الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

المتخالفات ، محاولة فاشلة وتعلّة باطلة قاحلة تخالف كل شرائع الله ، فشرعة الله لا تقبل العدول أو التعديل من غير الله قيد شعرة ، لا لصالح التوحيد المزعوم بين الأمم ، ولا سائر المصلحيات المزعومة المناحرة لما أراه الله رسله ، ولقد تبين هنا الفرق بين الدين والشرعة والمنهاج ، فالدين واحد هو طاعة الله بإسلام الوجه في كل الوجوه لله ، والشرعة هي الشارعة إلى اصل الدين الطاعة ، وما اختلاف الشرائع في أصل الدين ، إنما هو في بعض الطقوس والشكليات ، ثم المنهاج هو الذي ينتهجه حامل الشرعة الرسولي بوحي هامشي على وحي الشرعة ، كما الشرعة متفرعة على أصل الدين ، وهذه الثلاثة متحدة في كونها دينا وطاعة لله.

ذلك ، فالصوفيات المختلقة ، زعم أنها باطنيات الشرائع والشرائع إنّما تتكفل ظاهريات ، تلكم الصوفيات هي مبتدعات بكل زور وغرور ، و «منهاجا» بعد «شرعة» هو من مجعولات الله كما الشرعة ، دون حاجة إلى تلكم الاختلافات الاختلاعات.

وعلماء كل أمة وربانيوها هم حملة شرعتهم ومنهاجهم على درجاتهم ، فالأوصياء هم استمرارية لدعوات النبوات ، كما العلماء هم استمرارية لدعوات الأوصياء ، كلّ في مكانته كما سعى وقرره الله.

وختاما للبحث حول آية الشرعة والمنهاج ، لأن شرعة محمد (ص) هي المهيمنة على الشرائع كلها ، نجد «شرعة» مرة كما هنا و «شريعة» في ثلاث أخرى ، وكما نجد محمدا أربع مرات ، إضافة إلى روح القدس والملكوت والسراج فان كلا منها ايضا اربع ، فقد تعني خماسية المربعات شرعة محمد ومحمد الشرعة فهما الملكوت وهما روح القدس وهما السراج!.

٢١

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)(٤٩):

ترى إلى م عطفت (وَأَنِ احْكُمْ ..)؟ علّها معطوفة على (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) فهناك «فاحكم» تفريعا على إنزال الكتاب ، وهنا «أن أحكم» بيانا للمسؤولية المحمّلة عليك في إنزال الكتاب.

و (ما أَنْزَلَ اللهُ) هنا هو النازل عليه في القرآن والسنة دون سائر الوحي ، وكما يؤيده (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) فإنه يعم الافتتان عنه إلى سائر الوحي المنسوخ أم أهواء خارجة عن الوحي.

فاتباع أهواءهم له محظور ، سواء أكانت أهواء لوحي الكتابين المنسوخ بالقرآن ، أم سائر الأهواء ، مهما اختلفت هوى عن هوى ، حيث الفتنة عن الوحي الناسخ هوى ، مهما كان إلى الوحي المنسوخ أم إلى غير وحي ، فلا تطع أمرهم ، ولا تجب داعيهم فإن أهواءهم داعية إلى الردى هادية إلى العمى.

وهنا تحذير الرسول (ص) أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه تأييس لهؤلاء المفتنين تلك المحاولة اليائسة البائسة حيث «أبي ذلك وانزل الله هذه الآية» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٠ ـ اخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال كعب بن اسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد انك عرفت أنّا أحبار يهود واشرافهم وسادتهم وأنا ان اتبعناك اتبعتنا يهود ولم يخالفونا وان بيننا وبين قومنا خصوصة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك فأبى ذلك وأنزل الله عزّ وجل فيهم : (وَأَنِ احْكُمْ ...) الى قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

٢٢

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن حق الوحي وعن حكمك بما أنزل الله إليك (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ) ذلك التولي المخيّر غير المسيّر (أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) بتلك الإصابة ، ذنبا يستجرّ ذنبا ثم الله لا يوفقهم لتركه (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وهنا «فاعلم» نبهة أن محاولاتهم الفاسقة وجاه ما أنزل الله إليه ليست خارجة عن حول الله وقوته ، بل هو الذي يذرهم ـ هكذا ـ في طغيانهم يعمهون (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٨ : ٥٩) فلا يحملنك تولّيهم عنك يا حامل الرسالة الأخيرة أن تحزن ، ولا تجعل إعراضهم تغلبا لهم عليك أو على الله ربك ، ولا أن يفتّ عضدك أو يحوّلك عن موقفك ، فهم أولاء فقط الذين يصيبهم السوء بذلك الإعراض ، لا أنت كرسول ولا ربك كمرسل ، ولا الصف المسلم ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.

