تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وتنكير (ظَنًّا) للتحقير ، أي ظنا واهيا. ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق ردا على اعتقادهم أنهم على الحق.

وجملة : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق.

والحق : هو الثابت في نفس الأمر. والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته ، وما دل عليها فعل الله مثل العلم والقدرة والإرادة.

و (شَيْئاً) مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي لا يغني شيئا من الإغناء.

و (مِنَ) للبدلية ، أي عوضا عن الحق.

وجملة : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) استئناف للتهديد بالوعيد.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧))

لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله ، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله ، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم. ثم انتقل بعد ذلك إلى سؤالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن ، وتخلل ذلك كلّه وصف افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث ، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم ، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم ، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقادا مبنيا على سوء النظر والقياس الفاسد ، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضا بقياسهم أحوال النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك ، فقارعتهم هذه الآية بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله.

فجملة : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) [يونس : ٣٦] بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين : شئون الإلهية وفي شئون النبوءة ، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض

٨١

على الغرض والقصة على القصة ، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف. ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) [يونس : ١٥] تكملة للجواب عن قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن ، وهي مفيدة للمبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله ، أي منسوبا إلى الله كذبا وهو آت من غيره ، فإن قوله : (ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) أبلغ من أن يقال : ما هو بمفترى ، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود ، أي ما وجد أن يفترى ، أي وجوده مناف لافترائه ، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى ، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملا صادقا في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر ، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال : ما كان ليفترى ، بلام الجحود ، فحذف لام الجحود على طريقة حذف الجار اطرادا مع (أن) ، ولما ظهرت (أن) هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر (أن) ولا تذكر ، فلما ذكر فعل (كان) الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصدا للإيجاز.

وإنما عدل عن الإتيان بلام الجحود بأن يقال : ما كان هذا القرآن ليفترى ، لأن الغالب أن لام الجحود تقع في نفي كون عن فاعل لا عن مفعول بما تدل عليه اللام من معنى الملك.

واعلم أن الإخبار ب (أَنْ) والفعل يساوي الإخبار بالمصدر ، وهو مصدر بمعنى المفعول لأن صلة (أَنْ) هنا فعل مبني للنائب. والتقدير ما كان هذا القرآن افتراء مفتر ، فآل إلى أن المصدر المنسبك من (أن) مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، وهو أيضا أقوى مبالغة من أن يقال : ما كان مفترى ، فحصلت المبالغة في جهتين : جهة فعل (كان) وجهة (أن) المصدرية.

و (من) في قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) للابتداء المجازي متعلقة ب (يُفْتَرى) أي أن يفتريه على الله مفتر. فقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) حال من ضمير (يُفْتَرى) وهي في قوة الوصف الكاشف.

والافتراء : الكذب ، وتقدم في قوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].

ولما نفي عن القرآن الافتراء أخبر عنه بأنه تصديق وتفصيل ، فجرت أخباره كلها

٨٢

بالمصدر تنويها ببلوغه الغاية في هذه المعاني حتى اتحد بأجناسها.

و (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) كونه مصدقا للكتب السالفة ، أي مبيّنا للصادق منها ومميزا له عما زيد فيها وأسيء من تأويلها كما قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) كما تقدم في سورة العقود [٤٨]. وأيضا هو مصدّق (بفتح الدال) بشهادة الكتب السالفة فيما أخذت من العهد على أصحابها أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقا وخاتما. فالوصف بالمصدر صالح للأمرين لأن المصدر يقتضي فاعلا ومفعولا.

والتفصيل : التبيين بأنواعه. والظاهر أن تعريف (الْكِتابِ) تعريف الجنس فيستغرق الكتب كلها. ومعنى كون القرآن تفصيلا لها أنه مبين لما جاء مجملا في الكتب السالفة ، وناسخ لما لا مصلحة للناس في دوام حكمه ، ودافع للمتشابهات التي ضل بها أهل الكتاب ، فكل ذلك داخل في معنى التفصيل ، وهو معنى قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) في سورة العقود [٤٨]. وهذا غير معنى قوله : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) [يوسف : ١١١] في الآية الأخرى.

وجملة : (لا رَيْبَ فِيهِ) مستأنفة ردت مزاعم الذين زعموا أنه مفترى باقتلاع دعوى افترائه ، وأنها مما لا يروج على أهل الفطن والعقول العادلة ، فالريب المنفي عنه هو أن يكون من أحواله في ذاته ومقارناته ما يثير الريب ، ولذلك كان ريب المرتابين فيه ريبا مزعوما مدعى وهو لو راجعوا أنفسهم لوجدوها غير مرتابة. وقد تقدم القول في نظير هذا في طالعة سورة البقرة [٢].

