تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

استئصال لو لا أنهم عجّلوا بالإيمان يوم الفتح. فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم الطلقاء».

وقوم يونس هم أهل قرية نينوى (١) من بلاد العراق. وهم خليط من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر. وكانت بعثة يونس إليهم في أول القرى الثامن قبل المسيح. وقد تقدم ذكر يونس وترجمته في سورة الأنعام.

ولما كذّبه أهل نينوى توعدهم بخسف مدينتهم بعد أربعين يوما ، وخرج من المدينة غاضبا عليهم ، فلمّا خرج خافوا نزول العذاب بهم فتابوا وآمنوا بالله فقبل الله إيمانهم ولم يعذّبهم. والمذكور أنهم رأوا غيما أسود بعد مضي خمسة وثلاثين يوما من حين توعدهم يونس ـ عليه‌السلام ـ بحلول العذاب فعلموا أنه مقدمة العذاب فآمنوا وخضعوا لله تعالى فأمسك عنهم العذاب. وسيجيء ذكر ما حل بيونس ـ عليه‌السلام ـ في خروجه ذلك من ابتلاع الحوت إياه في سورة الأنبياء.

والكشف : إزالة ما هو ساتر لشيء ، وهو هنا مجاز في الرفع. والمراد : تقدير الرفع وإبطال العذاب قبل وقوعه فعبر عنه بالكشف تنزيلا لمقاربة الوقوع منزلة الوقوع.

والخزي : الإهانة والذل. وإضافة العذاب إلى الخزي يجوز كونها بيانية لأن العذاب كله خزي ، إذ هو حالة من الهلاك غير معتادة فإذا قدرها الله لقوم فقد أراد إذلالهم ، ويجوز أن تكون الإضافة حقيقة للتخصيص ، ويكون المراد من الخزي الحالة المتصورة من حلوله. وهي شناعة الحالة لمن يشاهدهم مثل الخسف والحرق والغرق ، وأشنع الخزي ما كان بأيدي أناس مثلهم ، وهو عذاب السيف الذي حل بصناديد قريش يوم بدر ، والذي كاد أن يحل بجميع قريش يوم فتح مكة فنجاهم الله منه كما نجّى قوم يونس.

و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صفة ل (عَذابَ الْخِزْيِ) للإشارة إلى أن العذاب الذي يحل بالأمم الكافرة هو عقاب في الدنيا وبعده عقاب في الآخرة ، وأن الأمم التي لم تعذب في الدنيا قد أدخر لها عذاب الآخرة.

والتمتيع : الإمهال.

__________________

(١) بفتح النونين بينهما ياء تحتية ساكنة وبعد النون الثانية واو مفتوحة بعدها ألف ، هي إحدى مدن بلاد أشور من العراق كائنة على الضفة اليسرى من الدجلة بناها الملك أشور سنة ٢٢٢٩ قبل الميلاد وكانت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.

١٨١

وإبهام (حِينٍ) لأنه مختلف باختلاف آجال أحادهم ، والمراد به التمتيع بالحياة لا بكشف العذاب ، لأنهم بعد موتهم ناجون من العذاب إذ كانوا قد آمنوا وأخلصوا.

ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين :

أحدهما : أن الله علم أن تكذيبهم يونس ـ عليه‌السلام ـ في ابتداء دعوته لم يكن ناشئا عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله ، ولكنه كان شكا في صدق يونس ـ عليه‌السلام ـ. ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ وإنما حرّفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله ، فإن في نينوى كثيرا من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الأشوريين كما علمت آنفا ، فلما أوعدهم يونس ـ عليه‌السلام ـ بالعذاب بعد أربعين يوما ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يوما اهتدوا وآمنوا إيمانا خالصا.

وثانيهما : أن يونس ـ عليه‌السلام ـ لمّا صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئا من حظ النفس وإن كان لفائدة الدين ، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله ، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه ، ولذلك حذّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمة من توهم أنّ ما جرى ليونس ـ عليه‌السلام ـ من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى» يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها.

