تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

جوارح أو قوائم زائدة.

والبشر ـ محركة ـ : الإنسان ذكرا أو أنثى ، واحدا كان أو جمعا. قال الراغب : «عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر» أي والريش. والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر ، والمؤنث والمذكر. وقد يثنى كما في قوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٤٧].

وقالوا : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلا على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم. فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه ، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبعوه ، ولذلك ورد بعده (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود : ٢٩] الآية.

والأرذال : جمع أرذل المجعول اسما غير صفة كذلك على القياس ، أو جمع رذيل على خلاف القياس. والرذيل : المحتقر. وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء. وإضافة (أراذل) إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة ، أي أراذل قومنا. وعبّر عنهم بالموصول والصّلة دون أن يقال : إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح ـ عليه‌السلام ـ بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة ، وكان أتباع نوح ـ عليه‌السلام ـ من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممّن سبق لهم الهدى.

و (بادِيَ) قرأه الجمهور ـ بياء تحتية في آخره ـ على أنه مشتق من بدا المقصور إذا ظهر ، وألفه منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها ، فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء. والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه.

وقرأه أبو عمرو وحده ـ بهمزة في آخره ـ على أنه مشتق من البداء ، وهو أول الشيء.

والمعنى : فيما يقع أول الرأي ، أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه ، ومآل المعنيين واحد.

والرأي : نظر العقل ، مشتق من فعل رأى ، كما استعمل رأى بمعنى ظن وعلم.

٢٤١

يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع.

وانتصاب (بادِيَ الرَّأْيِ) بالنيابة عن الظرف ، أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيّه ، أو في الرأي الأول دون إعادة نظر.

وإضافة (بادِيَ) إلى (الرَّأْيِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ومعنى كلامهم : لا يلبث أن يرجع إلى متبعيك رشدهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويكشف لهم خطؤهم.

ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جمعوا الوصف الشامل لهما. وهو المقصود من الوصفين المفرقين. وذلك قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فنفوا أن يكون لنوح ـ عليه‌السلام ـ وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح ـ عليه‌السلام ـ سيّدا لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم.

والفضل : الزيادة في الشرف والكمال ، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي ترى ، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلا على انتفاء فضلهم ، لأنّ الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتها دليلا على انتفائها إذ لو ثبتت لرئيت.

وجملة (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) إبطال للمنفي كلّه الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي ، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنّه إذا بطل الشيء ثبت ضدّه ، فزعموا نوحا ـ عليه‌السلام ـ كاذبا في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح ـ عليه‌السلام ـ ، بل ذلك منهم اعتقاد باطل ، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم.

واستعمل الظن هنا في العلم كقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] وهو إطلاق شائع في الكلام.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))

فصلت جملة (قالَ يا قَوْمِ) عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدّمناه عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠] ، فهذه لما وقعت مقابلا لكلام محكي يقال فصلت الجملة

٢٤٢

ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفا في قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [هود : ٢٧].

وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه ، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف ، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلّا خيرا.

وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلا ، وما رأوا أتباعه إلّا ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه ، سلك نوح ـ عليه‌السلام ـ في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لردّ أقوالهم ، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته ، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به.

فقوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إلى آخره. معناه إن كنت ذا برهان واضح ، ومتصفا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى ، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها ، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها. وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملا بريئا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته.

و (أَرَأَيْتُمْ) ، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد. وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غير عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسدّ مفعولي (رأيتم) ، ولذلك كان معناه آئلا إلى معنى أخبروني ، ولكنّه لا يستعمل إلّا في طلب من حاله حال من يجحد الخبر ، وقد تقدم معناه في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) (أَوْ جَهْرَةً) في سورة الأنعام [٤٧].

وجملة (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إلى قوله تعالى (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) معترضة بين فعل (أَرَأَيْتُمْ) وما سدّ مسد مفعوليه.

والاستفهام في (أَنُلْزِمُكُمُوها) إنكاري ، أي لا نكرهكم على قبولها ، فعلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة. والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة.

والبينة : الحجة الواضحة ، وتطلق على المعجزة ، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان ، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر ، فإن بعثة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ لا تخلو من معجزات.

٢٤٣

والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه ، مع ما صحبها من البيّنة لأنّها من تمامها ، فعطف (الرحمة) على (البينة) يقتضي المغايرة بينهما ، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به ، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله : (فَعُمِّيَتْ) أعيد على (الرحمة) لأنها أعم.

