الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

(كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وقليل هم مؤمنون برسالة الإسلام

ذلك ومن عماهم الأعمى وصممهم الأصم إفسادهم مرتين عالميتين كما شرحناهما في الأسرى ولأن «عموا وصمو» كما (حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) كل ذلك الثالوث من فعلهم تقصيرا دون قصور ، ولم يكن من الله إلّا أن (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فقد ذاقوا بما قصروا وبال أمرهم وما ربك بظلّام للعبيد.

فقد نقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به بتكذيبهم وقتلهم أنبياء لهم ، ثم حسبوا ألّا تكون فتنة ، ثم عموا وصموا ، ثم ـ بعد أن تاب الله عليهم ـ عموا وصموا مرة ثانية.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٣) :

هنا عرض لعقيدة ـ هي عقدة العقد ـ في اللّاهوت المسيحي (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) و (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) : الإله الأب والروح القدس والابن ، بتأويل أنّ الله تنزّل عن لاهوت الألوهية فتجسّد في رحم البتولة العذراء فتمثل بشرا سويا! فهو ـ إذا ـ الله أم «مريم» بديلة عن «روح القدس» كما تدل عليه (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).

ففي الحقول الكنسية اقتسمت الألوهية بين الله والمسيح وأمه وروح القدس ، ولكن الحظوة العليا في هذا البين للمسيح الذي لا يخلو دور الألوهية منه إلها أم ابنا لله أم أقنوما من الأقانيم الثلاثة مهما كان غير ابن ،

١٤١

فهو إذا مثلث من الألوهية! ومريم والروح والله لكلّ حظوة واحدة منها لا تبقى حيث انتقلت إلى المسيح!.

وهذه ترقية للسيد المسيح في قوسه الصعودي وتنزل لله في قوسه النزولي ، فقد كان عبدا ثم تشرف بشرف البنوة التشريفية ، ثم البنوة الصّلبية ، ثم مشاركا في ذات الألوهية في ثالوثها ، ثم إلها لم يبق بعد غيره إله ، لا إله الأب ولا إله الأم ولا إله روح القدس.

فلكلّ من الفرق المسيحية المنحرفة واحدة من هذه المراحل اللّاهوتية للمسيح ، والأصل الأصيل ـ على أية حال ـ هو المسيح لا سواه.

وذلك أنحس ما وصل اليه اللّاهوت العقائدي في المسيحية ، بعد ما تقوّلوا : إن المسيح (ع) هو ابن الله تشريفا دون حقيقة البنوة ، ثم تخطّوا هذه القيلة إلى أن المسيح ابن الله ، جزء من كيانه كيفما كان تجزّءه ، ثم مشاركا مع الله في جوهر الألوهية ، وإلى أن الله تبدّل بكل كونه وكيانه إلى المسيح بظاهر الولادة المريمية!.

ف (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤ : ١٧١) وهؤلاء هم المثلثون القائلون بالأقانيم الثلاثة.

ثم (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٥ : ١١٦) وأولئك هم الثنويون المريميون (١).

ثم هاتان الآيتان (٧٢ ـ ٧٣) هنا عرض لثالث ثلاثة من ثالوث عقائدهم اللّاهوتية هو توحيد المسيح (ع) في الألوهية ، إذابة للإله الآب بتخلّ كامل

__________________

(١) القول الفصل حول التثليث والتثنية راجع إلى آيتهما في النساء والمائدة.

١٤٢

وتجاف شامل في رحم مريم العذراء ، فتناسيا عنه فضلا عن مريم وروح القدس ، ولذلك نراهم يقولون في شعارهم «إلهنا المسيح» معبّرين عن مريم عليها السلام ب «أم الإله و «أنه مولود غير مخلوق» مولود حيث برز بمظهر الناسوت بعد اللّاهوت ، وغير مخلوق لأنه هو هو دون تعدد إلّا بالمظهر ، فهناك لاهوت وهنا ناسوت (١)!.

ونسمعهم يذكرون في ذكرياتهم وأذكارهم أنه «الإله المخلص المنجي المتجسد» وذلك لا يخلوا عن محتملات تالية : أن الله ـ سبحانه ـ تنزل بكل كونه وكيانه عن لاهوت الألوهية والتجرد إلى ناسوت الجسم تجافيا عن كينونته المجردة اللّامحدودة ، حلولا في جسم المسيح؟ وذلك مستحيل حيث المجرد لا يتبدل إلى نقيضه اللّامجرد! إلّا انمحاء عن وجوده فتكوّنا بالكيان المادي؟ فذلك فناء وهذا حدوث ينافيان ساحة الألوهية!.

أم حلولا لذاته المجردة اللّامحدودة في جسم المسيح المحدود؟ وهو جمع بين النقيضين : اللّامحدود والمحدود ، اللهم إلّا بتحول اللّامحدود إلى محدود فكذلك الأمر!.

فأصل التحول لله مستأصل عن ساحته فإنه قضية الحدوث ، ثم تحوّله عن التجرد إلى المادة مستأصل أخرى لإستحالة تبدّل النقيض إلى نقيضه ، اللهم إلّا بفناءه ثم حدوث نقيضه مكانه وليس هذا من التحول ، وهو في نفسه مستحيل حيث الفناء في ساحة الألوهية مستحيل! ثم انتقاله على تجرده اللّامحدود إلى جسم المسيح ورحم مريم المحدودين ثالثة ، ظلمات

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٥٩ عن تفسير القمي عن أبي جعفر عليهما السلام في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم ، اما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله وأنه ابن الله وطائفة منهم قالوا : ثالث ثلاثة وطائفة منهم قالوا : هو الله ...

