢) :

هنا يقتسم الناس وجاه الذين آمنوا إلى ثلاث ، فالنسناس منهم هم (أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) من اليهود والمشركين ، إخوان اثنان في ذلك الأشد بأشدّه ، والناس منهم وهم (أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ـ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) حين قال المسيح (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٥٢) ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ

١٨١

أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ..) (٦١ : ١٤).

فهم أولاء الذين (قالُوا إِنَّا نَصارى) من الحواريين الصادقين في إيمانهم ومن تبعهم بإحسان ، وهم الموحدون القلة بين المثلثين الكثرة ، مؤمنين بالرسالة العيسوية كما يصح ، ومن أهم قضاياه البشارة بالرسالة المحمدية (ص).

فالإيمان الكتابي الصادق مصدّق بالإيمان القرآني اللّاحق وهو بارز في جمع من النصارى ، ولكن اليهود العنود هم أعدى الأعداء (لِلَّذِينَ آمَنُوا) إذ لم يؤمنوا بالرسالة الموسوية إلّا نفاقا عارما أو كفرا صارما ، اللهم إلّا القليل ممن وفى لرعاية الحق منهم.

ذلك ، وقد يروى عن النبي (ص) قوله : «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله ـ أو ـ حدث نفسه بقتله» (١) وأما هؤلاء النصارى ف «أولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ينتظرون مجيء محمد (ص) (٢) وأضرابهم من المؤمنين بالحق.

ذلك ، ولكنه هل ترى المودة النصرانية غير المحلّقة على كلهم للذين آمنوا ، كيف تجعلهم أقرب مودة لهم ، دون اليهود والمشركين وقد آمن منهما جموع كما آمن من النصارى؟.

هذا ، لأن الذين قالوا إنا نصارى هم جمع خصوص من المسيحيين ، ولا نجد جمعا هكذا بين اليهود والمشركين اللهمّ إلّا فالتين عنهم.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٠٢ ـ أخرج ابو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) :

(٢) نور الثقلين ١ : ٦٦٣ في تفسير العياشي عن مروان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) قال : ذكر النصارى وعداوتهم فقال : قول الله (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) قال : أولئك ..

١٨٢

ثم و (بِأَنَّ مِنْهُمْ ..) علل ثلاث لكونهم ككلّ ، وبطبيعة الحال الكتابية السليمة ، هم أقرب مودة للذين آمنوا.

فمهما كان بين اليهود أحبار كما بين النصارى قسيسون ورهبان ، ولكن أين أحبار من اليهود وأين قسيسون ورهبان من النصارى ، فظاهرة الاستكبار في أحبار اليهود ، وظاهرة عدم الاستكبار في القسيسين والرهبان ، هما ظاهرتان متناحرتان تجعلان اليهود والنصارى ككل متناحرين في حقل المودة للذين آمنوا.

ذلك ، لأن الحياة السعيدة قائمة بالعلم والتواضع أمام الحق ، والقيادة العلمية المتواضعة بين الذين قالوا إنا نصارى تجعل من شعوبهم عارفين الحق ، والتواضع البارز فيهم يجعل منهم غير متصلبين أمام الحق ، وليس لليهود طول تاريخهم ـ إلّا القليل ـ هذه القيادة السليمة.

وأما المشركون فهم يفقدون أصل القيادة الصالحة إلى قيادة شركية طالحة بحتة كالحة ، وأنحس منهم اليهود الذين يعادون الذين آمنوا كما المشركين أو اكثر منهم ، وهم أهل كتاب وبينهم قيادات روحية توراتية!.

ذلك ، وأما العداء العارم الذي يحمله المبشرون المسيحيون ضد الإسلام ، بدعايات وكتابات ومحاولات مضللة أخرى ضد الإسلام ، في حين لا نجد لليهود هكذا دعايات؟.

نقول فيها أولا انهم ليسوا من النصارى مهما (قالُوا إِنَّا نَصارى) حيث لم يفوا لرعاية الحق في المسيح (ع) فهم خارجون عمن يصفهم الله تعالى بتلك المودة الايمانية.

