تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته. وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشا من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) [الأعراف : ١٩٥].

وعطف جملة : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) ب (ثُمَ) الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم. وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباسا عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك.

والغمة : اسم مصدر للغم. وهو الستر. والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل :

لعمرك ما أمري علي بغمة

نهاري ولا ليلي علي بسرمد

وإظهار لفظ الأمر في قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مع أنه عين الذي في قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه.

و (ثم) في قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزعمون عليه من أذاه أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف ب (ثم) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل.

و (اقْضُوا) أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي. ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم.

وعدي ب (إلى) دون (على) لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصا على معنى التنفيذ بالفعل ، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ. ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي.

وقوله : (وَلا تُنْظِرُونِ) تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف (إلى). والإنظار

١٤١

التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من (تُنْظِرُونِ) للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢))

الفاء لتفريع الكلام على الكلام فجملة الشرط وجوابه مفرعتان على الجملتين السابقتين ، ولما كان توليهم عن دعوته قد وقع واستمر تعين أن جعل التولي في جملة الشرط مراد به ما كان حصل ليرتب عليه جواب الشرط الذي هو شيء قد وقع أيضا. وإنما قصد إقرارهم به قطعا لتعللاتهم واستقصاء لقطع معاذيرهم. والمعنى : فإن كنتم قد توليتم فقد علمتم أني ما سألتكم أجرا فتتهموني برغبة في نفع ينجر لي من دعوتكم حتى تعرضوا عنها شحّا بأموالكم أو اتهاما بتكذيبي ، وهذا إلزام لهم بأن توليهم لم يكن فيه احتمال تهمتهم إياه بتطلب نفع لنفسه. وبذلك برّأ نفسه من أن يكون سببا لتولّيهم ، وبهذا تعين أن المعلق بهذا الشرط هو التحقق بين مضمون جملة الشرط وجملة الجزاء لا وقوع جملة الجزاء عند وقوع جملة الشرط. وذلك مثل قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) في آخر سورة العقود [١١٦]. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) في سورة الأعراف [٨٧].

وجملة : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) تعميم لنفي تطلبه أجرا على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم ، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة : (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) مع زيادة التعميم. وطريق جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه.

وأتى بحرف (على) المفيد لكونه حقا له عند الله بناء على وعد الله إيّاه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده ، فصار بالوعد حقا على الله التزم الله به.

والأجر : العوض الذي يعطى لأجل عمل يعمله آخذ العوض.

وجملة : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) معطوفة على جملة الجواب ، والتقدير فإن توليتم فأمرت أن أكون من المسلمين ، أي أمرني الله أن أتبع الدين الحق ولو كنت وحدي. وهذا تأييس لهم بأن إجماعهم على التولي عنه لا يفل حده ولا يصده عن مخالفة دينهم الضلال.

١٤٢

وبني فعل (أُمِرْتُ) للمجهول في اللفظ للعلم به ، إذ من المعلوم من سياق الكلام أنّ الذي أمره هو الله تعالى.

وقوله : (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من الفئة التي يصدق عليها هذا الوصف وهو الإسلام ، أي توحيد الله دون عبادة شريك ، لأنه مشتق من إسلام العبادة وتخليصها لله تعالى دون غيره. كما في قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠].

وقد سمي التوحيد ودين الحق الخالص إسلاما في مختلف العصور وسمّى الله به سنن الرسل فحكاه عن نوح ـ عليه‌السلام ـ هنا وعن إبراهيم بقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ، وعن إسماعيل (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ، ويعقوب وبنيه إذ حكى عنهم (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣] ، وعن يوسف (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [يوسف : ١٠١] ، وعن موسى (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨] ، وعن سليمان أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١] ، وعن عيسى والحواريين (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١]. وقد تقدم بيان ذلك مفصلا عند قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) في سورة البقرة [١٢٨].

وقوله : (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أقوى في الدلالة على الاتصاف بالإسلام من : أن أكون مسلما ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) في سورة البقرة [٤٣] ، وعند قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في سورة براءة [١١٩].

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

الفاء للتفريع الذكري ، أي تفريع ذكر هذه الجمل على ذكر الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة ، كقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٧٢] ، وإلا فإن تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) [يونس : ٧١] إلخ ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته.