١٤٣

بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

أجل ف (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ـ أو ـ (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) كفروا عن شرعة التوحيد الكتابية ، ولا نجد في الأناجيل ـ على تحرّفها ـ نصا أو ظاهرا في ألوهية المسيح أو بنوته لله أو التثليث! كما فصلنا البحث حوله على ضوء الآية (١٧١) من النساء.

وليست خرافة ألوهية المسيح أو بنوته لله أو الثالوث إلّا من المختلقات الكنسية منذ صعود المسيح (ع) وقد ترسبت هذه المختلقات الزور إلى حدّ يعتبر سواها من التوحيد ، أم وبنوة المسيح التشريفية من البدع (١).

__________________

(١) البدع ، ١ ـ ٤ مذهب المونارخيانيةMONARCHIANISME منذ نهاية القرن الأول قام مبتدعون متهودون : «قيرنتوس والإبيونيون» ـ على حد تعبير مذهب الثالوث ـ يدعون الى التوحيد المشدد والأقنوم الواحد ـ الإله الواحد ـ! فأنكروا ألوهية المسيح : (القديس ايريناوس في كتابه ضد المبتدعين ١ ـ ٢٦) وفي نهاية القرن الثاني قامت البدعة : المورناخيانية ـ تعلم : أنه ليس في الله إلّا أقنوم واحد : (ترتليانوس في كتابه ضد بركسياس : ٣) وهذه البدعة تقسم تبعا لموقفها من شخص المسيح إلى فرعين :

١ ـ المونارخيانية الديناميكية أو المتبنية ، تعلم : أن المسيح إنسان عادي بسيط وله بطريقة فائقة الطبيعة من الروح القدس ومن مريم العذراء وقد هباه الله يوم اعتماده وبنوع خاص : القوة الإلهية وتبناه ـ تشريفيا ـ.

وأهم القائلين بهذه البدعة «تادوتس» الدباغ البزنطي ، الذي ادخل تعاليمه روما حوالي سنة ١٩٠ ففصله عن الكنيسة البابا القديس فكتور الأول (١٨٩ ـ ١٩٨) بولس السميصاني مطران انطاكيا الذي حكم عليه كمبتدع خلعه مجمع انطاكيا المنعقد سنة ٢٦٨ وفوتينوس اسقف سرميوم الذي خلعه مجمع انعقد في سرميوم سنة ٣٥١.

٢ ـ مذهب عدم المساوات SUBORDINATION ISME يسلم هذا المذهب على خلاف سابقه بثلاثة أقانيم إلّا أنه ينكر على الأقنوم الثاني والأقنوم الثالث مساواتهما ـ

١٤٤

__________________

ـ للأب بالجوهر وبالتالي بالألوهية الحقة.

٣ ـ الذهب الآريوسي : نسبة الى الكاهن الاسكندري آريوس (٣٣٦) الذي كان يعلم بأن الكلمة (LOGOS) ليس من الأزل ولم يولد من الآب بل هو خليفة الآب خرج من العدم قبل سائر الخلائق كلها ، فهو ليس مساويا للأب في جوهره ، ومنها نعتوا ب «الأنوميين» بل هو خاضع للتغير وقابل للتطور وليس هو الله بالمعنى الخاص الحقيقي ، بل بالمعنى النسبي فقط إذ تبناه بسابق نظره إلى استحقاقه ، وقد حرّمت هذه البدعة في المجمع النيقاوي المسكوني الأول (٣٢٥) الذي وضع قانونا للايمان يعترف فيه : بأن يسوع المسيح هو ابن الله المولود من جوهر الآب ، وبالتالي يعلن حقيقة ألوهته ومساواته للأب في الجوهر (٥٤٥٠).

٤ ـ المذهب المكدونياني : نشأ من الآريوسية المعتدلة فرع لها هو شيعة (بنفما توماك ، أي : اعداء الروح القدس) التي ينسبونها منذ أواخر القرن الرابع ، وربما عن خطأ ـ الى مكدونيوس : اسقف القسطنطنية الآريوسي المعتدل (عزل عام ٣٦٠ وتوفي قبل ٣٦٤) وهذه البدعة أطلقت مذهب عدم المساوات على الروح القدس أيضا ـ معلنة إياه بالاستناد الى عبرانيين ١ : ١٤ خليقة وروحا للخدمة ـ كالملائكة ـ وقد قام ضد دعاة هذه البدعة القديس اثناسيوس والكبادوقيون الثلاثة ... فدافعوا عن الوهية الروح القدس وعن وحدة جوهره مع الآب والابن ، وقد حرمت هذه البدعة في مجمع عقد في الاسكندرية (٣٦٢) برئاسة القديس اثناسيوس وفي مجمع القسطنطنية المسكوني الثاني (٣٨١) وفي مجمع عقد في روما (٣٨٢) برئاسة البابا القديس داماسيوس (٧٤٥٠ ـ ٨٢) وقد أضاف مجمع القسطنطنية إلى قانون نيقية فقرة خطيرة يعلن فيها الوهة الروح القدس إعلانا هو على الأقل غير مباشر وينسب إليه الصفات الإلهية «نؤمن ... بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الآب والأبن ـ يسجد له ويمجد ، الناطق بالأنبياء».