وقد كان حال أهل مكة كحال قوم يونس إذ بادروا إلى الإيمان بمجرد دخول جيش الفتح مكة وقبل أن يقعوا في قبضة الأسر ، ولذلك لم ينج منهم عبد الله بن خطل ، لأنه لم يأت مؤمنا قبل أن يتمكن منه المسلمون ولم ينفعه التعلق بأستار الكعبة لأن ذلك التعلق ليس بإيمان وإنما هو من شعار العوذ في الجاهلية بما أبطله الإسلام إذ قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحرم لا يعيذ عاصيا». وقد بيّنّا في آخر سورة غافر [٨٤] عند قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) إلى آخر السورة فانظره.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩))

عطف على جملة : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٧] لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لقيه من قومه. وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس. وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها ،

١٨٢

وهي جملة : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ) المفرعة على الجملة الأولى ، وهي المقصود من التسلية.

والناس : العرب ، أو أهل مكة منهم ، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) [يونس : ٧١].

والتأكيد ب (كُلُّهُمْ) للتنصيص على العموم المستفاد من (من) الموصولة فإنها للعموم ، والتأكيد ب (جَمِيعاً) لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي.

والمعنى : لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير ، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح.

و (لو) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها. فالمعنى : لكنه لم يشأ ذلك ، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطئوا على الإيمان ، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق.

وجملة : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) إلخ مفرّعة على التي قبلها ، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعا.

والاستفهام في (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) إنكاري ، فنزّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه.

ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي ، فقيل : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) دون أن يقال : أفتكره الناس ، أو أفأنت مكره الناس ، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار. وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه ، ومن بلغ المجهود حق له العذر.

وليس تقديم المسند إليه هنا مفيدا للتخصيص ، أي القصر ، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر ، إذ مجرد تنزيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه. فما وقع في «الكشاف» من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه ، لأن قرينة التقوي واضحة كما

١٨٣

أشار إليه السكاكي.

والإكراه : الإلجاء والقسر.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

عطف على جملة : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) [يونس : ٩٩] لتقرير مضمونها لأن مضمونها إنكار أن يقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إلجاء الناس إلى الإيمان لأن الله هو الذي يقدر على ذلك.

ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير المخاطب ، أي كيف يمكنك أن تكره الناس على الإيمان والحال أنه لا تستطيع نفس أن تؤمن إلا بإذن الله لها بالإيمان.

والإذن : هنا إذن تكوين وتقدير. فهو خلق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل ، والصلاح والفساد ، متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يتبع وما لا ينبغي ، متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى.

ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابله (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) فقابل هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون ، فبينت آية (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٩٩] أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه. وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه ، وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول.

والرجس : حقيقته الخبث والفساد. وأطلق هنا على الكفر ، لأنه خبث نفساني ، والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) إلى قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥]. والمعنى : ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون. والمراد نفي العقل المستقيم ، أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة.

و (عَلَى) للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن.

وقرأ الجمهور (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله. وقرأه أبو بكر عن عاصم ونجعل بنون العظمة.

١٨٤

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١))

استئناف ناشئ عن قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) [يونس : ٩٩] إلخ. قسّم الناس إلى قسمين : مؤمنين وكافرين ، أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر ، وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية ، مثل أجرام الكواكب ، وتقادير مسيرها ، وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر ، وكذلك البحار والجبال.

وافتتحت الجملة ب (قُلِ) للاهتمام بمضمونها. وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كلّ نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلال عليه لديها.

والنظر : هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري ، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له ، فجيء بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحا للمعنيين الحقيقي والمجازي ، وذلك من مقاصد القرآن.

و (ما ذا) بمعنى ما الذي ، و (ما) استفهام ، و (ذا) أصله اسم إشارة ، وهو إذا وقع بعد (ما) قام مقام اسم موصول. و (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قائم مقام صلة الموصول. وأصل وضع التركيب : ما هذا في السماوات والأرض ، أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض ، فكثر استعماله حتى صار في معنى : ما الذي. والمقصود : انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام ، فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين ، نحو : انظروا الشمس طالعة ، وانظروا السحاب ممطرا ، وهكذا ، وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو : انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث. ف (ذا) لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته ، وأخص ذلك التأمل في خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشأة دعوته ، والنظر فيما جاء به. فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه.

وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان ، فالتقدير : انظروا تروا آيات موصّلة إلى الإيمان.

