تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

الخلق من شأنه أن يقع بصيغة الخبر لما في الخبر من قصد إعلام السامع بما يضمره المتكلم ، ولذلك كان معنى صيغ العقود إنشاء بلفظ الخبر. ثمّ حملهم شهادة له بأنه بريء من شركائهم مبادرة بإنكار المنكر وإن كان ذلك قد أتوا به استطرادا ، فلذلك كان تعرّضه لإبطاله كالاعتراض بين جملة (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) وجملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) [هود : ٥٧] بناء على أن جملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) إلى آخرها من كلام هود ـ عليه‌السلام ـ ، وسيأتي. ومعنى إشهاده فيراد من شركائهم تحقيق ذلك وأنه لا يتردّد على أمر جازم قد أوجبه المشهود عليه على نفسه. وأتى في إشهادهم بصيغة الأمر لأنه أراد مزاجة إنشاء الإشهاد دون رائحة معنى الإخبار.

و (ما) في قوله : (مِمَّا تُشْرِكُونَ) موصولة. والعائد محذوف. والتقدير : مما يشركونه.

وما صدق الموصول الأصنام ، كما دل عليه ضمير الجمع المؤكّد في قوله : فَكِيدُونِي جَمِيعاً). ولما كانت البراءة من الشركاء تقتضي اعتقاد عجزها عن إلحاق إضرار به فرع على البراءة جملة (فَكِيدُونِي جَمِيعاً). وجعل الخطاب لقومه لئلا يكون خطابه لما لا يعقل ولا يسمع ، فأمر قومه بأن يكيدوه. وأدخل في ضمير الكائدين أصنامهم مجاراة لاعتقادهم واستقصاء لتعجيزهم ، أي أنتم وأصنامكم ، كما دل عليه التفريع على البراءة من أصنامهم.

والأمر ب (كيدوني) مستعمل في الإباحة كناية عن التعجيز بالنسبة للأصنام وبالنسبة لقومه ، كقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) [المرسلات : ٣٩]. وهذا إبطال لقولهم : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ).

و (ثُمَ) للتراخي الرتبيّ ؛ تحدّاهم بأن يكيدوه ثم ارتقى في رتبة التعجيز والاحتقار فنهاهم عن التأخير بكيدهم إياه ، وذلك نهاية الاستخفاف بأصنامهم وبهم وكناية عن كونهم لا يصلون إلى ذلك.

وجملة (إِنِّي تَوَكَّلْتُ) تعليل لمضمون (فَكِيدُونِي) وهو التعجيز والاحتقار. يعني: أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله ، فهذا معنى ديني قديم.

وأجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالا على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه ، لأنه مالكهم جميعا يدفع ظلم بعضهم بعضا.

وجملة (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) في محل صفة لاسم الجلالة ، أو حال

٢٨١

منه ، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية.

والأخذ : الإمساك.

والناصية : ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس. والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكّن ، تشبيها بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتا. وإنما كان تمثيلا لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم (ما مِنْ دَابَّةٍ) ، ولكنه لما صار مثلا صار بمنزلة : ما من دابة إلا هو متصرف فيها. ومن بديع هذا المثل أنّه أشدّ اختصاصا بالنوع المقصود من بين عموم الدّواب ، وهو نوع الإنسان. والمقصود من ذلك أنّه المالك القاهر لجميع ما يدبّ على الأرض ، فكونه مالكا للكلّ يقتضي أن لا يفوته أحد منهم ، وكونه قاهرا لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم.

وجملة (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعليل لجملة (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) ، أي توكّلت عليه لأنّه أهل لتوكلي عليه ، لأنّه متّصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي ، مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)[البقرة : ٥] مستعارة للتمكّن المعنوي ، وهو الاتّصاف الراسخ الذي لا يتغير.

والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأنّ العدل يشبّه بالاستقامة والسواء. قال تعالى : (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [مريم : ٤٣]. فلا جرم لا يسلم المتوكّل عليه للظّالمين.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

تفريع على جملة (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) [هود : ٥٤]. وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأنّ مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) [هود : ٥٤] بناء على أنّ هذا من كلام هود ـ عليه‌السلام ـ.

وعلى هذا الوجه يكون أصل (تَوَلَّوْا) تتولوا فحذفت إحدى التّاءين اختصارا ، فهو مضارع ، وهو خطاب هود ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة.

٢٨٢

ويجوز أن تكون فعلا ماضيا ، والواو لأهل مكّة فيكون كالاعتراض في إجراء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) [هود : ٣٥] الآية. خاطب الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بأن يقول لهم : (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ). والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقول قول مأمور به محذوف يدلّ عليه السياق. والتقدير : فقل قد أبلغتكم. وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين ، وهو من بديع أساليب الإعجاز ، ولأجله جاء فعل (تَوَلَّوْا) بتاء واحدة بخلاف ما في قوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨].