وأما جحود اليهود عن الدعاية اليهودية؟ فلأنهم يرونهم أنفسهم شعب الله المختار ، فلا يختارون ـ إذا ـ ذلك الإختيار لمن سواهم ، ثم هم يعرقلون ضد المسلمين كافة العرقلات في مختلف الحقول حتى يخرجوهم

١٨٣

عن دينهم ، أو يحرجوهم فيميلوا إليهم ، فهم أشد وأنكى من المسيحيين ، وهم رؤوس كافة المشاكل ضد المسلمين وكما قال الله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ..).

ذلك ، ولا تعني (أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلّا (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) بمواصفات لهؤلاء ليس يحملها إلّا جماعة خصوص من النصارى.

فهنا (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) والقسّيس هو معرب كشيش ، عالم النصارى ، والرهبان هم المتعبدون المتزهدون علماء وسواهم ، فالعلم والزهادة في القيادة هما المؤثران الرئيسيان في صلاح الشعوب ، إضافة إلى عدم الاستكبار في تلك القيادة ، ومن ثم ، وعلى أثر هذه الثلاث : (قالُوا : ... قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) فهم :

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣):

وهؤلاء هم ـ ممن سبق ـ نصارى الحبشة حين بعث الرسول (ص) جماعة من المسلمين إلى النجاشي فلقوا إجابة لهذه الرسالة السامية دونما نكول أو خمول (١) ولم يسبق لهم مثيل في اليهود ، ولا في المشركين ،

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠٢ ـ أخرج عن جماعة انه بعث رسول الله (ص) عمرو بن امية الضمري وكتب معه كتابا الى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله (ص) ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل النجاشي الى الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم امر جعفر بن أبي طالب ان يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم سورة مريم فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع وهم الذين انزل فيهم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) ـ الى ـ (الشَّاهِدِينَ) وفيه عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه ـ

١٨٤

اللهمّ إلّا في فتح مكة حيث أسلم المشركون طوعا أو كرها بعد ردح طويل من الزمن من محارباتهم ومضايقاتهم ضد الرسول (ص) والذين آمنوا معه.

فقد «كان رسول الله (ص) وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان ابن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة ..» (١) مهاجرة مؤقتة ،

__________________

ـ والسن ، وفي لفظ بعث من خيار أصحابه الى رسول الله (ص) ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله (ص) دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا انه الحق فانزل الله فيهم (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ...)

(١) المصدر : .... لما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاصي في رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا اصحاب النبي (ص) الى النجاشي فقالوا : انه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها زعم انه نبي وانه بعث إليك رهطا ليفسد عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم ، قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول الله (ص) فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا : استأذن لأولياء الله فقال : ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا فقال الرهط من المشركين الم تر أيها الملك أنا صدقناك وانهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا : إنا حييناك بتحية اهل الجنة والملائكة ، فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وامه؟ قالوا : يقول : عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها الى مريم ، ويقول في مريم : انها العذراء الطيبة البتول ، قال : فأخذ عودا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وامه على ما قال صاحبكم هذا العود ، فكره المشركون قوله وتغير وجوههم فقال : هل تقرءون شيئا مما انزل عليكم؟ قالوا : نعم ، قال : فاقرأوا فقرأوا وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، قال الله : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) ـ الى ـ (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).

وفي نور الثقلين ١ : ٦٦١ عن تفسير القمي كان سبب نزول هذه الآية انه لما اشتدت قريش في أذى رسول الله (ص) وأصحابه الذين آمنوا به بمكة قبل الهجرة أمرهم ـ

١٨٥

ودعاية للإسلام ، فاستنصارا بمن يؤمن في هذه الرحلة ، وقد حصلت كأحسن ما يرام لصالح الإسلام حيث آمن النجاشي وجمع من القسيسين والرهبان وسواهم من (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى).

فهؤلاء القدامى ومن يتابعهم بإحسان طول التاريخ الإسلامي ، هم المعنيون بهذه الآيات الواصفة ل (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) دون الضالين منهم والمضللين ، ف (إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣ : ١٩٩).

