تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وجهان في مضارع (عزب).

و (من) في قوله : (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في (ما يَعْزُبُ).

والمثقال : اسم آلة لما يعرف به مقدار ثقل الشيء فهو وزن مفعال من ثقل ، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل.

والذرة : النملة الصغيرة ، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبار دقيق جدا ، والظاهر أن المراد في الآية الأول. وذكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن ما هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم.

والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي. والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة. وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة سبأ [٣] (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.

وعطف (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) على (ذَرَّةٍ) تصريحا بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام.

و (أَصْغَرَ) بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعا من الصرف لأنه معطوف على ذَرَّةٍ) المجرور على أنّ (لا) مقحمة لتأكيد النفي. وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون (لا) نافية للجنس و (أَصْغَرَ) اسمها مبنيا على الفتح فيكون ابتداء كلام.

وقرأ حمزة وخلف ويعقوب ولا أصغر ـ ولا أكبر برفعهما باعتبار عطف (أَصْغَرَ) على محل (مِثْقالِ) لأنه فاعل (يَعْزُبُ) في المعنى ، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال ، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون (لا) نافية عاملة عمل ليس و (أَصْغَرَ) اسمها.

والاستثناء على الوجهين الأوّلين من قراءتي نصب (أَصْغَرَ) ورفعه استثناء منقطع بمعنى (لكن) ، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب ، وجوز أن يكون استثناء متصلا من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغر منها وأكبر. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه

١٢١

في كتاب مبين ، أي إلا معلوما مكتوبا ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب ، فيكون انتفاء عزوبه حاصلا بطريق برهاني.

والمجرور على هذا كله في محل الحال ، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلا والمجرور ظرفا مستقلا في محل خبر (لا) النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب ، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].

والكتاب : علم الله ، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان. ومبين : اسم فاعل من أبان بمعنى بان ، أي واضح بيّن لا احتمال فيه.

[٦٢ ـ ٦٤] (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرّض به في قوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) [يونس : ٦١] الآية ، وبتسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد ، إذ أعلن الله للنبي والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم ، ومن الحزن من جراء ذلك ، ولمح لهم بعاقبة النصر ، ووعدهم البشرى في الآخرة وعدا لا يقبل التغيير ولا التخلف تطمينا لنفوسهم ، كما أشعر به قوله عقبه (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ).

وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه ، كما تقدم في قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) في سورة البقرة [١٢] ، ولذلك أكدت الجملة ب (إِنَ) بعد أداة التنبيه.

وفي التعبير ب (أَوْلِياءَ اللهِ) دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) [يونس : ٦١] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم.

وجملة : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) خبر (إِنَ).

والخوف : توقع حصول المكروه للمتوقّع ، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقّع حصوله. فيقال : خاف الشيء ، قال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) [آل عمران : ١٧٥]. وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقّع : خاف عليه ، كقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ

١٢٢

عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٣٥].

وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن (لا) إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس ، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصا وإذا لم يبن الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهرا مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحا لهذا الاحتمال ، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل ، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم (لا) وبناؤه على الفتح ، كما في قول إحدى نساء حديث أم زرع «زوجي كليل تهامة لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح.

فمعنى (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف ، أي هم بمأمن من أن يصيبهم مكروه يخاف من إصابة مثله ، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجسا من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة ، فغيرهم ممن يعلم حالهم لا يخاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليما من التأثر بالمظاهر ، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف ، ولذلك لا يخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجّسون منه خيفة ، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافا إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة ، أي لا خوف يخافه خائف عليهم ، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله ، كما قال تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٢٥ ، ٢٦] ، وقال لموسى : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ). وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض». ثم خرج وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥].

ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير (أَوْلِياءَ اللهِ) مع الابتداء به ، وإيراد الفعل بعده مسندا مفيدا تقوي الحكم ، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله ، والخوف يكون قبل حصوله ، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون» فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر ، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن

١٢٣

المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم ، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأن جملة : (هُمْ يَحْزَنُونَ) يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي ، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصا منه.

فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم. ولما كان ما يخاف منه من شأنه أن يحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكّدا لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا ، كقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧]. وقد علمت ما يغني عن هذا التأويل ، وهو يبعد عن مفاد قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

والولي : الموالي ، أي المحالف والناصر. وكلها ترجع إلى معنى الولي (بسكون اللام) ، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي. وتقدم في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في سورة الأنعام [١٤]. وهو قرب من الجانبين ، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة. وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا ، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض ، أو يجعل جملة : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبر (إِنَ) ويجعل اسم الموصول خبر مبتدأ محذوف حذفا جاريا على الاستعمال ، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه. وأيا ما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر :

الألمعي الذي يظن بك الظّنّ

كأن قد رأى وقد سمعا

ودل قوله : (وَكانُوا يَتَّقُونَ) على أن التقوى ملازمة لهم أخذا من صيغة (كانُوا) وأنها متجددة منهم أخذا من صيغة المضارع في قوله : (يَتَّقُونَ). وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خلت في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعا وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى : من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب».

وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). وتعريف (الْبُشْرى) تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة.

١٢٤

و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) حال من (الْبُشْرى). والمعنى : أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها : في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم ، كقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) [البقرة : ٢٥].

وروى الترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فقال : «ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» قال الترمذي : وليس فيه عطاء بن يسار أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء ، وعليه فالحديث منقطع غير متصل السند. وقد رواه الترمذي بسندين آخرين فيهما عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء وذلك سند فيه مجهول ، فحالة إسناد هذا الخبر مضطربة لظهور أن عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء.

ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة ، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) [التوبة : ٢١] الآية ونحوها من الآيات.

وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال : هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء ، وتمكينهم من السلطان في الدنيا ، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة. ومقابلة الحزن بالبشرى من محسنات الطباق.

وجملة : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله : لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، تذكيرا لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله ، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل.

والتبديل : التغيير والإبطال ، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه.

و (لِكَلِماتِ اللهِ) الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه ، ويؤخذ من عموم (لِكَلِماتِ اللهِ) وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله.

١٢٥

روي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال : إنه قد بدّل كتاب الله. وكان ابن عمر حاضرا فقال له ابن عمر : لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ).

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) مؤكدة لجملة (لَهُمُ الْبُشْرى) ومقررة لمضمونها فلذلك فصلت.

والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة ، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذكر ، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه. وذكر ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر ، أي هو الفوز العظيم لا غيره مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنعة وقوة ، لأن ذلك لا يعد فوزا إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعده العذاب الخالد في الآخرة ، كما أشار إليه قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧].

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))

الجملة معطوفة على جملة (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالا بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق. والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم. ووجه الاقتصار على دحضه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزنا إلا أذى القول البذيء.

وصيغة (لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام المشركين ، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه ، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن أن يتأثر بما شأنه أن يحزن الناس من أقوالهم ، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو

١٢٦

من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تحزنك ، وهذا كما يقولون : لا أرينّك تفعل كذا ، ولا أعرفنّك تفعل كذا ، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلا كذا. والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. والمعنى : لا تفعلن كذا فأراك تفعله. ومعنى (لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) لا تحزن لقولهم فيحزنك.

ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبي هي أقوال التكذيب والاستهزاء ، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم.

وجملة : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تعليل لدفع الحزن عنه ، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأنّ النبي يقول : كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعة ، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك. وهي أيضا في محل استئناف بياني. وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضا استئنافا بيانيا ، فالاستئناف البياني أعم من التعليل. وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها ، ولأنّه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب.

ويحسن الوقف على كلمة (قَوْلُهُمْ) لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيحسبه مقولا لقولهم فيتطلب لما ذا يكون هذا القول سببا لحزن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكيف يحزن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولهم : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) وإن كان في المقام ما يهدي السّامع سريعا إلى المقصود.

ونظير هذا الإيهام ما حكي أنّ ابن قتيبة (وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة) ذكر قراءة أبي حيوة (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) ـ بفتح همزة (أن) ـ وأعرب بدلا من (قولهم) فحكم أنّ هذه القراءة كفر. حكى ذلك عنه ابن عطيّة. وأشار إلى ذلك في «الكشاف» فقال : «ومن جعله بدلا من (قولهم) ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه».

ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملا لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل (قَوْلُهُمْ) لأن شأن (إن) بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعيّن لأنّه يحتمل أيضا أن تكون الجملة استئنافا ، والسياق يعيّن الاحتمال الصحيح.