وبذلك يغلق كل منافذ الشيطنات والعرقلات ومداخلها إلى النفوس المؤمنة.

ذلك ، وقد يعني تكرار (احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) تكرّر دعواهم اليه (ص) حيث احتكموا إليه أولا في زنى المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان بينهم (١).

ذلك (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) فلا يبقى إلّا قليل (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وذلك الكثير دركات حسب دركات الفسوق ، فكما المؤمنون في الأصل قلة بين الكافرين ، كذلك العدول فيما بينهم قلة بجنب فساقهم.

هذه هي المفاصلة بين كتلتي الكفر والإيمان دون أية مواصلة ،

__________________

(١) المجمع وهو المروي عن أبي جعفر عليهما السلام.

٢٣

فالحكم اثنان : حكم الله وحكم الجاهلية دون وسط في البين بجعل البلد بلدين أو أخذ العصا من وسطها :

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠).

ف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٦ : ٥٧) أصلا وفصلا ، ردحا قصيرا من الزمن أو كثيرا ، فكما أن أحكام الأهواء غير الصادرة عن الله هي من أحكام الجاهلية ، كذلك أحكام الله السابقة المنسوخة باللّاحقة ، هي أحكام جاهلية في الالتزام بها ـ لا في أصلها لزمنها ـ لتخلفها عما حدده الله ومدّده نسخا لها ف «الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية» (١) والقصد من حكم الله أمام حكم الجاهلية هو الحكم الفعلي لا السابق المنسوخ إذ لا يرضى به الله ، فمن الجاهلية تطبيق حكم لا يرضى به الله.

أجل ، فالحكم غير المصبوغ بصبغة الإسلام لله هو من حكم الجاهلية مهما كان من أحكام الله السابقة ، لأنه تخلّف عن حاضر حكم الله مهما كان هو حكم الله فيما مضى.

إذا فالتسليم لحاضر حكم الله المحكّم على المكلفين هو خط المواصلة بين المؤمنين بالله ، وعدم التسليم له مهما كان تسليما لغابر حكم الله فضلا عن حكم غير الله ، هو خط المفاصلة بين قبيلي الإسلام والكفر ، مهما سمى الكافر نفسه يهوديا أو نصرانيا أو مسلما!.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٤٠ عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله (ع) قال : وفيه عن أبي جعفر عليهما السلام مثله سنادا إلى الآية بزيادة : واشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية.

٢٤

فالإسلام لله في زمن الشرعة الأولى هو التسليم لها ، ثم الإسلام الثاني الإبراهيمي والثالث الموسوي والرابع المسيحي ، كل محدّد بالشرعة الحاكمة في دورها الخاص ، ومن ثم الإسلام منذ بزوغ الشرعة القرآنية هو التسليم لها إلى يوم الدين.

فهنا ثالوث منحوس من حكم الجاهلية ، قد تتمثل في وثنية الشرك وأخرى في انحراف كتابي وثالثة بين المسلمين ، وقد تشملها «حكم الجاهلية» المناحرة لحكم الله.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) :

لقد نظر الله إلى كل الحاجيات الحاضرة والمستجدّة لكل أمة فشرع لكلّ شرعة من دينه دون أية نقيصة جليلة أو قليلة ، ثم نظر إلى كافة المكلفين إلى يوم الدين فحاسب حسابات كافة المستجدّات والملابسات لهم جماعات وفرادى ، فشرع شرعة القرآن من الدين ، حافلة لكافة المستجدات ، كافلة لكل الحاجات.

والغلطة الشهيرة بين الناس أن توالي الشرائع هي من قضايا تقدم المكلفين في تفهّم حقائق الدين ، الفاسحة لمجال الخيال أن البشرية ـ وبعد أربعة عشر قرنا ـ بحاجة إلى شرعة جديدة تصلح للقمة العقلية والعلمية التقدمية لها.

إن هذه الغلطة ترد إلى أصحابها بنص القرآن : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ... لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) لا ليقدمكم فيما فيه تتقدمون وإلّا لم يكن لتتابع الشرائع من أمد تقف عنده!.

ذلك ، ولأن الجانب الأحكامي من الشرائع لا يفرق بين العالم والجاهل في تلقيها وتطبيقها ، فليس التكامل العلمي والعقلي بالذي يسبب تكامل هذه الأحكام العملية.

٢٥

ثم الجانب العقيدي موزع على كافة الاستعدادات ، كلّ قدره وإمكانيته ، وترى أن الفلاسفة الأولين قبل نزول الكتب الثلاثة وبينها وقبل نزول القرآن هم ما كانوا يأهلون لتفهم الجانب العقلي العقيدي من شرعة الله.

