الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٨

فواقع لمسؤولية أخرى ف (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) بعدئذ (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إلى هدي أنفسكم كواقع وإلى هدي من سواكم كبلاغ حين لا يهتدون.

فلا تعني الآية ـ إذا ـ سلب المسؤولية الدعائية المثبتة على عواتق المؤمنين ، الثابتة بتواتر الآيات والروايات التي تحمل فرض الدعوة والدعاية والتوجيه والأمر والنهي ، وإنما تعني ـ فيما تعني ـ أن واقع الضرر اللّازب هو الّا تقوا أنفسكم ، وأما وقاية الآخرين كواقع فليست هي من مسئوليات الداعية حتى الرسول ف (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وإنما المسؤولية الثانية هي دعوة الآخرين وهي من ضمن (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) حيث الدعوة هي من الواجبات على المؤمنين بشروطها.

إذا فالمحور الأصيل الذي ليس عنه بدليل (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ثم إذا حققتم حق الهدى في أنفسكم ومن ثم دعوتم الآخرين فلم تؤثر فيهم ، إذا (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).

ذلك ، وحتى إذا اهتديتم في أنفسكم وتركتم الهداية للآخرين فأيضا (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) كثيرا (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) حيث الأصل هو (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ومن ثم الوصل أن تهدوا الضالين كما تستطيعون ، فهذا الاحتمال يحتمل سلب الضرر نسبيا.

ومن الخطر الخطر جدا التمسك بمثل هذه الآية لترك المسؤولية الدعائية وهي نازلة في الظروف التي لا تنفع الدعوة ـ أمّاهيه ـ وهكذا يجيب الرسول (ص) من سأله عنها بقوله : «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهدى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام إن من وراءكم أيام الصبر ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين

٢٦١

رجلا يعملون مثل عملكم» (١) والانعزال هنا ليس إلّا للحفاظ على الأهم ، تركا للمهم الذي لا يؤثر أم ويضر بالأهم.

ذلك ، ثم خطاب (الَّذِينَ آمَنُوا) يحوّل «من ضل» إلى غيرهم ، فلا صلة لهذه الآية ـ إذا ـ بترك مسئولية الأمر والنهي فيما بين المؤمنين أنفسهم ، الثابتة بضرورة الشرعة الربانية ككل ، وعلى حد قول الرسول (ص): «أين ذهبتم إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم» (٢) : ضرا منهم إليكم في إضلال بكل حقوله ، ما حققتم مسئولية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ).

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٣٩ ، اخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي امية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قال وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ..) قال : والله سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله (ص) قال : بل ائتمروا ..

(٢) المصدر اخرج احمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي عامر الأشعري انه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (ص) ثم أتاه فقال : ما حبسك؟ قال : يا رسول الله (ص) قرأت هذه الآية قال فقال له النبي (ص) : اين ذهبتم ، وفيه اخرج ابن مردويه عن محمد بن عبد الله التيمي عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله (ص) يقول : ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلّا ضربهم الله بذل ولا أقر قوم المنكر بين أظهرهم إلّا عمهم الله بعقاب ما بينكم وبين ان يعمكم الله بعقاب من عنده إلّا ان تأولوا هذه الآية على غير امر بمعروف ولا نهي عن منكر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ..) وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : خطب ابو بكر الناس فكان في خطبته قال رسول الله (ص) : يا أيها الناس لا تتكلموا على هذه الآية (... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ..) إن الذاعر ليكون في الحي فلا يمنعوه فيعمهم الله بعقاب.

٢٦٢

فالمفروض على الذين آمنوا ككل فرضا على أعيانهم (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ثم لا تفرض الدعوة والأمر والنهي إلّا فرض كفاية على أمة منهم فيهم الكفاية عددا وعددا وهم العاملون بالمعروف الذي به يأمرون والتاركون المنكر الذي عنه ينهون ، على شروط مسرودة في الكتاب والسنة.

فلا تحمل هذه الآية ـ إذا ـ إلّا فرض الأعيان لقبيل الإيمان بينهم أنفسهم ، ثم (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي لا يضركم إلّا ضلالكم ، وأما ضلال غيركم فليس ليضركم، اللهم إلّا إذا تركتم واجب الدعوة إلى الهدى بشروطها ، فهناك أيضا لا يضركم ضلالهم أنفسهم ، بل المضر هو ترك واجب الدعوة التي هي ايضا داخلة في نطاق (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) حيث تفرض واجبات الايمان ككل ، شخصيا وجماعيا ، ومن الثاني واجب الدعوة الكفائية.