والتولّي : الإعراض. وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، في سورة النساء [٨٠].

وجعل جواب شرط التولّي قوله : (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطا لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ ، فإن كان من كلام هود ـ عليه‌السلام ـ ف (ما أُرْسِلْتُ بِهِ) هو ما تقدّم ، وإن كان من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود ـ عليه‌السلام ـ.

وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم ، ولذلك عطف (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨].

وارتفاع (يَسْتَخْلِفُ) في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم. وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصودا بذاته لا تبعا للجواب ، فبذلك يكون مقصودا به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال.

وكذلك جملة (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئا و (شَيْئاً) مصدر مؤكد لفعل (تَضُرُّونَهُ) المنفي.

وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالبا. والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي ، أي فالله يلحق بكم الاستئصال ، وهو

٢٨٣

أعظم الضر ، ولا تضرونه أقلّ ضر ؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة.

وجملة (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) تعليل لجملة (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) ، فموقع (إِنَ) فيها موقع فاء التفريع.

والحفيظ : أصله مبالغة الحافظ ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه ، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨))

استعمال الماضي في قوله : (جاءَ أَمْرُنا) بمعنى اقتراب المجيء لأن الإنجاء كان قبل حلول العذاب.

والأمر أطلق على أثر الأمر ، وهو ما أمر الله به أمر تكوين ، أي لمّا اقترب مجيء أثر أمرنا ، وهو العذاب ، أي الريح العظيم.

ومتعلّق (نَجَّيْنا) الأول محذوف ، أي من العذاب الدال عليه قوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا). وكيفيّة إنجاء هود ـ عليه‌السلام ـ ومن معه تقدّم ذكرها في تفسير سورة الأعراف.

والباء في (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) للسببيّة ، فكانت رحمة الله بهم سببا في نجاتهم. والمراد بالرحمة فضل الله عليهم لأنّه لو لم يرحمهم لشملهم الاستئصال فكان نقمة للكافرين وبلوى للمؤمنين.

وجملة (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) معطوفة على جملة (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا). والتّقدير وأيضا نجّيناهم من عذاب شديد وهو الإنجاء من عذاب الآخرة وهو العذاب الغليظ. ففي هذا منّة ثانية على إنجاء ثان ، أي نجّيناهم من عذاب الدّنيا برحمة منّا ونجّيناهم من عذاب غليظ في الآخرة ، ولذلك عطف فعل (نَجَّيْناهُمْ) على (نَجَّيْنا) ، وهذان الإنجاءان يقابلان جمع العذابين لعاد في قوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) [هود : ٦٠]. وقد ذكر هنا متعلّق الإنجاء وحذف السبب عكس ما في الجملة الأولى لظهور أن الإنجاء من عذاب الآخرة كان بسبب الإيمان وطاعة الله كما دلّ عليه مقابلته بقوله : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) [هود : ٥٩].

٢٨٤

والغليظ حقيقته : الخشن ضدّ الرقيق ، وهو مستعار للشّديد. واستعمل الماضي في وَنَجَّيْناهُمْ) في معنى المستقبل لتحقق الوعد بوقوعه.

[٥٩ ، ٦٠] (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

الإشارة ب (تِلْكَ) حاضر في الذّهن بسبب ما أجري عليه من الحديث حتى صار كأنّه حاضر في الحسّ والمشاهدة. كقوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) [الأعراف : ١٠١] وكقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ، وهو أيضا مثله في أنّ الإتيان به عقب الأخبار الماضية عن المشار إليهم للتنبيه على أنّهم جديرون بما يأتي بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل تلك الأوصاف المتقدّمة.

وتأنيث اسم الإشارة بتأويل الأمّة.

و (عادٌ) بيان من اسم الإشارة.

وجملة (جَحَدُوا) خبر عن اسم الإشارة. وهو وما بعده تمهيد للمعطوف وهو وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) لزيادة تسجيل التّمهيد بالأجرام السّابقة ، وهو الذي اقتضاه اسم الإشارة كما تقدّم ، لأنّ جميع ذلك من أسباب جمع العذابين لهم.

والجحد : الإنكار الشّديد ، مثل إنكار الواقعات والمشاهدات. وهذا يدلّ على أنّ هودا أتاهم بآيات فأنكروا دلالتها. وعدي (جَحَدُوا) بالباء مع أنّه متعدّ بنفسه لتأكيد التّعدية ، أو لتضمينه معنى كفروا فيكون بمنزلة ما لو قيل : جحدوا آيات ربّهم وكفروا بها ، كقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤].