١٨٥

وجملة : (وَما تُغْنِي الْآياتُ) معترضة ذيلت بها جملة : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيجوز أن تكون متممة لمقول القول مما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم ويجوز أن تكون استئناف كلام من الله تعالى. والمعنى أبلغهم ما أمرت بتبليغه إليهم وليست تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون ، أي الذين جعل الله نفوسهم لا تؤمن ، ولما كان قوله : انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مفيدا أن ذلك آيات كما تقدم حسن وقع التعبير عنها بالآيات هنا ، فمعنى (وَما تُغْنِي الْآياتُ) : وما يغني ما في السماوات والأرض عن قوم لا يؤمنون ، فكان التعبير بالآيات كالإظهار في مقام الإضمار. وزيدت (النذر) فعطفت على الآيات لزيادة التعميم في هذه الجملة حتى تكون أوسع دلالة من التي قبلها لتكون كالتذييل لها ، وذلك أن القرآن جاء للناس بالاستدلال وبالتخويف ثم سجل على هذا الفريق بأنه لا تنجع فيه الآيات والأدلة ولا النذر والمخوفات.

ولفظ (قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) يفيد أن انتفاء الإيمان عنهم وصف عرفوا به وأنه مستقر من نفوسهم ، لأن اجتلاب لفظ (قَوْمٍ) هنا مع صحة حلول غيره محله يشير إلى أن الوصف المذكور بعده من مقومات قوميتهم لأنه صار من خصائصهم ، بخلاف ما لو قيل : عمن لا يؤمنون. ألا ترى إلى قول العنبري :

قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

أي قوم هذه سجيتهم. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. وتقدم في هذه السورة غير مرة آنفا. وهو هنا أبدع لأنه عدل به عن الإضمار. وهذا من بدائع الإعجاز هنا.

[١٠٢ ، ١٠٣] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

تفريع على جملة (ما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) [يونس : ١٠١] باعتبار ما اشتملت عليه من ذكر النذر. فهي خطاب من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يتفرع على انتفاء انتفاعهم بالآيات والنذر وعلى إصرارهم أن يسأل عنهم : ما ذا ينتظرون ، ويجاب بأنهم ما ينتظرون إلا مثل ما حلّ بمن قبلهم ممن سيقت قصصهم في الآيات الماضية ، ووقع الاستفهام بهل

١٨٦

لإفادتها تحقيق السؤال وهو باعتبار تحقيق المسئول عنه وأنه جدير بالجواب بالتحقيق.

والاستفهام مجاز تهكمي إنكاري ، نزلوا منزلة من ينتظرون شيئا يأتيهم ليؤمنوا ، وليس ثمة شيء يصلح لأن ينتظروه إلا أن ينتظروا حلول مثل أيام الذين خلوا من قبلهم التي هلكوا فيها. وضمن الاستفهام معنى النفي بقرينة الاستثناء المفرّغ. والتقدير : فهل ينتظرون شيئا ما ينتظرون إلّا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم. وأطلقت الأيام على ما يقع فيها من الأحداث العظيمة. ومن هذا إطلاق «أيام العرب» على الوقائع الواقعة فيها.

وجملة : (قُلْ فَانْتَظِرُوا) مفرعة على جملة : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ). وفصل بين المفرّع والمفرّع عليه ب (قُلِ) لزيادة الاهتمام. ولينتقل من مخاطبة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه وبذلك يصير التفريع بين كلامين مختلفي القائل شبيها بعطف التلقين الذي في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤]. على أن الاختلاف بين كلام الله وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقام الوحي والتبليغ اختلاف ضعيف لأنهما آئلان إلى كلام واحد. وهذا موقع غريب لفاء التفريع.

وبهذا النسج حصل إيجاز بديع لأنه بالتفريع اعتبر ناشئا عن كلام الله تعالى فكأنّ الله بلغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبلّغه قومه فليس له فيه إلّا التبليغ ، وهو يتضمن وعد الله نبيئه بأنه يرى ما ينتظرهم من العذاب ، فهو وعيد وهو يتضمن النصر عليهم. وسيصرح بذلك في قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا).

وجملة : (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) استئناف بياني ناشئ عن جملة : فَانْتَظِرُوا) لأنها تثير سؤال سائل يقول : ها نحن أولاء ننتظر وأنت ما ذا تفعل. وهذا مستعمل كناية عن ترقبه النصر إذ لا يظن به أنه ينتظر سوءا فتعين أنه ينتظر من ذلك ضد ما يحصل لهم ، فالمعية في أصل الانتظار لا في الحاصل بالانتظار. و (مع) حال مؤكدة. و (مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) خبر (إنّ) ومفاده مفاد (مع) إذ ما صدق المنتظرين هم المخاطبون المنتظرون.