ذلك ، ف (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كتأويل أوّل تعني بالنسبة للضالين غير المؤمنين إذا لا تؤثر فيهم الدعوة ، وهي كتأويل ثان بين المؤمنين أنفسهم تعني ظروفا خاصة لا يجب أو لا يسمح فيها الأمر والنهي بين المؤمنين أنفسهم حيث لا يجدي نفعا أو يستجر ضرا هو أضر من ضلالهم (١)

ف (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) في خطاب الإيمان تجمع مجامع شروط الإيمان ومنها الدعوة والأمر والنهي قدر المستطاع ثم (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إلى شروطات الايمان.

ذلك وفي نظرة أخرى إلى الآية نرى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) تفرض على

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٤ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : ذكرت هذه الآية عند رسول الله (ص) فقال نبي الله : لم يجيء تأويلها لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم عليهما السلام.

٢٦٣

المؤمنين الحفاظ على أنفسهم فرضا على الأعيان ، فالمقصر الأوّل في كافة الفلتات عن قضية الإيمان هو المكلف نفسه ، ومن ثم هؤلاء الذين يضللونهم عن صراط الإيمان ، كما وهم مقصرون إذا تهاونوا عن الدعوة المفروضة عليهم بكل مراحلها.

ثم «لا يضركم» لها أبعاد ثلاثة أبعدها أنه «لا يضركم» ضررا أصيلا «من ضل» وأنتم تاركون واجب دعوتهم وأمرهم ونهيهم ، ثم البعدان المذكوران من ذي قبل هما المشتركان في عذر المؤمن في ترك الدعوة ، ف (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) مؤمنين وضالين (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خيّر وشرير ، وإنباء عن غفلة وغفوة مقصرة ، وإنباء عن طاعة قد لا يرجى الفلاح بها ، ثم إنباء بحصائل الأعمال حيث تجزون ما كنتم تعملون.

وهنا بعد رابع ل «لا يضركم» هو إضرار الإضلال ، فما دام المؤمن حفيظا على إيمانه بما عنده من طاقات وإمكانيات فلا يخاف «من ضل» أن يضله عن سواء السبيل ، وهذا من أظهر الأبعاد بين كل المحتملات الثلاث سابقة ولا حقة حيث (لا يَضُرُّكُمْ) إخبارا وإنشاء تنفي ضرّهم أنفسهم بما يختارون ميسرين في الضرر لا مسيّرين ، فحين لا تطبقون مسئولية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كما يجب كفاحا ضد عراقيلهم ، فهم بإمكانهم أن يضروكم إضلالا وسواه.

فحين يخاطب الذين آمنوا ب (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ليس ليعني منهم أن يؤمنوا كأصل ، بل هو استحكام عرى الإيمان لحد لا ينضر المؤمن بما يضره الكافرون ، وهذه ـ إذا ـ نظيرة : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) (٢٠ : ١٦) حيث يعني النهي عن الصدّ الأمر باستحكام العقيدة

٢٦٤

والعملية لصالح يوم الحساب لحد لا يستطيع الكافرون به أن يصدوك عن الساعة عقيديا أو عمليا.

وهكذا يؤمر المؤمنون بإحكام عرى الإيمان في (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أن يصبحوا سدا حصينا مكينا أمينا لا تضره ـ على أشده ـ أية محاولة كافرة ، فإنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) حيث تعني (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) تعاملهم في كافة الرحمات ، لكي يصبحوا أشداء على الكفار في كافة العرقلات.

إذا ـ «لا يضركم» تعني كأول محتمل وأقواه ضرّهم أنفسهم بما يختارون ضد المؤمنين ، لا الضر الموجه إليهم عقابا من الله فإنه هو ضره عدلا وليس ضرهم عداء!.

ذلك ، فأقوى المحتملات هو تحقيق (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) لحدّ (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) : ذلك الاهتداء الصارم الذي يصد عنكم كل اعتداء عارم ممن ضل ، حيث الضالون الصامدون في ضلالهم يحاولون على طول الخط أن يضروكم كما يستطيعون (١).

ف (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) علميا وعقيديا وخلقيا وعمليا وسياسيا واقتصاديا وحربيا ، وفي كل ما تتطلبه شروطات صامد الإيمان فرديا وجماعيا ، إعدادا كاملا شاملا يضعف أمامه العدو أيا كان ، وحينئذ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(٣ : ١١١) (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٣ : ١٣٩) وفي جملة واحدة : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٨ : ٦٠).

__________________

(١) وهكذا يعني ما يروى «حب علي حسنة لا يضر معها سيئة» أي ان حبه يدفع عن السيئة.

٢٦٥

هذا ، ثم سائر الضرر ممن ضل ، المسيّر منهم غير الميسّر لهم ، كوزر ضلالهم ، إنه المحتمل على هامش ذلك الضر الميسر لهم ، و «لا يضركم» يجمع الإنشاء إلى الإخبار ، إنشاء بواجب الاستعداد لحد زوال الضرر ، واخبارا بزواله قدر الاستعداد ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

إذا فالضرر المنفي في (لا يَضُرُّكُمْ) مهما كان ضررا دنيويا أو أخرويا فهو ضرر من الضالين أنفسهم كأصيل ، دون ضرر العذاب من الله تقصيرا في دعوتهم إلى الله من أهل الله ، فانه ليس ضررا منهم ، مهما كان ضررا من الله بهم لمكان التقصير في حقهم فتزر وازرة مثل وزرهم ..