ذلك ، والأصول الثلاثة العقيدية واضحة في أصولها ، مسبّلة في الحصول عليها و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

صحيح أن الشرعة القرآنية أكمل من كل شرائع الدين قبلها ، ولكنها قضية خلودها ، وكفالتها لكافة الحاجيات على مدار الزمن إلى يوم الدين ، لا أن القوم اللّدّ من العرب الجاهلي كانوا يستحقون ذلك الكمال الخالد من شرعة الله ولم يكن يستحقه النبيون من ذي قبل ، ولا أمثال أفلاطون وأرسطو من أساطين العقل والعلم!.

فما ذلك القول في تكامل الشرائع إلّا غولا فاغتيالا للشرعة القرآنية أنها لا يمكن أن تبقى خالدة في عصور التقدم والرقي التي لا نسبة بينها وبين القوم الذين نزل فيهم القرآن.

ذلك ، فما هذا التوجيه غير الوجيه إلّا من أحكام الجاهلية على شرائع الله ، وما الحكم هنا كما في غيره إلّا لله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ... أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ..)؟ فالقوم الذين لا يوقنون بالله وبشرعته هم حكم الجاهلية يبغون ، ثم الموقنون لا يبغون إلّا حكم الله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فما طنطنة تبديل بعض الأحكام الإسلامية إلى ما يناسب عصر التقدم والرقي ـ كما يزعم ـ إلّا من القوم الذين لا يوقنون ، كما الأحكام المصلحية! المعارضة لأحكام الله الخالدة ، هي أيضا من أحكام الجاهلية ، مهما نقبوها بنقاب المصالح الحكومية الإسلامية أمّاهيه من أغطية ، فإنها شرعة مختلقة خليعة تحكم

٢٦

على أصحابها بالكفر والفسق والظلم ، ثالوث منحوس يتبنى الحكم بغير ما أنزل الله!.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥١) :

هنا نقف متسائلين أمام هذه والثلاث التالية لها ، هل إنها نزلت في حجة الوداع كسائر المائدة؟ و «أن يأتي بالفتح» في التالية قد لا تناسبه حيث «الفتح» هو فتح مكة ولم يكن بعد فتح حتى يترجى! كما وأن شطرا مما ورد في أسباب النزول ينحي نزول هذه الأربع عن حجة الوداع إلى بداية العهد المدني حيث الحروب الأولية كبدر وأحد وما أشبه!.

ذلك ، وكما أن «نخشى أن تصيبنا دائرة» لا تناسب بعد الفتح وقد اضمحلت كل الدوائر المتربصة بالمسلمين واكتسحت كل العراقيل.

فقد لا تتصل هذه الأربع ـ كآية التبليغ ـ نزولا مع السابقة عليها واللاحقة بها ، فآية التبليغ نازلة قبل آية إكمال الدين وإتمام النعمة ونراها بعدها بعشرات ، مما يدل على اختلاف ترتيب التأليف في المائدة ترتيب تنزيلها ، ولكنه لا ينصدم به أن المائدة هي آخر ما نزلت ، ناسخة غير منسوخة ، حيث القصد الأصيل هنا إلى خصوص الآيات الأحكامية ، ولكن «لا تتخذوا ..» كذلك من الأحكامية ، أو يقال : إن المائدة برمتها الأحكامية ناسخة فيما خالفت غيرها ، غير منسوخة بغيرها ، حتى في آياتها التي نزلت قبل حجة الوداع.

وعلى أية حال فالأصل الدلالي بالنسبة لكيان الآيات هو الآيات أنفسها دون شؤون نزولها المتعارضة مع بعضها البعض أحيانا ، وانها من باب الجري والتطبيق أخرى.

٢٧

فالفتح الموعود في التالية «أن يأتي بالفتح» هو فتح مكة حيث يستأصل كل دوائر السوء عن الكتلة المؤمنة الفاتحة للعاصمة ، المستسلمة معهم جموع الكفار المعارضين.

إذا فهذه الآيات الأربع هي متصلة الأجزاء مع بعضها البعض ، منقطعة عما احتفت بها من قبل ومن بعد ، جعلت في التأليف هنا لهامة تقتصيه وكما في سائر التأليف القرآني.

ومن هذه الهامة صالح الصرخة الأخيرة القرآنية قرب ارتحال الرسول (ص) إلى جوار رحمة ربه ، حيث تحذر المسلمين عن بأس اليهود والنصارى وبؤسهم ، وعدا لفتح أو أمر من عنده ليسا ليختصا بفتح مكة مهما كان هو الأول ، بل وهناك فتوح متواترة للمسلمين ما قاموا بشرائط الإيمان دون خشية عن الدوائر كيفما كانت.