٥ ـ البروتستانية : طعن لوثر في الاصطلاحات التي نعبر بها عن التثليث ، إلّا أنه حافظ على الايمان بالثالوث ومع ذلك فان مبدء الحكم الشخصي الذي نادى به ادّى أخيرا إلى إنكار عقيدة الثالوث.

إن مذهب السوسينية بالنسبة إلى فوستوس سوزّيني قد اعتنق عن الله فكرة التوحيد إلى ـ

١٤٥

والذي دسّ في الكنائس هذه الخرافة الجارفة هو الخصي الكوسج المصري خادم الرهبان «أوريفين» (١) إلى أن تشكلت مجمع نيقية (٣٢٥ م) إذ جاءت من الجماعات الروحية المسيحية من شتى الأقطار من يزيد على ألف مبعوث لانتخاب الأناجيل التي يجب أن تعتبر قانونية ، ولقد كان (٣١٨) شخصا من هؤلاء من القائلين بألوهية المسيح ، وقد

__________________

ـ أقصى حد ، بحيث لا تسمح باقانيم إلهية ، وقد نظر الى المسيح على أنه إنسان محض والى الروح القدس على انه قوة إلهية لا شخصية».

٦ ـ أما علم اللاهوت والراسيونالي المعاصر : فانه كثيرا مّا يحافظ على الاصطلاحات والتعابير الثالوثية التقليدية ، إلّا أنه لا يرى في الأقانيم الثلاثة سوى تشخيص لصفات إلهية ، كالقدرة والحكمة والجودة ، ويرى (هرنك) : ان الايمان المسيحي في الثالوث ليس إلّا وليد الجدل الذي قام بين المسيحية واليهودية فكان أن اكتفوا أولا بعبارة : (اللهِ وَالْمَسِيحَ) ردا على عبارة «الله وموسى» ثم أضافوا إليها فيما بعد «الروح القدس» تقنين الثالوث الكنسي :

إن اقدم صيغة تعليمية رسمية لايمان الكنيسة بشأن الثالوث الأقدس هي قانون الرسل الذي اتخذته الكنيسة منذ القرن الثاني في شكل قانون العماد الروماني القديم كأساس لتعليم الموعوظين ولاعتراف الايمان في حفلة العماد عند اللاتين.

ثم ... قانون نيقية القسطنطنية (٣٨١ م) وقد نشأ ضد مذهبي آريوس ومقدونيوس ، ثم المجمع الروماني برئاسة البابا القديس داماسيوس (٣٨٢) يدين بصورة اجمالية أضاليل القرون الأولى في الثالوث الأقدس ، ثم إلى القرن ٥ و ٦ قانون اثناسيوس ، ثم قانون مجمع طليطلة الحادي عشر (٧٦٥ م) ثم في القرون الوسطى قانون مجمع اللاتراني الرابع (١٢١٥ م) ثم مجمع فلورنس (١١٤٤١ م) ثم في العصر الحديث تعليم لبيوس السادس (١٧٩٤ م) ...

(كل هذه منقولات عن كتاب مختصر في علم اللاهوت العقائدي تأليف لوديغ اوث الألماني نقله الى العربية الأب جرجس المارديني ج ١ : ٧٣ تحت عنوان : البدع المضادة للتثليث وتحديدات الكنيسة التعليمية).

(١) هو راهب اعزب عارف باللغات عاش في القرن الثاني.

١٤٦

اجتهد آريوس رئيس الموحدين بالبرهنة على أن المسيح مخلوق وأنه عبد الله مستدلا بما لديه من الآيات الإنجيلية وبتفاسير الأعزة والآباء من إيقليسيا ، واعترف بهذه الحقيقة الثلثان الباقيان من الألف (أعضاء المجمع) وهم الموحدون الذين كانت تتألف منهم الأكثرية العظيمة من أعضاء المجمع النيقاوي.

ومن ناحية أخرى قام رؤساء الثالوثيين (وعلى رأسهم اثنا سيوس) للبرهنة على : أن المسيح إله تام وأنه متحد الجوهر مع الله ، وأخيرا ترجّح رأى المثلثين لا لشيء إلّا للسلطة الجبارة آنذاك من قسطنطين (قونسطنطينوس) تحت ستار إيجاد الأمن بين المتخالفين ، وأن قسطنطين يرجح رأي صديقه البابا كاهن رومية الأعظم وهو من الأقلية الثالوثية في نيقية ، ويأمر بإخراج أكثر من سبعمائة من الرؤساء الروحيين الباقين : الموحدين ـ من المجمع ، ويقتل آريوس رئيس الموحدين لكي يصفّي جو المجمع (٣١٨) الباقين المثلثين.

ولقد صرح المسيح (ع) بهذا الحادث الجلل العظيم تنديدا بالمثلثين وتمجيدا للموحدين بقوله : «سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله وسيفعلون بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني» (إنجيل يوحنا ١٦ : ٣ ـ ٣ و ١٣ : ٩).

والآب لغة يونانية بمعنى الخالق وهم حرّفوها معنويا إلى الأب : الوالد.

ذلك ، فالنصرانية الموجودة الآن إن هي إلّا من سلطان وثني ملحد وخصي كوسج مصري!.

