تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

لوصف اليوم بعصيب. وأراد : أنه سيكون عصيبا لما يعلم من عادة قومه السيئة وهو مقتض أنهم جاءوه نهارا.

ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود ، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه ، فإذا علم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعا ، ثم يصدر تعبيرا عن المعاني وترتيبا عنه كلاما يريح به نفسه.

وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالا لإنشاء المنشئ إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر ، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨))

أي جاءه بعض قومه. وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالئوا على مثله ، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر. وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها ، كقول الحارث بن وعلة الجرمي :

قومي هم قتلوا أميمة أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

و (يُهْرَعُونَ) ـ بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول ـ فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع ، وهو بين الخبب والجمز ، فهو لا يكون إلا مبنيّا للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يسرع به. وهذا البناء يقتضي أن الهرع هو دفع الماشي حين مشيه ؛ إلّا أن ذلك تنوسي ، وبقي أهرع بمعنى سار سيرا كسير المدفوع ، ولذلك قال جمع من أهل اللغة: إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعل غير معلوم. وفسّره في «الصحاح» و«القاموس» بأنه الارتعاد من غضب أو خوف ، وعلى الوجهين فجملة (يُهْرَعُونَ) حال.

وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاءوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) فقد صارت لهم دأبا لا يسعون إلّا لأجله.

وجملة (قالَ يا قَوْمِ) إلخ مستأنفة بيانيا ناشئا عن جملة (وَجاءَهُ قَوْمُهُ) ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم ، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به.

٣٠١

وبادرهم لوط ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ). وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه ، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) [هود : ٧٩] ، كما سيأتي.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى (بَناتِي). و (بَناتِي) بدل من اسم الإشارة ، والإشارة مستعملة في العرض ، والتقدير : فخذوهن.

وجملة (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) تعليل للعرض. ومعنى (هُنَّ أَطْهَرُ) أنهنّ حلال لكم يحلن بينكم وبين الفاحشة ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة.

و (هؤُلاءِ) إشارة إلى جمع ، إذ بيّن بقوله : (بَناتِي).

وقد روي أنه لم يكن له إلّا ابنتان ، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساء من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون ، فيكون المعنى : هؤلاء النساء فتزوّجوهنّ. وهذا أحسن المحامل.

وقيل : أراد بنات صلبه ، وهو رواية عن قتادة. وإذ كان المشهور أنّ لوطا ـ عليه‌السلام ـ له ابنتان صار الجمع مستعملا في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤].

وقيل : كان له ثلاث بنات.

وتعترض هذا المحمل عقبتان :

الأولى : أنّ القوم كانوا عددا كثيرا فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث؟!.

الثانية : أن قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) عرض عليهم كما علمت آنفا ، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير ، فإن كان تزويجا لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو؟.

والجواب عن الأول : أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاءوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه. وعن الثاني : أنه يجوز أن يكون تصرف لوط ـ عليه‌السلام ـ في بناته بوصف الأبوة ، ويجوز أن يكون تصرفا بوصف النبوءة بالوحي للمصلحة

٣٠٢

أن يكون من شرع لوط ـ عليه‌السلام ـ إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء ، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهنّ حلالا في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ.

وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهنّ فيجوز أن يكون الولد لاحقا بالذي تليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها ، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام ، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمّهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللّعان ، ويكون هذا التحليل مباحا ارتكابا لأخف الضررين ، وهو ممّا يشرع شرعا مؤقتا مثل ما شرع نكاح المتعة في أوّل الإسلام على القول بأنّه محرّما وهو قول الجمهور.

وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفّار وهو فضول.

وفرع على قوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أن أمرهم بتقوى الله لأنّهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتّقوا الله.

وقرأ الجمهور (وَلا تُخْزُونِ) بحذف ياء المتكلم تخفيفا. وأثبتها أبو عمرو.

والخزي : الإهانة والمذلة. وتقدم آنفا. وأراد مذلته.

و (فِي) للظرفية المجازيّة. جعل الضيف كالظرف ، أي لا تجعلوني مخزيا عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنّ الضيافة جوار عند ربّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عارا على ربّ المنزل.

والضيف : الضائف ، أي النازل في منزل أحد نزولا غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة.

وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف ، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر ، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم:

نزلتم منزل الأضياف منّا

وقد ظن لوط ـ عليه‌السلام ـ الملائكة رجالا مارّين ببيته فنزلوا عنده للاستراحة والطعام والمبيت.