فهنا (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) تحمل صارم التحذير عن اتخاذهم أولياء كضابطة تحلّق على الطول التأريخي والعرض الجغرافي الإسلامي إلى يوم الدين.

والولاية المنهي عنها طليقة كأصل ، تشمل ولاية السلطة وولاية التناصر والتحالف وولاية الحب ، اللهم إلّا ما يستثنى من ولاية دون الحب والسلطة عند التقية : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قدر قضية التقية في دوران الأمر بين الأهم والمهم ، أم مع غير المحاربين منهم في ولاية لها جاذبية التوجيه إلى إيمانهم أم صد العداء المتطرف الجارف ف (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ

٢٨

فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩)(١).

فضابطة (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) تحلّق على كل الأحوال ولا يستثنى منها فيهم إلّا (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ..) وللمؤمنين (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ولا ثالث كأن : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ..) :

فلقد كانت ولاية المناصرة قضية المصالح والأواصر المتشابكة بينهم وبين أهل الكتاب في العهد المدني ولا سيما في بدايته ، وكما كانت قبل الإسلام ، فنهاهم الله عنها قضية الرزية العقيدية وما أشبه نتيجة هذه الولاية.

صحيح أن الإسلام هو شرعة السماحة مع أهل الكتاب ، بل ومع المشركين أيضا ، ولكنها ليست لحد الولاية حبا ومخالطة ومناصرة ومحالفة ، إنما هي في حقل الملاطفة في العشرة مع غير المعاندين منهم.

ومن البساطة والغفلة أن نظن بهم مواصلة معنا في خط واحد أمام سائر الكفار والملحدين ، ولقد جربناهم طول التاريخ إذا كانت المعركة ضد المسلمين أهم معهم أم مع سائر الكافرين.

صحيح أن الله يأمرهم بالمواصلة في خط التوحيد الوحيد (تَعالَوْا إِلى

__________________

(١) الدرر المنثور ٢ : ٢٩٠ عن عبادة بن الوليد ان عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله (ص) تشبث بأمرهم عبد الله بن سلول وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت الى رسول الله (ص) وتبرء إلى الله ورسوله من حلفهم وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله (ص) وقال : أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ، وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) ـ إلى قوله ـ (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

٢٩

كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٣ : ٦٤).

ولكن هل وجدنا لهم أذنا صاغية اللهم إلّا قليلا منهم وفى لرعاية الحق فآمن أم كان على حياد ، ولكن الضابطة في اليهود والنصارى ، الثابتة معهم ، أنهم لا يحبّذون شرعة بعد الكتابين مهما تظاهروا بالمحاباة ، وإن كان النصارى أقرب مودة من اليهود حين المقايسة بينهما.

كيف وهم أولاء الذين يقولون للمشركين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) وهم الذين كانوا يناصرون المشركين ضد المسلمين منذ البداية ، ثم شنّو الحروب الصليبية طوال عامين ، وارتكبوا فضائع الأندلس ، وشردوا المسلمين أخيرا من فلسطين ومن كل مكان لهم بالإمكان.

وهنا (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) هي قضية حقيقية لا تختص بزمان دون زمان أو مكان دون مكان ، أو جيل منهم دون جيل ، إنها قضية المفاصلة العقيدية منهم الخليطة بتحريفات وتجديفات ، فهم منذ ولد الإسلام أصبحوا أوّل المحاربين إياه حتى نهوا : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فهم يلي بعضهم بعضا ضد المسلمين في كل فجاج الأرض ، وقد تلمّح اسمية الجملة «أولياء» ـ دون «يتولون» ـ على اسمية الحملة المتواصلة دونما انقطاع ، ورسميتها على مدار التاريخ.

ذلك (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ضابطة عامة تحلّق على تولي الخير إلى تولي الشر ، ف «من تولى آل محمد (ص) وقدّمهم على جميع الناس بما قدمتهم من قرابة رسول الله (ص) فهو من آل محمد بمنزلة آل محمد عليهم السلام ، لا أنه من القوم بأعيانهم ، وإنما هو منهم بتولّيه

٣٠

إليهم واتباعه إياهم وكذلك حكم الله في كتابه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)(١).