ولقد أمر الرسول (ص) المؤمنين أن يصلوا على النجاشي حيث مات في طريقه إليه (ص) مؤمنا بهذه الرسالة السامية ، فقال المنافقون : أنظروا

__________________

ـ رسول الله (ص) أن يخرجوا إلى الحبشة وامر جعفر بن أبي طالب ان يخرج معهم فخرج جعفر ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر ـ ثم يستمر في القصة بزيادات عما نقلناه عن الدر المنثور الى قوله ـ : ورجع عمرو الى قريش فأخبرهم ان جعفرا في ارض الحبشة في أكرم كرامة .. فكتب رسول الله (ص) إلى النجاشي يخطب أم حبيب فبعث إليها النجاشي فخطبها لرسول الله (ص) فأجابته فزوجها منه وأصدقها اربعمائة دينار وساقها عن رسول الله (ص) وبعث إليه (ص) بمارية القبطية ام ابراهيم وبعث اليه بثياب وطيب وفرس وبعث ثلاثين رجلا من القسيسين فقال لهم انظروا إلى كلامه وإلى مقعده ومشربه ومصلاه فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله (ص) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ـ الى قوله ـ : (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فلما سمعوا ذلك من رسول الله (ص) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله (ص) وقرءوا عليه ما قرأ عليهم رسول الله (ص) فبكى النجاشي وبكى القسيسون واسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة يريد النبي (ص) فلما عبر البحر توفي فأنزل الله على رسوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ) ـ الى قوله ـ : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ).

١٨٦

إلى هذا يصلي على علج نصراني حبشي لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله هذه الآية (١).

ولقد كان من كتاب رسول الله (ص) إلى النجاشي حين بعث وفده إلى الحبشة : «بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم صاحب حبشة ، سلام عليك ، إني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه فيه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بي وبالذي جاءني فإني رسول الله قد بعثت إليكم ابن عمي جعفر بن أبي طالب معه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجيرتك إلى الله تعالى وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)(٨٤) :

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ٤١١ عن الطبرسي قيل نزلت (إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) في النجاشي ملك الحبشة واسمه اصحمة وهو بالعربية عطية وذلك انه لما مات نعاه جبرائيل لرسول الله (ص) في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله (ص) : أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ، قالوا : ومن هو؟ قال : النجاشي ، فخرج رسول الله (ص) الى البقيع وكشف له من المدينة الى ارض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه ، فقال المنافقون ... وقيل : نزلت في جماعة من اليهود كانوا اسلموا منهم عبد الله بن سلام ومن معه عن ابن جريح وابن زيد وابن إسحاق ، وقيل : نزلت في مؤمني اهل الكتاب كلهم.

أقول : هذا الأخير هو الأصح إذ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) مهما كانت النصارى اقرب ايمانا ـ

١٨٧

«ومالنا» استفهام استنكار لعدم الإيمان بعد مجيء الحق الناصع ، أن الحق بنفسه مطلوب فطري وعقلي ، ولا سيما في رجاء الرحمة على ضوء الإيمان به (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الذين سبقونا بصالح الإيمان.

فالإيمان بالله هنا رأس الزاوية ، (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) من الله هو شرعة الحق ، (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا) هو النتاج الآجل ـ بعد العاجل ـ للإيمان الحق ، وهذه هي أصول الدين بفروعه في الشرعة القرآنية.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٨٥):

(... بِما قالُوا) قولة الإيمان والعمل الصالح دون مجرد قولة اللسان ، وهذه الإثابة مما يبرهن لنا أن (أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) ليسوا كل النصارى ، وإنما هم الموصوفون بهذه المواصفات الناحية منحى الإيمان ، دون الناحية عن الإيمان أو العوان بين الإيمان واللّاإيمان.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦) :

تلك هي ضفّة صالح الإيمان ، وهذه ضفّة كالح الكفر وبينهما متوسطات بين (فَأَثابَهُمُ اللهُ) و (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فقد يعذبون قدر ما يستحقون ثم مصيرهم إلى الجنة.