وموقع قوله : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) محتمل وجوها أظهرها أنه ظرف مستقر في موضع الخبر عن مبتدإ محذوف هو ضمير القرآن ، والجملة استئناف ثان ، و (من) ابتدائية تؤذن بالمجيء ، أي هو وارد من رب العالمين ، أي من وحيه وكلامه ، وهذا مقابل قوله : مِنْ دُونِ اللهِ).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

(أَمْ) للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي ، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترى من دون الله.

٨٣

ولما اختصت (أَمْ) بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدرا معها حيثما وقعت ، فالاستفهام الذي تشعر به (أم) استفهام تعجيبي إنكاري ، والمعنى : بل أيقولون افتراه بعد ما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء.

ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب ، وبتشريف نسبة إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي.

وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم ، وأن يقطع الاستدلال عليهم ، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله. والأمر أمر تعجيز ، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سورة القرآن ، أي تشابهه في البلاغة وحسن النظم. وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) في سورة البقرة [٢٣].

وقوله : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هو كقوله في آية البقرة [٢٣] : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ومعنى (صادِقِينَ) هنا ، أي قولكم أنه افترى ، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية.

وحذف مفعول (اسْتَطَعْتُمْ) لظهوره من فعل (ادعوا) ، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن.

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

(بَلْ) إضراب انتقالي لبيان كنه تكذيبهم ، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ إنهم بادروا إلى تكذيبه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس : ٣٧].

والتكذيب : النسبة إلى الكذب ، أو الوصف بالكذب سواء كان من اعتقاد أم لم يكنه.

٨٤

واختيار التعبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) لما تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب ، فهم قد كذبوا قبل أن يختبروا ، وهذا من شأن الحماقة والجهالة.

والإحاطة بالشيء : الكون حوله كالحائط ، وقد تقدم آنفا في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢]. ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه. ومنه قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] وقوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) [الجن : ٢٨] أي علمه ، فمضى (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بما لم يتقنوا علمه.

والباء للتعدية. وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المحاط به وهو المعلوم ، وهو هنا القرآن. وعدل عن أن يقال بما لم يحيطوا به علما أو بما لم يحط علمهم به إلى (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) للمبالغة إذ جعل العلم معلوما. فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا علمه أشد إتقان فلما نفي صار لم يحيطوا بعلمه ، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقة يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر علم أدلته ثم إعادة التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم. وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل ، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل.

والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه. وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا. ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت : فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء ، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب. ونظير هذه الآية في سورة النمل [٨٤] (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وجملة : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) معطوفة على الصلة ، أي كذبوا بما لمّا يأتهم تأويله. وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأناة والتثبت ، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن ، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل.

والتأويل : مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء. وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرا يظهر المعنى ، فيؤول واضحا بعد أن كان خفيا ، ومنه قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] الآية. وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير. وقد مرّ في

٨٥

سورة آل عمران وفي المقدمة الأولى من هذا التفسير. ويطلق التأويل على اتضاح ما خفي من معنى لفظ أو إشارة ، كما في قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ)[يوسف : ١٠٠] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣] أي ظهور ما أنذرهم به من العذاب. والتأويل الذي في هذه الآية يحتمل المعنيين ولعل كليهما مراد ، أي لما يأتهم تأويل ما يدّعون أنهم لم يفهموه من معاني القرآن لعدم اعتيادهم بمعرفة أمثالها ، مثل حكمة التشريع ، ووقوع البعث ، وتفضيل ضعفاء المؤمنين على صناديد الكافرين ، وتنزيل القرآن منجما ، ونحو ذلك. فهم كانوا يعتبرون الأمور بما ألفوه في المحسوسات وكانوا يقيسون الغائب على الشاهد فكذبوا بذلك وأمثاله قبل أن يأتيهم تأويله. ولو آمنوا ولازموا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلموها واحدة بعد واحدة. وأيضا لما يأتهم تأويل ما حسبوا عدم التعجيل به دليلا على الكذب كما قالوا : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ظنا أنهم إن استغضبوا الله عجّل لهم بالعذاب فظنوا تأخر حصول ذلك دليلا على أن القرآن ليس حقا من عنده. وكذلك كانوا يسألون آيات من الخوارق ، كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآية. ولو أسلموا ولازموا النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعلموا أن الله لا يعبأ باقتراح الضلال.

وعلى الوجهين فحرف (لَمَّا) موضوع لنفي الفعل في الماضي والدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم ، وذلك يقتضي أن المنفي بها متوقّع الوقوع ، ففي النفي بها هنا دلالة على أنه سيجيء بيان ما أجمل من المعاني فيما بعد ، فهي بذلك وعد ، وأنه سيحل بهم ما توعدهم به ، كقوله : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف : ٥٣] الآية. فهي بهذا التفسير وعيد.

وجملة : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استئناف. والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن يتأتى منه السماع. والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى تكذيبهم المذكور ، أي كان تكذيب الذين من قبلهم كتكذيبهم ، والمراد بالذين من قبلهم الأمم المكذبون رسلهم كما دل عليه المشبه به.

