الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

بعض! فالأثر الوارد بحق خلوصهم وتخليصهم أولاء الحواريين مطروح أو مأول بغير البداية من أمرهم الإمر (١) كما في آية الصف : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ..) (١٤) وذلك (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٥٣).

ذلك ، وقد تكون تطلبه آية المائدة من بعضهم دون جمعهم ، ثم المخلصون منهم في آخر أمره هم ـ فقط ـ منهم ، أم وممن سواهم ، دون المستحق لعذاب الله فيهم في ذلك التهديد الحديد (أُعَذِّبُهُ عَذاباً ..).

فعلى أية حال فقد تعدى الحواريون في سؤالهم هذا طور العبودية بأدبها رغم تقدم الآيات الباهرة لرسالة المسيح. فأوحى إليهم الله (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) فقد تشابه أمرهم هذا تطلبات المشركين الطائلات الغائلات آيات يشتهونها بعد أهم الآيات وأعمها وهي القرآن العظيم ، ولكنهم لحرمة إيمانهم الصالح في مستقبل أمرهم أوحى إليهم أن آمنوا .. وأجابهم فيها بدعاء المسيح (ع) عيدا وآية تنضم إلى سابقة الآيات السابغة مزيدا للحجة وتزويدا للمحجة ، مهددا إياهم باليم العذاب إن كانوا بها كافرين :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٩٠ في عيون الأخبار باسناده الى علي بن الحسن الفضال عن أبيه قال قلت لأبي الحسن الرضا (ع) لم سمي الحواريين الحواريين؟ قال : اما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل وهو اسم مشتق من الخبز الحوار ، واما عندنا فسمي الحواريون حواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكر.

٣٠١

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١٤) :

وقد بدل «ربك» هنا ب «ربنا» كما بدل الاستطاعة بواقع المستطاع «أنزل» ، وضمن دعاءه هذا الأديب الأريب سؤلات ثلاث لا تحمل من أسؤلتهم تلك إلّا (نَأْكُلَ مِنْها) بغيار التعبير : «وارزقنا».

ف (تَكُونُ لَنا عِيداً) كمفخرة في إجابة الدعاء أمام الغلاظ الشداد الألدّاء من كفرة بني إسرائيل (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) مهما كنا مؤمنين من قبل مطمئنين بسابقة الآيات ، فقد دمج نفسه في متطلبي هذه المائدة ولم يكن ليشك في رسالة نفسه ولا في استطاعة ربه استجابة سؤله ، فهذا أدب أوّل في دعاءه (ع) ، خليصا عما دعوه ليدعوا ، من سوء الأدب وخلط الإرب. وعيد المائدة فيه تجديد حياة الملة وتنشيط نفوس العائدين وذكرى لهم على مر الزمن (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا).

ثم (وَآيَةً مِنْكَ) هي الأخرى بعد معظم الآيات التي بعثت بها إلى بني إسرائيل ، فكلما كثرت الآيات كثرت الاطمئنانات ، لا لقصور في سابقة الآيات فإنها سابغات ، وإنما لقصور متطلبيها وتقصيرهم ، وليس منهم المسيح نفسه فإن «آية» منكرة ليست إلّا للقاصرين والمقصرين ، دون المسيح الذي هو نفسه آية ومعه كبريات الآيات ، التي هي معرّفة وهذه بجنبها منكّرة.

ومهما كانت تطلّبه آية بعد سائر الآيات تطلبة خواء ، ولكنها حين تتضمن «عيدا» فليس الله منها براء ، ولا سيما إذا كانت هذه الآية رزقا لأبدانهم مع كونها رزقا لأرواحهم في بعدي العيد والآية.

ومن ثم (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) مما يلمح أنهم كلهم كانوا في حاجة ملمة مدققة إلى أكل لم يجدوه في أرض الله ، فليطلبوه من خير

٣٠٢

الرازقين أن ينزله عليهم من سماءه فانه (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) والقائل: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ).