فالمحور الأصيل بين محتملات الآية السبع ضررهم بما يختارونه وجاه المؤمنين ، وليست سلبية ذلك الضرر إلّا بإيجابية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بعد الإيمان ، وبقدر تلك الإيجابية.

فمن المفروض على الذين آمنوا أن يصنعوا أنفسهم بشروطات الايمان بقدر سلبية الضرر ممن ضل ، فكلما تحقق بعد من (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) تحقق بعد من (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) في نفس البعد وبقدره ، وهنا يبهر قول الرسول (ص) أمام المنجرفين في تفسير هذه الآية : «أين ذهبتم إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم».

وقد تعني (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) للذين آمنوا ـ كأصل ـ ثنائية المسؤولية الوقائية : أن يقي كلّ نفسه لحدّ (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ثم بقي المجاهيل منهم الذين لا يستطيعون أن يقوا هكذا أنفسهم ، وهذه المسؤولية الثانية هي متقدمة على مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ هي متأخرة عن مسئولية التعليم وكما تتقدم في آيتها عليها : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣ : ١٠٤).

٢٦٦

صحيح أن دعوة الكافرين مفروضة على المؤمنين ، ولكنها متأخرة عن مسئوليتهم تجاه أنفسهم ، إذا فالمسئوليات الإيمانية تترتب كالتالية : أن تصنع نفسك بحيث لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، ثم أن تصنع سائر المؤمنين ، ومن ثمّ أن تأمرهم بالمعروف المتروك وتنهاهم عن المنكر المفعول ، ومن ثمّ تأخذ في دعوة الكافرين مهما كانت بضمن إصلاح المؤمنين ، ولكنها كهامش على التواصي بالحق والتواصي بالصبر بين المؤمنين أنفسهم.

وبصيغة أخرى واجب غير المؤمن هو الإيمان أوّلا ثم العمل بقضايا الإيمان ومن ثم دعوة الآخرين إلى الايمان وقضاياه ، وفي حقل الإيمان الأصل هو نفسه تقبلا ودعوة ، ثم العلم بواجبات الإيمان نفسيا وتعلما ومن ثم العمل بها نفسيا ودعوة.

وبعد خامس أنكم إذا طبقتم شرائط الإيمان فلستم تعاقبون بضلال الآخرين حيث لا تزر وازرة وزر اخرى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢ : ١٣٤).

فعلى المؤمن الإشتغال بصناعة نفسه وخاصته وحفاظتها كما فرضت عليه ، ثم لا يهزهزه الهزاهز ، ولا يزيله القواصف أو يحركه العواصف ، فلا يزول الحق عن مقره مهما قل أهله بما يجول الباطل في مقراته وإن كثر أهله ف (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٥ : ١٠٠).

وهنا «لا يضرك» كما هي إخبار كذلك هي إنشاء بصيغة الإخبار ، فلا يغررك تقلب الذين كفروا في البلاد ولا يضررك فتنقلب على عقبيك خوفة عن العزلة والخطفة كما : (قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) (٢٨ : ٥٧).

٢٦٧

وبعد سادس هو في سياق الإنشاء أن لا تشتغلوا بمن ضل تغافلا عن أنفسكم ، فعساكم تنحازون إليهم يسيرا ثم كثيرا بغية تحويلهم عن الضلال وهم يحاولون المعاكسة ، فقد يتغلبون عليكم في صراع الحق والباطل ، فإهلاك النفس في سبيل إنقاذ الغير هو في نفسه ضلال وموت ، وكما نرى عديد الموت والضلال أنهما سيان في القرآن ، فكما الضالون يذكرون (١٧) كذلك الموتى ، لمكان السماوات بين الضلال والموت!.

فكما لا يجوز التعرض للموت لإنجاء الآخرين ، كذلك التعرض للضلال لهدي الآخرين ، فالدعوة إلى الله بين محبورة ومحظورة ، فالمحبورة هي المؤثرة غير المتأثرة ، ـ أم ـ لأقل تقدير ـ لا مؤثرة ولا متأثرة ، والمحظورة هي المتأثرة أو المؤثرة المتأثرة ، فتترك الدعوة في المحظورة حيث المسؤولية الكبرى فيها (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ثم (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) حين تنضرّون بدعوتهم.