وجمع الرسل في قوله : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) وإنّما عصوا رسولا واحدا ، وهو هود ـ عليه‌السلام ـ لأنّ المراد ذكر إجرامهم فناسب أن يناط الجرم بعصيان جنس الرسل لأن تكذيبهم هودا لم يكن خاصا بشخصه لأنهم قالوا له : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) [هود : ٥٣] ، فكل رسول جاء بأمر ترك عبادة الأصنام فهم مكذبون به. ومثله قوله تعالى : كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣].

ومعنى اتباع الآمر : طاعة ما يأمرهم به ، فالاتّباع تمثيل للعمل بما يملى على المتبع ،

٢٨٥

لأنّ الآمر يشبه الهادي للسائر في الطريق ، والممتثل يشبه المتبع للسائر.

والجبار : المتكبّر. والعنيد : مبالغة في المعاندة. يقال : عند ـ مثلث النون ـ إذا طغى ، ومن كان خلقه التجبّر ، والعنود لا يأمر بخير ولا يدعو إلّا إلى باطل ، فدلّ اتّباعهم أمر الجبابرة المعاندين على أنّهم أطاعوا دعاة الكفر والضلال والظلم.

و (كُلِ) من صيغ العموم ، فإن أريد كلّ جبار عنيد من قومهم فالعموم حقيقي ، وإن أريد جنس الجبابرة ف (كُلِ) مستعملة في الكثرة كقول النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي

ومنه قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) في سورة الحج [٢٧].

واتباع اللعنة إيّاهم مستعار لإصابتها إيّاهم إصابة عاجلة دون تأخير كما يتبع الماشي بمن يلحقه. وممّا يزيد هذه الاستعارة حسنا ما فيها من المشاركة ومن مماثلة العقاب للجرم لأنّهم اتّبعوا الملعونين فأتبعوا باللّعنة.

وبني فعل (اتَّبَعُوا) للمجهول إذ لا غرض في بيان الفاعل ، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ اتباعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقابا من الله لا مجرّد مصادفة.

واللّعنة : الطرد بإهانة وتحقير.

وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنّسبة إلى لعنة الآخرة ، كما في قول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلّا قد قضيت قضاءها

أومأ إلى أنّه لا يكترث بالموت ولا يهابه.

وجملة (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لتهويلالخبر ومؤكدة بحرف (إِنَ) لإفادة التعليل بجملة (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) تعريضا بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عادا.

وعدّي (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) بدون حرف الجر لتضمينه معنى عصوا في مقابلة (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ، أو لأنّ المراد تقدير مضاف ، أي نعمة ربّهم لأنّ مادّة الكفر لا تتعدّى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي.

٢٨٦

وجملة (أَلا بُعْداً لِعادٍ) ابتدائية لإنشاء ذمّ لهم. وتقدّم الكلام على (بُعْداً) عند قوله في قصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].

و (قَوْمِ هُودٍ) بيان ل (عاد) أو وصف ل (عاد) باعتبار ما في لفظ (قَوْمِ) من معنى الوصفية. وفائدة ذكره الإيماء إلى أنّ له أثرا في الذمّ بإعراضهم عن طاعة رسولهم ، فيكون تعريضا بالمشركين من العرب ، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرم كما جوّزه صاحب «الكشاف» لأنّه لا يعرف في العرب عاد غير قوم هود وهم إرم ، قال تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) [الفجر : ٦ ، ٧].

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١))

قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ـ إلى قوله ـ (غَيْرُهُ) الكلام فيه كالذي في قوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [هود : ٥٠] إلخ.

وذكر ثمود وصالح ـ عليه‌السلام ـ تقدّم في سورة الأعراف.

وثمود : اسم جدّ سميت به القبيلة ، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة.

وجملة (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) في موضع التّعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره ، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدّعون لأصنامهم خلقا ولا رزقا ، فلذلك كانت الحجّة عليهم ناهضة واضحة.

والإنشاء : الإيجاد والإحداث ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) في الأنعام [٦].

وجعل الخبرين عن الضمير فعلين دون : هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القصر ، أي لم ينشئكم من الأرض إلّا هو ، ولم يستعمركم فيها غيره.

والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله ، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع ، كما قال في سورة الشعراء [١٤٦ ـ ١٤٨]أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتا ويبنون في الأرض قصورا ، كما قال في الآية الأخرى : وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) [الأعراف : ٧٤]،

٢٨٧

فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها ، ولذلك عطف عليه (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).

والاستعمار : الإعمار ، أي جعلكم عامرينها ، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميرا للأرض حتى سمي الحرث عمارة لأنّ المقصود منه عمر الأرض.

وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه ، أي طلب مغفرة أجرامهم ، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل ، وجعلت علّة أيضا للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع.

وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٥١] في الآية المتقدمة.

وجملة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه ، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب ، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل. وحرف (إِنَ) فيها للتّأكيد تنزيلا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره.