ولقد أخر حاجة الأكل كفرع ـ رغم ما قدموها كأصل ـ أدبا بارعا في الدعاء في تقديم سؤل الروح على سؤل الجسم ، فقد بان البون بين دعاءهم الهارع القارع ودعاءه البارع وأين دعاء من دعاء.

وكما البون بين هؤلاء الحواريين بداية ونهاية وبين حواري نبيّنا محمد (ص) وأهل بيته المعصومين عليهم السلام (١).

ذلك ولكن أدب المسيح (ع) أثر فيهم كأفضل ما أمكن وأجمله بين هؤلاء اليهود الصلدين الصلتين حيث لازموه وساندوه في مختلف المجالات وكانوا مذياعا لصوته الرسالي بين الناس (٢).

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١١٥) :

__________________

(١) بحار الأنوار ١٤ : ٢٧٤ ـ ٧ عن الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (ع) قال : ان حواري عيسى (ع) كانوا شيعته وان شيعتنا حواريونا وما كان حواري عيسى (ع) بأطوع له من حوارينا لنا وانما قال عيسى (ع) للحواريين : «من انصاري الى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فلا والله ما نصروه من اليهود ولا قاتلوهم دونه وشيعتنا والله لم يزالوا منذ قبض الله عز ذكره رسوله (ص) ينصرون ويقاتلون دوننا ويحرقون ويعذبون ويشردون في البلدان جزاهم الله عنا خيرا».

(٢) ففي البحار (٨) احمد بن عبد الله عن احمد بن محمد البرقي عن بعض أصحابه رفعه قال قال عيسى بن مريم عليهما السلام يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي ، قالوا : قضيت حاجتك يا روح الله فقام فغسل اقدامهم فقالوا : كنا نحن أحق بهذا يا روح الله! فقال : ان أحق الناس بالخدمة العالم ، انما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ثم قال عيسى (ع) بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل.

٣٠٣

إذا فلم تكن الإجابة بدعائهم المسيح أن يدعوا الله ، فإنما هي بدعاء المسيح (ع) حيث خلص دعاءه عما تقولوا وأخلص في دعاءه مستندا إلى تلكم الثلاث التي هي كلها مرضية عند الله.

هنا (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) برهان لا مرد له أنه أنزلها عليهم فإن الله لا يخلف الميعاد مهما كان الموعودون غير صالحين ، وفيهم مثل السيد المسيح (ع) وهو من أصلح الصالحين حيث دعى ما دعى فأجيب هكذا فيما دعى ، فالحوار حول : هل إن الله أنزل المائدة أم لم ينزلها؟ إنّه بوار من حوار.

وليست قصة استعفائهم المروية بالتي تنقض ما وعده الله مسيحه (ع) فلو أنه تعالى كان قابلا لاستعفائهم لما كان واعدا إنجاز طلبتهم ، ولو أن استعفاءهم يعقب العفو ، لما كان ـ إذا ـ إعفاء عما طلبه المسيح (ع) فأين دعاءه من دعاءهم!.

وهنا التهديد الحديد بعد نزول آية المائدة ب (أُعَذِّبُهُ عَذاباً ..) دليل باهر أنها ما كانت الآية الأولى النازلة لاثبات رسالته ، بل هي آية مقترحة بعد آيات كافية ، وهكذا يكون دور الآيات المقترحة أن يشمل المكذب بها عذاب الاستئصال ، فكما ان تطلّب آية المائدة بعد سائر الآيات الفضلى كان من حصائل عدم الايمان فاستحقوا التنديد الشديد (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كذلك هم يستحقون نكال العذاب إن كفروا بهذه الآية المقترحة.

وهكذا تصرح آيات عدة أن وعيد العذاب يختص بمقترحات الآيات إذا لم يؤمنوا بها ، وبعد إذ أتتهم آيات بينات ، ولو أن الحواريين لم يروا ـ قبل اقتراحهم آية المائدة ـ آيات المسيح (ع) لم يكن في اقتراحهم هذا كيفما كان تأنيب وقد انبوا ب (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولا وعد التعذيب بعد وقد أوعدوا : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وكما عذب من كفر منهم ان جعلهم خنازير ، ومن سواهم

٣٠٤

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٦ : ٣٦).