ومما يقصد من هذا التشبيه أمور :

أحدها : أن هذه عادة المعاندين الكافرين ليعلم المشركون أنهم مماثلون للأمم التي كذبت الرسل فيعتبروا بذلك.

الثاني : التعريض بالنذارة لهم بحلول العذاب بهم كما حل بأولئك الأمم التي عرف

٨٦

السامعون مصيرها وشاهدوا ديارها.

الثالث : تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ما لقي من قومه إلا مثل ما لقي الرسل السابقون من أقوامهم.

ولذلك فرع على جملة التشبيه خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي عاقبة الأمم التي ظلمت بتكذيب الرسل كما كذب هؤلاء.

والأمر بالنظر في عاقبة الظالمين مقصود منه قياس أمثالهم في التكذيب عليهم في ترقب أن يحل بهم من المصائب مثل ما حل بأولئك لتعلم عظمة ما يلاقونك به من التكذيب فلا تحسبن أنهم مفلتون من العذاب. والنظر هنا بصري.

و (كَيْفَ) يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام ، فهي اسم مصدر للحالة والكيفية ، كقولهم : كن كيف شئت. ومنه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة آل عمران [٦]. ف (كَيْفَ) مفعول به لفعل (فَانْظُرْ) ، وجملة : كانَعاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) صفة (كَيْفَ). والمعنى انظر بعينك حالة صفتها كان عاقبة الظالمين ، وهي حالة خراب منازلهم خرابا نشأ من اضمحلال أهلها.

ويجوز أن تكون (كَيْفَ) اسم استفهام ، والمعنى فانظر هذا السؤال ، أي جواب السؤال ، أي تدبره وتفكّر فيه. و (كَيْفَ) خبر (كانَ). وفعل النظر معلق عن العمل في مفعوليه بما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠))

عطف على جملة : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس : ٣٩] لأن الإخبار عن تكذيبهم بأنه دون الإحاطة بعلم ما كذبوا به يقتضي أن تكذيبهم به ليس عن بصيرة وتأمل. وما كان بهاته المثابة كان حال المكذبين فيه متفاوتا حتى يبلغ إلى أن يكون تكذيبا مع اعتقاد نفي الكذب عنه ، ولذلك جاء موقع هذه الآية عقب الأخرى موقع التخصيص للعام في الظاهر أو البيان للمجمل من عدم الإحاطة بعلمه ، كما تقدم بيانه في قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس : ٣٩]. فكان حالهم في الإيمان بالقرآن كحالهم في اتباع الأصنام إذ قال فيهم : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) [يونس : ٣٦] ، فأشعر لفظ أَكْثَرُهُمْ) بأن منهم من يعلم بطلان عبادة الأصنام ولكنهم يتبعونها مشايعة لقومهم ومكابرة للحق ، وكذلك حالهم في التكذيب بنسبة القرآن إلى الله ، فمنهم من يؤمن به ويكتم إيمانه مكابرة وعداء ، ومنهم

٨٧

من لا يؤمنون به ويكذبون عن تقليد لكبرائهم.

والفريقان مشتركان في التكذيب في الظاهر كما أنبأت عنه (من) التبعيضية ، وضمير الجمع عائد إلى ما عادت إليه ضمائر (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [يونس : ٣٨] فمعنى يؤمن به يصدق بحقيقته في نفسه ولكنه يظهر تكذيبه جمعا بين إسناد الإيمان إليهم وبين جعلهم بعضا من الذين يقولون (افْتَراهُ).

واختيار المضارع للدلالة على استمرار الإيمان به من بعضهم مع المعاندة ، واستمرار عدم الإيمان به من بعضهم أيضا.

وجملة : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) معترضة في آخر الكلام على رأي المحققين من علماء المعاني ، وهي تعريض بالوعيد والإنذار ، وبأنهم من المفسدين ، للعلم بأنه ما ذكر بِالْمُفْسِدِينَ) هنا إلّا لأن هؤلاء منهم وإلا لم يكن لذكر (بِالْمُفْسِدِينَ) مناسبة ، فالمعنى : وربك أعلم بهم لأنه أعلم بالمفسدين الذين هم من زمرتهم.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))

لما كان العلم بتكذيبهم حاصلا مما تقدم من الآيات تعين أن التكذيب المفروض هنا بواسطة أداة الشرط هو التكذيب في المستقبل ، أي الاستمرار على التكذيب. وذلك أن كل ما تبين به صدق القرآن هو مثبت لصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أتى به ، أي إن أصروا على التكذيب بعد ما قارعتهم به من الحجة فاعلم أنهم لا تنجع فيهم الحجج وأعلن لهم بالبراءة منهم كما تبرءوا منك.

ومعنى : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) المتاركة. وهو مما أجري مجرى المثل ، ولذلك بني على الاختصار ووفرة المعنى ، فأفيد فيه معنى الحصر بتقديم المعمول وبالتعبير بالإضافة ب عَمَلِي) و (عَمَلُكُمْ) ، ولم يعبر بنحو لي ما أعمل ولكم ما تعملون ، كما عبر به بعد.