١٢٧

فأمّا إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حيوة فقد تعيّنت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ (قَوْلُهُمْ) ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك. منها بدل من كلمة (قَوْلُهُمْ) ، فيصير المعنى : أنّ الله نهى نبيئه عن أن يحزن من قول المشركين (الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) وكيف وهو إنّما يدعوهم لذلك. وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهي عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالحزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم ، ومقصده التّشنيع على صاحب هذه القراءة.

وإنّما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل (أنّ) لعلّه راعى أنّ التقدير خلاف الأصل أو أنّه غير كاف في دفع الإيهام. فالوجه أنّ ابن قتيبة هوّل ما له تأويل ، ورد العلماء عليه رد أصيل.

والتّعريف في (الْعِزَّةَ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السّياق.

واللام في قوله : (لِلَّهِ) للملك. وقد أفاد جعل جنس العزة ملكا لله أنّ جميع أنواعها ثابت لله ، فيفيد أنّ له أقوى أنواعها وأقصاها. وبذلك يفيد أنّ غير الله لا يملك منها إلّا أنواعا قليلة ، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في ملك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى. فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى ، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله ، فكل عزّة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة ، كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وإذ قد كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعلم أنّ الله أرسله وأمره بزجر المشركين عمّا هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده ، ويعلم أنّ ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم.

و (جَمِيعاً) حال من (الْعِزَّةَ) موكّدة مضمون الجملة قبلها المفيد لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزّة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس.

وجملة : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركنا في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلا آخر أو تكملة للتعليل الأوّل ، لأنه إذا تذكر المخاطب أنّ صاحب العزّة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحزن من أقوالهم عن نفسه لأنّ الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم. فهو إذا نهاك عن الحزن من

١٢٨

أقوالهم ما نهاك إلا وقد ضمن لك السّلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدّك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم.

والمراد ب (السَّمِيعُ) العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع ، وب (الْعَلِيمُ) ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم (السّميع).

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦))

المقصود بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأييسهم من كل احتمال لانتصارهم على النّبيء ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمسلمين ، فإن كثيرا منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السّابقة من قولهم : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) [يونس : ٦١] إلى هنا من التصريح بهوان ، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأنّ ما توعّدهم به حق ، ثمّ يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنّه إن تحقّق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم : لمثل هذا عبدناهم ، وللشّفاعة عند الله أعددناهم ، فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنّهم دون ما يظن بهم.

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ومناسبة وقوعها عقب جملة (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) [يونس : ٦٥] أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة. وأما وقوعها عقب جملة (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] فلأنها حجّة على أنّ العزّة لله لأنّ الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزّة الحق.

وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهميّة العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد ، وزيد ذلك تأكيدا بتقديم الخبر في قوله : (لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) وباجتلاب لام الملك.

و (مَنْ) الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأوّل إثبات أنّ آلهتهم ملك لله تعالى ، وهي جمادات غير عاقلة ، تغليبا ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجّة عليه حتّى على لازم اعتقاده. والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكا لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف

١٢٩

فإن من العرب من عبد الملائكة ، ومنهم من عبدوا المسيح ، وهم نصارى العرب.

وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل : ألا إنّ لله جميع الموجودات.

وجملة : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) إلخ معطوفة على جملة : لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ). وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله ، واتّباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل.

و (ما) نافية لا محالة ، بقرينة تأكيدها ب (إن) النّافية ، وإيراد الاستثناء بعدهما. و (شُرَكاءَ) مفعول (يَدْعُونَ) الذي هو صلة (الَّذِينَ).

وجملة : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) توكيد لفظي لجملة (ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض.

و (الظَّنَ) مفعول لكلا فعلي (يَتَّبِعُ) ، و (يَتَّبِعُونَ) فإنهما كفعل واحد. وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملا لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير : وما يتبع المشركون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون.

والظنّ : هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين ، أي شأنهم اتباع الظنون. والمراد بالظن هنا العلم المخطئ.

وقد بينت الجملة التي بعدها أنّ ظنهم لا دليل عليه بقوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

والخرص : القول بالحزر والتخمين. وتقدّم نظير هذه الآية في سورة الأنعام [١١٦] وهو قوله : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

جملة معترضة بين جملة : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [يونس : ٦٦] وجملة : (قالُوا اتَّخَذَ

١٣٠

اللهُ وَلَداً) [يونس : ٦٨] جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخرصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهد في كل يوم من العمر مرّتين وهم في غفلة عن دلالته ، وهو خلق نظام النهار والليل.