ذلك ، ولأن جدد الإيمان من المسيحيين ظلوا شيئا مّا على الرهبانية المبتدعة فأثرت في المسلمين ، لذلك تأتي هدى من الله تعدل هذه الحالة إلى ما شرّعه الله :

١٨٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا

١٨٩

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا

١٩٠

اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٨٨) :

هذه ، و (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٧ : ٣٢) هاتان الآيتان تعدّلان إفراط التقشّف المتسرّب من رهبنة النصارى ، المترسب في البعض من المسلمين ، والتحريم هذا يشمل مثلثه : تحريما تشريعيا أم شخصيا على نفسه أم على غيره ، والأخيران هما تحريمان عمليان.

و (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قد تعني غير المباحات والمرجوحات ، فالمحرمات خارجة عما (أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فتبقى الواجبات والمستحبات وتحريمهما تشريعيا أم بنذر أو عهد أو يمين تحريم لطيبات ما أحل الله ، وأمّا أن تحرّم على نفسك مرجوحا أم ومباحا في تركه رجاحة ، بحلف وشبهه فلا يدخل في نطاق التحريم فإنهما ليسا من الطيبات مهما كانا مما أحل الله ، وليست الرهبنة المنهية إلّا تحريم الراجحات واجبة أو مندوبة.

وقد يشمل تحريم طيبات ما أحل الله إضافة إلى التشريعي منه والعملي ان يعتقد في حرمة محلل أو يفتي به أو يعامله معاملة المحرم ، أو أن يخلط الحلال بالحرام دون تميز فيحرم ـ إذا ـ الحلال ، فالنهي إذا يشمل كل مراحل التحريم دونما استثناء.

وما توصيف البعض ب «رهبانا» امتداحا لهم طليقا ، فإنما هو امتداح أمام المتورطين في اللذوذ المادية وجمع الأموال من اليهود ، ويؤيد ذلك

١٩١

الوسط النسبي : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٥٧ : ٢٧).

إذا فالرهبانية المكتوبة عليهم كانت مشروطة بشروط وملابسات خاصة أمام اليهود ، ثم نسخت في شرعة الإسلام مع سائر ما نسخ من أحكام توراتية أو إنجيلية ، فما كانت الرهبانية المكتوبة كأصل من شرعة الناموس ، بل هي كتابة مؤقتة لمصلحة خاصة في ملابسات خاصة غير مستمرة ولا راجعة ، فلا رهبانية ـ إذا ـ في الإسلام.

وهنا «لا تعتدوا» نهي عن الاعتداء في حقل الطيبات في جانبي الإفراط والتفريط ، فمن الإفراط تحريم طيبات ومن أنحسه الإخصاء الذي صمم عليه بعض المجاهيل من المسلمين ، ومن التفريط تحليل البعض من غير الطيبات ، كما وهو نهي عن الاعتداء على الله وعلى نفسك وسواك

ثم (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ) تعم الطيبات الجنسية نكاحا محللا ، وطيبات المساكن والملابس والمطاعم والمشارب ، دون أي إفراط أو تفريط.

ولقد ورد في الآثار المروية عن النبي (ص) وأئمة أهل بيته الأطهار عليهم السلام التنديد الشديد بتحريم ما أحل الله بألفاظ مختلفة عدة ، مما يشعرنا بملابسة خاصة عند نزول هذه الآية ، وإن الرهبنة المدسوسة بين المسلمين ما كانت تقف لحد مثل ترك المقويات والمشهيات حتى لا يشتهي النساء ، ثم وترك إتيان النساء ، فقد وصلت إلى العزم على الإخصاء والجبّ وما أشبه فنهى عنها النبي (ص) ونزلت هذه الآية والتي في الأعراف وأضرابهما مما تحلل الطيبات (١).