ولك أن تجعل معنى فعل (فَكَذَّبُوهُ) الاستمرار على تكذيبه مثل فعل (آمَنُوا) في

١٤٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] ، فتكون الفاء لتفريع حصول ما بعدها على حصول ما قبلها.

وأما الفاء التي في جملة : (فَنَجَّيْناهُ) فهي للترتيب والتعقيب ، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح ـ عليه‌السلام ـ ومن اتبعه. وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمنا بقوله : إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) [يونس : ٧١] الآية ، فكان كرد العجز على الصدر. ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم ، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له ، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلة نوح الأخيرة قومه المنتهية بقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٧٢] فكان تفننا بديعا في النظم مع إيجاز بهيج.

وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه ، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة.

والفلك : السفينة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) في سورة البقرة [١٦٤].

والخلائف : جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠]. وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة.

وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق ، وأنه التكذيب بآيات الله إنذارا للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) ، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار.

والنظر : هنا نظر عين ، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد.

والخطاب ب (فَانْظُرْ) يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخصّ بالخطاب تعظيما لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه‌السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به.

١٤٤

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

(ثُمَ) للتراخي الرتبي ، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تلقوهم بمثل ما تلقّى به نوحا قومه أعجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر. وليست (ثم) لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله : (مِنْ بَعْدِهِ).

وقد أبهم الرسل في هذه الآية. ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم : هود وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب. وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤] ، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) [يونس : ٧٥]. وفي الآية إشارة إلى أن نوحا أول الرسل.

والبينات : هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق. والفاء للتعقيب ، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم. والباء للملابسة ، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات.

وقد قوبل جمع الرسل بجمع (البينات) فكان صادقا ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين ، فقد يكون لكل نبيء من الأنبياء آيات كثيرة ، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة.

والفاء في قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) للتفريع ، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا.

وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء. حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به ، أي لم يتزحزحوا عنه. ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة.

ودل قوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أن هنالك تكذيبا بادروا به لرسلهم ، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل ، لأن التكذيب إنما يكون لخبر مخبر فقوله : فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاءوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة. وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما

١٤٥

من شأنه أن يقلعه كان تكذيبا واحدا منسيا. وهذا من بلاغة معاني القرآن.

وبذلك يظهر وقع قوله عقبه (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان ، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.

وقد جعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلا لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به.

والطبع : الختم. وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم. وتقدم في قوله تعالى : خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

والاعتداء : افتعال من عدا عليه ، إذا ظلمه ، فالمعتدين مرادف الظالمين ، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء فإنهم كذبوا الرسول فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة الأعراف [١٠١] (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)(١) فهذا التّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))

(ثُمَ) للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل ، وخصّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت انقلابا عظيما وتطورا جديدا في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليّة والتشريعيّة فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلّة ، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة ، وتهذيب النفوس ، وإبطال ما عظم من مفاسد في المعاملات ، ولم تكن شرائع شاملة لجميع ما يحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.

فأمّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمّة ، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها ، وتكوين وطن مستقل لها ، وتأسيس قواعد استقلالها ، وتأسيس جامعة كاملة لها ، ووضع نظام سياسة الأمّة ، ووضع ساسة يدبرون شئونها ، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من

__________________

(١) في المطبوعة (كذلك نطبع على قلوب الكافرين) وهو خطأ.

١٤٦

الأمم ، ويمكّنها من اقتحام أوطان أمم أخرى ، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها ، فبعثة موسى كانت أوّل مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم ، وهو مع تفوّقه على جميع ما تقدّمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطّلع على حقائق الأمور ، المريد إقرار الصّالح وإزالة الفاسد.

وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إنّ الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيّدا ومعربا عن مقاصد موسى فكان بذلك مأمورا من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة ، وقد بينته سورة القصص ، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فبعث معينا له وناصرا ، لأنّ تلك الرّسالة كانت أوّل رسالة يصحبها تكوين أمة.

وفرعون ملك مصر ، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) في سورة الأعراف [١٠٣] ، وعلى صفة إرسال موسى إلى فرعون وملئه ، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط. والمراد بالملإ خاصّة الناس وسادتهم وذلك أنّ موسى بعث إلى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل.