ولا فحسب ، بل و «من رضي بفعل قوم فهو منهم» كما في آيات عدة تعني وروايات تمضي بطيّات الفرقان.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)(٥٢) :

فمن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبي حيث قال له (ص) في ذلك الموقف «إني رجل أخاف الدوائر لا أبرء من ولاية مواليّ» (٢) وكذلك أضرابه من المنافقين الذين قالوا ما قالوه بعد وقعة أحد (٣)

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٤٠ في تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) قال :

(٢) المصدر اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله (ص) إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله ومن ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي اني رجل أخاف الدوائر لا أبرء من ولاية موالي فقال رسول الله (ص) لعبد الله بن أبي يا أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو ذلك دونه ، قال :؟؟؟ إذن أقبل فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا ..) إلى قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

(٣) المصدر اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : لما كانت وقعة احد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل لصاحبه أما أنا فالحق بفلان اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فاني أخاف ان يدال على اليهود وقال الآخر أما أنا فالحق بفلان النصراني ببعض ارض الشام ، فآخذ منه أمانا وأتنصّر معه فأنزل الله فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...).

٣١

وأضرابهم على مدار التأريخ الرسالي.

و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تعم المنافقين الرسميين إلى ضعفاء الإيمان ، ففيما ذكروا مع المنافقين فهم الآخرون : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (٣٣ : ١٢) ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٨ : ٤٩) ، وفيما يذكرون دون مقابل فقد يعمهما كما هنا ، وقد يعنى منهم فقط

__________________

ـ وفيه عن عكرمة في الآية ـ في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله (ص) في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم فبعث النبي (ص) أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم ان يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح وكان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام وبلغني أن رجالا من اصحاب النبي (ص) كانوا يخافون العوز والفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة والنضير فيدسون إليهم الخبر من النبي (ص) يلتمسون عندهم القرض والنفع فنهوا عن ذلك ، وفيه أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي ٣ في شعب الايمان عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري ان يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أزيم واحد وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك فعجب عمر وقال : ان هذا لحفيظ هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام؟ فقال : انه لا يستطيع ان يدخل المسجد ، قال عمر أجنب هو؟ قال : لا بل نصراني فانتهرني وضرب فخذي ثم قال أخرجوه ثم قرء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا ..).

وفي تفسير الفخر الرازي ١٢ : ١٦ روى عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قلت لعمر ابن الخطاب إن لي كاتبا نصرانيا فقال : مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا أما سمعت قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) قلت : له دينه ولي كتابته ، فقال : لا أكرمهم الله إذ أهانهم الله ولا أعزهم الله إذ أذلهم الله ولا أدناهم الله إذ ابعدهم الله ، قلت : لا يتم امر البصرة إلّا به فقال : مات النصراني والسلام ، يعني هب انه قد مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره.

٣٢

المنافقون كما (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ..) (٧ : ٢٠).

فالقلوب الميتة بأسرها هي القلوب المنافقة رسمية ، والقلوب المريضة هي الحية التي ابتليت بشكّ ، فإذا زاد الشك لحد الموت تمحضت في النفاق ، ف (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يشمل المنافقين وسائر المرضى ، وإن كان ظاهر المرض حياة مّا ، فالمنافق الرسمي ـ بطبيعة الحال ـ هو المصداق الأخفى ، والمسارعون في اليهود والنصارى يعمهما ، والمنافق الرسمي بينهما هو الفرد الأجلى حيث المسارعة لهم أجلى وأنكى.

إذا فبين المنافقين والذين في قلوبهم مرض عموم مطلق ، كل منافق في قلبه مرض وليس كل مريض القلب منافقا إلّا إذا كان مرض النفاق حيث يموت القلب بذلك المرض.

لقد سارعوا فيهم من ذي قبل ويسارعون لجوء إليهم أو مناصرة لهم وتحببا ، اعتذارا بما (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) وهي حالة سيئة دائرة من قبلهم عليهم من سلطة دائرة ، كأن لا يتم أمر محمد (ص) فيدور الأمر كما كان ، أو يتم أمره فدائرة الفقر البائرة إذ نحن فقراء وهم أغنياء ، أم أية دائرة مصيبة هي مصيبة علينا فتسمح لنا أن نسارع فيهم تقية!.

وهنا ندرس أن خشية «دائرة» كافرة على المؤمنين من قبل المعاندين لا تسمح لهم مسارعة فيهم في ولاية ، لا سيما وأن الله واعد لهم النصرة ، ولا تستثني (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلّا أهم الأمرين الأمرين في ظاهر الولاية دون أية موادة أم ولاية السلطة : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٣ : ٢٨).

ذلك ، وأما خشية إصابة «دائرة» دون يقين ، فمسارعة إليهم

٣٣

انحلالا عن شروط الإيمان ، وقد وعدهم الله بالنصرة من عنده ، فذلك نقض لليقين بالشك ، ثم ولا تقتضي «تقاة» منهم تلك المسارعة المتحللة عن الإيمان ، فإنما الضرورات تقدر بقدرها دونما فوضى جزاف.