ذلك ، ومن ثم قد توحي (وَإِذْ أَوْحَيْتُ .. إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ..) ـ حيث كان ذلك الإيحاء بعد اقتراحهم آية المائدة ـ أنهم كان عليهم ذلك الإيمان بما رأوا من آيات الله البينات ، فلما تطلبوا مائدة من السماء أوحى إليهم (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) بما أريتكم تلكم الآيات.

وأما هذه المائدة السماوية كيف كانت وكم؟ فلنسكت عما سكت الله عنه مهما ورد في الآثار لكمها وكيفها مختلف الأخبار.

وهنا بعد صراح الوعد بإنزال المائدة تهديد شديد بمن يكفر بعده (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وذلك الوعيد هو قضية صارم الحجة لصارح المحجة ، فكلما ازدادت الحجة عدّة وعدّة إزداد عذاب المتخلفين عدّة وعدّة ، وكما نرى بمدار الزمن الرسالي عذابات الاستئصال وسواها على قدر النكرانات لآيات الرسالات بقدر الحجج البالغة ف (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وعلى قدره حيث (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

ثم (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) مستقبلا قد يعني تفوّق عذابهم على مستقبل العذابات دون ماضيها ، فما ورد من جعل الكافرين منهم قردة وخنازير ، تسوية بينهم وبين قردة من اليهود لا يطارد (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ثم والخنازير أنحس من القردة وقد لا يسبق سابق تحوّل الإنسان خنزيرا في أمة من الأمم ولا يلحقه لاحق ، وفي الأثر عن الرسول الأطهر (ص) «فمسخوا قردة وخنازير» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٨ ـ اخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله (ص) : ـ

٣٠٥

ولأن جعل اليهود قردة كأصحاب السبت وارد في القرآن (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢ : ٦٥).

ولم يرد جعلهم خنازير ، وقد أوعد هنا (عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وأنبأ بالعذابين : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ..) (٥ : ٦٠) لذلك قد يصدق هذا المروي عن الرسول (ص) انه قوله فما أجمله ، أن البعض من هؤلاء الحواريين حولوا إلى خنازير (١) حيث الوعيد كان راجعا إليهم دون من سواهم من الذين كفروا بعد نزول المائدة.

ذلك وليس بذلك البعيد أن يمسخ جماعة من الحواريين خنازير وفيهم أنحس منهم وهو يهوذا الأسخر يوطي الذي باع المسيح بدراهم ليصلبوه فشبه لهم وصلب بديلا عنه ، ثم الباقون هم الصالحون الممدوحون في آيتي آل عمران والصف.

__________________

ـ أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا الا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير.

(١) كما في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن (ع) قال : ان الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير ، وفيه عن عبد الصمد بن بندار قال سمعت أبا الحسن (ع) يقول : كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير ، أقول : والجمع بين الروايتين : والمروي عن رسول الله (ص) ان جماعة منهم مسخوا قردة وآخرين مسخوا خنازير كل على قدر كفرهم بالمائدة.

٣٠٦

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(١١٦) :

عرض لمذاهب اللاهوت :

إن للإنسان وما أشبه أيا كان من الخليقة المتكاملة بالعبودية لله قوسين صعودي ونزولي ، فالنزولي هو دركات التخلف عن معرفة الله وعبوديته ، والصعودي درجات فيهما.

ثم الصعودي ، منه محبور هو به مأمور ، وهو التقدّم في جناحي المعرفة والعبودية ، سيرا من نقطة العبودية إلى حضرة الربوبية دون أية وقفة في النشآت كلها ، وحصيلتها كمال المعرفة والعبودية إلى غير ما حدّ ولا نهاية وكما عن أوّل العارفين والعابدين : «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك» وليس في هذا المجال أي منال إلّا تتالي الدرجات فيهما ، فرسالة ونبوة وما أشبه من مراتب العصمة ، دون بنوّة ولا نيابة ولا وكالة ولا خلافة عن الله ، وهذا هو المسلك الصالح لصالحي عباد الله.