والقرب : هنا مستعار للرأفة والإكرام ، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض. قال جبير بن الأضبط :

تباعد عنّي مطحل إذ دعوته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

فكذلك يستعار ضدّه لضدّه ، وتقدّم في قوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) في سورة البقرة [١٨٦]. والمجيب هنا : مجيب الدّعاء ، وهو الاستغفار. وإجابة الدّعاء : إعطاء السائل مسئوله.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))

هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة الملأى إرشادا وهديا. وهو جواب ملئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة.

٢٨٨

وافتتاح الكلام بالنّداء لقصد التوبيخ أو الملام والتّنبيه ، كما تقدّم في قوله : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣]. وقرينة التّوبيخ هنا أظهر ، وهي قولهم : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) فإنّه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف.

و (قَدْ) لتأكيد الخبر.

وحذف متعلّق (مَرْجُوًّا) لدلالة فعل الرجاء على أنّه ترقب الخير ، أي مرجوا للخير ، أي والآن وقع اليأس من خيرك. وهذا يفهم منه أنّهم يعدّون ما دعاهم إليه شرّا ، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنّه بعث فيهم وهو شاب (كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف) أي كنت مرجوا لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم.

والإشارة في (قَبْلَ هذا) إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.

وجملة (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) بيان لجملة (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) باعتبار دلالتها على التعنيف ، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبيّنه أيضا جملة (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا).

والاستفهام : إنكار وتوبيخ.

وعبّروا عن أصنامهم بالموصول لما في الصّلة من الدّلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداء بآبائهم لأنّهم أسوة لهم ، وذلك ممّا يزيد الإنكار اتّجاها في اعتقادهم.

وجملة (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) معطوفة على جملة (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) ، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنّهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيدا بحرف التأكيد. ومن محاسن النّكت هنا إثبات نون (إنّ) مع نون ضمير الجمع لأنّ ذلك زيادة إظهار لحرف التوكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم [٩] من قول الأمم لرسلهم : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا) لأنّ الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التّكذيب ، ولأنّ ما في هاته الآية خطاب لواحد ، فكان (تَدْعُونا) بنون واحدة هي نون المتكلم ومعه غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأنّ الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في (تدعوننا) فلو جاء (إنّنا) لاجتمع أربع نونات.

والمريب : اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب ، يقال : رابه وأرابه بمعنى ،

٢٨٩

ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم : جدّ جدّه.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

جواب عن كلامهم فلذلك لم تعطف جملة (قالَ) وهو الشّأن في حكاية المحاورات كما تقدّم غير مرة.

وابتداء الجواب بالنّداء لقصد التّنبيه إلى ما سيقوله اهتماما بشأنه.

وخاطبهم بوصف القوميّة له للغرض الذي تقدّم في قصة نوح.

والكلام في قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) كالكلام على نظيرها في قصة نوح.

وإنّما يتّجه هنا أن يسأل عن موجب تقديم (مِنْهُ) على (رَحْمَةً) هنا ، وتأخير (مِنْ عِنْدِهِ) [هود : ٢٨] عن (رَحْمَةً) [هود : ٢٨] في قصة نوح السابقة.

فالجواب لأنّ ذلك مع ما فيه من التّفنن بعدم التزام طريقة واحدة في إعادة الكلام المتماثل ، هو أيضا أسعد بالبيان في وضوح الدّلالة ودفع اللبس. فلمّا كان مجرور (من) الابتدائية ظرفا وهو (عند) كان صريحا في وصف الرّحمة بصفة تدلّ على الاعتناء الربّانيّ بها وبمن أوتيها. ولمّا كان المجرور هنا ضمير الجلالة كان الأحسن أن يقع عقب فعل (آتانِي) ليكون تقييد الإيتاء بأنّه من الله مشير إلى إيتاء خاص ذي عناية بالمؤتى إذ لو لا ذلك لكان كونه من الله تحصيلا لما أفيد من إسناد الإيتاء إليه ، فتعيّن أن يكون المراد إيتاء خاصا ، ولو أوقع (مِنْهُ) عقب (رَحْمَةً) لتوهّم السامع أنّ ذلك عوض عن الإضافة ، أي عن أن يقال : وآتاني رحمته ، كقوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) [مريم : ٢١] أي ورحمتنا لهم ، أي لنعظهم ونرحمهم.

وجملة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) جواب الشرط وهو (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ).

والمعنى إلزام وجدل ، أي إن كنتم تنكرون نبوءتي توبّخونني على دعوتكم فأنا مؤمن بأنّي على بيّنة من ربّي ، أفترون أنّي أعدل عن يقيني إلى شكّكم ، وكيف تتوقّعون منّي ذلك وأنتم تعلمون أنّ يقيني بذلك يجعلني خائفا من عذاب الله إن عصيته ولا أحد ينصرني.

والكلام على قوله : (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) كالكلام على قوله : (مَنْ

٢٩٠

يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) [هود : ٣٠] في قصة نوح.