والسّين والتّاء في (فَاسْتَكْبَرُوا) للمبالغة في التكبّر ، والمراد أنّهم تكبّروا عن تلقي الدعوة من موسى ، لأنّهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولا من الله وهو من قوم مستعبدين استعبدهم فرعون وقومه ، وهذا وجه اختيار التّعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧]. وتفريع (فَاسْتَكْبَرُوا) على جملة (بَعَثْنا) يدلّ على أنّ كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبار.

وجملة : (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) في موضع الحال ، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم.

والإجرام : فعل الجرم ، وهو الجناية والذّنب العظيم. وقد تقدم عند قوله تعالى : وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأعراف [٤٠].

وقد كان الفراعنة طغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور ، وكانوا يستعبدون الغرباء ، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم

١٤٧

قرونا فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم ، كما حكى الله عنهم (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص : ٤] ، وكان القبط يعتقدون أوهاما ضالة وخرافات ، فلذلك قال الله تعالى : (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) ، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرّشاد ، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) [طه : ٦٣] فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى.

وعبر ب (قَوْماً مُجْرِمِينَ) دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة.

[٧٦ ، ٧٧] (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧))

أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات ، وعلموا أن موسى صادق فيما ادّعاه ، تدرجوا من مجرّد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية.

والحقّ : يطلق اسما على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح ، ويطلق وصفا على الثابت الذي لا ريبة فيه ، كما يقال : أنت الصديق الحق. ويلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به. والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازا لهم لقوله قبله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا) [الأعراف : ١٠٣] فكان جعل الحق جائيا بتلك الآيات صالحا لمعنيي الحقّ ، لأنّ تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقا فمجيئها حصولها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائيا معها ، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] وبهذا يظهر أن لكلمة (الْحَقُ) هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد ، ولكلمة مِنْ عِنْدِنا) ما ليس لغيرهما في الإيجاز ، وهذا من حدّ الإعجاز.

وبهذا تبين أنّ الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأنّ المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق.

واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي

١٤٨

قهرته الحجة وبهره سلطان الحقّ ، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محكّ النقد.

«ولا بدّ للمغلوب من بارد العذر»

وإذ قد اشتهر بين الدّهماء من ذوي الأوهام أنّ السحر يظهر الشيء في صورة ضدّه ، ادّعى هؤلاء أنّ ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحقّ بتخييل السحر.

ومعنى ادّعاء الحقّ سحرا أنّ دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات ، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين ، وقد حملهم استشعارهم وهن معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبّت صاحبه فأكّدوا الكلام بما دلّ عليه حرف التوكيد ولام الابتداء (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ) ، وزادوا ذلك ترويجا بأن وصفوا السّحر بكونه مبينا ، أي شديد الوضوح. والمبين اسم فاعل من أبان القاصر ، مرادف بان : ظهر.

والإشارة بقوله : (إِنَّ هذا) إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية ، وخروج اليد بيضاء ، أي أنّ هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين.

وجملة : (قالَ مُوسى) مجاوبة منه عن كلامهم ففصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] ، ونظائره الكثيرة. تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة ، ولأن المعجزات ظهرت على يديه.

واستفهام (أَتَقُولُونَ) إنكاري. واللام في (لِلْحَقِ) لام التعليل. وبعضهم يسميها لام البيان. وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى (عن).

وجملة : (أَسِحْرٌ هذا) مستأنفة للتوبيخ والإنكار ، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر. والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم ، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء. ولذلك كان مفعول أَتَقُولُونَ) محذوفا لدلالة الكلام عليه وهو (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) فالتقدير : أتقولون هذا القول للحق لمّا جاءكم. وقريب منه قوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ

١٤٩

وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) [آل عمران : ١٨٣] وقوله : (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) [النساء : ٨١].

ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحرا ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرا لهم ، لأنهم كانوا ينوّهون بشأن السحر. فجملة : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) معطوفة على جملة : (أَسِحْرٌ هذا).

فالمعنى : هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح ، أي لو كان ساحرا لما شنع حال الساحرين ، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

الكلام على جملة : (قالُوا أَجِئْتَنا) مثل الكلام على جملة : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ) [يونس : ٧٧].

والاستفهام في (أَجِئْتَنا) إنكاري ، بنوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به ، وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى. وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة ، ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما.