فما دام «عسى (اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) فلا مجال لتقية فضلا عن المسارعة فيهم.

و «الفتح» هنا ـ في عساه ـ عساه فتح مكة لمكان التعريف ، فإن كان فتحا قبله لكان «بفتح» أو أنه جنس الفتح ، وأبرزه في حاضر حياة الرسول (ص) فتح مكة ، ثم وما قبله من فتح وما بعده ، وأبرز الفتوح المستقبلة فتح صاحب العصر وولي الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فقد يكون مثلث الفتح معنيا بالفتح من عنده والقدر المعلوم هو فتح مكة المتأيد ب (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ولا خشية حاضرة بعد فتح مكة على الذين في قلوبهم مرض ، الحضور حينذاك!.

ثم «وعسى» هنا من الله حتم ولنا ترجّ ، عدة للمؤمنين ، ووعيدا للذين في قلوبهم مرض حتى يرجعوا حاسرين عادمين (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)!.

ذلك «الفتح» فما هو (أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)؟ ذلك أمر يقضي على إمر «دائرة» مخشية تصيب المؤمنين ، أو يقضي على مسارعة الذين في قلوبهم مرض في الكافرين ، أو يفضح هؤلاء المنافقين ، فالفتح أبرز مصاديق (أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) اختص قبله بالذكر لكي تحيل موقعه من قلوب المؤمنين ، ثم فتوح وما أشبه قبله أو بعده ومنها فتح بدر.

فهنا «الفتح أو أمر من عنده» هما من عند الله وعدا صارما ، تلطفا بالمؤمنين وتعطفا ، فلا شغل لهم فيها إلّا إعدادات إيمانية تستجلب هذه الوعود الخارقة للعادة من الله لهم وهم قلة وأعداءهم كثرة كثيرة وكما في

٣٤

حرب أحد ، حيث يشمله (أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣) :

(الَّذِينَ آمَنُوا) هنا قبال (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) توغل مرضى القلوب في التعميم ، وتجعل المنافقين منهم المصداق الأجلى ، كما المسارعة في اليهود والنصارى تفعله.

وهنا «أهؤلاء» قد تعني (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) حيث (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أنتم المؤمنين ، أم إن «هؤلاء» هم اليهود والنصارى (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أنتم الذين في قلوبكم مرض ، وظاهر النص يحتملهما فهما ـ إذا ـ معنيّان ، و «لمعكم» في الثاني ظاهر وهي في الأول خطاب للمؤمنين في أنفسهم بعضهم بعضا ، ولكن (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) قد ترجح الأوّل ، فإن اليهود والنصارى كانوا حابطي الأعمال وخاسرين على أية حال دون اختصاص بذلك الموقف العضال.

وهذه المقالة المؤمنة لا تختص بما بعد الفتح أو أمر من عند الله حتى ترجح قراءة النصب في «ويقول» خلافا لنص المتواتر في كتب القرآن ، بل هي قضية الإيمان قبل الفتح وبعده حيث يقولون بعد مقالة الذين في قلوبهم مرض : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) إن هذه القولة تناحر إقسامهم جهد ايمانهم إنهم لمعكم ، فما هذه المعية المقسم لها وتلك القالة القالة والمسارعة فيهم إلّا منافقة بارزة من الذين في قلوبهم مرض ، يقول ... ويقول : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) في صفقتهم الحاسرة ، وقد تحتمل (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) ـ إلى كونها من مقالة المؤمنين ـ أنها جملة معترضة من الله استكمالا لمقالة المؤمنين.

٣٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٥٤) :

(الَّذِينَ آمَنُوا) هنا يعم كل من أقر بلسانه ولمّا يدخل الايمان في قلبه ، أم دخل ولمّا يتم في عمله ، أم هو منافق كافر بقلبه مقر بلسانه أم وبعمله ، فالارتداد عن الدين هنا يشمل مثلثه ، بل الذي يرتد عن إقرار دون إيمان هو أظهر مصاديق المرتدين عن الدين وأكثرهم حيث المؤمن بقلبه ليس ليرتد عن دينه اللهم إلّا شذرا نزرا بشبهة دخلت في قلبه قد تعذره عن ارتداده.

ثم ومن الارتداد هنا المسارعة إلى اليهود والنصارى بعاذرة (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أمّا أشبه أم دون أية عاذرة ، فالمحور المعني من الارتداد هنا ليس هو الردة الجاهرة مهما كانت معنية ضمنيا ، بل هي الردة المعنية من موالاة اليهود والنصارى مسارعة فيهم ، مهما كانت الجاهرة أردى وأنكى.