ذلك ، وعلى أية حال فلا مساس لهذه الآية بالآيات الآمرة بالدعوة والأمر والنهي فانها لا تعني ما تعنيه هذه الآيات ، على أن الدعوة بمختلف شؤونها الصالحة ليست مما تقبل النسخ اللهم إلّا أن تنسخ شرعة الله ككل ، حيث الدعوة هي لزام الشرعة نشرا وتطبيقا وتحليقا على كافة المكلفين في كافة الشؤون الحيوية : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١٢ : ١٠٨) و (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣ : ١١٠) وكيف تنسخ السبيل الرسولية والرسالية وسند خيرية الأمة الآمرة الناهية.

ثم وهنا سابع حيث تعني «أنفسكم» كلّا نفسه ، ثم ذويه الذين هم كنفسه ، ثم سائر المؤمنين فإنهم إخوة أنفسهم كنفس واحدة ، فواجب الوقاية والحفاظ هنا يعم ذلك المثلث مهما كانت الأضلاع متدرجة ، من نفسك إلى ذويك وإلى سائر المؤمنين.

٢٦٨

فهذه أشواط سبعة مستفادة من طليق الآية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فبترك كل واحد منها يفتح درك من دركات الجحيم السبع ، كما بتطبيق كلّ تطوف حول كعبة الحق وحق الكعبة المباركة.

وهنا الشوط السابع وهو الحفاظ الجماهيري المتجاوب بين المؤمنين أنفسهم ، هو الذي يحافظ على كيان الإيمان عن أية عرقلة ضد الإيمان ، فهو على غرار : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ..) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣ : ٢٠٠) ف (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).

ولأن (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) تشمل فرض الحفاظ على النواميس الخمسة : عقيدة وعقلا ونفسا وعرضا ومالا على ضوء معرفة الله وعبوديته الصالحة ، وذلك حفاظ جماعي بين المؤمنين أنفسهم ، حزمة واحدة حول قبيل الإيمان ، وعزمة واحدة للحفاظ على كتلة الإيمان ، فليجدّوا في السير في جادّة جادّة متناصرين حتى الموت ، لذلك يذكر فيما يلي تناصر الإيمان عند الموت في الوصية المفروضة فإن (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) من أبعادها صالح الوصية لاصلاح المعوزين ولا سيما من الأقارب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ)(١٠٦) :

ذلك ، ولقد سبق فرض الوصية في نفسها من ذي قبل : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢ : ١٨٠).

فواجب الوصية يقتضي واجب الحفاظ عليها بطريقة حازمة حاسمة

٢٦٩

تحقيقا للوصية ، وهي الشهادة الصالحة : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ).

وهنا خطاب الإيمان يبين أن (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) هي من قضايا الإيمان حفاظا على حقوق الموصي والموصى له والموصى إليه ، جمعا بين حقوق المؤمن في موته وحياته ، وهي أحرى من حقوق الحياة الخاصة.

و (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ) تبين أن حين الوصية المكتوبة هو عند حضور الموت كما في آيتها الأخرى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ ..) وحضور الموت هو حاضر أسبابه الظاهرة علما أو ظنا او احتمالا قريبا عاديا.

وترى (إِنْ أَنْتُمْ ..) هي شرط لواجب الشهادة لواجب الوصية؟ فلا شهادة لها في غير الضرب في الأرض ، أم ولا وصية!.

الوصية عند الموت مكتوبة حضرا أو سفرا لآيتها الطليقة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ثم وإثبات الوصية بحاجة إلى حجة شرعية وهي الشهادة الشرعية المتمثلة في ذوا عدل منكم ، إذا ف (إِنْ أَنْتُمْ ..) بيان لأهم ظروف الشهادة وأحرجها.

وهنا (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) تعني من المؤمنين الموثوقين ، وظاهر العدل هو طليقه دون خاصة الوثاقة في موقف الشهادة ، فلو عنيت هذه الخاصة لكانت العبارة «ذو عدل منكم فيها» ثم لا وثاقة خاصة فيمن هو فاسق بعهد الله ، حيث المجرم بحق الله هو أجرم بحق الناس ، إضافة إلى أن قضية هامة الشهادة على الوصية بهذه التأكيدات القيمة هي العدالة البالغة الطليقة ، وما دامت هي ميسورة فلما ذا ـ إذا ـ النقلة إلى العدالة النسبية غير الكافية ولا الوافية؟.

ثم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) تعني ذوي عدل من غير المؤمنين ، أن

٢٧٠

يكونا موثوقين عند أصحابهما ، عدلين في قضاياهم ، وكما تعنيهم (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ... وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فالمتقون من أهل الكتاب هم العدول منهم ، فهم القاصرون ، ومن ثم المقصرون في عدم الانتقال إلى الإسلام شرط عدلهم في شرعتهم.