والبريء : الخلي عن التلبس بشيء وعن مخالطته. وهو فعيل من برّأ المضاعف على غير قياس. وفعل برّأ مشتق من برىء ـ بكسر الراء ـ من كذا ، إذا خلت عنه تبعته والمؤاخذة به.

٨٨

وهذا التركيب لا يراد به صريحه وإنما يراد به الكناية عن المباعدة. وقد جاء هذا المكنى به مصرحا به في قوله تعالى : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[الشعراء : ٢١٦] ، ولذلك فجملة : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) إلى آخرها بيان لجملة : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) ولذلك فصلت.

وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدرا كما أتي به في قوله : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) إلى الإتيان به فعلا صلة لما الموصولة للدلالة على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال ، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى لا يتعلق الغرض بذكر البراءة منه. ولو عبر بالعمل لربما توهم أن المراد عمل خاص لأن المصدر المضاف لا يعم ، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد ؛ لأن جملة البيان من تمام المبيّن ، ولأن هذا اللفظ أنسب بسلاسة النظم ، لأن في (ما) في قوله : (مِمَّا أَعْمَلُ) من المد ما يجعله أسعد بمد النفس في آخر الآية والتهيئة للوقف على قوله : (مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، ولما في (تَعْمَلُونَ) من المد أيضا ، ولأنه يراعي الفاصلة.

وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء.

[٤٢ ، ٤٣] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣))

لما سبق تقسيم المشركين بالنسبة إلى اعتقادهم في الأصنام إلى من يتبع الظن ومن يوقن بأن الأصنام لا شيء ، وتقسيمهم بالنسبة لتصديق القرآن إلى قسمين : من يؤمن بصدقه ومن لا يؤمن بصدقه ؛ كمل في هذه الآية تقسيمهم بالنسبة للتلقي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قسمين : قسم يحضرون مجلسه ويستمعون إلى كلامه ، وقسم لا يحضرون مجلسه وإنما يتوسمونه وينظرون سمته. وفي كلا الحالين مسلك عظيم إلى الهدى لو كانوا مهتدين ؛ فإن سماع كلام النبي وإرشاده ينير عقول القابلين للهداية ، فلا جرم أن كان استمرار المشركين على كفرهم مع سماعهم كلام النبي أو رؤية هديه مؤذنا ببلوغهم الغاية في الضلالة ميئوسا من نفوذ الحق إليهم ، وليس ذلك لقصور كلامه عن قوة الإبلاغ إلى الاهتداء ، كما أن التوسم في سمته الشريف ودلائل نبوءته الواضحة في جميع أحواله كاف في إقبال النفس عليه بشراشرها ، فما عدم انتفاع الكفار الذين يعاينون ذاته الشريفة بمعاينتها إلا لشدة بغضهم إياه وحسدهم ، وقد أفاد سياق الكلام أنهم يستمعون إليه وينظرون إليه ولا ينتفعون

٨٩

بذلك من جهة أن المستمعين إليه والناظرين إليه هنا استمروا على الكفر كما دل عليه قوله : (وَمِنْهُمْ) في الموضعين ، فطويت جملة : ولا ينتفعون أو نحوها للإيجاز بدلالة التقسيم. وجيء بالفعل المضارع دون اسم الفاعل للدلالة على تكرر الاستماع والنظر. والحرمان من الاهتداء مع ذلك التكرر أعجب.

فجملة : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) تفريع على جملة : (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) مع ما طوي فيها. وفي هذا التفريع بيان لسبب عدم انتفاعهم بسماع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسلية له وتعليم للمسلمين ، فقربت إليهم هذه الحالة الغريبة بأن أولئك المستمعين بمنزلة صم لا يعقلون في أنهم حرموا التأثر بما يسمعون من الكلام فساووا الصم الذين لا يعقلون في ذلك ، وهذه استعارة مصرحة إذ جعلهم نفس الصم.

وبني على ذلك استفهام عن التمكن من إسماع هؤلاء الصم وهدي هؤلاء العمي مع أنهم قد ضموا إلى صممهم عدم العقل وضموا إلى عماهم عدم التبصر. وهذان الاستفهامان مستعملان في التعجيب من حالهم إذ يستمعون إلى دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعقلونها ، وإذ ينظرون أعماله وسيرته ولا يهتدون بها ، فليس في هذين الاستفهامين معنى الإنكار على محاولة النبي إبلاغهم وهديهم لأن المقام ينبو عن ذلك.

وهذه المعاني المجازية تختلف باختلاف المقام والقرائن ، فلذلك لم يكن الاستفهامان إنكارا ، ولذلك لا يتوهم إشكال بأن موقع (لو) الوصلية هنا بعد ما هو بمعنى النفي بحيث تنتقض المبالغة التي اجتلبت لها (لو) الوصلية ، بل المعنى بالعكس.