و (عَلَيْكُمْ) متعلقة ب (عميت) وهو حرف تتعدى به الأفعال الدّالة على معنى الخفاء ، مثل : خفي عليك. ولما كان عمي في معنى خفي عدّي ب (على) ، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن ، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له.

واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به.

ومعنى (فَعُمِّيَتْ) فخفيت ، وهو استعارة ، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه. ولمّا ضمّن معنى : الخفاء عدي فعل (عميت) بحرف (على) تجريدا للاستعارة. وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] ، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة ، ولذلك سمّي جحدهم إياها ظلما فقال : (فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء : ٥٩].

ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقا لمقابلة قولهم في مجادلتهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً) ـ (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) ـ (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [هود : ٢٧]. فقابل نوح ـ عليه‌السلام ـ كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى.

وعطف (عميت) بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم. وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل.

وجملة (أَنُلْزِمُكُمُوها) سادة مسد مفعولي (أَرَأَيْتُمْ) لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه فعل (أَرَأَيْتُمْ) وما سدّ مسد مفعوليه. وتقدير الكلام : قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون.

وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فرض وقوعه لكان له

٢٤٤

أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يهيب بهم. والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم.

والاستفهام إنكاري ، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضا عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله ، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم.

والكاره : المبغض لشيء. وعدّي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة ، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبّر فيها.

وتقديم المجرور على (كارِهُونَ) لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها. والمقصود من كلامه بعثهم على إعادة التأمل في الآيات. وتخفيض نفوسهم. واستنزالهم إلى الإنصاف.

وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩))

إعادة الخطاب ب (يا قَوْمِ) تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني الّتي ذكرناها ، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى ، كقول المعري :

يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر

لعل بالجزع أعوانا على السهر

ثم قال :

ويا أسيرة حجليها أرى سفها

حمل الحلي بمن أعيا عن النظر

فأما إذا اتّحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في سورة مريم [٤٢ ـ ٤٥] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) ـ إلى قوله ـ (وَلِيًّا) فقد تكرّر النداء أربع مرات.

فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح ـ عليه‌السلام ـ لا من حكاية الله عنه. ثمّ يجوز أن يكون تنبيها على اتّصال النداءات بعضها ببعض ، وأن أحدها لا يغني عن الآخر ، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي. ويجوز أن يكون ذلك تفننا عربيا في الكلام عند تكرر النداء استحسانا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد. وسيجيء نظير هذا قريبا في قصة هود ـ عليه‌السلام ـ وقصة

٢٤٥

شعيب ـ عليه‌السلام ـ.

ومنه ما وقع في سورة المؤمن [٣٠ ـ ٣٣] في قوله : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ثم قال : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر : ٣٨ ـ ٤١]. فعطف (ويا قوم) تارة وترك العطف أخرى.

وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم ، وقيل حاتم الطائي :

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك

ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد

فقوله : (ويا بنت ذي البردين) عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد.

لما أظهر لهم نوح ـ عليه‌السلام ـ أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به ، وأنه لا يريد نفعا دنيويا بأنّه لا يسألهم على ما جاء به مالا يعطونه إياه ، فما ذا يتهمونه حتّى يقطعون بكذبه.

والضمير في قوله : (عَلَيْهِ) عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة.

وجملة (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالا ، والمال أجر ، نشأ توهّم أنه لا يسأل جزاء على الدعوة فجاء بجملة (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) احتراسا. والمخالفة بين العبارتين في قوله : (مالاً) و (أَجرِيَ) تفيد أنه لا يسأل من الله مالا ولكنه يسأل ثوابا. والأجر : العوض على عمل. ويسمّى ثواب الله أجرا لأنّه جزاء على العمل الصالح.

وعطف جملة (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) على جملة (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) لأنّ مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأنّ نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء. ولذلك عبّر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله : (الَّذِينَ

٢٤٦

آمَنُوا) لما يؤذن به الموصول من تغليظ قومه في تعريضهم له بأن يطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبة فيهم فكيف يطردهم. وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧] من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته.

والطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا. وتقدم عند قوله تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في سورة الأنعام [٥٢].

وجملة (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسب من يطردهم ، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة ، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية ، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأنّي أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصّني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربّهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إليّ. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة النفر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس أحدهم ، واستحيا أحدهم ، وأعرض الثالث «أمّا الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه».

وتأكيد الخبر ب (إنّ) إن كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث ، وإن كان اللقاء مجازا فالتّأكيد للاهتمام بذلك اللقاء. وقد زيد هذا التأكيد تأكيدا بجملة (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ).

وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم.

وحذف مفعول (تَجْهَلُونَ) للعلم به ، أي تجهلون ذلك.

وزيادة قوله : (قَوْماً) يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠))

إعادة (وَيا قَوْمِ) مثل إعادته في الآية قبلها.

٢٤٧

والاستفهام إنكاري. والنصر : إعانة المقاوم لضدّ أو عدوّ ، وضمن معنى الإنجاء فعدّي ب (من) أي من يخلصني ، أي ينجيني من الله ، أي من عقابه ، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله ، والله لا يحب إهانة أوليائه.

وفرع على ذلك إنكارا على قومه في إهمالهم التذكر ، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها ، والأسباب ومسبّباتها.

وقرأ الجمهور (تَذَكَّرُونَ) ـ بتشديد الذال ـ.

وأصل (تَذَكَّرُونَ) ، تتذكرون فأبدلت التاء ذالا وأدغمت في الذّال. وقرأه حفص «تذكرون» بتخفيف الذّال وبحذف إحدى التاءين. والتذكر تقدم عند قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) في آخر سورة الأعراف [٢٠١].

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالا ، فهم استدلوا على نفي نبوّته بأنهم لم يروا له فضلا عليهم ، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجب أنه لم يدع فضلا غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ في قوله : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١١] ، ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك. واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم ، أو أن يعلم الأمور الغائبة. والقول بمعنى الدعوى ، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال ، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله ، أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله.

والخزائن : جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ وهي بيت أو مشكاة كبيرة يجعل لها باب ، وذلك لخزن المال أو الطعام ، أي حفظه من الضياع. وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية ؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تدخر في الخزائن ، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن. وإضافة (خَزائِنُ) إلى (اللهِ) لاختصاص الله بها.

٢٤٨

وأما قوله : (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) فنفي لشبهة قولهم : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) [هود : ٢٧] ولذلك أعاد معه فعل القول ، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به ، وتأكيده ب (إنّ) لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكدا لشدة إنكاره لو ادعاه مدّع ، فلما نفاه نفى صيغة إثباته. ولمّا أراد إبطال قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧] أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سببا لانتفاء فضلهم ، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية ، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غير المراد منه فيما قيل ، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد ، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمون ذلك ويقدرونه.

والازدراء : افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب ، فأصله : ازتراء ، قلبت تاء الافتعال دالا بعد الزاي كما قلبت في الازدياد.

وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالبا ، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر. ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى :

كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

ونظيره قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين.

وجيء في النفي بحرف (لَنْ) الدّالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضا بقومه لأنّهم جعلوا ضعف أتباعه نوح ـ عليه‌السلام ـ وفقرهم دليلا على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء ، فلسان حالهم يقول : لن ينالوا خيرا ، فكان رده عليهم بأنه لا يقول : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً).

وجملة (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) تعليل لنفي أن يقول : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً). ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف ، ومعنى (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم بما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان ، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم. وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [هود : ٢٧] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل

٢٤٩

والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي الله أعلم بها.

واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مقصود منه شدة العلم.

وجملة (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) تعليل ثان لنفي أن يقول : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً). و (إِذاً) حرف جواب وجزاء مجازاة للقول ، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين ، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم ، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق.

وقوله : (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أبلغ في إثبات الظلم من : إني ظالم ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

وأكده بثلاث مؤكدات : إنّ ولام الابتداء وحرف الجزاء ، تحقيقا لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم ، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك. وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين.

[٣٢ ، ٣٣] (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣))

فصلت هذه الجملة فصلا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم ـ عليه‌السلام ـ من سورة البقرة.

والمجادلة : المخاصمة بالقول وإيراد الحجّة عليه ، فتكون في الخير كقوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، ويكون في الشر كقوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧]. وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبّر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجّه ، وقد مضى عند قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧].

وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه ، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادلها قومه ، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذ فقالوا قولهم هذا ، كانت كلها مجادلات مضت. وكانت المجادلة الأخيرة هي الّتي استفزّت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة ، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال ، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفا : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦].

٢٥٠

وقولهم : (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) خبر مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع ، أجابهم بالمبادرة لبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته.

والإتيان بالشيء : إحضاره. وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره.

و (بِما تَعِدُنا) مصداقه (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦].