(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ ..) وكما في الإنجيل حيث يصرح المسيح (ع) في ثمانين موضعا أنه عبد الله ورسوله ومنه «إن الحياة الأبدية معرفة الله بالوحدانية وأن المسيح رسوله» (يوحنا ١٧ : ٣) و «أوّل

١٤٧

الأحكام أن نعرف أن إلهنا واحد» (مرقس ١٢ : ٢٩) وقد قال له الكاتب : «لقد قلت حسنا إن الله إله واحد وليس غيره من إله ولما رآه المسيح عاقلا في جوابه وكلامه خاطبه قائلا : لست بعيدا عن ملكوت الله» (مرقس ١٢ : ٣٢ و ٣٤).

«ثم ويندد ببطرس إذ قال له حاشاك يا رب! فالتفت إليه وقال : اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس» (متى ١٦ : ٢٢ ـ ٢٣).

وهكذا نرى الوفير من تصاريح برنابا في إنجيله الذي أملاه عليه المسيح (ع) يصرح بخالص التوحيد الحق ولا ينبئك مثل خبير (١).

__________________

(١) ففيه ٧٠ : ١ ـ ٧ : «وانصرف يسوع من أروشليم بعد الفصح ودخل حدود قيصرية فيلبس ، فسأل تلاميذه بعد أن أنذره الملاك جبرائيل بالشغب الذي نجم بين العامة قائلا : ماذا يقول الناس عني؟! أجابوا : يقول البعض انك إيليا وآخرون ارميا احد الأنبياء ، أجاب يسوع : وما قولكم أنتم فيّ؟ أجاب بطرس : إنك المسيح ابن الله. فغضب حينئذ يسوع وانتهره بغضب قائلا : اذهب وانصرف عني لأنك أنت الشيطان وتحاول ان تسيء إليّ ، ثم هدد الأحد عشر قائلا : ويل لكم إذا صدقتم هذا لأني ظفرت بلعنة كبيرة من الله على كل من يصدق هذا .. فبكى بطرس وقال : يا سيد لقد تكلمت بغباوة فأضرع إلى الله ان يغفر لي ، وفي برنابا ٨ : ١١ : «وأراد المسيح أن يخرج بطرس فشفع له التلاميذ ثم هدده ثانيا ألا يكرر مقالته الكافرة هذه».

هذا وقد يصر علماء الإنجيل بموقف بطرس الخاطئ كالتالي : يقول مستر «فلك» والدكتور «كود» و «برنستس» وهو الملقب بالمرشد الفاضل في لسان جويل : ان بطرس رئيس الحواريين غالط في ما كتبه وجاهل بالإنجيل وقد ضل عن الايمان الصحيح بالمسيح بعد نزول روح القدس ، ويصرح «جان كالوين» ان بطرس ابتدع في الكنيسة بدعا جارفة وأضاف المسيحية بها واستلب منها حريتها وجعل التوفيق المسيحي تحت رجليه.

١٤٨

وهنا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) دون «إن المسيح هو الله» عبارة قاصدة لمعنى خاص هو أن الله الذي لا إله إلّا هو هو المسيح حيث تحوّل عن لاهوته إلى ناسوت المسيح فلم يبق هناك إله إلّا المسيح ، وأما «أن المسيح هو الله» ففيه قوس صعودي أنه تحول عن ناسوته إلى لاهوت الله وهم لا يقولون به ، إنما قولهم هنا هو القوس النزولي : إن الله تحول إلى المسيح!.

وهنا في تعريف المسيح ب «ابن مريم» تنديد شديد بهذه القولة الهاتكة الفاتكة أن كيف بالإمكان كون الله هو المسيح وهو كما يعلمون ابن مريم ، فهل إن مريم هي أم الله في تحويله إلى المسيح فلا إله ـ إذا ـ إلّا المسيح!.

وما تأويلهم العليل الكليل أن المسيح هو الله من جزء الروح وهو ابن مريم من جزء الجسم ، إلّا تناقضا بينا في حلول المجرد اللّامحدود في الجسم المحدود.

__________________

ـ ذلك وقد سمى من ألّهه من المجانين «.... فلما عرفوه أخذوا يصرخون : مرحبا بك يا إلهنا! وأخذوا يسجدون له كما يسجدون لله. فتنفس الصعداء وقال : انصرفوا عني أيها المجانين لأني أخشى ان تفتح الأرض فاها وتبتلعني وإياكم لكلامكم الممقوت. لذلك ارتاع الشعب وطفقوا يبكون» (برنابا ٩٢ : ١٩ ـ ٢٠) ويشهد على عبوديته الأرض والسماء قائلا : «اشهد امام السماء واشهد كل شيء على الأرض : اني بريء من كل ما قد قلتم. لأني انسان مولود من امرأة فانية بشرية وعرضة لحكم الله مكابد شقاء الأكل والمنام وشقاء البرد والحر كسائر البشر لذلك متى جاء الله ليدين يكون كلامي كحسام يخترق كل من يؤمن بأني أعظم من انسان» (برنابا ٩٣ : ١٠ ـ ١١ و ٩٤ : ١ ـ ٣).