وفي هذين الاستفهامين ترشيح لاستعارة الصم والعمي لهؤلاء الكافرين ، أي أن الله لما خلق نفوسهم مفطورة على المكابرة والعناد وبغضاء من أنعم الله عليه وحسده كانت هاته الخصال حوائل بينهم وبين التأثر بالمسموعات والمبصرات فجيء بصيغة الاستفهام التعجيبي المشتملة على تقوّي الخبر بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ) وقوله : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي) دون أن يقال : أتسمع الصم و (تَهْدِي الْعُمْيَ) ، فكان هذا التعجيب مؤكدا مقوى.

و (لو) في قوله : (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) وقوله : (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ، وصلية دالة على المبالغة في الأحوال ، وهي التي يكون الذي بعدها أقصى ما يعلق به الغرض. ولذلك يقدرون لتفسير معناها جملة قبل جملة (لو) مضمونها ضد الجملة التي دخلت عليها (لو) ، فيقال هنا : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون بل ولو كانوا لا يعقلون.

٩٠

ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم. فمعنى : (لا يَعْقِلُونَ) ليس لهم إدراك العقول ، أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطبه واستدل بملامحه.

وأما معنى : (لا يُبْصِرُونَ) فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها. وهو الذي فسر به «الكشاف» وهو الوجه ، إذ بدونه يكون معنى : (لا يُبْصِرُونَ) مساويا لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب (لو) الوصلية موقعها ، إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عميا. ومقتضى كلام «الكشاف» أنه يقال : أبصر إذا استعمل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء. وكلام «الأساس» يحوم حوله. وأيّا ما كان فالمراد بقوله : (لا يُبْصِرُونَ) معنى التأمل ، أي ولو انضم إلى عمى العمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولا لفعل (يُبْصِرُونَ) بالوضع الحقيقي أو المجازي. فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق.

وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقابا لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صما وعميا. فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة.

وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالا عن وجه التفرقة بين قوله : (مَنْ يَسْتَمِعُونَ) وقوله: (مَنْ يَنْظُرُ) إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني. وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة. وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والإفراد هنا سواء لأن مفاد (من) الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصا واحدا.

والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ (من) ومعناها ، فلعل الابتداء بالجمع في صلة (من) الأولى الإشارة إلى أن المراد ب (من) غير واحد معيّن وأن العدول عن الجمع في صلة (من) الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد

٩١

أن حصل فهم المراد ، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي (يستمع) و (ينظر). ففعل (ينظر) لا تلائمه صيغة الجمع لأن حروفه أثقل من حروف (يستمع) فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

تذييل ، وشمل عموم الناس المشركين الذين يستمعون ولا يهتدون وينظرون ولا يعتبرون. والمقصود من هذا التذييل التعريض بالوعيد بأن سينالهم ما نال جميع الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسل الله. وعموم (النَّاسَ) الأول على بابه وعموم (النَّاسَ) الثاني مراد به خصوص الناس الذين ظلموا أنفسهم بقرينة الخبر. وإنما حسن الإتيان في جانب هؤلاء بصيغة العموم تنزيلا للكثرة منزلة الإحاطة لأن ذلك غالب حال الناس في ذلك الوقت.

وهذا الاستدراك أشعر بكلام مطوي بعد نفي الظلم عن الله ، وهو أن الله لا يظلم الناس بعقابه من لم يستوجب العقاب ولكن الناس يظلمون فيستحقون العقاب ، فصار المعنى أن الله لا يظلم الناس بالعقاب ولكنهم يظلمون أنفسهم بالاعتداء على ما أراد منهم فيعاقبهم عدلا لأنهم ظلموا فاستوجبوا العقاب.

وتقديم المفعول على عامله لإفادة تغليطهم بأنهم ما جنوا بكفرهم إلا على أنفسهم وما ظلموا الله ولا رسله فما أضروا بعملهم إلا أنفسهم.

وقرأ الجمهور بتشديد نون (لكِنَ) ونصب (النَّاسَ). وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف النون ورفع (النَّاسَ).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))

عطف على : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) [يونس : ٢٨] عطف القصة على القصة عودا إلى غرض من الكلام بعد تفصيله وتفريعه وذم المسوق إليهم وتقريعهم فإنه لما جاء فيما مضى ذكر يوم الحشر إذ هو حين افتضاح ضلال المشركين ببراءة شركائهم منهم أتبع ذلك بالتقريع على عبادتهم الأصنام مع وضوح براهين الوحدانية لله تعالى. وإذ كان القرآن قد أبلغهم ما كان يعصمهم من ذلك الموقف الذليل لو اهتدوا به

٩٢

أتبع ذلك بالتنويه بالقرآن وإثبات أنه خارج عن طوق البشر وتسفيه الذين كذبوه وتفننوا في الإعراض عنه واستوفي الغرض حقّه عاد الكلام إلى ذكر يوم الحشر مرة أخرى إذ هو حين خيبة أولئك الذين كذبوا بالبعث وهم الذين أشركوا وظهر افتضاح شركهم في يوم الحشر فكان مثل رد العجز على الصدر.