وفرع على الاستفهام الإنكاري جملة : (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي إذ كان ذلك فما دعاؤكم إيّاي إلا سعي في خسراني.

والمراد بالزيادة حدوث حال لم يكن موجودا لأنّ ذلك زيادة في أحوال الإنسان ، أي فما يحدث لي إن اتّبعتكم وعصيت الله إلّا الخسران ، كقوله تعالى حكاية عن نوح ـ عليه‌السلام ـ (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] ، أي كنت أدعوهم وهم يسمعون فلمّا كرّرت دعوتهم زادوا على ما كانوا عليه ففرّوا ، وليس المعنى أنّهم كانوا يفرّون فزادوا في الفرار لأنّه لو كان كذلك لقيل هنالك : فلم يزدهم دعائي إلّا من فرار ، ولقيل هنا : فما تزيدونني إلّا من تخسير.

والتّخسير ، مصدر خسر ، إذا جعله خاسرا.

[٦٤ ، ٦٥] (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥))

هذا جواب عن قولهم : (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [هود : ٦٢] فأتاهم بمعجزة تزيل الشك.

وإعادة (وَيا قَوْمِ) لمثل الغرض المتقدّم في قوله في قصة نوح (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) [هود : ٣٠].

والإشارة بهذه إلى الناقة حين شاهدوا انفلاق الصّخرة عنها.

وإضافة النّاقة إلى اسم الجلالة لأنّها خلقت بقدرة الله الخارقة للعادة.

و (آيَةً) و (لَكُمْ) حالان من ناقة ، وتقدّم نظير هذه الحال في سورة الأعراف. وستجيء قصة في إعرابها عند قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) في هذه السورة [٧٢].

وأوصاهم بتجنب الاعتداء عليها لتوقّعه أنّهم يتصدّون لها من تصلبهم في عنادهم. وقد تقدّم عقرها في سورة الأعراف.

والتمتع : الانتفاع بالمتاع. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة

٢٩١

الأعراف [٢٤].

والدّار : البلد ، وتقدّم في قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) في سورة الأعراف [٧٨] ، وذلك التأجيل استقصاء لهم في الدعوة إلى الحقّ.

والمكذوب : الذي يخبر به الكاذب. يقال : كذب الخبر ، إذا اختلقه.

[٦٦ ـ ٦٨] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

تقدّم الكلام على نظائر بعض هذه الآية في قصّة هود في سورة الأعراف.

ومتعلّق (نَجَّيْنا) محذوف.

وعطف (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) على متعلّق (نَجَّيْنا) المحذوف ، أي نجّينا صالحا ـ عليه‌السلام ـ ومن معه من عذاب الاستئصال ومن الخزي المكيّف به العذاب فإنّ العذاب يكون على كيفيات بعضها أخزى من بعض. فالمقصود من العطف عطف منّة على منّة لا عطف إنجاء على إنجاء ، ولذلك عطف المتعلّق ولم يعطف الفعل ، كما عطف في قصة عاد (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨] لأنّ ذلك إنجاء من عذاب مغاير للمعطوف عليه.

وتنوين (يَوْمِئِذٍ) تنوين عوض عن المضاف إليه. والتقدير : يوم إذ جاء أمرنا.

والخزي : الذّلّ ، وهو ذلّ العذاب ، وتقدّم الكلام عليه قريبا.

وجملة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) معترضة.

وقد أكد الخبر بثلاث مؤكدات للاهتمام به. وعبّر عن ثمود بالّذين ظلموا للإيماء بالموصول إلى علّة ترتب الحكم ، أي لظلمهم وهو ظلم الشّرك. وفيه تعريض بمشركي أهل مكّة بالتّحذير من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك لأنّهم ظالمون أيضا.

والصيحة : الصّاعقة أصابتهم.

ومعنى (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يقيموا.

وتقدّم شعيب في الأعراف.

٢٩٢

وقرأ الجمهور «ألا إنّ ثمودا» ـ بالتنوين ـ على اعتبار ثمود اسم جدّ الأمة. وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، بدون تنوين على اعتباره اسما للأمّة أو القبيلة. وهما طريقتان مشهورتان للعرب في أسماء القبائل المسمّاة بأسماء الأجداد الأعلين.

وتقدّم الكلام على (بُعْداً) في قصة نوح (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].

[٦٩ ـ ٧٣] (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

عطف قصة على قصة.

وتأكيد الخبر بحرف (قد) للاهتمام به كما تقدّم في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥].

والغرض من هذه القصّة هود : الموعظة بمصير قوم لوط إذ عصوا رسول ربّهم فحلّ بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم. وقدّمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربّه على وجه الإدماج ، ولذلك غيّر أسلوب الحكاية في القصص الّتي قبلها والتي بعدها نحو وَإِلى عادٍ) [هود : ٥٠] إلخ.