ويعتبر من يدعوه إلها ضالا مستحقا للمقت قائلا : «إنكم قد ضللتم ضلالا عظيما أيها الاسرائيليون لأنكم دعوتموني إلهكم وأنا انسان واني أخشى لهذا ان ينزل الله بالمدينة المقدسة وباء شديدا مسلّما إياها لاستعباد الغرباء. لعن الله الشيطان الذي اغراكم بهذا الف لعنة! (برنابا ٩٢ : ٢ ـ ٤).

١٤٩

ولمذهب الحلول هذا أبعاد شاسعة بين المشركين والكتابيين وحتى من عرفاء المسلمين مهما اختلفوا بين قوسي الصعود والنزول ، حلول الله في بشر أم تحوّل بشر إلى الله في وحدة الإثنين أو انمحاء غير الله في الله فيصبح بذلك إلها!!!.

وذلك العرفان الخارف لا يقف لحدّ بين اللّاهوتيين المنجرفين إلى هوّات الأهواء البعيدة عن حق الوحي والوحي الحق.

وأما أن «الله ثالث ثلاثة» فقد تحتمل معنيين اثنين ، أحدهما أن الأقانيم الثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، هم ثلاثة وواحد وواحد هو ثلاثة ، والأقنوم الأصل هو الله! وثانيهما أنه عبارة أخرى ل «أن الله هو المسيح» تجافيا لله عن لاهوته إلى ناسوت الابن ، وتعاميا عن ألوهة الروح القدس.

ذلك ، وفي (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) تنديد شديد بمؤلّهي المسيح (ع) أنه لا يفيدهم الفداء الصليبي المزعوم وأنه باختيار الصلب ، أو اختيار أبيه : الله ـ له الصلب فدى بنفسه عمن يعتقد به وبألوهيته أو ثالوثه.

فحتى لو كان المسيح (ع) مدعيا ذلك الإشراك أو راضيا به لكان ـ وعوذا بالله ـ من أهل النار ، فضلا عمن اختلقوا له منصب الألوهية وأنه بتفديته هذه ينجي المعتنقين أكذوبة الثالوث ، عن النار.

ثم (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) تجتثّ مستغرقة الألوهية بكل شؤونها عن غير الله ، أقنوما ذاتيا أو صفاتيا أم سواه ، فأيّة مماثلة مع الله في أيّ من شؤون الألوهية والربوبية تحمل ألوهة مّا هي بصورة مستغرقة مسلوبة عمن سوى الله.

وهنا (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما

١٥٠

لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) تستغرق ـ في حرمان الجنة وإيواء النار خلودا أبديا ما دامت النار ـ كافة المشركين بالله ، المسوين معه غيره ببنوة وتثليث وألوهة.

ثم و (لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) عبارة ثالثة هي صيغة واضحة عن أقانيهم الثلاثة.

وحصيلة تقوّلاتهم اللّاهوتية في حقل الألوهية بعد البنوة التشريفية هي ألوهية الابن كما الروح القدس اعتبارا بأنها من جوهر الأب ، واحد هو ثلاثة وثلاثة هي واحد ، ثم توحيد الألوهية للابن حيث حلّ فيه الآب فلا إله إلّا المسيح.

ومن لوازم الأخير هو ألوهة مريم كما المسيح فإنها ـ إذا ـ والدة الإله ، فلا دور بعد للإله الآب حيث تجافى عن كونه وكيانه انتقالا إلى رحم مريم إلى جسم المسيح.

ومن تصريحاتهم أن «طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية : الله الآب ، والله الابن ، والله الروح القدس ، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير» (١).

وهكذا نجد الروحيين المسيحيين يحاولون تثبيت الثالوث بأي وجه كان ، وحين يهاجم عليهم بالبراهين العقلية التي تحيل الثالوث يعتذرون بأنه فوق العقل كما أن ذات الله فوق العقل ، رغم أنه تحت العقل حيث تحيله ، دون ذات الله حيث يثبتها العقل ، فالجمع بين كون شيء ثلاثة وواحدا هو جمع بين نقضين والمحال محال على أية حال.

ولكي يحيدوا عن ظاهرة التناقض يلجئون إلى صيغة «توحيد الثالوث» تمثيلا له بالذات المقدسة عندنا الموصوفة بالأوصاف الثلاثة الذاتية ، وأين ثلاثة من ثلاثة؟!.

__________________

(١) كما في كتاب قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست الامريكي.

١٥١

فالصفات الذاتيات الثلاث عبارات عن ذات واحدة غير متجزئة ، فليس في الواقع إلّا وحدة تجردية بسيطة دون أجزاء وصفات عارضة ولا ذاتية مركبة ، ولكنهم يفسرون ثالوثهم بذوات ثلاث مفصلة عن بعضها البعض ولكنها متساوية الجوهر في وحدة حقة حقيقية (١)!.

ذلك ، وإلى قول فصل سيأتي على ضوء آية الغلو حول خرافة الثالوث وألوهة المسيح وبنوته عقليا ونقليا على ضوء قوله تعالى (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ..) حيث يشير إلى أنها خرافة وثنية عتيقة تسربت في النصارى ثم ترسبت فيهم ، فهم ليسوا أصلاء في هذه الخرافة الجارفة ، بل هم يقتفون آثار مختلف صنوف المشركين في تاريخ الإشراك.