والاستفهام في (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) إنكار وتوبيخ لأنّ إهانة الضيف مسبّة لا

٣٠٣

يفعلها إلّا أهل السفاهة.

وقوله : (مِنْكُمْ) بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم ، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطّن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم ، فإنّ ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم. وبالعكس تمالؤهم على الباطل يزيدهم ضراوة به.

[٧٩ ، ٨٠] (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

فصلت جملة (قالُوا) عن التي قبلها لوقوعها موقع المحاورة مع لوط ـ عليه‌السلام ـ.

و (لَقَدْ عَلِمْتَ) تأكيد لكونه يعلم. فأكد بتنزيله منزلة من ينكر أنه يعلم لأن حالة في عرضه بناته عليهم كحال من لا يعلم خلقهم ، وكذلك التوكيد في (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) ، وكلا الخبرين مستعمل في لازم فائدة الخبر ، أي نحن نعلم أنك قد علمت ما لنا رغبة في بناتك وإنك تعلم مرادنا.

ومثله قوله حكاية عن قوم إبراهيم (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)[الأنبياء : ٦٥].

و (ما) الأولى نافية معلّقة لفعل العلم عن العمل ، و (ما) الثانية موصولة.

والحق : ما يحقّ ، أي يجب لأحد أو عليه ، فيقال : له حق في كذا ، إذا كان مستحقا له ، ويقال : ما له حق في كذا ، بمعنى لا يستحقه ، فالظاهر أنه أطلق هنا كناية عن عدم التعلّق بالشيء وعن التجافي عنه. وهو إطلاق لم أر مثله ، وقد تحيّر المفسرون في تقريره.

والمعنى : ما لنا في بناتك رغبة.

وجوابه ب (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) جواب يائس من ارعوائهم.

و (لَوْ) مستعملة في التمنّي ، وهذا أقصى ما أمكنه في تغيير هذا المنكر.

والباء في (بِكُمْ) للاستعلاء ، أي عليكم. يقال : ما لي به قوة وما لي به طاقة. ومنه قوله تعالى : (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ) [البقرة : ٢٤٩].

ويقولون : ما لي بهذا الأمر يدان ، أي قدرة أو حيلة عليه.

٣٠٤

والمعنى : ليت لي قوة أدفعكم بها ، ويريد بذلك قوة أنصار لأنّه كان غريبا بينهم.

ومعنى (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أو أعتصم بما فيه منعة ، أي بمكان أو ذي سلطان يمنعني منكم.

والركن : الشق من الجبل المتّصل بالأرض.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١))

هذا كلام الملائكة للوط ـ عليه‌السلام ـ كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى. وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول : لوط ـ عليه‌السلام ـ وقول قومه. وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطا ـ عليه‌السلام ـ وحي أوحاه الله إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ بواسطة الملائكة ، فإنّه لمّا بلغ بلوط توقع أذى ضيفه مبلغ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠].

وابتدأ الملائكة خطابهم لوطا ـ عليه‌السلام ـ بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلّا لإظهار الحق. قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨]. ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم : (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ). وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه. وقد صرف الله الكفّار عن لوط ـ عليه‌السلام ـ فرجعوا من حيث أتوا ، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطا ـ عليه‌السلام ـ أخفاهم فكانوا يؤذون لوطا ـ عليه‌السلام ـ. ولذلك قال له الملائكة (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولم يقولوا لن ينالوا ، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطا ـ عليه‌السلام ـ بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم ، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم.

ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطا ـ عليه‌السلام ـ عن ضيفه حتى قالوا : إنّ ضيف لوط سحرة فانصرفوا. وذلك ظاهر قوله تعالى : في سورة القمر [٣٧]

٣٠٥

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ).

وجملة (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) مبيّنة لإجمال جملة (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان.

وتفريع الأمر بالسرى على جملة (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) لما في حرف (لَنْ) من ضمان سلامته في المستقبل كلّه. فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته ، فذلك موقع فاء التفريع.

و (أسر) أمر بالسرى ـ بضم السين والقصر ـ. وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح. وفعله : سرى يقال بدون همزة في أوّله ويقال : أسرى بالهمزة.

قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر ـ بهمزة وصل ـ على أنه أمر من سرى. وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى.

وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لما صحّ أن يقال : أسر بهم للفرق بين أذهبت زيدا وبين ذهبت به.

والقطع ـ بكسر القاف ـ : الجزء من الليل.

وجملة (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كما دلّت عليه القرينة.

وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضبا لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كيلا يلاقي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقّ عليه دفاعهم.

و (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من أهلك ، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتبارا بأنه مستثنى من أهلك وذلك كلام موجب ، والمعنى : لا تسر بها ، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ـ برفع ـ امْرَأَتَكَ) على أنه استثناء من (أَحَدٌ) الواقع في سياق النهي ، وهو في معنى النفي. قيل : أنّ امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنّت إلى قومها فرجعت إليهم. والمعنى أنه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأته للنهي فالتفتت ، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدّر دلّ عليه النهي. والتقدير : فلا يلتفتون إلّا امرأتك

٣٠٦

تلتفت.

وجملة (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء من الكلام المقدّر.

وفي قوله : (ما أَصابَهُمْ) استعمال فعل المضي في معنى الحال ، ومقتضى الظاهر أن يقال : ما يصيبهم ، فاستعمال فعل المضيء لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية ، أو في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

وجملة (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قبلها اهتماما وتهويلا.

والموعد : وقت الوعد. والوعد أعمّ من الوعيد فيطلق على تعيين الشرّ في المستقبل. والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي عمله لوط ـ عليه‌السلام ـ إما بوحي سابق ، وإما بقرينة الحال ، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا ، وبهذه الاعتبارات صحّ تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.

وجملة (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) استئناف بيانيّ صدر من الملائكة جوابا عن سؤال بجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب.

والاستفهام تقريريّ ، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرّر ليعرف خطأه. وإنّما قالوا ذلك في أوّل الليل.

[٨٢ ، ٨٣] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

تقدّم الكلام على نظير (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا).

وقوله : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) تعود الضّمائر الثلاثة المجرورة بالإضافة وبحرف (على) على القرية المفهومة من السياق.

والمعنى أن القرية انقلبت عليهم انقلاب خسف حتى صار عالي البيوت سافلا ، أي وسافلها عاليا ، وذلك من انقلاب الأرض بهم.

٣٠٧

وإنما اقتصر على ذكر جعل العالي سافلا لأنه أدخل في الإهانة.

والسجّيل : فسّر بواد نار في جهنّم يقال : سجّيل باللّام ، وسجّين بالنون. و (مِنْ) تبعيضية ، وهو تشبيه بليغ ، أي بحجارة كأنّها من سجيل جهنم ، كقول كعب بن زهير :

وجلدها من أطوم البيت

وقد جاء في التّوراة : أن الله أرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء. ولعلّ الخسف فجّر من الأرض براكين قذفت عليهم حجارة معادن محرقة كالكبريت ، أو لعلّ بركانا كان قريبا من مدنهم انفجر باضطرابات أرضية ثم زال من ذلك المكان بحوادث تعاقبت في القرون ، أو طمى عليه البحر وبقي أثر البحر عليها حتّى الآن ، وهو المسمّى بحيرة لوط أو البحر الميت.

وقيل : سجّيل معرب (سنك جيل) عن الفارسية أي حجر مخلوط بطين.

والمنضود : الموضوع بعضه على بعض. والمعنى هنا أنها متتابعة متتالية في النزول ليس بينها فترة. والمراد وصف الحجارة بذلك إلا أن الحجارة لمّا جعلت من سجّيل ، أجري الوصف على سجّيل وهو يفضي إلى وصف الحجارة لأنّها منه.

والمسوّمة : التي لها سيما ، وهي العلامة. والعلامات توضع لأغراض ، منها عدم الاشتباه ، ومنها سهولة الإحضار ، وهو هنا مكنّى به عن المعدّة المهيّئة لأن الإعداد من لوازم التوسيم بقرينة قوله : (عِنْدَ رَبِّكَ) لأن تسويمها عند الله هو تقديره إياها لهم.

وضمير (وَما هِيَ) يصلح لأن يعود إلى ما عادت إليه الضمائر المجرورة قبله وهي المدينة ، فيكون المعنى وما تلك القرية ببعيد من المشركين ، أي العرب ، فمن شاء فليذهب إليها فينظر مصيرها ، فالمراد البعد المكانيّ. ويصلح لأن يعود إلى الحجارة ، أي وما تلك الحجارة ببعيد ، أي أنّ الله قادر على أن يرمي المشركين بمثلها. والبعد بمعنى تعذّر الحصول ونفيه بإمكان حصوله. وهذا من الكلام الموجّه مع صحة المعنيين وهو بعيد.