ثم إن هناك ـ خارجا عن الحق المرام ـ ضروبا ستة للسالك إلى الله بجناحي المعرفة والعبودية ، مع كل ضربه من القوس النزولي لله سبحانه :

١ ـ من سالك إلى الله يستحق كرامة البنوّة الربانية مجازيا وهو مستمر في مسالك المعرفة والعبودية ، وقد تندد به (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ...).

٢ ـ وآخر واصل إلى الله فلا عبادة إذا لمكان الوصول إلى الغرض الأسمى مستدلا بمثل قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)؟ واليقين ذو درجات غير متناهية كما الله غير متناه ولا محدود.

٣٠٧

٣ ـ وثالث حاصل بوصوله على جزء من ذات الربوبية فهو ولد له وكما يدعيه بعض النصارى للسيد المسيح (ع) وتندد به (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).

٤ ـ ورابع فان بوصوله في ذات الربوبية.

٥ ـ وخامس اتحد بذات الله كما الأقانيم الثلاثة ، حيث هي واحدة والواحدة هي الثلاثة!.

٦ ـ وسادس أصبح هو الله ، وتندّد به مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ـ (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ـ (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).

فقد نزّلوا الله تعالى في ذلك المسدس عن منزلة الربوبية إلى اتخاذ الولد تشريفا أو حقيقة ، أو خارجا عن المعبودية ، أو اتحادا ثالوثيا أم وحدانيا بالعبد.

والقرآن ينسف كل هذه الأقاويل المائلة عن جادة الصواب بصائب البراهين ، تركيزا على المسلك الأوّل من مسالك المعرفة والعبودية.

وهنا عرض بصورة التأنيب وسيرة التبرئة لعيسى ابن مريم من الثالوث المريمي كما هي من المختلقات الشركية للمسيحيين ، كما تصرح الكنيسة الكاثوليكية : «كما أن المسيح لم يبق بشرا كذلك مريم أمه لم تبق من النساء بل انقلبت وينوسة : «إلهة» ولذلك تراهم كثيرا ما يحذفون أسماء الله مثل «يهوه» من كتب المزامير ويثبتون مكانها اسم مريم كقوله : احمدوا الله يا أولاد ، فالكاثوليك لأجل إظهار عبوديتهم لمريم طووا هذا من الزبور وبدّلوه إلى «احمدوا مريم يا أولاد» وهذه الكنيسة كلما صلي فيها مرة واحدة بالصلاة الربانية : «أبانا الذي في السماوات» يصلي فيها

٣٠٨

بالصلاة المريمية عشرون مرة (١).

__________________

(١) عن الأب عبد الأحد داود الآشوري العراقي في كتابه الإنجيل والصليب ، ويقول جرجس صال الانجليزي في كتابه مقاله في الإسلام ـ عند ما يذكر بدع النصارى : من ذلك بدعة كان أصحابها يقلون بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هي الله ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها : كلّيرس ، وبها سمي اصحاب هذه البدعة كلّيريّين ، وهذه المقالة بألوهية مريم كان يقول بها بعض اساقفة المجمع النيقاوي حيث كانوا يزعمون ان مع الله إلهين هما عيسى ومريم ومن هذا كانوا يدعون مريميين وكان بعضهم يذهب الى انها تجردت عن الطبيعة البشرية وتألهت وليس هذا ببعيد عن مذهب قوم من نصارى عصرنا قد فسدت عقيدتهم حتى صاروا يدعونها تكملة الثالوث كأنما الثالوث ناقص لولاها وقد أنكر القرآن هذا الشطط لما فيه من الشرك ثم اتخذه محمد ذريعة للطعن في عقيدة التثليث» (ص ٦٧ ـ ٢٨ وهذا الكتاب ألفه جرجس صال ردا على الإسلام ونقله هاشم العربي الى العربية).