والقصر في قوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم ، حملا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة ، وإلّا فإنهم جازمون بتعذّر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبا وهم جازمون بأنّ الله لم يتوعدهم ، ولعلّهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله. وقوله : (إِنْ شاءَ) احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا.

ومعنى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد ، يريد أن العذاب واقع لا محالة. ولعل نوحا ـ عليه‌السلام ـ لم يكن له وحي من الله بأن يحلّ بهم عذاب الدنيا ، فلذلك فوّضه إلى المشيئة ؛ أو لعلّه كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق ب (إِنْ شاءَ) منظورا فيه إلى كون العذاب معجلا أو مؤخرا.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))

عطف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيان حال مجادلته إيّاهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم ، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.

والنصح : قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله. وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار. ويكون بالعمل كقوله تعالى : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) في سورة التوبة [٩١]. وفي الحديث : «الدين النصيحة لله ولرسوله» أي الإخلاص في العمل لهما لأنّ الله لا ينبّأ بشيء لا يعلمه. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) في سورة الأعراف [٧٩]. فالمراد بالنصح هنا هو ما سمّاه قومه بالجدال ، أي هو أولى بأن يسمّى نصحا ، لأن الجدال يكون للخير

٢٥١

والشر كما تقدم.

وجملة الشرط في قوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) هي المقصود من الكلام ، فجوابها في معنى قوله : (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتماما بذلك فجعل معطوفا على ما قبله وأتي بالشرط قيدا له.

وأمّا قوله : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) فهو شرط معترض بين الشرط وبين دليل جوابه لأنه ليس هو المقصود من التعليق ولكنه تعليق على تعليق ، وغير مقصود به التقييد أصلا ، فليس هذا من الشرط في الشروط المفروضة في مسائل الفقه وأصوله في نحو قول القائل : إن أكلت ، إن شربت فأنت طالق ، لأنها مفروضة في شرط مقيّد لشرط آخر. على أن المقصود إذا اجتمع فعلا الشرطين حصل مضمون جوابهما. ومثلوه بقول الشاعر :

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم

فأما قوله : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) فكل من الشرطين مقصود التعليق به. وقد حذف جواب أحدهما لدلالة جواب الآخر عليه.

والتعليق بالشرط في قوله : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك.

وأشار بقوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح ـ عليه‌السلام ـ سببه خذلان الله إيّاهم ولولاه لنفعهم نصحه ، ولكن نوحا ـ عليه‌السلام ـ لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر.

وتقدم الكلام على دخول اللام على مفعول (نصح) عند قوله تعالى : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) في براءة [٩١].

والإغواء : جعل الشخص ذا غواية ، وهي الضلال عن الحق والرشد.

وجملة (هُوَ رَبُّكُمْ) ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله ، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه ودّا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا.

والتقديم في (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر ، لأنهم لا

٢٥٢

يؤمنون بالبعث أصلا بله أن يزعموا أنهم يحضرون إلى الله وإلى غيره.

وتمثلت فيما قصه الله من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه صورة واضحة من تفكير أهل العقول السخيفة التي ران عليها الضلال فقلب أفكارها إلى اعوجاج فظيع ، وهي الصورة التي تتمثل في الأمم التي لم يثقّف عقولها الإرشاد الديني فغلب عليها الانسياق وراء داعي الهوى ، وامتلكها الغرور بظن الخطأ صوابا ، ومصانعة من تصأصئ عين بصيرته بلائح من النور ، من يدعوه إلى إغماضها وعدمت الوازع النفساني فلم تعبأ إلّا بالصور المحسوسة ولم تهتمّ إلا باللذات وحب الذات ولا تزن بمعيار النقد الصحيح خلوص النفوس من دخل النقائص.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة ، ومن جعلها منها فقد أبعد ، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة. ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره.

وكون ذلك مطابقا لما حصل في زمن نوح ـ عليه‌السلام ـ وشاهدة بكتب بني إسرائيل يدل على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فالاستفهام الذي يؤذن به حرف (أَمْ) المختصّ بعطف الاستفهام استفهام إنكاري. وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجّة عليهم.

و (أَمْ) هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض.

وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق.

وجملة (قُلْ) مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئا ، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت

٢٥٣

تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء.

وتقديم (عليّ) مؤذن بالقصر ، أي إجرامي عليّ لا عليكم فلما ذا تكثرون ادّعاء الافتراء كأنكم ستؤاخذون بتبعته. وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف.

ومعنى جعل الافتراء فعلا للشرط : أنه إن كان وقع الافتراء كقوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦].

ولما كان الافتراء على الله إجراما عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنه المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير : فعليّ إجرام افترائي.