وانتصب (يَوْمَ) على الظرفية لفعل (خَسِرَ). والتقدير : وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم ، فارتباط الكلام هكذا : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم. وتقديم الظرف على عامله للاهتمام لأن المقصود الأهم تذكيرهم بذلك اليوم وإثبات وقوعه مع تحذيرهم ووعيدهم بما يحصل لهم فيه.

ولذلك عدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) دون قد خسروا ، للإيماء إلى أن سبب خسرانهم هو تكذيبهم بلقاء الله وذلك التكذيب من آثار الشرك فارتبط بالجملة الأولى ، وهي جملة : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) إلى قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [يونس : ٢٨ ـ ٣٠].

وقرأ الجمهور نحشرهم بنون العظمة ، وقرأه حفص عن عاصم بياء الغيبة ، فالضمير يعود إلى اسم الجلالة في قوله قبله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس : ٤٤].

وجملة : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) إما معترضة بين جملة : نحشرهم وجملة (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) ، وإما حال من الضمير المنصوب في نحشرهم.

و (كَأَنْ) مخففة (كأنّ) المشددة النون التي هي إحدى أخوات (إنّ) ، وهي حرف تشبيه ، وإذا خففت يكون اسمها محذوفا غالبا ، والتقدير هنا : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من النهار. وقد دل على الاسم المحذوف ما تقدم من ضمائرهم.

والمعنى تشبيه المحشورين بعد أزمان مضت عليهم في القبور بأنفسهم لو لم يلبثوا في القبور إلا ساعة من النهار.

و (مِنَ النَّهارِ) (من) فيه تبعيضية صفة ل (ساعَةً) وهو وصف غير مراد منه التقييد إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب لأن النهار هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في المتعارف ، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان كقوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦]. ومن

٩٣

هذا ما وقع في الحديث «وإنما أحلّت لي ساعة من نهار» ، والمقصود ساعة من الزمان وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار.

والساعة : المقدار من الزمان ، والأكثر أن تطلق على الزمن القصير إلا بقرينة ، وتقدم عند قوله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) في سورة الأعراف [٣٤].

ووجه الشبه بين حال زمن لبثهم في القبور وبين لبث ساعة من النهار وجوه : هي التحقق والحصول ، بحيث لم يمنعهم طول الزمن من الحشر ، وأنهم حشروا بصفاتهم التي عاشوا عليها في الدنيا فكأنهم لم يفنوا. وهذا اعتبار بعظيم قدرة الله على إرجاعهم.

والمقصود من التشبيه التعريض بإبطال دعوى المشركين إحالتهم البعث بشبهة أن طول اللبث وتغير الأجساد ينافي إحياءها (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [النازعات : ١٠ ، ١١].

وجملة : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) حال من الضمير المنصوب في نحشرهم.

والتعارف : تفاعل من عرف ، أي يعرف كل واحد منهم يومئذ من كان يعرفه في الدنيا ويعرفه الآخر كذلك.

والمقصود من ذكر هذه الحال كالمقصود من ذكر حالة (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) لتصوير أنهم حشروا على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا في أجسامهم وإدراكهم زيادة في بيان إبطال إحالتهم البعث بشبهة أنه ينافي تمزق الأجسام في القبور وانطفاء العقول بالموت.

فظهر خسرانهم يومئذ بأنهم نفوا البعث فلم يستعدوا ليومه بقبول ما دعاهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦))

كان ذكر تكذيبهم الذي جاء في صدر السورة بقوله : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) لسحر مبين [يونس : ٢] ، ثم الوعيد عليه بعذاب يحل بهم ، والإشارة إلى أنهم كذبوا بالوعيد في قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) إلى قوله : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١١ ـ ١٤] منذرا

٩٤

بترقب عذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بالقرون الذين من قبلهم ، وكان معلوما من خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأفته بالناس ورغبته أن يتم هذا الدين وأن يهتدي جميع المدعوين إليه ، فربما كان النبي يحذر أن ينزل بهم عذاب الاستئصال فيفوت اهتداؤهم. وكان قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [يونس : ١١] تصريحا بإمكان استبقائهم وإيماء إلى إمهالهم. جاء هذا الكلام بيانا لذلك وإنذارا بأنهم إن أمهلوا فأبقي عليهم في الدنيا فإنهم غير مفلتين من المصير إلى عقاب الآخرة حين يرجعون إلى تصرف الله دون حائل.

وجاء الكلام على طريقة إبهام الحاصل من الحالين لإيقاع الناس بين الخوف والرجاء وإن كان المخاطب به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد ب (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) هو عذاب الدنيا فإنهم أوعدوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ). فالمعنى إن وقع عذاب الدنيا بهم فرأيته أنت أو لم يقع فتوفاك الله فمصيرهم إلينا على كل حال.

