تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

حساب السنين قد ذكر بخصوصه. ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر ، لأن السنة الشرعية قمرية ، ولأن ضمير (قَدَّرَهُ) عائد على (الْقَمَرَ) وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦].

فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر ، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة. وفي ذلك رفق بالناس في ضبط أمورهم وأسفارهم ومعاملات أموالهم وهو أصل الحضارة. وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر.

وجملة (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) مستأنفة كالنتيجة للجملة السابقة كلها لأنه لما أخبر بأنه الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وذكر حكمة بعض ذلك أفضى إلى الغرض من ذكره وهو التنبيه إلى ما فيها من الحكمة ليستدل بذلك على أن خالقهما فاعل مختار حكيم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم ، كما قال تعالى في هذه السورة [٧] (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ).

والباء للملابسة. و (الحق) هنا مقابل للباطل. فهو بمعنى الحكمة والفائدة ، لأن الباطل من إطلاقاتها أن يطلق على البعث وانتفاء الحكمة فكذلك الحق يطلق على مقابل ذلك. وفي هذا رد على المشركين الذين لم يهتدوا لما في ذلك من الحكمة الدالة على الوحدانية وأن الخالق لها ليس آلهتهم. قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧]. وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٣٩].

ولذلك أعقب هذا التنبيه بجملة نفصل (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، فهذه الجملة مستأنفة ابتدائية مسوقة للامتنان بالنعمة ، ولتسجيل المؤاخذة على الذين لم يهتدوا بهذه الدلائل إلى ما تحتوي عليه من البيان. ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ). فعلى قراءة نفصل بالنون وهي لنافع والجمهور ورواية عن ابن كثير ففي ضمير صاحب الحال التفات ، وعلى قراءة (يُفَصِّلُ) بالتحية وهي لابن كثير في المشهور عنه وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب أمرها ظاهر.

والتفصيل : التبيين ، لأن التبيين يأتي على الفصول الشيء كلها. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥]. والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار.

٢١

وجعل التفصيل لأجل قوم يعلمون ، أي الذين من شأنهم العلم لما يؤذن به المضارع من تجدد العلم ، وإنما يتجدد لمن هو ديدنه ودأبه ، فإن العلماء أهل العقول الراجحة هم أهل الانتفاع بالأدلة والبراهين.

وذكر لفظ (قوم) إيماء إلى أنهم رسخ فيهم وصف العلم ، فكان من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون ولا ممن رسخ فيهم العلم.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالخلق والتقدير. وهو استدلال بأحوال الضوء والظلمة وتعاقب الليل والنهار وفي ذلك عبرة عظيمة. وهو بما فيه من عطف قوله تعالى : وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعم من الدليل الأول لشموله ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ومن خلق الليل والنهار ومن كل ما في الأرض والسماء مما تبلغ إليه معرفة الناس في مختلف العصور وعلى تفاوت مقادير الاستدلال من عقولهم.

وتأكيد هذا الاستدلال بحرف (إِنَ) لأجل تنزيل المخاطبين به الذين لم يهتدوا بتلك الدلائل إلى التوحيد منزلة من ينكر أن في ذلك آيات على الوحدانية بعدم جريهم على موجب العلم.

وتقدم القول في شبيهة هذه الآية وهو قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) الآية في سورة البقرة [١٦٤] وفي خواتم سورة آل عمران.

وشمل قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ) الأجسام والأحوال كلها.

وجعلت الآيات هنا لقوم يتقون وفي آية البقرة [١٦٤] (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وفي آية آل عمران [١٩٠] (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأن السياق هنا تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بالآيات ليعلموا أن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمانهم من الانتفاع بالآيات ، وإن نفعها حاصل للذين يتقون ، أي يحذرون الضلال. فالمتقون هم المتصفون باتقاء ما يوقع في الخسران فيبعثهم على تطلب أسباب النجاح فيتوجه الفكر إلى النظر والاستدلال بالدلائل.

٢٢

وقد مر تعليل ذلك عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في أول البقرة [٢] على أنه قد سبق قوله في الآية قبلها نفصل (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس : ٥] ، وأما آية البقرة وآية آل عمران فهما واردتان في سياق شامل للناس على السواء. وذكر لفظ (قوم) تقدم في الآية قبل هذه.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨))

هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعا بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غلوائهم حتى يلاقوا العذاب. وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم والمصير إليه.

ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار ، وجيء بالموصولة للإيماء إلى أن الصلة علة في حصول الخبر.

وقد جعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن. ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) في هذه السورة [١٥].

والرجاء : ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوبا وإن كان ذلك كثيرا في كلامهم لكنه ليس بمتعيّن. فمعنى : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يظنونه ولا يتوقعونه.

ومعنى : (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة ، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياة ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها ، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها ، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة وملقيا في مهواة الخسران.

٢٣

وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدار التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة. وليس ذلك بمقتضى الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها. وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية ، وأعلاها مقام قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «فقلت ما لي وللدنيا».

والاطمئنان : السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر ، قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧]. وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في سورة البقرة [٢٦٠].

ومعنى اطمأنوا بها سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة ، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره. وعن قتادة : إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا ، لها يرضى ، ولها يغضب ، ولها يفرح ، ولها يهتم ويحزن.

والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء ، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر. وإنما لم يعد الموصول في قوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا).

والمراد بالغفلة : إهمال النظر في الآيات أصلا ، بقرينة المقام والسياق وبما تومئ إليه الصلة بالجملة الاسمية (هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) الدالة على الدوام ، وبتقديم المجرور في قوله (عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية ، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عنادا ومكابرة. وليس المراد من تعرض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات.

وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحصاء صفاتهم في أذهان السامعين ، ولما يؤذن به جيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجل تلك الأوصاف كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

٢٤

والمأوى : اسم مكان الإيواء ، أي الرجوع إلى مصيرهم ومرجعهم.

والباء للسببية. والإتيان ب (ما) الموصولة في قوله : (بِما كَسَبُوا) للإيماء إلى علة الحكم ، أي أن مكسوبهم سبب في مصيرهم إلى النار ، فأفاد تأكيد السببية المفادة بالباء.

والإتيان ب (كان) للدلالة على أن هذا المكسوب ديدنهم.

والإتيان بالمضارع للدلالة على التكرير ، فيكون ديدنهم تكرير ذلك الذي كسبوه.

[٩ ، ١٠] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين ، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر. ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويها بأهلها وإغاظة للكافرين.

وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم.

والهداية : الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه. فمعنى (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. والمقصود الإرشاد التكويني ، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها. وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين.

والباء في (بِإِيمانِهِمْ) للسببية ، بحيث إن الإيمان يكون سببا في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قوله : (إِنَّ) (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) إلى (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس : ٧ ، ٨] في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى ، بأن يجعل الله للإيمان نورا يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سببا مغناطيسيا لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمال لا يزال يزداد يوما فيوما ، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح. وفي الحديث : «قد يكون

٢٥

في الأمم محدّثون فإن يك في أمتي أحد فعمر بن الخطاب» (١). قال ابن وهب : تفسير محدّثون ملهمون الصواب ، وفي الحديث : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (٢). ولأجل هذا النور كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل الناس إيمانا لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع.

وفي العدول عن اسم الجلالة العلم إلى وصف الربوبية مضافا إلى ضمير (الَّذِينَ آمَنُوا) تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولى لأوليائه فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة.

والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة. وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعروج مراتب الكمال.

وجملة : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر ثان لذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا. وتقدم القول في نظير (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [٢٥]. والمراد من تحت منازلهم. والجنات تقدم. والنعيم تقدم في قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) في سورة براءة [٢١].

وجملة : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) وما عطف عليها أحوال من ضمير الَّذِينَ آمَنُوا).

والدعوى : هنا الدعاء. يقال : دعوة بالهاء ، ودعوى بألف التأنيث.

وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح ، أي التنزيه. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) في سورة البقرة [٣٢].

(اللهُمَ) نداء لله تعالى ، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه ، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي. ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم ، كما قال أمية بن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرضه الثناء

__________________

(١) أخرجه الشيخان والترمذي. واللفظ له.

(٢) رواه الترمذي في «جامعه».