و (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) عطف على جملة : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) لأن مثل تلك الأيام يوم عذاب. ولما كانوا مهددين بعذاب يحل بموضع فيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون عجل الله البشارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأنه ينجيهم من ذلك العذاب بقدرته كما أنجى الرسل من قبله.

وجملة : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) تذييل. والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى

١٨٧

الإنجاء المستفاد من (ثُمَّ نُنَجِّي).

و (حَقًّا عَلَيْنا) جملة معترضة لأن المصدر بدل من الفعل ، أي حق ذلك علينا حقا.

وجعله الله حقا عليه تحقيقا للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه.

وقرأ الجمهور (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بفتح النون الثانية وتشديد الجيم على وزان نُنَجِّي رُسُلَنا). وقرأ الكسائي ، وحفص عن عاصم (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء. فالمخالفة بينه وبين نظيره الذي قبله تفنن ، والمعنى واحد.

وكتب في المصحف (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بدون ياء بعد الجيم على صورة النطق بها للاتقاء الساكنين.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤))

هذه الجملة متصلة المعنى بجملة : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١] ، إذ المقصود من النظر المأمور به هنالك النظر للاستدلال على إثبات الوحدانية ، فإن جحودهم إيّاها هو الذي أقدمهم على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : إن الله بعثه بإثباتها وأبطل الإشراك ، فلما أمرهم بالنظر المؤدي إلى إثبات انفراده تعالى بالإلهية أعقبه بأن يخبرهم بأنهم إن استمروا على الشك فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت على ما جاء به وأن دلائل صحة دينه بينة للناظرين. والمراد ب «الناس» في هذا الخطاب المشركون من أهل مكة ، أو جميع أمة الدعوة الذين لمّا يستجيبوا للدعوة.

و (في) من قوله : (فِي شَكٍ) للظرفية المجازية المستعملة في التمكن تشبيها لتمكن الصفة بتمكن الظرف من المظروف من جهة الإحاطة.

وعلق الظرف بذات الدين ، والمراد الشك في حالة من أحواله وهي الحالة الملتبسة بهم أعني حالة حقيته.

و (من) في قوله : (مِنْ دِينِي) للابتداء المجازي ، أي شك آت من ديني. وهو ابتداء يؤول إلى معنى السببية ، أي إن كنتم شاكين شكا سببه ديني ، أي يتعلق بحقيقته ، لأن الشك يحمل في كل مقام على ما يناسبه ، كقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤]. وقد تقدم آنفا. وقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣].

١٨٨

والشك في الدين هو الشك في كونه حقا ، وكونه من عند الله. وإنما يكون هذا الشك عند عدم تصور حقيقة هذا الدين بالكنه وعدم الاستدلال عليه ، فالشك في صدقه يستلزم الشك في ماهيته لأنهم لو أدركوا كنهه لما شكّوا في حقيته.

وجملة : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) واقعة موقع جواب الشرط ودالة عليه في المعنى. فالتقدير الجواب : فأنا على يقين من فساد دينكم ، فلا أتبعه ، فلا أعبد الذين تعبدونهم ولكن أعبد الله.

ولما كان مضمون هذه الجملة هو أصل دين الإسلام. فيجوز أن يكون في الآية معنى ثان ، أي إن كنتم في شك من معرفة هذا الدين فخلاصته أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكني أعبد الله وحده ، فيكون في معنى قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ١ ، ٢] ثم قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] فيتأتى في هذه الآية غرضان. فيكون المراد بالناس في قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) جميع أمة الدعوة الذين لم يسلموا.

والذين يعبدونهم الأصنام. وعوملت الأصنام معاملة العقلاء فأطلق عليها اسم الموصول الذي لجماعة العقلاء مجاراة لما يعتقدونه فيها من العقل والتدبير. ونظير هذا في القرآن كثير.

واختيار صلة التوفّي هنا في نعت اسم الجلالة لما فيها من الدلالة على كمال التصرف في المخلوق فإن المشركين لم يبلغ بهم الإشراك إلى ادعاء أن الأصنام تحيي وتميت. واختيار ذلك من بين الصفات الخاصة بالله تعالى تعريض بتذكيرهم بأنهم معرّضون للموت فيقصّرون من طغيانهم.