والرّسل : الملائكة. قال تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١].

والبشرى : اسم. للتبشير والبشارة. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في أوّل سورة البقرة [٢٥]. هذه البشرى هي التي في قوله : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) لأنّ بشارة زوجه بابن بشارة له أيضا.

والباء في (بِالْبُشْرى) للمصاحبة لأنّهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها.

وجملة (قالُوا سَلاماً) في موضع البيان للبشرى ، لأنّ قولهم ذلك مبدأ البشرى ، وإنّ ما اعترض بينها حكاية أحوال ، وقد انتهى إليها في قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) إلى قوله (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

٢٩٣

والسّلام : التحيّة. وتقدّم في قوله : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في سورة الأنعام [٥٤].

و (سَلاماً) مفعول مطلق وقع بدلا من الفعل. والتّقدير : سلّمنا سلاما.

و (سَلامٌ) المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدإ محذوف ، تقديره : أمري سلام ، أي لكم ، مثل (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨]. ورفع المصدر أبلغ من نصبه ، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات. ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام.

قال ابن عطيّة : حيّا الخليل بأحسن ممّا حيّي به ، أي نظرا إلى الأدب الإلهي الذي علمه لنا في القرآن بقوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦] ، فحكي ذلك بأوجز لفظ في العربية أداء لمعنى كلام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في الكلدانيّة.

وقرأ الجمهور (قالَ سَلامٌ) ـ بفتح السّين وبألف بعد اللّام ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : (قالَ سَلامٌ) ـ بكسر السّين وبدون ألف بعد اللّام ـ وهو اسم المسالمة. وسمّيت به التحية كما سمّيت بمرادفه (سلام) فهو من باب اتّحاد وزن فعال وفعل في بعض الصفات مثل : حرام وحرم ، وحلال وحلّ.

والفاء في قوله : (فَما لَبِثَ) للدّلالة على التعقيب إسراعا في إكرام الضّيف ، وتعجيل القرى سنّة عربيّة : ظنهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ناسا فبادر إلى قراهم.

واللّبث في المكان يقتضي الانتقال عنه ، أي فما أبطأ. و (أَنْ جاءَ) يجوز أن يكون فاعل (لَبِثَ) ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ ، أي فما أبطأ مجيئه مصاحبا له ، أي بل عجّل. ويجوز جعل فاعل (لَبِثَ) ضمير إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فيقدّر جار ل (جاءَ). والتّقدير : فما لبث بأن جاء به. وانتفاء اللبث مبالغة في العجل.

والحنيذ : المشوي ، وهو المحنوذ. والشيء أسرع من الطبخ ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف.

و (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أشد في عدم الأخذ من (لا تتناوله).

ويقال : نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه.

وإنّما نكرهم لأنّه حسب أنّ إمساكهم عن الأكل لأجل التبرّؤ من طعامه ، وإنّما يكون

٢٩٤

ذلك في عادة النّاس في ذلك الزّمان إذا كان النّازل بالبيت يضمر شرّا لمضيّفه ، لأنّ أكل طعام القرى كالعهد على السّلامة من الأذى ، لأنّ الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة ، فإذا انكفّ أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنّه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفورا للإحسان.

ولذلك عقب قوله (نَكِرَهُمْ) ب (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) ، أي أحسّ في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك. ومصدره الإيجاس. وذلك أنّه خشي أن يكونوا مضمرين شرّا له ، أي حسبهم قطّاعا ، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وحده.

وجملة (قالُوا لا تَخَفْ) مفصولة عمّا قبلها ، لأنّها أشبهت الجواب ، لأنّه لمّا أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه ، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إنّي خفت منكم ، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم : (لا تَخَفْ) ، فحكي ذلك عنهم بالطّريقة الّتي تحكى بها المحاورات ، أو هو جواب كلام مقدّر دلّ عليه قوله : (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) ، أي وقال لهم : إنّي خفت منكم ، كما حكي في سورة الحجر [٥٢] (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ). ومن شأن النّاس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له : لعلّك غادر أو عدوّ ، وقد كانوا يقولون للوافد : أحرب أم سلم.

وقولهم : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) مكاشفة منهم إيّاه بأنّهم ملائكة. والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم.

والحكمة من ذلك كرامة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وصدورهم عن علم منه.

وحذف متعلّق (أُرْسِلْنا) أي بأي شيء ، إيجازا لظهوره من هذه القصّة وغيرها.

وعبّر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة (قَوْمِ لُوطٍ) إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطا من فصائل عرفوا بأسماء قراهم ، وأشهرها سدوم كما تقدّم في الأعراف.