و (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) هي إصابة سببه المتعود ولمّا يمت ، وإلّا فكيف يخاطب بخطاب التكليف؟ وبديل الشهادة هنا كسائر البديل يختص بما لم يحصل على أصيل ، ولأن الأصيل هو فقط (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فلا دور لغير ذوي عدل من المسلمين بعد فقدانهما إلّا لذوي عدل من غيرهم ، حيث العدالة هي الحفيظة على الشهادة دون مجرد الإسلام ، فليفضّل العدل غير المسلم ، على غير العدل المسلم في موقف الشهادة ، حيث الضرورات تبيح المحظورات (١) فمهما كانت شهادة غير المسلم على الوصية محظورة في الحالات العادية ، فهي لا بد منها عند فقدان المسلم العدل حفاظا على واجب الوصية حجة لواجب الحقوق ، ولأن المحور هنا الوثوق فليفضل العدل غير المسلم على المسلم غير العدل.

ولأن العدالة النسبية لا توجد عند غير الموحدين ، فليكن «غيركم»

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٦٨٦ في عيون الأخبار في باب ما كتبه الرضا (ع) الى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل : وعلة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهن عن الرؤية ومحاماتهن للنساء في الطلاق لذلك لا تجوز شهادتهن إلّا في موضع ضرورة مثل شهادة القابلة وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه كضرورة تجويز شهادة أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرهم وفي كتاب الله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) مسلمين (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) كافرين.

أقول وروى ما في معناه حول (أَوْ آخَرانِ) أبو الصباح الكتاني وهشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع).

٢٧١

من الموحدين ، ولأن مجرد عقيدة التوحيد لا تعدّل الموحد إلّا بالإيمان الكتابي حيث المحور الصالح للعدالة هو وحي الله تعالى ، فغير الكتابي خارج عن محور العدالة مهما كان موحدا ، ولمكان (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) فليكونا من الكتابيين المصلين ، حيث الصلاة وأشباهها من فروض الدين هي من قضايا العدالة ، فقد تجوز ـ إذا ـ شهادة اليهودي والنصراني ، بل والمجوسي (١) إذا كانوا عدولا يصلون.

والقول إن «من بعد صلاة العصر» تعني صلاة المؤمنين ، مردود بأنه لا صلة لصلاتهم بتحكيم إقسام غيرهم ، فلتكن صلاتهم مهما كان مع صلاة المسلمين.

أجل ، والحالة بعد الصلاة ، هي حالة قدسية كحصيلة أوتوماتيكية للصلاة ، فهي أقرب الحالات ـ ولا سيما للعدول ـ إلى صدق الشهادة ، فرعايتها ـ إذا ـ حياطة عادلة كأحوط ما يكون للعدول تخوفا عن العدول عن حق الشهادة فيضيع حق المؤمن حيا أو ميتا ، و (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فهما عندها أفحش وأنكر ، فالإقسام بعد الصلاة أحوط وأثبت من كل أقسام

__________________

(١) المصدر في الكافي عن يحيى بن محمد قال سألت أبا عبد الله (ع) عن (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ..) قال : اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من اهل الكتاب فان لم يجدوا من اهل الكتاب فمن المجوس لأن رسول الله (ص) سن في المجوس سنة اهل الكتاب في الجزية وذلك إذا مات الرجل في ارض غربة فلم يجد مسلمين اشهد رجلين من اهل الكتاب يجلسان بعد العصر فيقسمان بالله ..

أقول : وقد ورد جواز شهادة غير المسلمين عند الضرورة من طرق اخرى عن أئمتنا عليهم السلام.

٢٧٢

الإقسام ، فإنه يختلف حسب مختلف الحالات والمجالات وكما يروى عن النبي (ص) «من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة فليتبوء مقعده من النار ولو على سواك أخضر»(١) فإذا كان إثم الحلف الآثم عند المنبر أكثر فليكن بعد الصلاة أكثر وأظهر.

وهنا (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) ـ قد ـ تختص ب (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) لأقربية المرجع وغرابة حبس العدلين بعد الصلاة من شهود المسلمين وإقسامهما ، فهذه وما بعدها حائطة تسد فراغ الإيمان.

ولا يعني الحبس هنا توهينا إياهما ، بل هو توطين لصدقهما (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فذلك إقسام مع تلقي الشهادة حتى «إن ارتبتم» فيها عند إلقاءها أن «لا نشتري» نحن المقسمان بالله «لا نشتري» بارتيابكم «ثمنا» ولو كان المشترى له «ذ قربى» لنا أم للموصى ، ثم (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) التي شهدناها تلقيا أن نلقيها (إِنَّا إِذاً) لو اشترينا به ثمنا (لَمِنَ الْآثِمِينَ).

فضمير الغائب في «به» هو الأمر المرتاب في الوصية ، ثم (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) في الوصية ، فحين الارتياب في الوصية من الوصي أم سواه فنحن نشهد كما سمعنا لأنها شهادة الله ، حيث حصلت بأمر الله تلقيا ، فلتؤدّ لله كما حصلت ، كما وأنها مشهودة لله (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) و (أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (٦٥ : ٢).