والجمع بين نفي أن يعبد الأصنام ، وبين إثبات أنه يعبد الله ؛ يقوم مقام صيغة القصر لو قال : فلا أعبد إلا الله ، فوجه العدول عن صيغة القصر : أنّ شأنها أن يطوى فيها الطرف المنفي للاستغناء عنه بالطرف المثبت لأنه المقصود. وذلك حين يكون الغرض الأصلي هو طرف الإثبات ، فأما إذا كان طرف النفي هو الأهم كما هنا وهو إبطال عبادة الأصنام أوّلا عدل على صيغة القصر إلى ذكر صيغتي نفي وإثبات. فهو إطناب اقتضاء المقام ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل :

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

١٨٩

و (أُمِرْتُ) عطف على جملة : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

و (أَنْ أَكُونَ) متعلق ب (أُمِرْتُ) بحذف حرف الجر. وهو الباء التي هي لتعدية فعل (أمرت) ، و (أن) مصدرية لأن نصب الفعل المضارع بعدها يعين أنها مصدرية ويمنع احتمال أنها تفسيرية.

وأريد بالمؤمنين عقائب هذا اللقب الذين آمنوا بالله وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن والبعث فإذا أطلق لفظ المؤمنين انصرف إلى القوم الذين اتصفوا بالإسلام ، ولذلك لا يقدر للمؤمنين متعلق. وفي جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة المؤمنين تشريف لهذا الجمع وتنويه به.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥))

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)

موقع هذه الجملة معضل لأن الواو عاطفة على محالة ، ووقعت بعدها (أن).

فالأظهر أن تكون (أن) مصدرية ، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة (أن) أن تكون جملة خبرية. قال في «الكشاف» : قد سوغ سيبويه أن توصف (أن) بالأمر والنهي ، لأن الغرض وصل (أن) بما تكون معه في معنى المصدر ، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال اه. يشير إلى ما في «كتاب سيبويه» «باب تكون (أن) فيه بمنزلة (أي)». فالمعنى : وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفا ، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد.

وقيل الواو عطفت فعلا مقدّرا يدل عليه فعل (أمرت). والتقدير : وأوحي إلي ، وتكون (أن) مفسرة للفعل المقدر ، لأنه فيه معنى القول دون حروفه.

وعندي : أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضى بلاغي ، فلا بد من أن يكون لصيغة (أَقِمْ وَجْهَكَ) خصوصية في هذا المقام ، فلنعرض عمّا وقع في «الكشاف» وعن جعل الآية مثالا لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعا في استعمالها بأن استعملت نائبة مناب الفعل الذي عطفت عليه ، أي فعل (أُمِرْتُ) [يونس : ١٠٤] دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره. والتقدير : أمرت أن أقم وجهك فتكون (أن) تفسيرا لما في الواو من تقدير لفظ فعل (أمرت) لقصد حكاية اللفظ الذي أمره الله به بلفظه ، وليتأتّى عطف (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عليه. وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات ، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما

١٩٠

أَنْزَلَ اللهُ) في سورة العقود [٤٩] ، وهو هنا أوعب.

والإقامة : جعل الشيء قائما. وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر. واللام للعلة ، أي لأجل الدين ، فيصير المعنى : محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكا في توجهك. وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها. وقريب منه قوله : أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) في سورة آل عمران [٢٠].

و (حَنِيفاً) حال من (لِلدِّينِ) وهو دين التوحيد ، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة البقرة [١٣٥].

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحا بمعنى (حَنِيفاً). وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرّؤ من الشرك.

وقد تقدم غير مرة أن قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ونحوه أبلغ في الاتصاف من نحو : لا تكن مشركا ، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

عطف على (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يونس : ١٠٥]. ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد ؛ لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة ، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله : (ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) يومئ إلى وجه النهي عن دعائك ، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) اعتراض بين فعل (تَدْعُ) ومفعوله ، وهو إدماج للحث على دعائه الله.

وتفريع (فَإِنْ فَعَلْتَ) على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته ، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه.

١٩١

وأكّد الكون من الظالمين على ذلك التقدير ب (إنّ) لزيادة التحذير ، وأتي ب (إذن) للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلا سأل : فإن فعلت فما ذا يكون؟.