__________________

(١) في الدر المنثور ٢ : ٣٠٧ ـ ان رجلا أتى النبي (ص) فقال يا رسول الله (ص) إني إذا ـ

١٩٢

__________________

ـ أكلت اللحم انتشرت للنساء واخذتني الشهوة واني حرمت عليّ اللحم فنزلت هذه الآية ، وفيه عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في رهط من الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي (ص) فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك قالوا : نعم فقال النبي (ص) : لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وانكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ، وفيه عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله (ص) وليس معنا نساءنا فقلنا ألا نستخصي فنهانا رسول الله (ص) عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب الى اجل ثم قرأ عبد الله هذه الآية ، وفيه عن أبي قلابة قال : أراد ناس من اصحاب رسول الله (ص) ان يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله (ص) فغلظ فيهم المقالة ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم ، قال : ونزلت هذه الآية ، وفيه عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا ان رجالا من اصحاب النبي (ص) رفضوا النساء واللحم وأرادوا ان يتخذوا الصوامع فلما بلغ ذلك رسول الله (ص) قال : ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع ، وفيه اخرج ان أبي شيبة وابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال : قال النبي (ص) لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، وفيه اخرج ابن جرير عن السدي قال ان رسول الله (ص) جلس يوما فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقال ناس من اصحاب رسول الله (ص) ما حقنا ان لم نحدث عملا فان النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل منها وحرم بعضهم النوم وحرم بعضهم النساء فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها الحولاء فقالت لها عائشة ومن حولها من نساء النبي (ص) ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت وكيف أتطيب وامتشط وما وقع علي زوجي ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا فجعلن يضحكن من كلامها فدخل رسول الله (ص) وهن يضحكن فقال ما يضحككن ، قالت يا رسول الله (ص) الحولاء سألتها عن أمرها فقالت ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا فأرسل اليه فدعاه فقال ما بالك يا عثمان ، قال : اني تركته لله لكي اتخلي للعبادة وقصّ عليه امره وكان عثمان قد أراد أن بجبّ نفسه فقال رسول الله (ص) أقسمت ـ

١٩٣

أجل «لا تحرموا .. ولا تعتدوا» اعتداء على الله تشريعا خلاف ما شرعه ، ثم على نفسك تحريما عمليا لما أحلّ الله ، ثم على غيرك ، ومن ثم اعتداء في حقل طيبات ما أحل الله إسرافا أو تبذيرا ، فإن كل ذلك اعتداء تشملها «لا تعتدوا».

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ...) أمر عقيب حظر يفيد الإباحة بمختلف مراحلها ، ثم «حلالا طيبا» تفيد سماح الأكل بالرزق الحلال فإن منه حراما كما (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (١٦ : ٦٧) فتقييد «رزقا» ب «حسنا» يلمح أن هناك رزقا سيئا ، وذلك قضية التوحيد الأفعالي أن المأكول المحرم رزق سيء لمن أختاره بسوء الإختيار.

وقد تعني «كلوا» كافة التصرفات كما (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ

__________________

ـ عليك إلّا رجعت فواقعت أهلك فقال يا رسول الله (ص) إني صائم قال : أفطر : فأفطر وأتى اهله فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت فضحكت عائشة فقالت : مالك يا حولاء فقالت : إنه أتاها أمس فقال رسول الله (ص) ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وانكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) يقول : لا تجبّ نفسك فان هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا ايمانهم فقال : لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم .... وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ان رجالا من اصحاب النبي (ص) منهم عثمان بن مظعون حرموا اللحم والنساء على أنفسهم وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكي تنقطع الشهوة عنهم ويتفرغوا لعبادة ربهم فأخبر بذلك النبي (ص) فقال : ما أردتم؟ قالوا : أردنا ان نقطع الشهوة عنا ونتفرغ لعبادة ربّنا ونلهو عن الناس فقال رسول الله (ص) : لم أؤمر بذلك ولكني أمرت في ديني أن أتزوج النساء فقالوا نطيع رسول الله (ص) فأنزل الله هذه الآية فقالوا : كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها فأنزل الله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ ...) وفيه عنه (ص) ان خصاء امتي الصيام وليس من امتي من خصى أو اختصى.