وكيف كان النهار وقتا ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول ، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل.

وكيف كان الليل وقتا تغشاه الظلمة فكان مناسبا للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار. فكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفطن والغافل.

ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار ، والليل والنهار ضدّان دلّ ذلك على أنّ علة السكون عدم الإبصار ، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك.

ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتّى جعل النّهار هو المبصر. والمراد : مبصرا فيه الناس.

ومن لطائف المناسبة أنّ النّور الذي هو كيفية زمن النّهار ، شيء وجودي ، فكان زمانه حقيقا بأن يوصف بأوصاف العقلاء ، بخلاف الليل فإن ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه.

وفي قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه. وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافيا كما توهّمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين ، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال ، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير ، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الإلهية ، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام. وهذا الامتنان مستفاد من قوله : (جَعَلَ لَكُمُ) ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه ، وخلق النهار بعلة إبصار الناس ، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك ، فإن في العمل بالنهار نعما جمّة من تحصيل رغبات ، ومشاهدة محبوبات ، وتحصيل أموال وأقوات ، وأن في السكون باللّيل نعما جمّة من

١٣١

استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد ، على أن في اختلاف الأحوال ، ما يدفع عن المرء الملال.

وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما : وصمة مخالفة الحق ، ووصمة كفران النعمة.

وجملة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) مستأنفة. والآيات : الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية ، فإن النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع.

فمن تلك الآيات : خلق الشمس ، وخلق الأرض ، وخلق النور في الشمس ، وخلق الظلمة في الأرض ، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض ، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجها للشعاع ونصفها الآخر محجوبا عن الشعاع ، وخلق الإنسان ؛ وجعل نظام مزاجه العصبي متأثرا بالشعاع نشاطا ، وبالظلمة فتورا ، وخلق حاسة البصر ، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء ؛ وجعل نظام العمل مرتبطا بحاسة البصر ؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشتملا على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعا إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي ، ثم فاقدا بالعمل نصيبا من قواه محتاجا إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة. وأيّة آيات أعظم من هذه ، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع الله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه.

ووصف (لِقَوْمٍ) بأنهم (يَسْمَعُونَ) إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها ، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها ، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها وتفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون.

ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن ، وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم ، كقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) [الزخرف : ٤٠].

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

١٣٢

الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨))

بيان لجملة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٦٦] إلى آخرها ، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله ، لأن هذا كفر خفي من دينهم ، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء.

فضمير (قالُوا) عائد إلى (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) [يونس : ٦٦] أي قال المشركون (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). وليس المراد من الضمير غيرهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب ، ذلك أن كثيرا منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة ، وهم بناته من سروات نساء الجن ، ولذلك عبدت فرق من العرب الجن قال تعالى : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول (لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١].

والاتخاذ : جعل شيء لفائدة الجاعل ، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه. وقد تقدم في قوله تعالى : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) في سورة الأنعام [٧٤] ، وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) في الأعراف [١٤٦] ، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به ، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به. وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم من يعتقد تولد الولد عن الله تعالى ، ومنهم من يعتقد أن الله تبنّى بعض مخلوقاته.

والولد : اسم مصوغ على وزن فعل مثل عمد وعرب. وهو مأخوذ من الولادة ، أي النتاج. يقال : ولدت المرأة والناقة ، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفرح. ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر. يقال : هؤلاء ولد فلان. وفي الحديث «أنا سيد ولد آدم» والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) [النحل : ٥٧].

وجملة : (سُبْحانَهُ) إنشاء تنزيه للرد عليهم ، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها. وهو اسم مصدر ل (سبّح) إذا نزّه ، نائب عن الفعل ، أي نسبحه. وتقدم عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) في سورة البقرة [٣٢] ، أي تنزيها لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى ، ولذلك بينت جملة التنزيه بجملة : (هُوَ

١٣٣

الْغَنِيُ) بيانا لوجه التنزيه ، أي هو الغني عن اتخاذ الولد ، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مكمل نقص في الذات أو الأفعال ، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصد التوليد وكونها نقصا غير خفي ، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد ، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خلف بعد الممات. وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال.