(إِنَّا إِذاً) إن اشترينا به ثمنا (لَمِنَ الْآثِمِينَ) : المبطئين عن الصواب الثواب خلاف ما أمر الله ، وقد يرجع الضمير بما رجع إلى الإقسام ، ف «لا نشتري بالقسم ثمنا».

__________________

(١) آيات الأحكام للجصاص ٣ : ٥٩٩.

٢٧٣

وهنا «ارتبتم» خطاب إلى من يهمهم أمر الوصية وصيا وموصى له وموصى إليه وحاكما شرعيا هم كلهم غير الشهداء ، حضورا في الوصية وغير حضور.

وهنا (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) مصدرا دون اسم فاعل ك «الشاهد بينكم» تلمح لأكيد الشهادة أن تكون خليصة غير خليطة بأية شائبة ، فلذلك اشترطت فيها ـ إن كان الشاهدان من غيركم ـ تلك الشروط المغلظة.

ثم (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) هو حضور مقدماته القريبة حسب المعلوم أو المظنون ، و (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) لها الصلة القربى ب (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فإن السفر هو الذي قد لا يوجد فيه مسلم يشهد ، وأما الحضر للمسلم فهو بطبيعة الحال في بلد إسلامي أم فيه مسلم إذ لا يساكن المسلم جماعة غير مسلمين إلّا أن يكون فيهم مسلمون ، فلا اضطرار إلى شهادة (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) إلّا (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ).

فحصالة المعني من الآية أن واجب الوصية حسب آية البقرة ـ وهو على من كان عنده مال ـ هو عند حضور الموت وكما هنا ، وواجب عندها محتوم هو استشهاد عدلين مؤمنين بظاهر العدالة لحد لا يصدق عليهما انهما فاسقان ، وإلّا فآخران من غيركم عدلين فيما سوى الإيمان وهو التطبيق الكامل لشرعتها الكتابية مهما كانا قاصرين في ترك الإسلام أو مقصرين ما داما ملتزمين بشرعة إيمان كتابي ، اللهمّ إلّا من يعاند المؤمنين مهما كان قاصرا في تركه الإسلام فضلا عن المقصر ، حيث العدالة هي الكافلة لاستقامة الشهادة ولن تستقيم في جو العناد.

فأقل شرط في شهادة غير المسلم العادل في شرعته عدم العناد لقبيل الإيمان قاصرا أو مقصرا ، فمن المستحيل أن يستأمن الله لهامة الشهادة في الوصية من يعادينا ، ولا ريب أن المسلم الفاسق غير المعاند ـ إذا ـ خير من

٢٧٤

العادل غير المسلم ، المعاند.

وقد يقال إن النقلة إلى عدلين من غيرنا لا مجال لها إلّا عند إعواز مسلمين عدلين وسواهما ، فاشتراط العدالة في الشاهدين المؤمنين ليس إلّا عند امكانية الحصول على العدلين فلذلك لم يكن اشتراط العدالة إلّا في غير الضرب في الأرض ، ثم فيه (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)؟

ولكن (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ) لم يشترط فيه إعواز المسلمين عن بكرتهم ، بل هو إعواز العدول ، فهو شرط للنقلة إلى غير المسلمين ، اعتبارا بظرف الإعواز من المسلمين.

وليس فرض القسم إلّا في موقف الارتياب لمكان (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ولا مكان للارتياب إلّا في (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) لعدم الإيمان ، وأما الارتياب في (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فلا مكان له قضية حرمة المؤمن العادل ، وأما الكتابي العادل فعدم إيمانه مجال للارتياب بشأنه.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٠٧) :

(فَإِنْ عُثِرَ) من ملامح الشهادة تأكدا (عَلى أَنَّهُمَا) وهما «آخران من غيرهم» أم وذوا عدل منكم (اسْتَحَقَّا إِثْماً) إبطاء عن الصواب أن اشتروا به ثمنا خلاف ما أقسما له : (إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) فقد استحقا الآن إثما أقسما على تركه.

(فَإِنْ عُثِرَ ... فَآخَرانِ) علهما شاهدان آخران ممن شهدوا الوصية (يَقُومانِ مَقامَهُما) في حق الشهادة وهم (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ـ الإثم ـ الأوليان» ، أتراهم شاهدين كما هما؟ ولم تسبق شهادتهما إلّا «آخران من غيرهم» ثم كيف (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ)! أم هما شاهدان مسلمان؟

٢٧٥

وهما الأصيلان والموقف هنا للبديلين! فلو كان هناك مسلمان لم يصل الدور إلى (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)!.