وجملة (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) في موضع الحال من ضمير (أَوْجَسَ) ، لأنّ امرأة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كانت حاضرة تقدّم الطّعام إليهم ، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أنّ ربة المنزل تكون خادمة القوم. وفي الحديث «والعروس خادمهم». وقال مرّة بن محكان التميمي :

يا ربّة البيت قومي غير صاغرة

ضمّي إليك رجال القوم والغربا

٢٩٥

وقد اختصرت القصة هنا اختصارا بديعا لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ). وأمّا البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنّهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة الذاريات [٢٨] (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ). فلمّا اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة (قالُوا لا تَخَفْ) حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال ، لأنّ الحال تصلح للقبليّة وللمقارنة وللبعدية ، وهي الحال المقدّرة.

وإنّما ضحكت امرأة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من تبشير الملائكة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بغلام ، وكان ضحكها ضحك تعجّب واستبعاد. وقد وقع في التّوراة في الإصلاح الثامن عشر من سفر التكوين «وقالوا له : أين سارة امرأتك؟ فقال : ها هي في الخيمة. فقالوا : يكون لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة : أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ فقال الربّ : لما ذا ضحكت سارة؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك ، لأنّها خافت ، قال : لا بل ضحكت».

وتفريع (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) على جملة (فَضَحِكَتْ) باعتبار المعطوف وهو وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) لأنّها ما ضحكت إلّا بعد أن بشّرها الملائكة بابن ، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى. والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن. وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالبا إلّا معلولين ، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم.

ولما بشّروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك ، فقالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) ، فجملة (قالَتْ) جواب للبشارة.

و (يعقوب) مبتدأ (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) خبر ، والجملة على هذا في محلّ الحال. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص (يَعْقُوبَ) بفتحة وهو حينئذ عطف على (إِسْحاقَ). وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه ، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في «مغني اللبيب».

٢٩٦

والنداء في (يا وَيْلَتى) استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتّى تنادى ، كأنّها تقول : يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك.

والويلة : الحادثة الفظيعة والفضيحة. ولعلّها المرة من الويل. وتستعمل في مقام التعجب ، يقال : يا ويلتي.

واتّفق القرّاء على قراءة (يا وَيْلَتى) ـ بفتحة مشبعة في آخره بألف ـ. والألف التي في آخر (يا وَيْلَتى) هنا يجوز كونها عوضا عن ياء المتكلم في النداء. والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلفا عن لام الاستغاثة. وأصله : يا لويلة. وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجّب بلفظ عجب ، نحو : يا عجبا ، وباسم شيء متعجب منه ، نحو : يا عشبا.

وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة ، قال الزجاج : كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم.

والاستفهام في (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) مستعمل في التعجب. وجملة (أَنَا عَجُوزٌ) في موضع الحال ، وهي مناط التعجب.

والبعل : الزوج. وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) في سورة النّور [٣١] ، فانظره.

وزادت تقرير التعجب بجملة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتّصال ، وكأنّها كانت متردّدة في أنهم ملائكة فلم تطمئنّ لتحقيق بشراهم.

وجملة (هذا بَعْلِي) مركبة من مبتدأ وخبر لأنّ المعنى هذا المشار إليه هو بعلي ، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى. وانتصب (شَيْخاً) على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة.

وقرأ ابن مسعود وهذا بعلي شيخ ـ برفع شيخ ـ على أن (بعلي) بيان من (هذا) و (شيخ) خبر المبتدأ. ومعنى القراءتين واحد.

وقد جرت على هذه القراءة النادرة لطيفة وهي : ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم أبو حاجب أنّ أبا العبّاس المبرّد دعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة ، فلمّا فرغوا من الطّعام غنّت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين :

٢٩٧

وقالوا لها هذا حبيبك معرض

فقالت : ألا إعراضه أهون الخطب

فما هي إلّا نظرة وابتسامة

فتصطكّ رجلاه ويسقط للجنب

فطرب كل من بالمجلس إلّا أبا العبّاس المبرد فلم يتحرك ، فقال له رب المنزل : ما لك لم يطربك هذا؟.

فقالت الجارية : معذور يحسبني لحنت في أن قلت : معرض ـ بالرفع ـ ولم يعلم أنّ عبد الله بن مسعود قرأ «وهذا بعلي شيخ» فطرب المبرد لهذا الجواب (١).

وجواب الملائكة إياها بجملة (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) إنكار لتعجبها لأنه تعجّب مراد منه الاستبعاد. و (أَمْرِ اللهِ) هو أمر التكوين ، أي أتعجبين من قدرة الله على خرق العادات. وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبئ عن أمر الله.

وجملة (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) تعليل لإنكار تعجبها ، لأن الإنكار في قوة النفي ، فصار المعنى : لا عجب من أمر الله لأنّ إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة ، فلا عجب في تعلّق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم.

ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إمّا أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وامرأته فكان قولهم (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) مفيدا تعليل انتفاء العجبين.