إذا فهي ـ بصورة طليقة ـ الردة عن الإسلام المحض الشاملة كأصل لتلك الموالاة ، دون محض الإسلام الخاص بالمرتدين الرسميين عن الإسلام.

(مَنْ يَرْتَدَّ ... فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ ..) تهديد شديد بالمرتدين عن الدين ألّا حاجة لله فيهم ولا كرامة ، وبشارة للصامدين على الدين أنه «سوف (يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) لهم مواصفاتهم المسرودة هنا ، يستبدلهم بهؤلاء المرتدين ، عزا للدين والدينين.

هنا (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) تلمح صارحة صارخة أن هؤلاء الموصوفين لمّا يأت بهم الله عند ذلك الخطاب ، أم ولا يأتي بهم عاجلا ، ولا آجلا قريبا

٣٦

لمكان «سوف» المسوفة إلى بعيد من الزمن ، فقد لا ينطبق «بقوم» على كثير ممن يدعى ويروى أنهم أولاء المعنيون (١).

وبالنظر الدقيق الحر ، المتحلل عن المذهبيات ، إلى المواصفات المذكورة هنا لهؤلاء ، وإلى آيات أخرى كالتي تلي ، نتمكن من معرفتهم ، عرفانا من سماتهم بأسمائهم أم كيانهم : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٦ : ٨٩) سلبا عن أية دركة من دركات الكفر في كل حقوله وحلقاته ، ثم وفي آيتنا مواصفات ست بين إيجابية وسلبية :

١ ـ (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) والذين يحبهم الله لا تخلج فيهم خالجة كفر أو فسوق لمكان الحب الطليق دون طليق الحب ،

__________________

(١) كأبي بكر وأصحابه كما يروى وقد كانوا مع الرسول (ص) فكيف سوف يأتي الله بهم ، ثم وأبو بكر الذي لم ينزل الله سكينته عليه مع الرسول إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها فهل ان أبا بكر الحزين على ذلك الحدث الهائل كان أحوج إلى السكينة أو الرسول الذي يقول له : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فكيف (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) ـ فقط ـ على الرسول و «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً) (٤٨ : ٤) (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٤٨ : ١٨) (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (٤٨ : ٢٦) (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (٩ : ٢٦).

فهل كان أبو بكر فوق الرسول والمؤمنين حتى لا يحتاج إلى سكينة الله ، أم كان دون المؤمنين كما هو دون الرسول فلم يأهل لنزول السكينة التي نزلت على الرسول وعلى المؤمنين؟ ما يدريني إلّا كلام الله القائل هنا (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) وهناك (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

ذلك أبو بكر فكيف يكون ـ إذا ـ حال أبي موسى الأشعري رغم ما أخرجه في الدر المنثور ٣ : ٩٢ ـ نزلت هذه الآية قال عمر انا وقومي هم يا رسول الله (ص) قال : بل هذا وقومه يعني أبا موسى الأشعري.

٣٧

فقد تقدم حبّه إياهم على حبهم إياه ، مما يدل على بالغ الحب.

ذلك ، وفي أخرى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣ : ٣١).

فلا نجد في سائر القرآن يجتمع الحبّان ويتقدم فيهما حب الله ، اللهم إلّا في (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٥٨ : ٢٢) ولكنهم كانوا مع النبي (ص) حين نزلت آيتنا وقد سوّف الله الإتيان بهذا القوم الذين يحبهم ويحبونه ، فهم ـ إذا ـ أفضل منهم.

أجل (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) يحبونه كما يحب أن يحبوه ، وحب الله ـ هكذا ـ لعبد أو قوم أمر لا يقدر على إدراكه أحد إلّا العارف بالله على عظمه وغناه ، والعارف بقمة العبودية التي تستجلب مستقطبة حبّ الله قبل أن يذكر حبهم إياه ، وذلك اتجاههم في سلوكهم إلى الله ومع الله.

وأما مع المؤمنين بالله والكافرين به ف ٣ ـ (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٤ ـ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) فهم على عزتهم في أنفسهم «أدلة على المؤمنين» وهنا «على» تلمح برحمة عالية للعزيز في نفسه على المؤمنين بالله خفضا لجناحه لهم وتليّنا معهم ، فهم من أفاضل الذين مع الرسول (ص) فيما الله يقول : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٤٨ : ٢٩) فحيث لا تعني «معه» معية في لغة أو قرابة أو زمان ، بل هي المعية المتحللة عن كل هذه وتلك ، مجرد المعية الرسالية في أي زمان أو مكان ، من قريب إليه في لغة أو نسب أو سبب أو مكان أو زمان ، أم غريب.