والمجمع المسكوني الثالث ٤٣١ يلقب مريم «ام الله» وفي اللاهوت العقائدي ان مريم هي حقا ام الله ، تقول الكنيسة في قانون الرسل بان ابن الله ولد من مريم العذراء فهي ام الله من حيث هي ام ابن الله (ج ٣ ص ١٠٨ لمؤلفه لودويغ اوث) وفي مقالة للأب «انستاس الكرملي» المنشورة في العدد الرابع العشر من السنة الخامسة من مجلة الشرق الكاثوليكية البيروتية تحت عنوان : قدم التعبد للعذراء ـ بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء : ألا ترى انك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم «إيليا» الحي فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والإبهام الى عالم الصراحة والتبيان ، ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاتوليك) من ان إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات ان يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة انه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر ، فمن ذلك النشن قلت : ان هو إلّا صورة مريم على ما حققه المفسرون ، بل وصورة الحبل بلا ذنس أصلي ، ثم قال : هذا اصل عبادة العذراء في الشرق العزيز وهو يرتقي الى المأة العاشرة قبل المسيح والفضل في ذلك عائد الى هذا النبي إيليا ، العظيم ، ثم ـ

٣٠٩

وهنا يبرّئ المسيح نفسه من هذه التقولة الحمقاء : (قالَ سُبْحانَكَ) من هذه الأقاويل (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) من هذا وسواه من باطل (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) إذ أنت (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ما ظهر منها وما بطن (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) حيث (إِنَّكَ أَنْتَ) لا سواك (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والنفس المضاف إلى صاحبها تعني نفس الذات ، فلا تدل إذا على أن لله نفسا كما لمن سواه.

هذا (وَإِذْ قالَ اللهُ) حكاية عن الماضي دون مستقبل القيامة أم والبرزخ ف (ما دُمْتُ فِيهِمْ) لا تعني فترة حياته ، بل هي حياته فيهم ، ثم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) تعني رفعه إليه كما قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) فقد كان ذلك القول بعد ذلك التوفي.

وأما (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فالمشار إليه هو يوم العذاب والرحمة فهو منذ البرزخ إلى القيامة (١).

وهنا (إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) تعني أنهم اتخذوا بعد الله ودونه هذين : الابن والأم ـ الإلهين ، وقد اعتقدوه في وجهين اثنين : أن الله تحول إلى رحم مريم فأصبح بصورة المسيح ، وإذا فلا إله أصلا إلّا المسيح ، ثم أمه لأنه والدته ، أو أن الله أولد المسيح من مريم وهو باق في ألوهيته بلا انتقال إلّا جزء منه صار هو المسيح ، ف (مِنْ دُونِ اللهِ) ما تتحملهما معا حيث تعني الإشراك بالله من هو أدنى منه.

__________________

قال : ولذلك كان أجداد الكرمليين اوّل من آمن ايضا بالإله يسوع بعد الرسل والتلامذة وأول من اقام للعذراء معبدا بعد انتقالها الى السماء بالنفس والجسد.

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٤٩ ـ اخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله سمع النبي (ص) يقول : إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودعى كل أناس بإمامهم ، قال ويدعى عيسى فيقول لعيسى يا عيسى أأنت قلت ..

٣١٠

وهنا لا نصرّ بتسمي مريم إلهة ، حيث الاتخاذ أعم من التسمية كما (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (٩ : ٣١).

وذلك الاتخاذ مشهود في الكنائس وسواها حيث يعتقدون لها السلطة الغيبية المخوّلة ، فلها أن تستجيب لمن شاءت أو تخيب!.

واتخاذ إله أو آلهة من دون الله صيغة متكررة في القرآن عن الإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا ، سواء أنكر وجود الله أم أقرّ به ، إنكارا عن بكرته كالماديين ، أم بتأويل تحوّله إلى إنسان كالمسيحيين القائلين بذلك التحول.