وجرّد بعيد عن تاء التأنيث مع كونه خبرا عن الحجارة وهي مؤنث لفظا ، ومع كون بعيد هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول ، فالشأن أن يطابق موصوفه في تأنيثه ، ولكن العرب قد يجرون فعيلا الذي بمعنى فاعل مجرى الذي بمعنى مفعول إذا جرى على مؤنث غير حقيقي التأنيث زيادة في التخفيف ، كقوله تعالى في سورة الأعراف [٥٦] (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب :

٣٠٨

٦٣] وقوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨]. وقيل : إن قوله : وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] من هذا القبيل ، أي باغية. وقيل : أصله فعول بغوي فوقع إبدال وإدغام. وتأوّل الزمخشري ما هنا على أنه صفة لمحذوف ، أي بمكان بعيد ، أو بشيء بعيد عن الاحتمالين في معاد ضمير (هِيَ).

[٨٤ ـ ٨٦] (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) ـ إلى قوله ـ (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) نظير قوله : وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [هود : ٦١] إلخ.

أمرهم بثلاثة أمور :

أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر.

وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض.

ووسط بينهما الثاني : وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشيا فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد ، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان.

فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم ، وهي خيانة المكيال والميزان. وقد تقدّم ذلك في سورة الأعراف. وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدر ، لأن المكتال مسترسل مستسلم. ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيال والميزان فعزّزه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما.

وجملة (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان. والمقصود من إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أنكم بخير. وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحقّ عليهم شكرها. والباء في (بِخَيْرٍ) للملابسة.

والخير : حسن الحالة. ويطلق على المال كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)[البقرة : ١٨٠].

٣٠٩

والأولى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة. وهذا التعليل يقتضي قبح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه. وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة.

ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذابا يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا. ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله : (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ). وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان واهبها.

و (مُحِيطٍ) وصف ل (يَوْمٍ) على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه.

وإعادة النداء في جملة (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ) لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها ، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان. وهذا الأمر تأكيد للنّهي عن نقصهما. والشيء يؤكد بنفي ضده ، كقوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩]. لزيادة التّرغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده.

والباء في قوله (بِالْقِسْطِ) للملابسة. وهو متعلق ب (أَوْفُوا) فيفيد أن الإيفاء يلابسه القسط ، أي العدل تعليلا للأمر به ، لأنّ العدل معروف حسن ، وتنبيها على أنّ ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر.

والقسط تقدم في قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في آل عمران [١٨].

والبخس : النقص. وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا. وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص. لأنّ التطفيف من بخس الناس في أشيائهم ، وتعدية (تَبْخَسُوا) إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا.

والعثي ـ بالياء ـ من باب سعى ورمى ورضي ، وبالواو كدعا ، هو : الفساد. ولذلك فقوله (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد.

والمراد : النهي عن الفساد كله ، كما يدلّ عليه قوله : (فِي الْأَرْضِ) المقصود منه تعميم أماكن الفساد.

والفساد تقدم في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) في أول سورة البقرة [١١].

٣١٠

وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العامّ ، وبه حصلت خمسة مؤكدات : بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص ، ثم بالتّعميم بعد التخصيص ، ثم بزيادة التعميم ، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان ، ثمّ بتأكيده بالمؤكد اللفظي.

وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوح من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف. ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس. ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كلّه. وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال.

وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادّخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل.

ولفظ (بَقِيَّتُ) كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي.

فأمّا كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال. وأيضا فلأنّ نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها. قال ابن عطاء الله : «من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها».

وأمّا كونه أخرويا فلأنّ نهي الله عنها مقارن للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم : ٧٦].

على أنّ لفظ (البقية) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير

٣١١

والبركة لأنّه لا يبقى إلّا ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت (البقية) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) [البقرة : ٢٤٨] ، وقوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) [هود : ١١٦] وقال عمرو بن معديكرب أو رويشد الطائي :

إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم

فما عليّ بذنب منكم فوت

قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم.