إذا ف (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ـ «رحماء أعزة على الكافرين» «أشداء» هم أفاضلهم الذين سوف يأتي الله بهم ، مهما كان زمن الرسول (ص) منهم اشخاص ، إلّا أن «قوم» هم جماعة خاصة.

وقد تكون «أذلة» هنا جمع الذّل وهو اللطافة والليونة والسماح كما

٣٨

الأرض الذلول هي التي ذلت بعد شماس واستسلمت بعد ارتكاس ، فهؤلاء الأكارم المحبوبون لله المحبون الله ، الأذلّاء مع الله ذلا وذلا ، هم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بالله ذلّا وليونة (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) بالله فما في ذلهم على المؤمنين من مذلة ولا مهانة ، إنما هي الأخوة الإيمانية التي ترفع الحواجز من ترفّع وتكلّف ، وتخلط النفس بالنفس فلا يبقى فيها ما يستعصي ويحتجز دون الآخرين.

إن حساسية الفرد وتفرعنه بذاته وإنياته متحوصلة متحيزة ، هي التي تجعله شموسا عصيّا شحيحا على أخيه لا ذلّ له معه ولا ظل منه عليه ، فأما حين يخلط نفسه بنفوس المؤمنين معه فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به ، فما ماذا يبقى له في نفسه دونهم وقد اجتمعوا في الله إخوانا متحابين ، ويحبهم ويحبونه ، ويشيع ذلك الحب العلوي السامق بينهم فيتقاسمونه.

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) دون ذلّ معهم ولا ذلّ ، فهم عليهم في شماس وإباء ، عزة للعقيدة واستعلائة للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين ، ثقة بما عندهم من خير الإيمان فلهم ـ إذا ـ تطويع الكافرين لخيرهم ، فهم الأعلون أمامهم مهما انهزموا في بعض المعارك.

٥ ـ (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فحياتهم في كل حلقاتها جهاد في سبيل الله بالقال والمال والنفس والحال على أية حال ، فقد كرّست حياتهم ذلك الجهاد ومهّدت حياتهم ذلك المهاد ، فالوسط الذي يعيشونه ليس إلّا سبيل الله ، لا سبيل الشهوات والرغبات ولا أية طلبات إلّا مرضات الله.

٦ ـ (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ولا قومة قائم ضدهم ، ولا أية دوائر تتربص بهم ، إنما يخافون الله ليس إلّا إياه ، وفيما الخوف من لوم الناس ولؤم النسناس وهم قد ضمنوا حب رب الناس وملك الناس وإله الناس ، فهم عائذون به من شر الوسواس الخنّاس الذين يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.

٣٩

ولماذا الوقوف عند شهوات الناس ورغباتهم وهم أولاء الأكارم حياتهم مكرسة في سبيل الله ، فإنما يخاف لومة لائم من يستمد مقاييسه من أهواء الناس ويستمد حياته من حياة الناس.

وأما الراجع في مقاييسه إلى الله لتسيطر على هواءه وأهواء الناس ، ويستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته ، فما يبالي ـ إذا ـ بما يلوم الناس.

ذلك ، وهذا التعبير : (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) منقطع النظير في القرآن بحق المجاهدين في سبيل الله فلا تجده إلّا هنا.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فضل فضيل لهؤلاء القوم الذين سوف يأتي الله بهم ، ثم ورذل رذيل لمن يقابلهم في جهادهم وسبيلهم إلى الله.

فمن هؤلاء القوم الخصوص الذين سوف يأتي الله بهم جبرا لكسر المؤمنين أمام المرتدين عن الدين ، وانجبارا لخاطر الرسول (ص) الخطير؟.

فهل إنهم شواذّ من أشخاص خصوص كانوا مع الرسول وقد تربوا بتربيته الخاصة الخالصة الراسّة كالإمام علي (ع) (١) وأتباعه مثل سلمان

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٤٧٩ في نهج البيان المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام ان هذه الآية نزلت في علي (ع).

ومن طريق إخواننا في كتاب العمدة لابن بطريق ص ١٥١ عن الثعلبي في تفسير الآية قال : علي بن أبي طالب (ع) ، وروى الحاكم في المستدرك ٣ : ١٣٢ بسند متصل عن عمرو بن ميمون قال : اني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما ان تخلو بنا من بين هؤلاء قال فقال ابن عباس بل أنا أقوم معكم ـ الى أن قال ـ : فجاء ينفض ثوبه ويقول : أف وتف في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره وقعوا في رجل قال له النبي (ص) ـ

٤٠