وذكر حرف (على) مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تقتضيه مادة الإجرام.

والإجرام : اكتساب الجرم وهو الذنب ، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة.

وجملة (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، فهي ابتدائية. وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله ، أي فإجرامي عليّ لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تبعة. ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله : (مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، والشيء يؤكد بضدّه كقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٢ ، ٣].

وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتري القرآن فإنّ افتراء القرآن دعوى باطلة ادعوها عليه فهي إجرام منهم عليه ، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه عليّ باطلا.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

عطف على جملة (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) [هود : ٣٢] أي بعد ذلك أوحي إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

واسم (أن) ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف (لَنْ) المفيد تأبيد النفي في المستقبل ، وذلك شديد عليه

٢٥٤

ولذلك عقب بتسليته بجملة (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن.

والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن ، أي لا تحزن.

ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور. (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا. قال الله تعالى حكاية عنه : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) [نوح : ٦ ، ٧].

وتأكيد الفعل ب (قَدْ) في قوله : (مَنْ قَدْ آمَنَ) للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقينا دون الذين ترددوا.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧))

لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذنا بأن الله ينتصر له ، أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد آمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه ، كما حكى الله عنه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) [القمر : ١٠ ، ١١] الآية ، فجملة (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) عطف على جملة (فَلا تَبْتَئِسْ) [هود : ٣٦] وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله : (وَوَحْيِنا) ، ولذلك فنوح ـ عليه‌السلام ـ أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفا للبشر ، وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلّا الله تعالى ، ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها.

والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في سورة البقرة [١٦٤].

والباء في (بِأَعْيُنِنا) للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير (اصنع).

والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة. وصيغة الجمع في (بِأَعْيُنِنا) بمعنى المثنى ، أي بعينينا ، كما في قوله : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨]. والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصنع.

٢٥٥

والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع.

ودل النهي في قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة ، وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة. ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح ـ عليه‌السلام ـ سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألطف.

وجملة (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك. وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام ما يلوّح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافا يشبه استشراف السائل عن عين الخبر.

[٣٨ ، ٣٩] (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

عطف على جملة (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) [هود : ٣٧] ، أي أوحي إليه (اصْنَعِ الْفُلْكَ) ، وصنع الفلك. وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ بصدد العمل ، كقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩] وقوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

وجملة (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) في موضع الحال من ضمير (يَصْنَعُ).

و (كُلَّما) كلمة مركبة من (كل) و (ما) الظرفية المصدرية ، وانتصبت (كل) على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف ، وهو متعلّق (سَخِرُوا) ، وهو جوابه من جهة أخرى. والمعنى : وسخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه.

و (لما) في (كلما) من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل (إذا) فاحتاجت إلى جواب وهو (سَخِرُوا مِنْهُ).

وجملة (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) حكاية لما يجيب به سخريتهم ، أجريت على طريقة

٢٥٦

فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة ، لأن جملة (سَخِرُوا) تتضمن أقوالا تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم.

وجمع الضمير في قوله : (مِنَّا) يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذ كانوا حوله واثقين بأنه يعمل عملا عظيما ، وكذلك جمعه في قوله : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ).

والسخرية : الاستهزاء ، وهو تعجب باحتقار واستحماق. وتقدم عند قوله تعالى : فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) في أول سورة الأنعام [١٠] ، وفعلها يتعدى ب (من).

وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه.

وسخرية نوح ـ عليه‌السلام ـ والمؤمنين ، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته. فالسخريتان مقترنتان في الزمن.

وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله : (كَما تَسْخَرُونَ) فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية ، وإن كان بين السببين بون.

ويجوز أن تجعل كاف التشبيه مفيدة معنى التعليل كالتي في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] فيفيد التفاوت بين السخريتين ، لأن السخرية المعللة أحق من الأخرى ، فالكفار سخروا من نوح ـ عليه‌السلام ـ لعمل يجهلون غايته ، ونوح ـ عليه‌السلام ـ وأتباعه سخروا من الكفار لعلمهم بأنهم جاهلون في غرور ، كما دل عليه قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فهو تفريع على جملة (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي سيظهر من هو الأحق بأن يسخر منه.

وفي إسناد (العلم) إلى ضمير المخاطبين دون الضمير المشارك بأن يقال : فسوف نعلم ، إيماء إلى أن المخاطبين هم الأحق بعلم ذلك. وهذا يفيد أدبا شريفا بأن الواثق بأنه على الحق لا يزعزع ثقته مقابلة السفهاء أعماله النافعة بالسخرية ، وأن عليه وعلى أتباعه أن يسخروا من الساخرين.