و (لِتَلْفِتَنا) مضارع لفت من باب ضرب متعديا : إذا صرف وجهه عن النظر إلى شيء مقابل لوجهه. والفعل القاصر منه ليس إلا لا لمطاوعة. يقال : التفت. وهو هنا مستعمل مجازا في التحويل عن العمل أو الاعتقاد إلى غيره تحويلا لا يبقى بعده نظر إلى ما كان ينظره ، فأصله استعارة تمثيلية ثم غلبت حتى صارت مساوية الحقيقة.

وقد جمعت صلة (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) كل الأحوال التي كان آباؤهم متلبسين بها. واختير التعبير ب (وَجَدْنا) لما فيه من الإشارة إلى أنهم نشئوا عليها وعقلوها ، وذلك مما يكسبهم تعلقا بها ، وأنها كانت أحوال آبائهم وذلك مما يزيدهم تعلقا بها تبعا لمحبة آبائهم لأن محبة الشيء تقتضي محبة أحواله وملابساته.

وفي ذلك إشارة إلى أنها عندهم صواب وحق لأنهم قد اقتدوا بآبائهم كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣]. وقال عن قوم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

١٥٠

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء : ٥٣ ، ٥٤] ، وقد جاءهم موسى لقصد لفتهم عما وجدوا عليه آباءهم فكان ذلك محل الإنكار عندهم لأن تغيير ذلك يحسبونه إفسادا (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٧]. والإتيان بحرف (على) للدلالة على تمكن آبائهم من تلك الأحوال وملازمتهم لها.

وعطف (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) على الفعل المعلّل به ، والمعطوف هو العلة في المعنى لأنهم أرادوا أنهم تفطنوا لغرض موسى وهارون في مجيئهما إليهم بما جاءوا به ، أي أنهما يحاولان نفعا لأنفسهما لا صلاحا للمدعوين ، وذلك النفع هو الاستحواذ على سيادة مصر بالحيلة.

والكبرياء : العظمة وإظهار التفوق على الناس.

والأرض : هي المعهودة بينهم ، وهي أرض مصر ، كقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) [الأعراف : ١١٠]. ولما كانوا ظنوا تطلبهما للسيادة أتوا في خطاب موسى بضمير المثنى المخاطب لأن هارون كان حاضرا فالتفتوا عن خطاب الواحد إلى خطاب الاثنين. وإنّما شرّكوا هارون في هذا الظن من حيث إنه جاء مع موسى ولم يباشر الدعوة فظنوا أنه جاء معه لينال من سيادة أخيه حظا لنفسه.

وجملة : (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) عطف على جملة : (أَجِئْتَنا). وهي في قوة النتيجة لتلك الجملة بما معها من العلة ، أي لما تبين مقصدكما فما نحن لكما بمؤمنين. وتقديم (لَكُمَا) على متعلّقه لأن المخاطبين هما الأهم من جملة النفي لأن انتفاء إيمانهم في زعمهم كان لأجل موسى وهارون إذ توهموهما متطلبي نفع لأنفسهما. فالمراد من ضمير التثنية ذاتاهما باعتبار ما انطويا عليه من قصد إبطال دين آباء القبط والاستيلاء على سيادة بلادهم.

وصيغت جملة : (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) اسمية دون أن يقولوا وما نؤمن لكما لإفادة الثبات والدوام وأن انتفاء إيمانهم بهما متقرر متمكن لا طماعية لأحد في ضده.

[٧٩ ـ ٨٢] (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

١٥١

جملة : (وَقالَ فِرْعَوْنُ) عطف على جملة : (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] ، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف (لما) حكي أولا ما تلقّى به فرعون وملؤه دعوة موسى ومعجزته من منع أن يكون ما جاء به تأييدا من عند الله. ثم حكي ثانيا ما تلقى به فرعون خاصة تلك الدعوة من محاولة تأييد قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تحصيل أسبابه من خصائص فرعون ، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه.

والمخاطب بقوله : (ائْتُونِي) هم ملأ فرعون وخاصته الذين بيدهم تنفيذ أمره.

وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه ، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه ، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظهره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجا لدعوة موسى بين دهماء الأمة.

والعموم في قوله : (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) عموم عرفي ، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به ، أو أريد (بِكُلِ) معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) في سورة البقرة [٤٥].