والغنيّ : الموصوف بالغنى ، فعيل للمبالغة في فعل (غني) عن كذا إذا كان غير محتاج ، وغنى الله هو الغنى المطلق ، وفسر في أصول الدين الغنى المطلق بأنه عدم الافتقار إلى المخصّص وإلى المحل ، فالمخصص هو الذي يعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضا عن الأخرى ، فبذلك ثبت للإله الوجود الواجب ، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه ، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد ، فلا جرم أن كان الغنيّ منزّها عن الولد من جهة الانفصال ، ثم هو أيضا لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولدا له بالتبني لأجل كونه غنيا عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلف ، قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] وقال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : ١٠١].

وجملة : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه ، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله ، فلا يحتاج إلى إعانة ولد ، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعا له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم. وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفا (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [يونس : ٦٦] ودل قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) على أن صفة العبودية تنافي صفة البنوة وذلك مثل قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦].

ويؤخذ من هذا أن الولد لا يسترقّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عليا.

وجملة : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) جواب ثان لقولهم : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فلذلك

١٣٤

فصلت كما فصلت جملة (سُبْحانَهُ) ، فبعد أن استدل على إبطال قولهم ، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك.

و (إِنْ) حرف نفي. و (مِنْ) مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق ، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويّها وضعيفها ، عقليّها وشرعيّها.

و (عند) هنا مستعملة مجازا. شبّه وجود الحجة للمحتج بالكون في مكانه ، والمعنى : لا حجّة لكم.

و (سُلْطانٍ) محله رفع بالابتداء ، وخبره (عِنْدَكُمْ) واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة.

والسلطان : البرهان والحجة ، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله. وقد تقدم عند قوله تعالى : (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) في سورة الأعراف [٧١].

والباء للملابسة ، وهي في موضع صفة ل (سُلْطانٍ) ، أي سلطان ملابس لهذا.

والإشارة إلى المقول.

والمعنى : لا حجة لكم تصاحب مقولكم بأن الله اتخذ ولدا.

وجملة : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جواب ثالث ناشئ عن الجوابين لأنهم لما أبطل قولهم بالحجة. ونفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون ، أي بما لا يوقنون به ، ولكونها جوابا فصلت. فالاستفهام مستعمل في التوبيخ ، لأن المذكور بعده شيء ذميم ، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب.

[٦٩ ، ٧٠] (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

استئناف افتتح بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الأمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه ، وذلك أن المقول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، على مقالتهم تلك ، وعلى أمثالها كقولهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] وقولهم : ما كان لآلهتهم من الحرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم ، وقولهم : (لَنْ

١٣٥

ُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] وأمثال ذلك. فذلك كله افتراء على الله ، لأنهم يقولونه على أنه دين ، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه ، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يتفرى على الله ما لم يقله ، فالمقول لهم ابتداء هم المشركون.

والفلاح : حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء. وتقدم في طالع سورة البقرة [٥]. فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) استئناف بياني ، لأن القضاء عليه بعدم الفلاح يتوجه عليه أن يسأل سائل كيف نراهم في عزة وقدرة على أذى المسلمين وصد الناس عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجاب السائل بأن ذلك تمتيع في الدنيا لا يعبأ به ، وإنما عدم الفلاح مظهره الآخرة ، ف (مَتاعٌ) خبر مبتدأ محذوف يعلم من الجملة السابقة ، أي أمرهم متاع.

والمتاع : المنفعة القليلة في الدنيا إذ يقيمون بكذبهم سيادتهم وعزتهم بين قومهم ثم يزول ذلك.

ومادة (متاع) مؤذنة بأنه غير دائم كما تقدم في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في أوائل سورة الأعراف [٢٤].

وتنكيره مؤذن بتقليله ، وتقييده بأنه في الدنيا مؤكد للزوال وللتقليل ، و (ثم) من قوله: (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) للتراخي الرتبي لأن مضمونه هو محقة أنهم لا يفلحون فهو أهم مرتبة من مضمون لا يفلحون.

والمرجع : مصدر ميمي بمعنى الرجوع. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى وقت نفاذ حكمه المباشر فيهم.