والخزي : الإهانة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) في آخر سورة آل عمران [١٩٢].

٢٥٧

والعذاب المقيم : عذاب الآخرة ، أي من يأتيه عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الخالد في الآخرة.

و (مَنْ) استفهامية معلّقة لفعل العلم عن العمل ، وحلول العذاب : حصوله ؛ شبه الحصول بحلول القادم إلى المكان وهو إطلاق شائع حتى ساوى الحقيقة.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠))

(حَتَّى) غاية ل (يَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا ، ف (إِذا) ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب. وهو جملة (قُلْنَا احْمِلْ). وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط ، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء ، وهو نظم بديع بإيجازه.

و (حَتَّى) ابتدائية.

والأمر هنا يحتمل أمر التكوين بالطوفان ، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق ، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون.

ومجيء الأمر : حصوله.

والفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدة ، تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلي ، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مثل قوله : وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢]. ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور ، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز ، فكثرت الأقوال في تفسير التنور ، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله. ومنها ما له وجه وهو متفاوت.

فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته ، فجعل الفوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح ـ عليه‌السلام ـ إذا فار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركب الفلك وأركب من معه.

ومنهم من حمل التنور على المجاز المفرد ففسره بسطح الأرض ، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور.

ومنهم من فسره بأعلى الأرض.

٢٥٨

ومنهم من حمل (فارَ) و (التَّنُّورُ) على الحقيقة ، وأخرج الكلام مخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس. وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر. وهو النابغة الجعدي :

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثأها عنّا إذا قدرها غلى

يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها. وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين.

والذي يظهر لي أن قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) مثل لبلوغ الشيء إلى أقصى ما يتحمل مثله ، كما يقال : بلغ السيل الزبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم.

والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طما الوادي من قبيل بلغ السيل الزبى. والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغا لا يغتفر لهم بعد كما قال تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥].

والتنور : اسم لموقد النار للخبز. وزعمه. الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور. ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس. وقال أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي.

والدليل على ذلك أنه فعوّل من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل راء فإن نرجس معرب أيضا. وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن. ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد. قال أبو علي الفارسي : وزنه فعول. وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تفعول من النور (أي فالتاء زائدة) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف أي مثل قوله : تقضّى البازي بمعنى تقضّض.

وقرأ الجمهور (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) بإضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ).

والزوج : شيء يكون ثانيا لآخر في حالة. وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجا له ، وكل منهما زوج للآخر. والمراد ب (زَوْجَيْنِ) هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ) ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع.

٢٥٩

و (مِنْ) تبعيضية ، و (اثْنَيْنِ) مفعول (احْمِلْ) ، وهو بيان لئلّا يتوهّم أن يحمل كل زوجين واحدا منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين ، كما تقدم في قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) في سورة الأنعام [١٤٣]. ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل.

وقرأه حفص (مِنْ كُلٍ) بتنوين (كُلٍ) فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه ، أي من كل المخلوقات ، ويكون (زَوْجَيْنِ) مفعول (احْمِلْ) ، ويكون (اثْنَيْنِ) صفة ل (زَوْجَيْنِ) أي لا تزد على اثنين.

وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له. وزوجه أول من يبادر من اللفظ ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) [القصص : ٢٩] ، وقال : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) [آل عمران : ١٢١] أي من عند عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ.

و (مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من مضى قول الله عليه ، أي وعيده. فالتعريف في (الْقَوْلُ) للعهد ، يعني إلّا من كان من أهلك كافرا. ، وما صدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التّحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة. وكان لنوح ـ عليه‌السلام ـ امرأتان.

وعدّي (سَبَقَ) بحرف على لتضمين (سَبَقَ) معنى : حكم ، كما عدّي باللام في قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٧١] لتضمينه معنى الالتزام النافع. و (مَنْ آمَنَ) كلّ المؤمنين.

وجملة (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين. قيل : كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفا وسبعين بين رجال ونساء ، فكان معظم حمولة السفينة من الحيوان.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١))

عطف على جملة (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) [هود : ٤٠] أي قلنا له ذلك. وقال نوح ـ عليه‌السلام ـ لمن أمر بحمله (ارْكَبُوا).

وضمير (فِيها) لمفهوم من المقام ، أي السفينة كقوله : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ

٢٦٠