١٩٤

بِالْباطِلِ) (٢ : ١٨٨)فقد بلغ الأكل إيجابيا وسلبيا مبلغ العموم لحد لو لا القرينة المعينة لخصوص الأكل لما تعين به.

وقد تعني «مما» الحظر عن أكل كل الحلال حيث الانفاقات الواجبة والمستحبة تتهدر بذلك الإسراف والتبذير ، اللهم إلّا من له كفاف لا زائد ولا ناقص.

ذلك ، ومن أطيب الطيبات المحللة نكاح الطيبات ، فتركه مع الحاجة إليه وأنت على سعة من المال إمّا حمق أو فجور أم رهبنة ليست في الإسلام (١).

أترى أن حلف المسلم على ترك طيبات محللة محظور عليه أن يلغي يمينه؟ :

__________________

(١) المصدر أخرج عبد الرزاق واحمد عن أبي ذر قال دخل على رسول الله (ص) رجل يقال له عطاف بن بشير التميمي فقال له النبي (ص) هل لك من زوجة؟ قال : لا ، قال : ولا جارية؟ قال : ولا جارية ، قال : وأنت موسر بخير؟ قال : نعم ، قال : أنت إذا من اخوان الشيطان لو كنت من النصارى كنت من رهبانهم ان من سنتي النكاح شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم أبالشيطان تتمرسون ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلّا المتزوجين أولئك المطهرون المبرؤون من الخنا ويحك يا عكاف ... تزوج وإلّا فأنت من المذبذبين.

وفيه أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي نجيح قال : قال رسول الله (ص): من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني ، وفيه عنه قال : قال رسول الله (ص): مسكين مسكين مسكين رجل ليست له امرأة ، قيل يا رسول الله (ص) وإن كان غنيا ذا مال؟ قال : وإن كان غنيا ذا مال ، قال : ومسكينة مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج قيل يا رسول الله (ص) وإن كانت غنية أو مكثرة من المال؟ قال : وإن كانت.

١٩٥

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ (١) إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩):

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٢٢٥).

اللغو في الأيمان يعني ـ ككلّ ـ اليمين اللّاغية كالتالية :

١ ـ أن تجعل الله عرضة ليمينك دون تقصّد لأمر يحتاج إلى يمين كأن تقول «لا والله وبلى والله ولا يعقد على شيء» (٢).

٢ ـ أو أن تحلف بترك الواجب أو فعل الحرام ، أو الالتزام بترك سنة أو فعل مرجوح فإنه من لغو الإيمان إذ لا تثبت امرا ولا تنفي بحساب الشرع.

٣ ـ أم تحلف على فعل راجح لزاما وسواه ، أم على ترك مرجوح لزاما وسواه ولا تنوي الالتزام به.

__________________

(١). كما في الكافي عن مسعدة عن الصادق (ع) في الآية قال : اللغو قول الرجل : ... ومثله ما في الدر المنثور ١ : ٢٦٩ عن عائشة أن رسول الله (ص) قال : هو كلام الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله ، وفيه عن الحسن قال : مر رسول الله (ص) بقوم ينتصلون ومع النبي (ص) رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله اخطأت والله فقال الذي مع النبي (ص) حنث الرجل يا رسول الله (ص) فقال : كلّا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة؟

١٩٦

٤ ـ أم تحلف هكذا ناويا التزامك به ثم تلغيه تحلّة مفروضة أم راجحة أم محرمة.

٥ ـ أم حلفا بغير الله فإنه محظور إذ لا حلف إلّا بالله كما لا نذر إلّا لله.

ومهما كان المناسب لملابسة الآية نظرة إلى سالفتها هو الثاني ولكن لفظ الآية لا يتقيد بها ، حيث يعم هذه الخمسة دون إبقاء ، ومهما كانت الأخيرة لا تحسب من «أيمانكم» فكذلك الأربعة الباقية.

كما وأن (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) تعم كل حفاظ على الأيمان ، حفاظا لها عن كل لغو ، فمهما كان اللغو في الأيمان في مراحلها الخمس غير مؤاخذ بها كأصل ، حيث المؤاخذة هي (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) و (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن اللغو في الأيمان محظور مغفور.