وفي كلمة (البقية) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال : ابقوا علينا ، ويقولون «البقية البقية» بالنصب على الإغراء ، قال الأعشى :

قالوا البقية ـ والهنديّ يحصدهم

ولا بقية إلا الثار ـ وانكشفوا

وقال مسور بن زيادة الحارثي :

أذكّر بالبقيا على من أصابني

وبقياي أنّي جاهد غير مؤتلي

والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السّيئة العاقبة ، فيكون تعريضا بوعيد الاستئصال. وكل هذه المعاني صالحة هنا. ولعلّ كلام شعيب ـ عليه‌السلام ـ قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة.

وإضافة (بقية) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقا إضافة تشريف وتيمّن. وهي إضافة على معنى اللّام لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلّا إذا صدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيرا لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيرا لهم ، أي لا تكون البقية خيرا إلّا للمؤمنين.

وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريبا لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالا بإيمانهم لئلّا يفجأهم العذاب فيفوت التدارك.

وجملة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) في موضع الحال من ضمير (اعْبُدُوا) ونظائره ، أي

٣١٢

افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله.

والحفيظ : المجبر ، كقوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] وتقدم عند قوله تعالى : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) في سورة الأنعام [١٠٧]. والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر. وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧))

كانت الصلاة من عماد الأديان كلّها. وكان المكذبون الملحدون قد تمالئوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣] ، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلّغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم ـ بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد ـ قصدا للتهكم به والسخرية عليه تكذيبا له فيما جاءهم به ، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر. والمعنى أنّ صلاته تأمره بأنهم يتركون ، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم. إذ معنى كونه مأمورا بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء.

و (ما) في قوله : (ما يَعْبُدُ آباؤُنا) موصولة صادقة على المعبودات. ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل (يَعْبُدُ). ويجوز أن تكون (ما) مصدرية بتقدير : أن نترك مثل عبادة آبائنا.

وقرأ الجمهور «أصلواتك» بصيغة جمع صلاة. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف «أصلاتك» بصيغة المفرد.

و (أَوْ) من قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتّجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميّز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف. فقوله : (أَنْ نَفْعَلَ) عطف على (ما يَعْبُدُ آباؤُنا) ، أي أن نترك فعل ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه.

وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل (أَوْ) بمعنى واو الجمع ، كما درج عليه كثير من

٣١٣

المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفا على (نَتْرُكَ) فتوجّسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري. وتأوله بوجهين : أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة ، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل (تَأْمُرُكَ) وكلاهما تكلف. وأما الأكثر فصاروا إلى صرف (أَوْ) عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك. وسكت عنه كثير مثل صاحب «الكشاف». وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به.

وجملة (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) استئناف تهكم آخر. وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف (إنّ) ولام القسم ، وبصيغة القصر في جملة (لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) فاشتملت على أربعة مؤكدات.

والحليم ، زيادة في التهكم : ذو الحلم أي العقل ، والرشيد : الحسن التدبير في المال.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))

تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح ـ عليهما‌السلام ـ.

والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح ـ عليهما‌السلام ـ وهو نعمة النبوءة ، وإنّما عبّر شعيب ـ عليه‌السلام ـ عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : ٨٧] لأنّ الأموال أرزاق. وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام ، أو يدل عليه (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي). والتقدير : ما ذا يسعكم في تكذيبي ، أو ما ذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي ، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقا ، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال ، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم.

ومعنى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) عند جميع المفسّرين من التّابعين فمن بعدهم : ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها ، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله. وبيّن في «الكشاف» إفادة التركيب هذا المعنى بقوله «يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه ... ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا» اه.

٣١٤

وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله ، فإذا ذكرت في غرض دلّت على الاتصاف بضده ، ثم يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولا لحرف (إِلى) الدّال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم : خالفني إلى الماء لتضمين أُخالِفَكُمْ) معنى السعي إلى شيء. ويتعلق (إِلى ما أَنْهاكُمْ) بفعل (أُخالِفَكُمْ) ، ويكون (أَنْ أُخالِفَكُمْ) مفعول (أُرِيدُ).

فقوله : (أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها. والمقصود : بيان أنه مأمور بذلك أمرا يعمّ الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع ، كما قال علماؤنا : إنّ خطاب الأمة يشمل الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك ، ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضا نفسه عنه. وفي هذا تنبيه لهم على ما في النهي من المصلحة ، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها ، لأن مثل ذلك ينبئ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون ، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤] أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولى بجلب الخير لأنفسكم.

والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة ؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهّموه ساعيا إلى التملك عليهم والتجبر ، وإما لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها.

وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين ، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنّه لا يقابل قول قومه أََلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : ٨٧] ، فإنهم ظنوا به أنه ما قصد إلّا مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه ، فكان مقتضى إبطال ظنّتهم أن ينفي أن يريد مجرد مخالفتهم ، بدليل قوله عقبه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

فمعنى قوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم. ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لمّا جاء وفد فزارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر الصديق : «أمّر الأقرع بن

٣١٥

حابس ، وقال عمر : أمّر فلانا ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلى خلافي ، فقال عمر : ما أردت إلى خلافك». فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية. وفي هذا ما يدلّ على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود. وقسم ينتقد ليبيّن وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه. وعلى هذا الوجه يتعلّق (إِلى ما أَنْهاكُمْ) بفعل (أُرِيدُ) وكذلك (أَنْ أُخالِفَكُمْ) يتعلق ب (أُرِيدُ) على حذف حرف لام الجر. والتقدير : ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم ، أي لمحبة خلافكم.

وجملة (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) بيان لجملة (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) لأنّ انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبيّنه بأنّ الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح ، فالقصر قصر قلب.

وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول : ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل :

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

ولما بيّن لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) فسمّى إرادته الإصلاح توفيقا وجعله من الله لا يحصل في وقت إلّا بالله ، أي بإرادته وهديه ، فجملة (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) في موضع الحال من ضمير (أُرِيدُ).

والتوفيق : جعل الشيء وفقا لآخر ، أي طبقا له ، ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة والدّاعية إلى الطاعة.

وجملة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو من ياء المتكلم في قوله: (تَوْفِيقِي) لأنّ المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه.

والتوكّل مضى عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

والإنابة تقدمت آنفا في قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود : ٧٥].

٣١٦

[٨٩ ، ٩٠] (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متّحد قريبا.

وتقدم الكلام على (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) عند قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) في أول العقود [٢] ، أي لا يكسبنكم.

والشقاق : مصدر شاقّه إذا عاداه. وقد مضت عند قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أول الأنفال [١٣].

والمعنى : لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره ، فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك. والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشّقاق سببا للإعراض عن النظر في دعوته ، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلّا بأنفسهم.

ولقد كان فضح سوء نواياهم الدّاعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيّته ممّا دعاهم إليه بقوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] مصادفا محزّ جودة الخطابة إذ رماهم بأنّهم يعملون بضدّ ما يعاملهم به.

وجملة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) في موضع الحال من ضمير النّصب في قوله : أَنْ يُصِيبَكُمْ) والواو رابطة الجملة. ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنّه حالة من أحوال المخاطبين.

والمراد بالبعد بعد الزمن والمكان والنسب ، فزمن لوط ـ عليه‌السلام ـ غير بعيد في زمن شعيب ـ عليه‌السلام ـ ، والدّيار قريبة من ديارهم ، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان ممّا يلي الحجاز ، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وهو جد القبيلة المسماة باسمه ، متزوجا بابنة لوط.

وجملة (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عطف على جملة (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي).

وجملة (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) تعليل الأمر باستغفاره والتوبة إليه ، وهو تعليل لما

٣١٧

يقتضيه الأمر من رجاء العفو عنهم إذا استغفروا وتابوا.

وتفنن في إضافة الرب إلى ضمير نفسه مرة وإلى ضمير قومه أخرى لتذكيرهم بأنّه ربّهم كيلا يستمروا على الإعراض وللتشرف بانتسابه إلى مخلوقيته.

والرّحيم تقدّم.

والودود : مثال مبالغة من الودّ وهو المحبّة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) في سورة النساء [٨٩]. والمعنى : أنّ الله شديد المحبة لمن يتقرّب إليه بالتّوبة.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١))

والفقه : الفهم. وتقدّم عند قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) في سورة النّساء [٧٨] ، وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) في سورة الأنعام [٦٥].

ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] وقوله عن اليهود : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨]. ويجوز أن يكون المراد ما نتعقّله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون ، كما حكى الله عن غيرهم بقوله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] ، وليس المراد عدم فهم كلامه لأنّ شعيبا ـ عليه‌السلام ـ كان مقوالا فصيحا ، ووصفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه خطيب الأنبياء.