وجملة : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) عطف على جملة : (وَقالَ فِرْعَوْنُ) ، عطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة : (قالَ فِرْعَوْنُ) بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمثل الشيء المأمور به ، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقب قوله : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ) هو إتيانهم بهم ، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجل حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله : (جاءَ السَّحَرَةُ) على طريقة الإيجاز. والتقدير : فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى. والتعريف في (السَّحَرَةُ) تعريف العهد الذكري.

وإنما أمرهم موسى بأن يبتدءوا بإلقاء سحرهم إظهارا لقوة حجة لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه ، ولا سيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب ، والتي يتطلّب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم ، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خيّروا موسى بين أن يبتدئ هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدءوا ، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين.

١٥٢

وفعل الأمر في قوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) مستعمل في التسوية المراد منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين.

والإلقاء : رمي شيء في اليد إلى الأرض. وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض. وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم ، وأنها يخيّل من سحرهم أنها تسعى ، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حيا.

و (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) قصد به التعميم البدلي ، أيّ شيء تلقونه ، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم ، وتهيئة للملإ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله.

ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية ، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الإيجي في كتابه «المواقف».

وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية ، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة ، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى ـ عليه‌السلام ـ من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه ، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء ، ليكونوا مثلا للمكذبين بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى ـ عليه‌السلام ـ حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده ، وبأن العاقبة للحق. وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ولأجل هذا لم يذكر مفعول (أَلْقُوا) لتنزيل فعل (أَلْقُوا) منزلة اللازم ، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله.

ومعنى (جِئْتُمْ بِهِ) أظهرتموه لنا ، فالمجيء قد استعمل مجازا في الإظهار ، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه ، فالملازمة عرفية. وليس المراد أنهم جاءوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر ، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلّهم قد أقبلوا من مدن عديدة ، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو : جاء بكذا ، فإنه وإن استقام في نحو (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف : ١٨] لا يستقيم في نحو إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) [النور : ١١].

١٥٣

ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجعل (ما جِئْتُمْ) مسندا إليه دون أن يجعل مفعولا لفعل (سَيُبْطِلُهُ) ، وبجعله اسما مبهما ، ثم تفسيره بجملة (جِئْتُمْ بِهِ) ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر ، وهو جملة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ثم مجيء ضمير السحر مفعولا لفعل (سَيُبْطِلُهُ) ، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر ، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكّن في أذهان السامعين فضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم.

وقوله : (السِّحْرُ) قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة (ال) ، فتكون (ما) في قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ) اسم موصول ، والسحر عطف بيان لاسم الموصول. وقرأه أبو عمرو ، وأبو جعفر ألسحر بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية ، فتكون (ما) في قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ) استفهامية ويكون (آلسحرَ) استفهاما مبينا ل (ما) الاستفهامية. وهو مستعم في التحقير. والمعنى : أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون.

و (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) خبر (ما) الموصولة على قراءة الجمهور ، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب (إن) زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم.

وإبطاله : إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة ، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه ، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره ، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله ، وقد حصل ذلك العلم لموسى ـ عليه‌السلام ـ بطريق الوحي الخاص في تلك القضية ، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية ، وهي مدلول (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ).

فجملة : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) معترضة ، وهي تعليل لمضمون جملة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح. وتعريف (الْمُفْسِدِينَ) بلام الجنس ، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين ، وإضافة (عَمَلَ) إلى (الْمُفْسِدِينَ) يؤذن بأنه عمل فاسد ، لأنه فعل من شأنهم الإفساد فيكون نسجا على منوالهم وسيرة على معتادهم ، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده. وليس المراد نفي تصييره صالحا ، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحا حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله ، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح ، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنها ، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.

ولما قدم قوله : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) علم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب

١٥٤

بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره ، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٨] أي يظهر بطلانه.

وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا آلة فيما تأمرهم السحرة ، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلا. أما السحرة الذين خاطبهم موسى ـ عليه‌السلام ـ فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات.

وجملة : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) معطوفة على جملة : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي سيبطله ويحق الحق ، أي يثبت المعجزة.

والإحقاق : التثبيت. ومنه سمّي الحق حقا لأنه الثابت.

وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لقصد تربية المهابة في نفوسهم. والباء في (بِكَلِماتِهِ) للسببية.