__________________

(١) هنا يقول الكاتب المسيحي المعاصر رئيس مطارنة بيروت الأستاذ الحداد في ص ٤٤ من كتابه : القرآن والكتاب : «ان توحيد التثليث من ارقى مراتب التوحيد ولم تكن البيئة البدائية في الحجاز لتقوى على استساغته لأنهم ما أوتوا من العلم إلّا قليلا! والنصرانية منذ كانت هي دين التوحيد مع قولها بعقيدة التثليث في الطبيعة الإلهية الواحدة فالتثليث المسيحي الصحيح لا يعدّد ولا يجزأ اللاهوت الواحد في الله الأحد ، فالنصرانية أولا وأخيرا تؤمن بإله واحد كما ينص عليه مطلع دستور إيمانها الذي هو شهادتها تحت كل سماء ومن ثم فالإيمان في الوهية عيسى ـ لا في تأليه عيسى ـ وفي تأنسه وتجسده لا يزيد شيئا ولا ينقص شيئا من طبيعة الخالق الواحدة ، إذن فالعقيدتان المسيحيتان «التثليث والتجسد» لا تمتان إلى الشرك بصلة ، إنهما من صميم التوحيد وتعتبرهما النصرانية القديمة في معناهما الصحيح تفسيرا منزلا لحياة الحي القيوم في ذاته السامية كما نزل به الإنجيل.

وهذا التعليم الكامل لم يكن الرسل والحواريون يبشرون به لأول وهلة بل كانوا ينادون بالتوحيد الأركان الأولى لأقوال الله في ديار الوثنية والشرك وبعد توطيد الايمان كانوا يفسرون للمؤمنين غنى الطبيعة الإلهية في تفاعلها اللامحدود وتثلثها الذاتي اللامتناهي على قدر ما يمكن للعقل البشري المحدود أن يستوعب حياة الحي القيوم للامحدود.

١٥٢

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٤):

توبة إلى الله مما يقولون على الله من جارفة خارفة هارفة ، واستغفارا إياه أن يستر عنهم هذه الانحرافات بمخلّفاتها (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للتائبين إليه المستغفرين إياه.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥):

هنا «إلّا رسول» كما في غيره من الرسل يحصر كيان المسيح في رسالة الله دون زائد ولا ناقص «وأمه صديقة» : هي كمال الصدق وتمامه قالا وحالا وأعمالا ، ومن الواقع الذي يثبت أنهما من البشر دون ألوهة ولا بنوة أم أمومة لله ، أنهما (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) وأكل الطعام دليل الحاجة المستمرة ، ثم الخارج منهما من حصيلة الطعام دليل آخر على بعدهما عن ساحة الألوهية ف «من أكل الطعام كان له ثقل ـ ثفل ـ ومن كان له ثقل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم (ع)» (١) ، إذا فكيف يكون المسيح وأمه عليهما السلام إلهين من دون الله كما يتساءل المسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٥ : ١١٦).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٦٠ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه : «وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه فان ذلك من ادل الدلائل على حكمة الله عزّ وجل الباهرة وقدرته القاهرة وعزته الظاهرة لأنه علم أن براهين الأنبياء عليهم السلام تكبر في صدور أممهم وان منهم من يتخذ بعضهم إلها كالذي كان من النصارى في ابن مريم فذكر دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي انفرد به عزّ وجلّ ، الم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي امه عليهما السلام : «كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» يعني من أكل ....

١٥٣

ولأن أكل الطعام للمسيح وأمه واقعية لا تنكر كخصيصة ضرورية من خصائص الأحياء المخلوقين ، تلبية لحاجة جسدية لا مرية فيها ، فكيف يكون إلها من يحتاج إلى طعام ليعيش ، والله حيّ بذاته وحيّ قبل أن يخلق طعاما وطاعما.

وهنا دور (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) دور التصديق لبشرية المسيح ورسالته حيث (صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (٦٦ : ١٢).

وهكذا الرائع كما الشمس في رايعة النهار نبرهن لهم ف (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) الدالة على كيان الألوهية وكيان المألوهين ككل (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقد أفكهم الذين كفروا وهم (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟!.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٧٦) :

حجة ثانية ـ بعد برهان الفقر والحاجة للمسيح عليهما السلام ـ تحلق على كل المعبودين من دون الله ، ان كيف تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ولو ملك لنفسه نفعا أو دفع ضر لم يكن بحاجة إلى من سواه؟.

فمهما كان فيمن دون الله نفع ودفع ضر ، ولكن أحدا منهم لا يملك ضرا ولا نفعا بصورة مستقلة هي قضية طليق الملك لهما ، حيث الملموس ليل نهار فسخ العزائم ونقض الهمم ، فلا تجد أحدا بإمكانه تحقيق كل ما يريد من نفع لنفسه أو سواه ، أم دفع ضر عن نفسه أو سواه ، وهذا هو المعني من ملك الضر والنفع.

ف (ما لا يَمْلِكُ) لنفسه فضلا عن سواه (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فأي نفع في عبادته وطاعته؟ والطاعة والعبادة المرسومة في الأكثرية الساحقة من

١٥٤

العابدين الله وسواه لا تعني إلّا دفع الضر وجلب النفع ، فلتختص العبادة لمن يملكهما أن يضر وينفع ، فليعبد دفعا عن ضره وجلبا لنفعه في أية حلقة من حلقات الحياة.