فالمعنى : أنك تقول ما لا نصدق به. وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) ، ولذلك عطفوا عليه (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أي وإنّك فينا لضعيف ، أي غير ذي قوّة ولا منعة. فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذاه وذلك ممّا يرى لأنّه ترى دلائله وسماته.

وذكر فعل الرؤية هنا للتّحقيق ، كما تقدّم في قوله تعالى : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧] بحيث نزّلوه منزلة من تظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية. وأكّدوه ب (إنّ) ولام الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة

٣١٨

من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه ، أو من ينكر ذلك. وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة :

إن بني عمّك فيهم رماح

ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أنّ شعيبا ـ عليه‌السلام ـ كان أعمى ، وتطرّقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء ، وهو بناء على أوهام. ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأوّلين ما فيه أنّ شعيبا ـ عليه‌السلام ـ كان أعمى.

وعطفوا على هذا قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) وهو المقصود ممّا مهّد إليه من المقدمات ، أي لا يصدّنا عن رجمك شيء إلّا مكان رهطك فينا ، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا.

والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد به القرابة الأدنون لأنّهم لا يكونون كثيرا ، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة ، ولم يقولوا قومك ، لأنّ قومه قد نبذوه. وكان رهط شعيب ـ عليه‌السلام ـ من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقّروهم بكفّ الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته. ولو لا ذلك لما نصره رهطه لأنّهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم. على أنّ قرابته ما هم إلّا عدد قليل لا يخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنّهم من المخلصين لدينهم.

فالخبر المحذوف بعد (لَوْ لا) يقدّر بما يدلّ على معنى الكرامة بقرينة قولهم : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) وقوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : ٩٢] ، فلمّا نفوا أن يكون عزيزا وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير ، فالتقدير : ولو لا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك.

والرجم : القتل بالحجارة رميا ، وهو قتلة حقارة وخزي. وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم.

وجملة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) مؤكدة لمضمون (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) لأنّه إذا انتفى كونه قويّا في نفوسهم تعيّن أن كفّهم عن رجمه مع استحقاقه إيّاه في اعتقادهم ما كان إلّا لأجل إكرامهم رهطه لا للخوف منهم.

وإنّما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أنّ حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا

٣١٩

تعطف لأنّها مع إفادتها تأكيد مضمون الّتي قبلها قد أفادت أيضا حكما يخصّ المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) والجمل بعدها.

والعزة : القوم والشدّة والغلبة. والعزيز : وصف منه ، وتعديته بحرف (على) لما فيه من معنى الشّدة والوقع على النفس كقوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ)[التوبة : ١٢٨] ، أي شديد على نفسه ، فمعنى (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتدّ على نفوسنا ، أي لأنّك هيّن علينا ومحقّر عندنا وليس لك من ينصرك منّا. وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبة ذاته إذ لا يغلب واحد جماعة ، وإنما عزّته بقومه وقبيلته ، كما قال الأعشى :

وإنّما العزّة للكاثر

فمعنى (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أنك لا تستطيع غلبتنا.

وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنّهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه. وهذه معان جدّ دقيقة وإيجاز جدّ بديع.

وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) بمفيد تخصيصا ولا تقويا.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢))

لمّا أرادوا بالكلام الذي وجّهوه إليه تحذيره من الاستمرار على مخالفة دينهم ، أجابهم بما يفيد أنه لم يكن قط معوّلا على عزة رهطه ولكنّه متوكّل على الله الذي هو أعزّ من كل عزيز ، فالمقصود من الخبر لازمه وهو أنّه يعلم مضمون هذا الخبر وليس غافلا عنه ، أي لقد علمت ما رهطي أغلب لكم من الله فلا أحتاج إلى أن تعاملوني بأنّي غير عزيز عليكم ولا بأنّ قرابتي فئة قليلة لا تعجزكم لو شئتم رجمي.

وإعادة النداء للتّنبيه لكلامه وأنه متبصّر فيه. والاستفهام إنكاري ، أي الله أعز من رهطي ، وهو كناية عن اعتزازه بالله لا برهطه فلا يريبه عدم عزة رهطه عليهم ، وهذا تهديد لهم بأنّ الله ناصره لأنّه أرسله فعزّته بعزّة مرسله.

٣٢٠