ذلك ، وفي إجابة المسيح (ع) في ذلك الاستجواب الرباني بيان لأدب عبودي بارع ، فتقديم «سبحانك» تنزيه له سبحانه عن أن يكون له شريك ، ثم (ما يَكُونُ لِي) سلب لكينونة ذلك التقوّل عن نفسه ، لأنه ليس بحق له لمكان عبوديته ، ولا على الله لمكان وحدته في ربوبيته ، ثم (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) تعليق على المحال من كينونة هذه القولة أن (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) إذ لا يخفى عليك أيّ كائن ، ثم يبرهن أخيرا كلا السلب والإيجاب ب (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) تأكيدا لحيطته العلمية الطليقة الربانية الوحيدة ب (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وكل هذه واقعة وبوحي الله في صيغة التعبير حيث «لقاه الله» (١) وقد أرعد منه استجوابه تعالى كل مفصل منه حتى وقع (٢) ، ومن ثم يأتي بما قال لهم :

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٤٩ ـ ابو هريرة عن النبي (ص) «فلقاه الله : سبحانك .. وفيه عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال : ان عيسى حاجه ربه فحاج عيسى ربه والله لقاه حجته بقوله : أأنت ...

(٢) المصدر عن ميسرة قال : لما قال الله : يا عيسى ابن مريم ...

٣١١

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١١٧) :

ما قلت لهم» في حقل الألوهية (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) دون ما تأمرني به نفسي أو عقلي مهما صلحتا ، ولا ما أمرني غيري ، فإنما أنا رسولك لا أقول لعبادك (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وهو هنا (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) دون تخصص لي في مقام العبودية فضلا عن دعوى الربوبية ، وماذا فعلوا وافتعلوا في هذه الدعوة التوحيدية؟ (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أشهد ماذا يقولون ويعملون أو يعتقدون بإشهادك لي إياها (ما دُمْتُ فِيهِمْ) على أرض الرسالة ثم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) بكل شهادة كما كنت أنت الرقيب عليهم ما دمت فيهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا تفلت منك فالتة ولا تفوت عنك فائتة.

وهنا (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) حصر لتلك الرقابة فيه تعالى ككل ، وأما شهادته كسائر الشهود يوم القيامة فهي بما أشهده الله عليه من أعمالهم عند الشهادة أو قبلها يوم يقوم الأشهاد.

وقد يصدق الإنجيل دعوته التوحيدية كما في (متى ١٩ : ١٦ ـ ١٩ ومرقس ١٠ : ١٨ ولوقا ١٨ : ١٩) : «وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح .. فقال له : لماذا تدعوني صالحا ، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله».

وكما يندد ببطرس ويعتبره شيطانا إذ قال له : «حاشاك يا رب ، فالتفت وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (متى ١٢ : ٢٢ ٨ : ٢٣).

ولقد صدق الله دعواه هذه في هذه الإذاعة القرآنية حيث يحكي عنه

٣١٢

مصدقا إياه : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (١٩ : ٣٦ و ٤٣ : ٦٤).

فذلك هو السيد المسيح (ع) معرفة وعبودية ورسالة صالحة ، ومن زهده (ع) ما

يقول عنه الإمام علي أمير المؤمنين (ع): «وإن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليهما السلام : فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب ، وكان إدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه ، وخادمه يداه» (الخطبة ١٥٨ / ٢٨٣).

ذلك ، ولا تتقيد شهادته يوم القيامة بما شهده منهم ما دام فيهم بل ويشهد على عامة أهل الكتاب ولم يكن فيهم إلّا فترة لا تحمل إلّا قطرة من بحرهم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٤ : ١٥٩) وذلك بإشهاد الله له كل أعمالهم أولا وأخيرا ، مهما كانت له شهادة حاضرة ما كان فيهم ، إذ لم يكن ليشهد إلّا أقوالا وأعمالا ممن كان يعاشرهم ، دون أن يحشرهم كلهم ولا سيما في أحوالهم الغائبة.