فالأيمان الصحيحة الصالحة هي واجبة الحفظ ألّا تلغ ، والأيمان الباطلة غير الصالحة هي واجبة الإلغاء وهي نفسها محظورة مهما كانت بجنب «ما عقدتم الأيمان ـ و ـ ما كسبت قلوبكم» مغفورة ، فالمؤاخذة ـ إذا ـ ليست هي الألسن ، بل هي القلوب ، ثم كفارته ...

فالأيمان اللّاغية مؤاخذ بها بما عقّدتم الأيمان ، تعقيدا في صالحها بإلغائها دونما عذر ، حيث تجب تمشيتها ، أو تعقيدا حين تحلفون في صالح كأن لا تنووا تحقيقها ، أم في طالح فإنها معقدة شرعيا حيث لا تنفذها شرعة الله ، أم في أمر لاغ لا صالح ولا طالح كأن لا تنووا أمرا كقول لا والله وبلى والله.

ولأن (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) قد تشمل هذه الخمس كلها مهما اختلفت دركاتها ، فقد تكون الكفارة المتفرعة على التعقيد محلّقة عليها كلها ، فإن ضمير المفرد هنا لا مرجع له إلّا «ما عقدتم» : جعلتم تعقيدا للأيمان إيجابيا أو سلبيا ، نية أو عملية أماهيه من منافر اليمين.

١٩٧

ذلك ، ولكن «ما عقدتم» لا تشمل ما لم تنو أمرا كالأخير إذا لم تعقّد فيه لا نية ولا أمرا نويته ، بل هو ليس من اليمين أصلا.

فلو رجع الضمير إلى (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) كانت الكفارة تشمل الرابعة مع ما سواها ، ولكن بعده مرجعا ، وبعده تفريعا حيث لا تفرع الكفارة على غير المؤاخذ به ـ هذان البعدان يبعّدان ذلك الرجوع ، «فكفارته» أي (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) حيث تعني الأيمان المعقّدة المؤكدة حتى تكون بمنزلة العقد المؤكد والحبل المحصد ـ خلافا للّتي ليست معقودة على شيء ـ تعقيدا في أصلها كان تحلف على تحقيق محظور أو ترك محبور ، أم تعقيدا في النية في الحلف المحبور ، أم تعقيدا في تحقيق محبور نويته في حلف ، فهذه الثلاثة مشمولة ل (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ ...) حيث كسبت قلوبكم فيها رينا وشينا ، تخلفا عن شرعة الله إيجابا أو تحريما متخلفا عنها ، أم تخلفا في نيتك عما تحلف صالحا ، أم تخلفا عن تطبيق ما حلفت ونويت.

ذلك فاللغو في الايمان المعقّدة فيه الكفارة بكل أقسامها ، لمكان «فكفارته» حيث تعني «ما عقدتم» من لغو الأيمان ، ولكنه متقيد بما كان التعقيد محرما ، وأما القاصر المعقّد عن جهل فلم يكسب قلبه شيئا حتى يستلزم كفارة.

ذلك (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) من أن تكون لغوا أو أن تلغوا فيها ، فالأيمان اللّاغية غير القاصدة ولا المعقدة محظورة غير مؤاخذ بها ولا كفارة فيها ، والأيمان القاصدة المعقدة إن كانت صالحة فحفظها هو نية الالتزام بها وتحقيقها ، وغير الصالحة حفظها تركها فلا يفعلها ، وإذا فعل فلا يعمل طبقها.

ذلك ، فاما المعتبرة الحاصرة لكفارة اليمين بالحنث في اليمين

١٩٨

الصالحة فهل تصلح لتقييد الاية؟ والأيمان اللاغية المعقدة كلها معنية بطليق «فكفارته» الراجع إلى (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) إضافة إلى الطليق العام في (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) حيث الحلف بعد الايمان يختصها بغير الأولى والأخيرة اللاغية تماما!.