وفي قوله : (مِنَ الظَّالِمِينَ) من تأكيد مثل ما تقدم في قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يونس : ١٠٥] ونظائره.

والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين ، على حد قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

عطف على جملة : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) [يونس : ١٠٦] لقصد التعريض بإبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله ، فلما أبطلت الآية السابقة أن تكون الأصنام نافعة أو ضارة ، وكان إسناد النفع أو الضر أكثر ما يقع على معنى صدورهما من فاعلهما ابتداء ، ولا يتبادر من ذلك الإسناد معنى الوساطة في تحصيلهما من فاعل ، عقبت جملة (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) [يونس : ١٠٦] بهذه الجملة للإعلام بأن إرادة الله النفع أو الضر لأحد لا يستطيع غيره أن يصرفه عنها أو يتعرض فيها إلا من جعل الله له ذلك بدعاء أو شفاعة.

ووجه عطفها على الجملة السابقة لما بينهما من تغاير في المعنى بالتفصيل والزيادة ، وبصيغتي العموم في قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وفي قوله : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الداخل فيهما أصنامهم وهي المقصودة ، كما صرح به في قوله تعالى في سورة الزمر [٣٨]أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ).

وتوجيه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضر. فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود.

والمس : حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه ، وقد يطلق على الإصابة مجازا مرسلا. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ)

١٩٢

في آخر سورة الأعراف [٢٠١].

والإرادة بالخير : تقديره والقصد إليه. ولما كان الذي لا يعجزه شيء ولا يتردد علمه فإذا أراد شيئا فعله ، فإطلاق الإرادة هنا كناية عن الإصابة كما يدل عليه قوله بعده : يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). وقد عبر بالمس في موضع الإرادة في نظيرها في سورة الأنعام [١٧] (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولكن عبر هنا بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائنا من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله في خيره ولو كان بمجرد إرادته قبل حصول فعله ، فإن التعرض حينئذ أهون لأن الدفع أسهل من الرفع ، وأما آية سورة الأنعام فسياقها في بيان قدرة الله تعالى لا في تنزيهه عن المعارض والمعاند.

والفضل : هو الخير ، ولذلك فإيقاعه موقع الضمير للدلالة على أن الخير الواصل إلى الناس فضل من الله لا استحقاق لهم به لأنهم عبيد إليه يصيبهم بما يشاء.

وتنكير (ضر) و (خير) للنوعية الصالحة للقلة والكثرة.

وكل من جملة ؛ (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وجملة : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) جواب للشرط المذكور معها ، وليس الجواب بمحذوف.

وجملة : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) واقعة موقع البيان لما قبلها والحوصلة له ، فلذلك فصلت عنها.

والضمير المجرور بالباء عائد إلى الخير ، فيكون امتنانا وحثا على التعرض لمرضاة الله حتى يكون مما حقت عليهم مشيئة الله أن يصيبهم بالخير ؛ أو يعود إلى ما تقدم من الضر ، والضمير باعتبار أنه مذكور فيكون تخويفا وتبشيرا وتحذيرا وترغيبا.

وقد أجملت المشيئة هنا ولم تبين أسبابها ليسلك لها الناس كل مسلك يأملون منه تحصيلها في العطاء وكل مسلك يتقون بوقعهم فيها في الحرمان.

والإصابة : اتصال شيء بآخر ووروده عليه ، وهي في معنى المس المتقدم ، فقوله : يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) هو في معنى قوله في سورة الأنعام [١٧] (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

والتذييل بجملة : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يشير إلى أن إعطاء الخير فضل من الله

١٩٣

ورحمة وتجاوز منه تعالى عن سيئات عباده الصالحين ، وتقصيرهم وغفلاتهم ، فلو شاء لما تجاوز لهم عن شيء من ذلك فتورطوا كلهم.

ولو لا غفرانه لما كانوا أهلا لإصابة الخير ، لأنهم مع تفاوتهم في الكمال لا يخلون من قصور عن الفضل الخالد الذي هو الكمال عند الله ، كما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». ويشير أيضا إلى أن الله قد تجاوز عن كثير من سيئات عباده المسرفين ولم يؤاخذهم إلا بما لا يرضى عنه بحال كما قال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وأنه لو لا تجاوزه عن كثير لمسهم الله بضر شديد في الدنيا والآخرة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨))

استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب ، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاما جامعا وموادعة قاطعة.