إذا فالشهادة الرسولية تحلّق في إلقاءها على كافة الأقوال والأعمال والأحوال من الأمم ، حيث تحلق عليها تلقيا بما يلقيه الله إياهم حاضرين لموقف الرسالة وغائبين ، والقدر المعلوم من ذلك الإلقاء هو يوم يقوم الأشهاد (١) اللهم إلّا ما استثني ، وليست شهادة المسيح (ع) وغيره من

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٤٩ أخرج ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال خطب رسول الله (ص) ـ

٣١٣

الشهداء إلّا وسيطة بين الله والمكلفين من عبادة دونما استقلال لهم أو استغلال ، فالله هو الذي أشهدهم تلقيا كما أشهد أعضاءهم كلهم والأرض بأجواءها وأشهد الكرام الكاتبين.

وليست هذه الشهادات الأربع يوم يقوم الأشهاد إلّا لشهادة الله ، لو أنهم تشككوا فيها ، فليس لهم نكران شهادات أعضاءهم والأرض بما عليها ، مهما اجترءوا على التشكك في سائر الشهادات.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١١٨) :

يا لله لمسيح الله في موقفه ذلك الرهيب العجيب! وأين أولئك الذين أطلقوا عليه هذه الفرية الرهيبة العجيبة ، سواء أكانوا متخذيه وأمه إلهين من دون الله ، أو المكتفين بهذه الفرية القاحلة الجاهلة نقلا وتناقلا ، حيث يتبرّأ منها ذلك العبد الصالح الطاهر ذلك التبرؤ الواجف بموقفه منهم الراجف ، ابتهالا من أجلها إلى ربه ذلك الابتهال المنيف المنيب؟!

هنا تسمع المسيح بعد ما أجاب ما أجاب بكل تأدب في ذلك الاستجواب ، تسمعه يحاول أديبا أريبا لبيبا أن يغفر الله من يصلح للغفر منهم تقديما لحق العذاب : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أولاء الناقلين عني ما نقلوه من فاتكة الفرية وهاتكتها ، (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) ولك أن تعذبهم استحقاقا حقيقا.

__________________

ـ فقال : ايها الناس انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ثم قرأ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ثم قال : ألا وإن أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة ابراهيم ألا وإنه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب اصحابي اصحابي فيقال : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم فيقال : أما هؤلاء لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم.

٣١٤

عادلا لعصيانهم وبهتانهم العظيم (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ايّ غفر صالح في موقف الفضل والرحمة ما لم تناف العدالة (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمرك غير مغلوب «الحكيم» حيث تضع عزتك في مواقف الحكمة دون ظلم ، ولا رحمة غير صالحة ، فإنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

وترى كيف سمح المسيح (ع) في ذلك الموقف الرهيب أن يلفظ بغفر لهم وهم أولاء الذين نكبوه ومسوا من كرامة لله فيما ارتكبوه ، وهو القائل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤ : ٤٨) وهؤلاء ممن أشركوا بالله افتراء على الله وعلى رسول الله؟.

علّ الوجه في تلك السماحة في ذلك السماح أنهم ما كانوا كلهم مشركين مهما كانوا مشتركين في نقل هذه القولة عنه (ع) فعلّهم انقسموا إلى أقسام كما هي الواقعة بين المنحرفين من المسيحيين ، من ناقل عنه (ع) هذه ، غير قائل به ، أم قائل بالبنوة التشريفية للمسيح (ع) فالأمومة التشريفية لابن الله بهذا المعنى ، أم غير قائل بهما بل هو عامل معهما معاملة عبد مع الرب ، التماسا منهما ما يلتمس من الله وهو شرك خفيف ، أم قائل بحقيقة البنوة له والأمومة لأمه ، أم قائل بتحول الإله من لاهوت الألوهية إلى ناسوت البشرية تمثلا بالمسيح ، أماهيه من هرطقات كنسية جارفة هي دركات ، ولكنها لا تحسب كلها بحساب الإشراك بالله المصطلح في القرآن وهو عبادة الصنم أو الطاغوت.