وتقديم (إِلَيْنا) على متعلّقه وهو المرجع للاهتمام بالتذكير به واستحضاره كقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) ـ إلى قوله ـ (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩] ويجوز أن يكون المرجع كناية عن الموت.

وجملة : (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) بيان لجملة : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ). وحرف (ثم) هذا مؤكد لنظيره الذي في الجملة المبينة على أن المراد بالمرجع الحصول في نفاذ حكم الله.

١٣٦

والجمل الأربع هي من المقول المأمور به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغا عن الله تعالى.

وإذاقة العذاب إيصاله إلى الإحساس ، أطلق عليه الإذاقة لتشبيهه بإحساس الذوق في التمكن من أقوى أعضاء الجسم حاسية لمس وهو اللسان.

والباء في (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) للتعليل.

وقوله : (كانُوا يَكْفُرُونَ) يؤذن بتكرر ذلك منهم وتجدده بأنواع الكفر.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١))

انتقال من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ؛ فإن نوحا ـ عليه‌السلام ـ مع قومه مثل لحال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلا ثم يؤخذون أخذة رابية ، كما منع قوم نوح زمنا طويلا ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عظة للمشركين وملقيا بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ عقبها كما ينبئ عن ذلك قوله في نهاية هذه القصص (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] الآيات. وقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس : ٩٤] الآيات.

وبهذا يظهر حسن موقع (إذ) من قوله : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ) إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : (لِقَوْمِهِ) إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءهم زمنا طويلا فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وكان هو

١٣٧

الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق.

و (إِذْ) اسم للزمن الماضي. وهو هنا بدل اشتمال من (نَبَأَ) أو من (نُوحٍ). وفي ذكر قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [يونس : ١٣].

وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى (الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)[يونس : ٦٩].

والتلاوة : القراءة. وتقدمت في سورة الأنفال.

والنبأ : الخبر. وتقدم في قوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤].

والتعريف بنوح ـ عليه‌السلام ـ وتاريخه مضى في أول آل عمران.

وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤].

وظرف (إِذْ) وما أضيف إليه في موضع الحال من (نَبَأَ نُوحٍ).

وافتتاح خطاب نوح قومه ب (يا قَوْمِ) إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم ، لأن النداء طلب الإقبال. ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازا في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله.

واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخير لهم ، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيرا. وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم.

ومعنى : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) شق عليكم وأحرجكم.

والكبر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبر لكون

١٣٨

وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحا كقوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] ، ويكون ذما كقوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥] ، ويستعار الكبر للمشقة والحرج ، كقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] وقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) [الأنعام : ٣٥] وكذلك هنا.

والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام. وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، وقوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) [مريم : ٧٣] أي خير حالة وشأنا. وهو استعمال من قبيل الكناية ، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله.

وخص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ، لأن ذلك من أهم شئونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام. فمعنى : (كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي) سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله.

وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعا مرّ المذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم. وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله.

والباء في (بِآياتِ اللهِ) لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم.

و (بِآياتِ اللهِ) مفعول ثان للتذكير. يقال : ذكرته أمرا نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] ، وقول مسور بن زيادة الحارثي :

أذكّر بالبقيا على من أصابني

وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

ولذلك قالوا في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله.

وآيات الله : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا

١٣٩

تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يبرمهم ويحرجهم.

وجملة : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) جواب شرط (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعة وهو في قلة وضعف ، لا يصده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيدا فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله. ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي لا على غيره.

والتوكل : التعويل على من يدبر أمره. وقد مر عند قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

والفاء في (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) للتفريع على جملة (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لو لا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناوأتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبر عليكم مقامي إلخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) [هود : ٥٥ ، ٥٦].

وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فعله وفعل ضده. وهو مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ، لأن المتردد في ما ذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جمع ما كان متفرقا. فالهمزة فيه للجعل ، أي جعل أمره جمعا بعد أن كان متفرقا.

ويقولون : جاءوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف.

والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله.

و (شُرَكاءَكُمْ) منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه. والواو بمعنى (مع) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم.

وقرأ يعقوب (وَشُرَكاؤُكُمْ) مرفوعا عطفا على ضمير (فَأَجْمِعُوا) ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول. والمعنى : وليجمع شركاؤكم أمرهم.

وصيغة الأمر في قوله : (فَأَجْمِعُوا) مستعملة في التسوية ، أي أن عزمهم لا يضيره

١٤٠