وافتتاحها ب (قُلْ) للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي.

وافتتاح المقول بالنداء لاستيعاء سماعهم لأهمية ما سيقال لهم ، والخطاب لجميع الناس من مؤمن وكافر ، والمقصود منه ابتداء المشركون ، ولذلك أطيل الكلام في شأنهم ، وقد ذكر معهم من اهتدى تشريفا لهم.

وأكد الخبر بحرف (قَدْ) تسجيلا عليهم بأن ما فيه الحق قد أبلغ إليهم وتحقيقا لكونه حقا.

والحق : هو الدين الذي جاء به القرآن ، ووصفه ب (مِنْ رَبِّكُمْ) للتنويه بأنه حق مبين لا يخلطه باطل ولا ريب ، فهو معصوم من ذلك.

واختيار وصف الرب المضاف إلى ضمير (النَّاسُ) على اسم الجلالة للتنبيه على أنه إرشاد من الذي يحب صلاح عباده ويدعوهم إلى ما فيه نفعهم شأن من يربّ ، أي يسوس ويدبر.

وتفريع جملة : (فَمَنِ اهْتَدى) على جملة : (قَدْ جاءَكُمُ) للإشارة إلى أن مجيء

١٩٤

الحق الواضح يترتب عليه أن اتباعه غنم لمتبعه وليس مزية له على الله ، ليتوصل من ذلك إلى أن المعرض عنه قد ظلم نفسه ، ورتب عليها تبعة الإعراض.

واللام في قوله : (لِنَفْسِهِ) دالة على أن الاهتداء نعمة وغنى وأن الإعراض ضر على صاحبه.

ووجه الإتيان بطريقتي الحصر في (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وفي (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) للرد على المشركين إذ كانوا يتمطّون في الاقتراح فيقولون : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] ونحو ذلك مما يفيد أنهم يمنون عليه لو أسلموا ، وكان بعضهم يظهر أنه يغيظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبقاء على الكفر فكان القصر مفيدا أن اهتداءه مقصور على تعلق اهتدائه بمعنى اللام في قوله : (لِنَفْسِهِ) أي بفائدة نفسه لا يتجاوزه إلى التعلق بفائدتي. وأن ضلاله مقصور على التعلق بمعنى على نفسه ، أي لمضرتها لا يتجاوزه إلى التعلق بمضرتي.

وجملة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) معطوفة على جملة (فَمَنِ اهْتَدى) فهي داخلة في حيز التفريع ، وإتمام للمفرع ، لأنه إذا كان اهتداء المهتدي لنفسه وضلال الضال على نفسه تحقق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مأمور من الله بأكثر من التبليغ وأنه لا نفع لنفسه في اهتدائهم ولا يضره ضلالهم ، فلا يحسبوا حرصه لنفع نفسه أو دفع ضر عنها حتى يتمطّوا ويشترطوا ، وأنه ناصح لهم ومبلغ ما في اتباعه خيرهم والإعراض عنه ضرّهم.

والإتيان بالجملة الاسمية المنفية للدلالة على دوام انتفاء ذلك الحكم وثباته في سائر الأحوال.

ومعنى الوكيل : الموكول إليه تحصيل الأمر. و (عَلَيْكُمْ) بمعنى على اهتدائكم فدخل حرف الجر على الذات والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

عطف على (قُلْ) أي بلغ الناس ذلك القول (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) ، أي اتبع في نفسك وأصحابك ما يوحى إليك. و (اصْبِرْ) أي على معاندة الذين لم يؤمنوا بقرينة الغاية بقوله : (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) فإنها غاية لهذا الصبر الخاص لا لمطلق الصبر.

ولما كان الحكم يقتضي فريقين حذف متعلقه تعويلا على قرينة السياق ، أي حتى

١٩٥

يحكم الله بينك وبينهم.

وجملة : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ثناء وتذييل لما فيه من العموم ، أي وهو خير الحاكمين بين كل خصمين في هذه القضية وفي غيرها ، فالتعريف في (الْحاكِمِينَ) للاستغراق بقرينة التذييل.