فمن الجائز أنه ذكر (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) بصوغ التشكك اعتبارا بجائز الغفر عند الله عن بعض هذه الأخطاء.

ذلك ، ومن الغفر هنا أن يغفر لهم عن واقع فريتهم توفيقا لهم للاستغفار والإنابة إلى الله ، قبل موتهم ، إذ ليس في كلامه (ع) ما يدل على ، أو يشير إلى : أنّ طلب الغفر لهم ينحو إلى ما بعد موتهم ، حيث دعى

٣١٥

ما دعى بعد توفّيه وقبل وفاته ، لكل هؤلاء الذين كانوا معه وإلى يوم الدين ، أن يغفر لهم إن استغفروا ، أو يوفقهم لكي يستغفروا ، فقد وقع دعاءه (ع) موقعه وهو أعلم بما وعى ودعى ، والجواب الصواب عما دعى هو ما :

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٢٠) :

هنا (قالَ اللهُ هذا ..) ضابطة ثابتة تحلّق على كل الأقوال والأحوال والأعمال وهي : (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) والصادقون هم الذين تصدّق أقوالهم أحوالهم وأعمالهم كما تصدق أحوالهم ، أعمالهم وأقوالهم ، صدقا في مثلثه ، وهو النافع اليافع دون أي ضرر.

ذلك والصدق في المقال لزامه صدق الحال والفعال وكما يروى أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي (ص) فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفّه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلّا ذكر أنه لو اقترفها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه ويخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.

ومن نفع الصدق أن كبائر الواجبات فعلا وكبائر السيآت تركا تكفر السيآت كما في آيات ، وأن مراحل خاصة من الصدق تؤهل للشفاعات.

فهؤلاء الناقلون عن المسيح ما نقلوا إن صدقوا في توبتهم عما أقروا وأوبتهم إلى الله ، فقد ينفعهم صدقهم يوم القيامة ، كما وأن الشرك الخفي من بعضهم قد يكفّر بصالح الإيمان والأعمال.

إذا فذلك من الأدب البارع للمسيح (ع) حيث جاء بهذه الشرطية

٣١٦

تقديما ل «إن تعذبهم» حيث يستحقونه بما افتروا أم واقترفوا من إشراك بالله ، تعليلا ب (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وللمولى أن يعذب عباده بما قصروا ، وتأخيرا ل (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) فإنهم عبادك مهما قصروا (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فقضية العزة الحكيمة والحكمة العزيزة أن هؤلاء بين معذبين ومغفور لهم.

ثم وبالنسبة للصادقين الخالصين ، العائشين الصدق يوم الدنيا (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يوم الدين ، وفوق هذه الجنات جنة الرضوان حيث (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ومجمع الجنتين ولا سيما الأخرى (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ذلك ، ومن هؤلاء المرضيين الراضين السيد المسيح (ع) فانه من أصدق الصادقين وأصلح الصالحين.

وهنا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) تحكّم عرى الصلاحية الأكيدة لهؤلاء الصادقين أن (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) حيث وقفوا حياتهم لمرضات الله ، كما (وَرَضُوا عَنْهُ) تسليما لمرضاته ، وذلك الرضوان المزدوج في هذا البين يتبلور أكثر في ذلك اليوم.

والمشيئة الطليقة الربانية بحق العباد تتبنّى ملكه للكون اجمع وقدرته عليه اجمع ، ف (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ) والملك الحقيقي يحوي الملك الحقيقي ، وهما ليسا إلّا لله دون سواه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٣١٧

سورة الأنعام مكية

وآياتها خمس وستون ومائة

٣١٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي

٣١٩

مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢)

سورة الأنعام ـ مكية ـ وآياتها مائة وخمسة وستون

«سورة الأنعام» هي المكية الثانية في ترتيب التأليف القرآني ، وأولاها

٣٢٠