ولكن الذي يوهن الخطب هو أن ترك نية العمل وترك العمل في المحبور هما واحد ، تشملها القائلة «إذا لم تف به» ثم تعقيد المحظور بيمين فيه الكفارة إذا حقق المحظور ، وإلّا فلا كفارة كما في الصحيح : «ما حلفت عليه مما فيه البر فعليه الكفارة إذا لم تف به وما حلفت مما فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا رجعت عنه وما كان سوى ذلك مما ليس فيه بر ولا معصية فليس بشيء» (١) وعلى أية حال :

(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).

هنا الأوسط يختلف حسب مختلف الأوساط في الإطعام ، ولكن «كسوتهم» طليقة ، اللهم إلّا أن تعني تكسوهم كسوتهم وهم الأهلون ، ولكنه احتمال لا يحتمل الاستدلال ، كما وأن (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) طليقة تعم أية رقبة.

ثم الأوسط يعم كمّ الطعام وكيفه ، فإذا كان أقله كما لكلّ مد وأكثره مدان ، وهو كيفا خبز وأكثره لحم ورز فالأوسط هنا بين الكمين كمدّ ونصف وبين الكيفين كلحم فقط أو رز.

ومن الكم هو الكم الزمني ، فإن كان يطعمهم في الأقل طعاما وفي الأكثر آخر فالأوسط هو الأوسط بينهما (٢) وكما منه الأوسط أكلا بين

__________________

(١) هو صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله (ع) : أي شيء الذي فيه الكفارة من الأيمان؟ فقال : ما حلفت ....(الكافي ٧ : ٤٤٦ والتهذيب ٣ : ٣٣٠ والاستبصار ٤ : ٤٢).

(٢) نور الثقلين ١ : ٦٦٦ عن الكافي الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في الآية قال : هو كما ـ

١٩٩

أهليكم ، فهذا مربع من الأوسط يشمله (أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ).

وهنا (عَشَرَةِ مَساكِينَ) نص في عديدهم فلا يكفي إطعام واحد منهم عشرة طعمات وما أشبه ، وظاهر الإطعام هو كامل الطعام.

وترى إن كان عنده ما يكفي إطعام الأقل من عشرة مساكين فهل يرجع إلى صيام ثلاثة أيام؟ طبعا نعم فإن «لم يجد» تنحو منحى المذكورات الثلاث.

ثم ترى إن لم يستطع ـ إذا ـ الصيام فهل يرجع إلى واجب الإطعام؟ لا دليل عليه اللهم إلّا تطوعا للخير ، وأما «الميسور لا يسقط بالمعسور» فلا دور له في مجال النص.

وهل إن «كسوتهم» تعني أقله بستر العورتين ، أم لا أقل من ثوبين (١) قميصا وإزارا ، أم ما صدقت عليه كسوة فيكفي قميص واحد يكسو الأعالي والأداني (٢)؟ الظاهر إجزاء الأخير شرط أن يكسو العورتين تماما ، والأحوط إضافة إزار معه ، حيث إن «كسوتهم» طليقة يكتفى فيها بمسماها المتعود ، ولأن الكسوة مهما قلت هي زائدة على الإطعام فقد تكفي عنه حين لا تكفي كسوة.

__________________

ـ يكون انه يكون في البيت من يأكل اكثر من المد ومنهم من يأكل اقل من المد فبين ذلك وان شئت جعلت لهم أدما والأدم أدناه ملح وأوسطه الخل والزيت وارفعه اللحم.

(١). ومما يدل عليه رواية الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في كفارة اليمين ... او كسوتهم لكل انسان ثوبان.

(٢) نور الثقلين ١ : ٦٦٧ عن الكافي عن أبي بصير قال سألت أبا جعفر عليهما السلام عن «كسوتهم» قال : ثوب واحد ، وفي الدر المنثور ٣ : ٣١٣ عن حذيفة قال : قلنا يا رسول الله «أو كسوتهم» ما هو؟ قال : عباءة عباءة ، وعنه (ص) قال : عباءة لكل مسكين.

٢٠٠