والكلمات : مستعارة لتعلق قدرته تعالى بالإيجاد وهو التعلق المعبر عنه بالتكوين الجاري على وفق إرادته وعلى وفق علمه. وهي استعارة رشيقة ، لأن ذلك التعلق يشبه الكلام في أنه ينشأ عنه إدراك معنى ويدل على إرادة المتكلم ، وعلى علمه.

وجملة : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) في موضع الحال ، و (لو) وصلية ، وهي تقتضي أن الحالة التي بعدها غاية فيما يظن فيه تخلف حكم ما قبلها ، كما تقدم عند قوله تعالى :وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١] ، فيكون غير ذلك من الأحوال أجدر وأولى بتحقيق الحكم السابق معه. وإنما كانت كراهية المجرمين إحقاق الحق غاية لما يظن فيه تخلف الإحقاق لأن تلك الكراهية من شأنها أن تبعثهم على معارضة الحق الذي يسوءهم ومحاولة دحضه وهم جماعة أقوياء يصعب عليهم الصعب فأعلمهم أن الله خاذلهم.

وأراد (بالمجرمين) فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضا بهم. وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول : وإن كرهتم أيها المجرمون عدولا عن مواجهتهم بالذم ، وقوفا عند أمر الله تعالى إذ قال له : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك. وهذا بخلاف مقام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال الله له : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ

١٥٥

كان في ابتداء الدعوة. ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم ، فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم ، وموسى كان محاولا فرعون وملأه أن يؤمنوا ، فكان في مقام الترغيب باللين.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣))

تفريع على ما تقدم من المحاورة ، أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود ، فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازا. والتقدير : تفرع على ذلك تصميم على الإعراض.

وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض ، وهو إلقاء موسى عصاه والتقامها ما ألقوه من سحرهم ، لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة.

وفعل (آمَنَ) أصله (أأمن) بهمزتين : إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة ، والثانية همزة مزيدة للتعدية ، أي جعله ذا أمانة ، أي غير كاذب فصار فعل (آمَنَ) بمعنى صدّق ، وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين (آمن) بمعنى صدّق من الأمانة وبين (آمن) بمعنى جعله في أمن ، أي لا خوف عليه منه.

وهذه اللام سماها ابن مالك لام التبيين وتبعه ابن هشام ، وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية ، ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل (آمن) بمعنى صدّق دفع أن يلتبس بفعل (آمنه) إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) في سورة الإسراء [٩٠].

وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدّق كما في قوله تعالى : (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس : ٩٠].

والذرية : الأبناء وتقدم في قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في سورة آل عمران [٣٤]. أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذ.

١٥٦

و (على) في قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) بمعنى (مع) مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من (ذرية) ، أي في حال خوفهم المتمكن منهم. وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون.

والمعنى : أنهم آمنوا عند ظهور معجزته ، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار. أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء ، كما يقال : الغلمان ، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم ، وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به ، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٤٣] فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر.

و (الملأ) تقدم آنفا في هذه القصة ، وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم ، وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذوهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها.

و (الفتن) إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١]. فهذا وجه تفسير الآية.

وجملة : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في موضع الحال فهي عطف على قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) وهي تفيد معنى التعليل لخوفهم من فرعون ، أي أنهم محقون في خوفهم الشديد ، فبعد أن أثنى عليهم بأنهم آمنوا في حال شدة الخوف زاد فبين أنهم أحقاء بالخوف ، وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم ، ومن ملئهم ، أي قومهم ، وهو خوف شديد ، لأن آثاره تتطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسة قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفرا منهم ، ثم اتبعه ببيان اتساع مقدرة فرعون بيان تجاوزه الحد في الجور ، ومن هذه حالته لا يزعه عن إلحاق الضر بأضداده وازع.

وتأكيد الخبر ب (إن) للاهتمام بتحقيق بطش فرعون.

١٥٧

والعلو : مستعار للغلبة والاستبداد ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وقوله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١].

والإسراف : تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل ، فهو تجاوز مذموم ، وأشهر موارده في الإنفاق ، ولم يذكر متعلّق الإفراط فتعيّن أن يكون إسرافا فيما عرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة.

وقوله : (لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال : وإنه لمسرف لما تقدم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في الأنعام [٥٦].