إذا فعرض (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في معرض الحجاج لا يعني كل العابدين حيث المخلصون يعبدون الله لأنه الله لا خوفا من عذابه ولا طمعا في ثوابه ، بل المعنيون هنا هم المشركون الذين يعبدون بغية دفع ضر أو جلب نفع.

وتقدم «ضرا» هنا على «نفعا» كذلك يعني الأكثرية من هؤلاء حيث يحاولون دفع الضر عن أنفسهم قبل جلب النفع.

وهنا التعبير ب «ما» دون «من» يعني اضافة إلى عناية التحليق على كل الكائنات عاقلة وسواها ، ان العاقلة منها كغيرها هما على سواء في (لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) لأن ملكهما يختص بمن يملك الكائنات كلها.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ ... وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لكل ما يسمع ويعلم ، سمعا للأقوال والأدعية وعلما بالأحوال والأفعال بحيطة علمية على الكائنات ، وحيطة القدرة على اجابة السئولات (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥ : ١٤).

ذلك واصل الثالوث : ١ ـ ثلاثة هي واحد وواحد هو ثلاثة ، باستحالته ٢ ـ وان المسيح ابن مريم ، فقد ولد بعد أن لم يكن فحادث ، ومولود غير مخلوق هنا تناقض ثان ٣ ـ وان صديقة حيث صدقت توحيد الألوهية ورسالة المسيح ٤ ـ وكانا يأكلان الطعام دلالة على الحاجة الى الطعام ٥ ـ و (لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولو كانا إلهين لملكاهما لغيرهما كما لأنفسهما ، هذه براهين خمسة لتزييف خرافة الثالوث والبنوة الإلهية فضلا عن توحيد

١٥٥

الألوهية فيه بتجافي الإله عن لاهوته إلى ناسوت جسم المسيح (ع).

ذلك وحين يصدق النصارى ان المسيح (ع) كان أعبد أهل زمانه كما في تصاريح انجيلية ، فهنا التساءل : من ذا الذي كان يعبده المسيح (ع) هل هو نفسه أنه كان يعبد نفسه ، أم غيره فذلك الغير هو الله فهو ـ إذا ـ عابد مألوه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧):

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (٤ : ١٧٢) ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ٣٠ ـ ٣١).

والغلو أيا كان هو تجاوز الحد المعتدل عقليا أو شرعيا أو عرفيا ، تجاوزا إلى الإفراط كما هو المعني في الأغلب منه ، أم إلى حد التفريط ، وهو تخلف عن الحد صعودا عنه أم نزولا ، وقد يروى عن النبي (ص) أنه قال : «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك ـ هلك ـ من كان قبلكم الغلو ـ بالغلو ـ في الدين» (١) و «صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الإسلام

__________________

(١) ن مناسك ٢١٧ ـ جد مناسك ٦٣ ـ حم ٢١٥٢١ ، ٣٤٧.

١٥٦

الغلاة والقدرية» (١) و «احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم فإن الغلاة شر خلق الله يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله وان الغلاة لشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا» (٢) و «إن فيهم من يكذب حتى ان الشيطان ليحتاج إلى كذبه»(٣) و «لعن الله الغلاة والمفوضة فإنهم صغروا عصيان الله وكفروا به وأشركوا وضلوا وأضلوا فرارا من إقامة الفرائض وأداء الحقوق» (٤).

ولقد كثر الغالون على مدار الزمن الرسالي في أصول الدين والمذهب وفروعه ، متنقبين نقاب الإخلاص وهم عنه في إفلاس ، وهم أخطر على الحق من الكفار والمنافقين حيث يخوضون مختلف حقول الدين ويشوهونه بنقاب الدين.

فالقائل بالولاية التكوينية أو التشريعية لنبي أو وصي نبي فضلا عمن سواهما غال فإنهما من ميزات الربوبية ، كما القائل بالتفويض فيهما فإنه من نفس النمط ، والقائل بشفاعتهم الطليقة عن اذن الله ، وان ولايتهم تغني عن سائر التكاليف مثل ما يروى ان «حب علي حسنة لا يضر معهما سيئة» وما أشبه من الغلو المورط في معاصي الله ومآسي الأمور!.

وأحاديث التفويض مردودة أو مأولة ، ف «ما فوض إلى رسول الله (ص) فقد فوضه إلينا» (٥) يعني تفويض الولاية الشرعية فحسب ، فيجب ـ إذا ـ التفويض إليهم بطاعتهم الطليقة كما يجب التفويض اليه (ص) في طاعته كما قال الله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤ : ٥٩) وكما لا تعني طاعة الرسول فوق ما أرسل به من احكام الله ، كذلك

__________________

(١ ـ ٤). على الترتيب في سفينة البحار ٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ عن النبي (ص) والصادق (ع).

(٥) سفينة البحار ٣ : ٣٨٦ عن الصادق (ع).

١٥٧

طاعتهم التي هي استمرارية لطاعته.

واما ان يحلوا شيئا أو يحرموا ما لم يحكم به الله ، أو يطلبوا من الله شيئا من ذلك فذلك جرأة على الله محادة ومشاقة (١).

ذلك ، فكل ما ورد من نسبة علم الغيب ما كان وما يكون وما هو كائن إليهم عليهم السلام ، وأنهم هم وسائل الخلق المفوض إليهم أمره تكوينا أو تشريعا ، أماذا من شؤون الربوبية ، كل هذه مردودة أو مأولة ، ومما يروى عن الصادق (ع): «ما جاءكم منا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا» (٢).