وتعريف (الْبَيْتِ) تعريف حضور ، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور ، أي بيت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والمعنى أهل هذا البيت.

والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصا لزيادة بيان المراد من ضمير الخطاب.

وجملة (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأنّ الله يحمد من يطيعه ، وبأنّه مجيد ، أي عظيم الشأن لا حد لنعمه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولدا ، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضي الله تعالى على إبراهيم ـ عليه

__________________

(١) رأيت هذه النادرة في الباب الثاني من كتاب «الكنايات» لأبي العباس الجرجاني طبع السعادة بالقاهرة سنة ١٣٢٦ واحسبها دخيلة فيه.

٢٩٨

السّلام ـ وأهله.

[٧٤ ـ ٧٦] (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

التعريف في (الرَّوْعُ) وفي (الْبُشْرى) تعريف العهد الذكري ، وهما المذكوران آنفا ، فالرّوع : مرادف الخيفة.

وقوله : (يُجادِلُنا) هو جواب (فَلَمَّا) صيغ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة كقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨]. والمجادلة : المحاورة. وقد تقدّمت في قوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧].

وقوله : (فِي قَوْمِ لُوطٍ) على تقدير مضاف ، أي في عقاب قوم لوط. وهذا من تعليق الحكم باسم الذّات ، والمراد حال من أحوالها يعيّنه المقام ، كقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكلها.

والمجادلة هنا : دعاء ومناجاة سأل بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ربّه العفو عن قوم لوط خشية إهلاك المؤمنين منهم.

وقد تكون المجادلة مع الملائكة. وعدّيت إلى ضمير الجلالة لأنّ المقصود من جدال الملائكة التعرّض إلى أمر الله بصرف العذاب عن قوم لوط.

والحليم الموصوف بالحلم وهو صفة تقتضي الصفح واحتمال الأذى.

والأواه أصله الذي يكثر التأوّه ، وهو قول : أوّه. وأوّه : اسم فعل نائب مناب أتوجع ، وهو هنا كناية عن شدة اهتمامه بهموم الناس.

والمنيب من أناب إذا رجع ، وهو مشتق من النوب وهو النزول. والمراد التّوبة من التقصير ، أي محاسب نفسه على ما يحذر منه.

وحقيقة الإنابة : الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته وتركه.

وجملة (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) مقول محذوف دل عليه المقام وهو من بديع الإيجاز ، وهو وحي من الله إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، أو جواب الملائكة إبراهيم ـ عليه

٢٩٩

السّلام ـ فإذا كان من كلام الله فقوله : (أَمْرُ رَبِّكَ) إظهار في مقام الإضمار لإدخال الرّوع في ضمير السامع.

وأمر الله قضاؤه ، أي أمر تكوينه.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧))

قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٠]. فالتقدير : ففارقوا إبراهيم وذهبوا إلى لوط ـ عليهما‌السلام ـ فلما جاءوا لوطا ، فحذف ما دل عليه المقام إيجازا قرآنيا بديعا.

وقد جاءوا لوطا كما جاءوا إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ في صورة البشر ، فظنهم ناسا وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة ، فلذلك سيء بهم.

ومعنى (ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) ضاق ذرعه بسببهم ، أي بسبب مجيئهم فحوّل الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزا لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي ، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية.

والذرع : مدّ الذراع فإذا أسند إلى الآدميّ فهو تقدير المسافة. وإذا أسند إلى البعير فهو مدّ ذراعيه في السير على قدر سعة خطوته ، فيجوز أن يكون : ضاق ذرعا تمثيلا بحال الإنسان الذي يريد مدّ ذراعه فلا يستطيع مدّها كما يريد فيكون ذرعه أضيق من معتاده. ويجوز أن يكون تمثيلا بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مدّ ذراعيه كما اعتاده. وأيّا ما كان فهو استعارة تمثيلية لحال من لم يجد حيلة في أمر يريد علمه؟ بحال الذي لم يستطع مدّ ذراعه كما يشاء.

وقوله : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قاله في نفسه كما يناجي المرء نفسه إذا اشتد عليه أمر.

والعصيب : الشديد فيما لا يرضي. يقال : يوم عصيب إذا حدث فيه أمر عظيم من أحوال الناس أو أحوال الجوّ كشدة البرد وشدة الحرّ. وهو بزنة فعيل بمعنى فاعل ولا يعرف له فعل مجرد وإنما يقال : اعصوصب الشرّ ؛ اشتدّ. قالوا : هو مشتق من قولك : عصبت الشيء إذا شددته. وأصل هذه المادة يفيد الشدّة والضغط ، يقال : عصب الشيء إذا لواه ، ومنه العصابة. ويقال : عصبتهم السنون إذا أجاعتهم. ولم أقف على فعل مجرّد

٣٠٠