[٨٤ ـ ٨٦] (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))

عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة (وَقالَ فِرْعَوْنُ)[يونس : ٧٩] ، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر ، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ). والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم ، وأمر من عداهم الذين خاف ذريتهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يجبّنوا أبناءهم ، وأن لا يخشوا فرعون ، ولذلك قال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا).

والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله حقا كما أظهرته أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له.

وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهاب قلوبهم بجعل إيمانهم معلقا بالشرط محتمل الوقوع ، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم ، وإنما جعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتهم ، فلا تغتفر فيها التقية حينئذ. وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال ، وعمار ، وأبي بكر ، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى ، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

١٥٨

فتقديم المجرور على متعلقه في قوله : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) لإفادة القصر ، وهو قصر إضافي يفسره قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] ، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون.

والتوكل : تقدم آنفا في قصة نوح.

وجملة : (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) شرط ثان مؤكد لشرط (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم ، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام ، ومبين أيضا للشرط الأول ، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله ، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق ، فحصل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر.

وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط ، والإيمان : تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي ، ولا يعتبر شرعا إلا مع الإسلام ، والإسلام : النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعا إلا مع الإيمان ، فالإيمان انفعال قلبي نفساني ، والإسلام عمل جسماني ، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة ، وإذ لا يكون القول حقا إلا إذا وافق ما في النفس ، قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]. وقد ورد ذلك صريحا في حديث سؤال جبريل في «الصحيحين».

وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين ، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين ، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين. ومن ثم كان قوله : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) جوابا للشرطين كليهما. أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول. هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام.

وقد كان صادق إيمانهم مع نور الأمر النبوي الذي واجههم به نبيئهم مسرعا بهم إلى التجرد عن التخوف والمصانعة ، وإلى عقد العزم على التوكل على الله ، فلذلك بادروا بجوابه بكلمة (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) مشتملة على خصوصية القصر المقتضي تجردهم عن التوكل على غير الله تعالى.

وأشير إلى مبادرتهم بأن عطفت جملة قولهم ذلك على مقالة موسى بفاء التعقيب خلافا للأسلوب الغالب في حكاية جمل الأقوال الجارية في المحاورات أن تكون غير

١٥٩

معطوفة ، فخولف مقتضى الظاهر لهذه النكتة.

ثم ذيّلوا كلمتهم بالتوجه إلى الله بسؤالهم منه أن يقيهم ضر فرعون ، ناظرين في ذلك إلى مصلحة الدين قبل مصلحتهم لأنهم إن تمكن الكفرة من إهلاكهم أو تعذيبهم قويت شوكة أنصار الكفار فيقولون في أنفسهم : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ما أصابهم فيفتتن بذلك عامة الكفرة ويظنون أن دينهم الحق.

والفتنة : تقدم تفسيرها آنفا. وسموا ذلك فتنة لأنها تزيد الناس توغلا في الكفر ، والكفر فتنة. والفتنة مصدر. فمعنى سؤالهم أن لا يجعلهم الله فتنة هو أن لا يجعلهم سبب فتنة ، فتعدية فعل (تَجْعَلْنا) إلى ضميرهم المخبر عنه بفتنة تعدية على طريقة المجاز العقلي ، وليس الخبر بفتنة من الإخبار بالمصدر إذ لا يفرضون أن يكونوا فاتنين ولا يسمح المقام بأنهم أرادوا لا تجعلنا مفتونين للقوم الظالمين.

ووصفوا الكفار ب (الظَّالِمِينَ) لأن الشرك ظلم ، ولأنه يشعر بأنهم تلبسوا بأنواع الظلم : ظلم أنفسهم ، وظلم الخلائق ، ثم سألوا ما فيه صلاحهم فطلبوا النجاة من القوم الكافرين ، أي من بطشهم وإضرارهم.

وزيادة (بِرَحْمَتِكَ) للتبرؤ من الإدلال بإيمانهم لأن المنة لله عليهم ، قال تعالى : قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧].

وذكر لفظ القوم في قوله : (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقوله : (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) للوجه الذي أشرنا إليه في أواسط البقرة ، وفي هذه السورة غير مرة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

يجوز أن يكون عطفا على جملة : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ) [يونس : ٨٤] ، ويجوز أن يكون عطف قصة على قصة ، أي على مجموع الكلام السابق ، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار لقصة موسى وقومه.

ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة ، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومؤازره.

١٦٠