إذا فهما ليسا من الشاهدين لا أصيلين ولا بديلين ، إنما هما ممن حضر الوصية أو لم يحضر وليست لهم شهادة لأنهم من الموصى لهم أو الأوصياء ، وشاهد الوصية لا بد وأنه غير الوصي والموصى له ، فهما إذا من هؤلاء الذين استحق عليهم الإثم وهما الأوليان بالوصية.

ف «الأوليان» هما الأوليان بالوصية فهي عطف بيان أو وصف ثان عن «آخران» أي الآخران الأوليان بالموصي وصيا أو موصى له ، وهذا أصلح عناية من «الأوليان» فهما الأوليان بالميت ، الأوليان بالإقسام حيث الحق راجع إليهما فليدافعا عن حقهما حين يضيع بالشهادة الآثمة من الشاهدين ، فالآخران الأوليان من الذين استحق عليهم في الشهادة الآثمة الأوليان بتلك الوصية لهما حق الإقسام لابطال هذه الشهادة واحقاق الحق .. كما هو حق لكل صاحب حق حين يضيع حقه بشهادة آثمة.

وهنا في اختلاف قراءة «الأوليان» دليل اختلاف واضطراب الأفهام ، وقد حصل لأبي بن كعب فيها إفحام للخليفة عمر حيث «قرأ» من الذين استحق عليهم الأوليان قال عمر : كذبت ، قال : أنت أكذب ، فقال رجل : تكذب أمير المؤمنين؟ قال : أنا أشد تعظيما لحق امير المؤمنين منك ولكن كذبته في تصديقه كتاب الله ولم أصدق امير المؤمنين في تكذيب كتاب الله ، فقال عمر : صدقت (١).

وهذان الآخران الأوليان من الذين استحق عليهم الإثم في هذه الشهادة الآثمة ، هما (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) وقد تقبل

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٤٤ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن عدي عن أبي مجلز ان أبي بن كعب قرأ ...

٢٧٦

شهادتهما وإن كانا من أهل الحق بديلة عن هذه الشهادة الآثمة ومع فقد الشهادة العادلة المسلمة ، حيث لا مجال لتصديق هذه الشهادة الآثمة فلتقبل شهادة الأولى بالوصية بحق نفسه ومن أشبه (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ـ (وَمَا اعْتَدَيْنا) طور الصدق و (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) بحق الموصي والشاهدين وبحق من له الحق في هذا البين.

إذا فنسج العبارة الناضجة في ترتيب شهادة الوصية :

١ ـ (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ٣ ـ (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا) منكم أو من غيركم (اسْتَحَقَّا إِثْماً) على الوصية ، فهي ـ إذا ـ ساقطة ، فليتحول إلى (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) غير الأولين الفاقدين ولا الآخرين الساقطين ، وإنما هما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الإثم في تلك الوصية المظلومة ، وهم كل من ترتبط بهم الوصية ، وصيا وموصى له ، ثم هما «الأوليان» بينهم بالوصية.

صحيح أن شهادة الوصي والموصى له ليست صالحة كأصل لأنها إقرار لصالح الشاهد ، ولكنها مقبولة عند إعواز الشهادة الصالحة ، ولا سيما إذا كانت نقضا لتلك الشهادة الآثمة ، فتحويلا للوصية إلى أعدل سمة مرضية في هذا البين.

فهنا «الأوليان» عطف بيان أو وصف ل «آخران» فقد بين أولا أن حق الشهادة بعد سقوطها من «آخران» الأوّلان ، منتقل إلى «آخران» ثانيان ، ثم وصفا انهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) في تلك الشهادة الآثمة ، ومن ثم أنهما «الأوليان» بالميت من بين هؤلاء ، فهما ـ إذا ـ من الموصى لهم ، فإنهم أولى من الموصى إليهم ، إذ لا دور لهم إلّا تحقيق الوصية بحق الموصى لهم.

والأصح كون «الأوليان» وصفا ثانيا ل «آخران» الآخران ، فلأنهما

٢٧٧

معرفان بوصفهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) فقد جاز وصفهما ب «الأوليان» معرفا.

واستحقاق الإثم هو طلب تحقيقه بالشهادة الخائنة ، والعاثر على ذلك هو من له مصلحة في تلك الوصية ، سواء أكان من أصحاب الحق أم من أوليائهم ، والعثور ليس إلّا عند إلقاء تلك الشهادة ، عثورا من الحضور في تلقيها أو سائر العثور.

فالمفروض في مجلس إلقاء الشهادة حضور جمع من الأوصياء أو الموصى لهم أو الورثة مهما كان الأصل هم الموصى لهم الواصل إليهم حق الوصية ، أم كلهم أم طائفتان منهم والكسور هنا سبعة ، أم الاطلاع على الوصية بأية طريقة كانت ، وإن لم يكونوا حضورا كما هو الأكثر في السفر.