فمضمون (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قسيم لمضمون (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ).

والجملتان معا جملتا شرط ، وجواب الشرط قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ).

ولما جعل جواب الشرطين إرجاعهم إلى الله المكنّى به عن العقاب الآجل ، تعين أن التقسيم الواقع في الشرط ترديد بين حالتين لهما مناسبة بحالة تحقق الإرجاع إلى عذاب الله على كلا التقديرين ، وهما حالة التعجيل لهم بالعذاب في الدنيا وحالة تأخير العذاب إلى الآخرة. وأما إراءة الرسول تعذيبهم وتوفيه بدون إراءته فلا مناسبة لهما بالإرجاع إلى الله على كلتيهما إلا باعتبار مقارنة إحداهما لحالة التعجيل ومناسبة الأخرى لحالة التأخير.

وإنما كني عن التعجيل بأن يريد الله الرسول للإيماء إلى أن حالة تعجيل العذاب لا يريد الله منها إلا الانتصاف لرسوله بأن يريه عذاب معانديه ، ولذلك بني على ضد ذلك ضدّ التعجيل فكني بتوفيه عن عدم تعجيل العذاب بل عن تأخيره إذ كانت حكمة التعجيل هي الانتصاف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما جعل مضمون جملة : (نَتَوَفَّيَنَّكَ) قسيما لمضمون جملة : (نُرِيَنَّكَ) تعين أن إراءته ما أوعدوا به من عذاب الدنيا إنما هو جزاء عن تكذيبهم إياه وأذاهم له انتصارا له حتى يكون أمره جاريا على سنة الله في المرسلين ، كما قال نوح : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما

٩٥

كَذَّبُونِ) [المؤمنون : ٢٦] وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عقبه : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) [يونس : ٤٧] الآية وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)[يونس : ٤٨]. وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم ، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة ، وقتل صناديدهم ، كما أشار إليه قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٠ ـ ١٦].

والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الأرض. والبطشة الكبرى : بطشة يوم بدر.

وتأمّل قوله : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) وقوله : (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).

ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضا إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول : لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.

فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة.

فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازا محكما وصارت قوة الكلام هكذا : وإمّا نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم ، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك ، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا ، أي مرجعهم ثابت إلينا دوما فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة.

وكلمة إما هي (إن) الشرطية و (ما) المؤكدة للتعليق الشرطي. وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق ، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة (ما) بعد (إن) الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) في سورة غافر [٧٧] ، فلا يقولون : إن تكرمنّي أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون : إن تكرمني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال : إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول : إن تكرمني. وشذ قول الأعشى :

فإما تريني ولي لمة

فإنّ الحوادث أودى بها

٩٦

ثم أكد التعليق الشرطي تأكيدا ثانيا بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو مَرْجِعُهُمْ) للاهتمام. وجملة : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) اسمية تفيد الدوام والثبات ، أي ذلك أمر في تصرفنا دوما.

وجملة : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) معطوفة على جملة : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ). وحرف (ثُمَ) للتراخي الرّتبي كما هو شأن (ثم) في عطفها الجمل. والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة من المعطوفة عليها فإن جملة : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله ، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل ، والتفصيل أهم من الإجمال. وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد. وأما كون عذاب الآخرة حاصلا بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره.

وقوله : (اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) خبر مستعمل في معناه الكنائي ، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئا.

والشهيد : الشاهد ، وحقيقته : المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر ، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق.

وعبر بالمضارع في قوله : (يَفْعَلُونَ) للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم ، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

عطف على جملة : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) [يونس : ٤٦] ، وهي بمنزلة السبب لمضمون الجملة التي قبلها. وهذه بينت أن مجيء الرسول للأمة هي منتهى الإمهال ، وأن الأمة إن كذبت رسولها استحقت العقاب على ذلك. فهذا إعلام بأن تكذيبهم الرسول هو الذي يجر عليهم الوعيد بالعقاب ، فهي ناظرة إلى قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) [القصص : ٥٩] وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].

٩٧

وجملة : (لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) ليست هي المقصود من الإخبار بل هي تمهيد للتفريع المفرع عليها بقوله : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) إلخ ، فلذلك لا يؤخذ من الجملة الأولى تعين أن يرسل رسول لكل أمة لأن تعيين الأمة بالزمن أو بالنسب أو بالموطن لا ينضبط ، وقد تخلو قبيلة أو شعب أو عصر أو بلاد عن مجيء رسول فيها ولو كان خلوها زمنا طويلا. وقد قال الله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٦]. فالمعنى : ولكل أمة من الأمم ذوات الشرائع رسول معروف جاءها مثل عاد وثمود ومدين واليهود والكلدان. والمقصود من هذا الكلام ما تفرع عليه من قوله : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).