و (خَيْرُ) تفضيل ، أصله أخير فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. والأخيرية من الحاكمين أخيرية وفاء الإنصاف في إعطاء الحقوق. وهي هنا كناية عن معاقبة الظالم ، لأن الأمر بالصبر مشعر بأن المأمور به معتدى عليه ، ففي الإخبار بأن الله خير الحاكمين إيماء بأن الله ناصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا. وهذا كلام جامع فيه براعة المقطع.

١٩٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١ ـ سورة هود

سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود ، ولا يعرف لها اسم غير ذلك ، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : «يا رسول الله قد شبت؟ قال : شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت». رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.

وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود : ٦٠] ، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب (الر).

وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير ، وقتادة إلّا آية واحدة وهي (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى قوله : (لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١٤]. وقال ابن عطية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] ، وقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) إلى قوله (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [هود : ١٧] قيل نزلت في عبد الله بن سلام ، وقوله : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] الآية. قيل نزلت في قصة أبي اليسر كما سيأتي ، والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي ، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.

نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف. وقد عدّت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة

١٩٧

يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة ، وسيأتي بيان هذا.

وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين ، وهي كذلك في عدد أهل الشام وفي عدد أهل البصرة وأهل الكوفة مائة وثلاث وعشرون.

وأغراضها : ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.

وبإتلائها بالتنويه بالقرآن.

وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.

وبأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.

وإثبات الحشر.

والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.

وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.

وخلق العوالم بعد أن لم تكن.

وأن مرجع الناس إليه ، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢].

وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته تعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.

وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.

وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح ـ وتفصيل ما حل بهم ـ وعاد وثمود ، وإبراهيم ، وقوم لوط ، ومدين ، ورسالة موسى ، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونها.

١٩٨

وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.

وأن ملاك ضلال الضالّين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.

وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.

ثم عرض باستئناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين ، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.

وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة.

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١))

(الر)

تقدم القول على الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وغيرها من نظرائها وما سورة يونس ببعيد.

(كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)

القول في الافتتاح بقوله : (كِتابٌ) وتنكيره مماثل لما في قوله : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في سورة الأعراف [٢].

والمعنى : أن القرآن كتاب من عند الله فلما ذا يعجب المشركون من ذلك ويكذبون به. ف (كتاب) مبتدأ ، سوغ الابتداء ما فيه من التنكير للنوعية.

و (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) خبر و (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) صفة ل (كتاب) ، ولك أن تجعل (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) صفة مخصصة ، وهي مسوغ الابتداء. ولك أن تجعل (أحكمت) هو الخبر. وتجعل (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ظرفا لغوا متعلقا ب (أُحْكِمَتْ) و فُصِّلَتْ).

والإحكام : إتقان الصنع ، مشتق من الحكمة بكسر الحاء وسكون الكاف. وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الإخلال التي تعرض لنوعها ، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ. وتقدم عند قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) في أول سورة آل عمران [٧]. وبهذا المعنى تنبئ المقابلة

١٩٩

بقوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ).

وآيات القرآن : الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل. وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في أوائل سورة البقرة [٣٩] ، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

والتفصيل : التوضيح والبيان. وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه ، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥].

ونظيره : الفرق ، كنى به عن البيان فسمي القرآن فرقانا. وعن الفصل فسمي يوم بدر يوم الفرقان ، ومنه في ذكر ليلة القدر (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤].

و (ثم) للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح.

و (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته ، وإيضاح التبيين لقوة علمه. والخبير : العالم بخفايا الأشياء ، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز ، فالحكيم مقابل ل (أُحْكِمَتْ) ، والخبير مقابل ل (فُصِّلَتْ). وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم ، إلا أنه روعي في المقابلة الفعل الذي هو أثر إحدى الصفتين أشدّ تبادرا فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢))

(أن) تفسيرية لما في معنى (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] من الدلالة على أقوال محكمة ومفصلة فكأنه قيل : أوحى إليك في هذا الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله ، فهذه الجملة تفسيرية لما أحكم من الآيات لأن النهي عن عبادة غير الله وإيجاب عبادة الله هو أصل الدين ، وإليه مرجع جميع الصفات التي ثبتت لله تعالى بالدليل ، وهو الذي يتفرع عنه جميع التفاصيل ، ولذلك تكرر الأمر بالتوحيد والاستدلال عليه في القرآن ، وأن أول آية نزلت كان فيها الأمر بملابسة اسم الله لأول قراءة القرآن في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١].

٢٠٠