ف «ما يجوز وما لا يجوز» محوّل إلى نص من الكتاب أو السنة القطعية ، إضافة إلى ما يراه العقل السليم من مختصات الربوبية غير الجائز تحولها إلى غير الله ، بإذن منه أو سواه ، كذاته تعالى وصفاته وأفعاله ، فإنه «باين عن خلقه وخلقه باين عنه» بينونة في هذه الثلاث كلها.

فالأمور ثلاثة ، منها المختصة بالله لا تعدوه إلى سواه ، ومنها العامة

__________________

(١) المصدر عن الكافي عن محمد بن سنان قال كنت عند أبي جعفر عليهما السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال : يا محمد إن الله تعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة صلوات الله عليهم وآلهم فمكثوا الف ـ الف الف ـ سنة ثم خلق جميع الأشياء فاشهدهم خلقها واجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم فهم يحلون ما يشاءون ، بإذن الله تبارك تعالى ، ثم قال يا محمد هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق ومن لزمها لحق خذها إليك يا محمد». أقول : لم يأذن الله لهم في ربوبيته فإنما يأذن في غيرها من الأمور غير المختصة به تعالى من بلاغ أحكامه ومن شفاعة باذنه أماهيه.

(٢) سفينة البحار ١ : ٣٢ خص عن المفضل قال : قال أبو عبد الله (ع) : ....

١٥٨

بين الخلق قدر مساعيهم ، ومنها ما يمنحه الله خاصة عباده كما يسعون ، انتجابا لهم في رسالة أو عصمة أما دونها ، فمثل أنهم يعلمون متى يموتون وأنه لا يقع ذلك إلّا باختيارهم ، قد يجوز في حقهم حيث المنفي (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) لا «متى تموت» فمن كرامات الله لهم أن يعرفهم متى يموتون ، وهكذا يأول إقدامهم على شرب السم وما أشبه من بواعث قتلهم.

ومن الغلو في حقهم أن الإمامة فوق الرسالة والنبوة ، فلأن الرسول (ص) إمام كما هو رسول ، لذلك لا يفضلون عليه (ص).

ذلك ، لأن الإمامة ـ على أية حال ـ هي فرع الرسالة واستمرارية لها ، فكيف تكون ـ إذا ـ فوق الرسالة ، وليس تفوق أئمتنا عليهم السلام على سائر الرسل عليهم السلام إلّا لما يحملون من العصمة القمة المحمدية (ص) التي هي فوق العصم كلها.

لذلك ، لا تجد إماما بعد نبي مفضلا عليه ، بل هو خليفة له وممثل عنه باستمرار دعوته ، فلأن استمرار الدعوة المحمدية المعصومة هو فوق كافة الدعوات الرسالية ، لذلك نعتقد فيهم أنهم أفضل من كافة المرسلين إلّا الرسول الخاتم (ص) الذي هم أشعة من نوره.

لا فحسب ، بل والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها مفضلة على كافة المعصومين سوى المعصومين المحمديّين عليهم السلام أجمعين.

ذلك ، فالغلو مرفوض مرضوض في الدين كل الدين ، أصولا عقيدية أم فروعا أحكامية أماهيه من الدين ككل ، حيث الغلو تخلّف عن شرعة الحق ، فهو في حقل التقصير ضلال عامد ، وفي حقل القصور ضلال خامد ، يجب على الدعاة إلى الله أن يوضحوا لهم الحق (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

١٥٩

ذلك ومن الغلو بحق المسيح (ع) تصعيده إلى منزلة الربوبية كما فعله النصارى في شتات عقائدهم الشركية إلّا القليل ممن وفى لرعاية الحق من موحديهم ، أم تنزيله عن ساحة الرسالة كما فعله اليهود حيث قالوا إنه وليد السفاح.

والغلو أيا كان ليس إلّا باطلا فلا دور ل (غَيْرَ الْحَقِّ) هنا إلّا التأكيد ، إيغالا للغلو في غير الحق ك (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وما أشبه.

وهنا (لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) تضاحي ما تعنيه هناك (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أهل الكتاب وهم مختلف صنوف المشركين على مدار تاريخ الإشراك.

تاريخ التثليث بقول فصل :

فقد يذكر لنا تاريخ الوثنية على طول خطوطها وبكل خيوطها خمسة عشر من الثواليث مما يصدق هاتين الآيتين أن ثالوث النصارى إن هو إلّا خرافة تقليدية لهم ، عن «الذين كفروا من قبل» في ثالوث : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)!.

ذلك ، و «إن أقدم ما نعثر عليه في تاريخ الفراعنة الثالوث المكون من الآلهة : (اوزيريس ـ ايزيس ـ حورس) : الأب والأم والولد ، ثم المكون من «آمون» وزوجه «موت» وابنه «خونس» وهو تثليث بلدة «تب» وهم : الأب والأم والولد ، ثم المكوّن من «أنوبيس ـ معات ـ توت» ثم المكوّن من «آنوا ـ بعل ـ آيا» وهو ثالوث الكلدانيين ، ثم المكون من «سن ـ شمش ـ عشتار» : الأب والابن والأم ، ثم المكوّن من «مينوس ـ رادامانت ـ إيبال» أولاد «زوس» : الإله الأعظم ، ثم المكوّن من «الأب

١٦٠