والفاء للتفريع و (إذا) للظرفية مجردة عن الاستقبال ، والمعنى : أن في زمن مجيء الرسول يكون القضاء بينهم بالقسط. وتقديم الظرف على عامله وهو (قضي) للتشويف إلى تلقي الخبر.

وكلمة (بين) تدل على توسط في شيئين أو أشياء ، فتعين أن الضمير الذي أضيفت إليه هنا عائد إلى مجموع الأمة ورسولها ، أي قضي بين الأمة ورسولها بالعدل ، أي قضى الله بينهم بحسب عملهم مع رسولهم.

والمعنى : أن الله يمهل الأمة على ما هي فيه من الضلال فإذا أرسل إليها رسولا فإرساله أمارة على أن الله تعالى أراد إقلاعهم عن الضلال فانتهى أمد الإمهال بإبلاغ الرسول إليهم مراد الله منهم فإن أطاعوه رضي‌الله‌عنهم وربحوا ، وإن عصوه وشاقوه قضى الله بين الجميع بجزاء كل قضاء حق لا ظلم فيه وهو قضاء في الدنيا.

وقد أشعر قوله : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بحدوث مشاقة بين الكافرين وبين المؤمنين وفيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا تحذير من مشاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار لأهل مكة بما نالهم. وقد كان من بركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورغبته أن أبقى الله على العرب فلم يستأصلهم ، ولكنه أراهم بطشته وأهلك قادتهم يوم بدر ، ثم ساقهم بالتدريج إلى حظيرة الإسلام حتى عمهم وأصبحوا دعاته للأمم وحملة شريعته للعالم.

ولما أشعر قوله : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بأن القضاء قضاء زجر لهم على مخالفة رسولهم وأنه عقاب شديد يكاد من يراه أو يسمعه أن يجول بخاطره أنه مبالغ فيه أتي بجملة (وَهُمْ

٩٨

لا يُظْلَمُونَ) ، وهي حال مؤكدة لعاملها الذي هو (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) للإشعار بأن الذنب الذي قضي عليهم بسببه ذنب عظيم.

[٤٨ ، ٤٩] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩))

عطف على جملة (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) [يونس : ٤٦] ، والمناسبة أنه لما بيّنت الآية السالفة أن تعجيل الوعيد في الدنيا لهم وتأخيره سواء عند الله تعالى ، إذ الوعيد الأتم هو وعيد الآخرة ، أتبعت بهذه الآية حكاية لتهكمهم على تأخير الوعيد.

وحكي قولهم بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة ، كقوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] للدلالة على تكرر صدوره منهم ، وأطلق الوعد على الموعود به ، فالسؤال عنه باسم الزمان مؤول بتقدير يدل عليه المقام ، أي متى ظهوره.

والسؤال مستعمل في الاستبطاء ، وهو كناية عن عدم اكتراثهم به وأنهم لا يأبهون به لينتقل من ذلك إلى أنهم مكذبون بحصوله بطريق الإيماء بقرينة قولهم : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين في أنه واقع فعينوا لنا وقته ، وهم يريدون أننا لا نصدقك حتى نرى ما وعدتنا كناية عن اعتقادهم عدم حلوله وأنهم لا يصدقون به. والوعد المذكور هنا ما هددوا به من عذاب الدنيا.

والخطاب بقولهم : (إِنْ كُنْتُمْ) للرسول ، فضمير التعظيم للتهكم كما في قوله : وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وقوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] وقول أبي بكر بن الأسود الكناني :

يخبّرنا الرسول بأن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام

وهذا المحمل هو المناسب لجوابهم بقوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ). ويجوز أن يكون الخطاب للنبي وللمسلمين ، جمعوهم في الخطاب لأن النبي أخبر به والمسلمين آمنوا به فخاطبوهم بذلك جميعا لتكذيب النبي وإدخال الشك في نفوس المؤمنين به. وإنما خص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالأمر بجوابهم لأنه الذي أخبرهم بالوعيد وأما المؤمنون فتابعون له في ذلك.

ومعنى : (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) : لا أستطيع ، كما تقدم في قوله تعالى:

٩٩

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة العقود [٧٦].

وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء. والمقصود من جمع الأمرين الإحاطة بجنسي الأحوال. وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية.

وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء منقطع بمعنى لكن ، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاؤه الله لي. وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي ، أي بطريق برهاني ، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا فعدم استطاعته ما فيه ضر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته ، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه ، فلو كان الله مقدرا إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته ، لأن بعض أسبابها في مقدرته ، فلا جرم كان الإنسان مسيّرا في شئونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض ، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان ، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه. فكان معنى الجواب : أن الوعد من الله لا مني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلا عند الله.

وجملة : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) من المقول المأمور به ، وموقعها من جملة : (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) موقع العلة لأن جملة (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي) اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد.

وجملة : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم. ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل ، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله.

وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) قضية كلية تشمل كل أمة. ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم: أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله.

وجملة : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) صفة ل (أجل) ، أي

١٠٠