فليس حضور أي من هؤلاء شرطا في أصل الوصية إلّا الشاهدان ، ثم الأوليان هما الأولى بالميت في وصيته من بين الجميع ، فإن كان هناك أكثر من اثنين فواجب الشهادة فقط لاثنين منهم ، وإن كانت شهادة الكل ايضا ممضاة ، فليس «الأوليان» تحصر العدد فيها ، وإنما هما أقل من يشهد في هذا البين.

ولأن شهادة هؤلاء ليست إلّا لصالحهم لذلك لا تقبل منهم كأصل وضابطة ، وإنما المقبولة شهادة من لا ينتفع شخصيا وإن انتفع في قرباه كما أشير ب (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) للشاهدين أو الميت.

لذلك فالدور الأول في الشهادة هو لغير من له الحق ، عدلين مسلمين أو غير مسلمين ، (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) على ذوي الحق في الوصية ، أن طلبا عليه إثما (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) وهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ذلك الإثم الذي حققه الشاهدان ، ولكن من هما من بين

٢٧٨

هؤلاء؟ هما «الأوليان» بالميت بحق الوصية ، فهما من الموصى لهم الأقرباء ، ثم غير الأقرباء ، ثم الأوصياء والورثة أيهم أولى بهذه الوصية تحقيقا وانتفاعا ، سواء أكانوا حاضرين عند الوصية أو غائبين مطلعين عليها.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا) حين شهدنا مجلس الوصية «أولى من شهادتهما» إذ نحن الأوليان ، فلنا حق الحفاظ على حقوقنا عند سقوط الشهادة المرسومة (وَمَا اعْتَدَيْنا) لا على الشاهدين ولا الميت ولا على سائر من له الحق في الوصية (إِنَّا إِذاً) لو اعتدينا (لَمِنَ الظَّالِمِينَ)

وقد نتلمح من ملامح الآية أن الوصية عند الضرب في الأرض راجحة لحد الفرض حيث السفر من الأسباب القريبة للموت ، ولكي تكون شهادة الوصية من عدلين مؤمنين ، فإنها استبقاء للموصي في صالح مسئولياته الحيوية الإيمانية ، ولذلك نرى أكيد الأمر بها ، والحفاظ على شؤونها في آيات عدة ، وتكرارها مع الدّين في بيان الأنصبة والسهام : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) مما يجعل الوصية بمثابة الدين أو أفضل استثناء حيث تجعل قبل الدين!.

رجعة أخرى الى الآيات الثلاث :

«تحبسونهما» هم الضاربون في الأرض ، المصابون بمصيبة الموت ، ولا يعني الحبس هنا توهينا بحق (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) إنما هو إيقاف لهما «إن ارتبتم» فيهما ، لمكان عدم إيمانهما ، فليجبر ذلك الكسر بجابر عند الارتياب لا سواه ، هو إقسامهما بالله بعد الصلاة ، ان يصليا صلاتهما حسب شرعتهما ، إن كانت هناك مهلة إلى وقت الصلاة ، وإلّا فصلاة نافلة تحلق على كل شرائع الله ، فهي على أية حال ليست صلاة الموصين إذ لا رباط لها بخلق حالة الاطمئنان بصدقهما في إقسامهما بالله ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فهي تنهاهما أن يشتريا به ثمنا ،

٢٧٩

ثم (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) بعد الصلاة ، فهذه سياجات ثلاث ل (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) : ١ ـ عدلهما في شرعتهما ، ٢ ـ إقسامهما بالله توكيدا لصدق شهادتهما ألا يشتريا به ثمنا قليلا ، و ٣ ـ أن ذلك الحلف هو بعد صلاتهما ، وهذه الثلاث تسد فراغ إيمانهما «إن ارتبتم».

ثم «إن عثر» والعاثر هو صاحب الحق في الوصية وصيا وموصى إليه ، (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا) طلبا لتحقيق إثم هو إبطاء عن الثواب ، إبطاء عن حق الوصية ، ف «شاهدان» «آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما) في هذه الشهادة ، وهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الإثم ، فالإثم المستحق ب (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) هو الفاعل ل (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ثم «الأوليان» وصف ثان ل (فَآخَرانِ يَقُومانِ) ف (الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) هنا هم أصحاب الوصية وصيا وموصى له وورثة ، ف «الأوليان» هما من هؤلاء ، إن ورثة فهم أحق من الكل ، وان موصى لهم فأحق من الوصي ، (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١٠٨) :

«ذلك» التأكيد الأكيد في أبعاد الشهادة للوصية ، والحياطة البالغة فيها (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا)(آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) دون إثم أو ظلم ، وحين لا يأتون (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) لهم (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أولاء الآخران الأوليان فيفتضحوا في شهادتهم الآثمة (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل حقول الشهادة «واسمعوا» عظة الله ، وشهادة الله وحق الله واعلموا ان (اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١).

__________________

(١) المصدر اخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان ـ

٢٨٠