٢٦

واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة (سُبْحانَكَ اللهُمَ) يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول ، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر ، (وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام) ولكن قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يفيد أن هذا التحميد من دعواهم ، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى.

ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه ، فهو جامع للعبارة عن الكمالات.

والتحية : اسم جنس لما يفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة. وأصلها مشتقة من مصدر حيّاه إذا قال له عند اللقاء أحياك الله. ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء ، كما غلب لفظ السلام ، فيشمل : نحو حيّاك الله ، وعم صباحا ، وعم مساء وصبّحك الله بخير ، وبتّ بخير. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) في سورة النساء [٨٦].

ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام ، أي لفظ سلام ، إخبارا عن الجنس بفرد من أفراده ، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم.

والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة (سلام) ، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم ، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام ، وهو كلمة السلام عليكم. وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وأما قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام.

ونكتة حذف كلمة (عليكم) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم ، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيرا بين المتلاقين الذين لا يعرف بعضهم بعضا فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدث البشر لأجله السلام ، وهو معنى تأمين

٢٧

الملاقي من الشر المتوقّع من بين كثير من المتناكرين. ولذلك كان اللفظ الشائع هو لفظ السلام الذي هو الأمان ، فكان من المناسب التصريح بأن الأمان على المخاطب تحقيقا لمعنى تسكين روعه ، وذلك شأن قديم أن الذي يضمر شرا لملاقيه لا يفاتحه بالسلام ، ولذلك جعل السلام شعار المسلمين عند اللقاء تعميما للأمن بين الأمة الذي هو من آثار الأخوة الإسلامية. وكذلك شأن القرى في الحضارة القديمة فإن الطارق إذا كان طارق شر أو حرب يمتنع عن قبول القرى ، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود : ٧٠].

وفيه تنويه بشأن هذا اللفظ الذي هو شعار المسلمين عند ملاقاتهم لما فيه من المعاني الجامعة للإكرام ، إذ هو دعاء بالسلامة من كل ما يكدر ، فهو أبلغ من أحياك الله لأنه دعاء بالحياة وقد لا تكون طيبة ، والسلام يجمع الحياة والصفاء من الأكدار العارضة فيها.

وإضافة التحية إلى ضمير (هم) معناها التحية التي تصدر منهم ، أي من بعضهم لبعض.

ووجه ذكر تحيتهم في هذه الآية الإشارة إلى أنهم في أنس وحبور ، وذلك من أعظم لذات النفس.

وجملة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) بقية الجمل الحالية. وجعل حمد الله من دعائهم كما اقتضته (أن) التفسيرية المفسرة به (آخِرُ دَعْواهُمْ) لأن في دعواهم معنى القول إذ جعل آخر أقوال.

ومعنى (آخِرُ دَعْواهُمْ) أنهم يختمون به دعاءهم فهم يكررون (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فإذا أرادوا الانتقال إلى حالة أخرى من أحوال النعيم نهّوا دعاءهم بجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وسياق الكلام وترتيبه مشعر بأنهم يدعون مجتمعين ، ولذلك قرن ذكر دعائهم بذكر تحيتهم ، فلعلهم إذا تراءوا ابتدروا إلى الدعاء بالتسبيح فإذا اقترب بعضهم من بعض سلم بعضهم على بعض. ثم إذا راموا الافتراق ختموا دعاءهم بالحمد ، فإن تفسيرية لآخر دعواهم ، وهي مؤذنة بأن آخر الدعاء هو نفس الكلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقد دل على فضل هاتين الكلمتين قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن

٢٨

خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم».

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

مجيء حرف العطف في صدر هذه الآية يقتضي في علم البلاغة خصوصية لعطفها على ما قبلها ومزيد اتصالها بما قبلها فتعين إيضاح مناسبة موقعها. والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعا سريعا ، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم ، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدين بالبطولة والعجائب ، فكانوا لما كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركبوا رءوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غرورا بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا من قبل الله تعالى. وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا كقوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] وقوله : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] وقوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) [الذاريات : ٥٩] وقد بينا ذلك في سورة الأنعام وفي سورة الأنفال.

وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطئوا مجيء النصر للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه كما جاء في الحديث : أنّ المسلمين قالوا : ألا تستنصر. وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفرون به. فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمعه قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ).

وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها ، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة ، فالخيرات المفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة ، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله ، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [يونس : ٤٩] وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨].

٢٩

فهذه الجملة معطوفة على جملة (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس : ٧] الآية ، فحيث ذكر عذابهم الذي هم آئلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمة من حكم تصرف الله في هذا الكون. والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس : ٧] قوله في آخر هذه (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستمرا على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذ أراد ثبات بنائه ، وأنه لم يقدّر توازي الشر في هذا العالم بالخير لطفا منه ورفقا ، فالله لطيف بعباده ، وفي ذلك منة عظيمة عليهم ، وأن الذين يستحقون الشر لو عجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم.

والناس : اسم عام لجميع الناس ، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشرّ كانوا أول من يتبادر من عموم الناس ، كما زاده تصريحا قوله : فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع ، فذكر في جانب الشر (يُعَجِّلُ) الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه ، وعبر عن تعجيل الله الخير لهم بلفظ (اسْتِعْجالَهُمْ) الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زياد السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا ، وهو نحو قولهم : استأخر واستقدم واستجلب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح : ٧]. ومعناه : تعجّلهم الخير ، كما حمله عليه في «الكشاف» للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدنه.

فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل ، بل هو بمعنى التعجيل الكثير ، كما في قول سلميّ بن ربيعة :

وإذا العذارى بالدخان تقنّعت

واستعجلت نصب القدور فملت

(أي تعجلت) ، وهو في هذا الاستعمال مثله في الاستعمال الآخر يتعدى إلى مفعول ، كما في البيت وكما في الحديث «فاستعجل الموت».

وانتصب (اسْتِعْجالَهُمْ) على المفعولية المطلقة المفيدة للتشبيه ، والعامل فيه يُعَجِّلُ).

٣٠

والمعنى : ولو يعجل الله للناس الشر كما يجعل لهم الخير كثيرا ، فقوله : اسْتِعْجالَهُمْ) مصدر مضاف إلى مفعوله لا إلى فاعله ، وفاعل الاستعجال هو الله تعالى كما دل عليه قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ).

والباء في قوله : (بِالْخَيْرِ) لتأكيد اللصوق ، كالتي في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. وأصله : استعجالهم الخير ، فدلّت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين. وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة. وسيجيء في النحل.

وقد جعل جواب (لو) قوله : (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) ، وشأن جواب (لو) أن يكون في حيز الامتناع ، أي وذلك ممتنع لأن الله قدّر لآجال انقراضهم ميقاتا معيّنا (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر : ٥].

والقضاء : التقدير.

والأجل : المدة المعينة لبقاء قوم. والمعنى : لقضي إليهم حلول أجلهم. ولما ضمن (قضي) معنى بلغ ووصل عدي ب (إلى). فهذا وجه تفسير الآية وسر نظمها ، ولا يلتفت إلى غيره في فهمها. وهذا المعنى مثل معنى (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في سورة الأنعام [٥٨].

وجملة : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) إلخ مفرعة على جملة (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ) إلى آخرها.

وقرأ الجمهور (لَقُضِيَ) بالبناء للنائب ورفع (أَجَلُهُمْ) على أنه نائب الفاعل. وقرأه ابن عامر ويعقوب بفتح القاف والضاد ونصب (أَجَلُهُمْ) على أن في (قضي) ضميرا عائدا إلى اسم الجلالة في قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) إلخ.

وجملة : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) مفرعة على جملة (لو) وجوابها المفيدة انتفاء أن يجعل الله للناس الشر بانتفاء لازمه وهو بلوغ أجلهم إليهم ، أي فإذا انتفى التعجيل فنحن نذر الذين لا يرجون لقاءنا يعمهون ، أي نتركهم في مدة تأخير العذاب عنهم متلبسين بطغيانهم ، أي فرط تكبرهم وتعاظمهم.

والعمه : عدم البصر. وإنما لم ينصب الفعل بعد الفاء لأن النصب يكون في جواب النفي المحض ، وأما النفي المستفاد من (لو) فحاصل بالتضمن ، ولأن شأن جواب النفي

٣١

أن يكون مسببا على المنفي لا على النفي ، والتفريع هنا على مستفاد من النفي. وأما المنفي فهو تعجيل الشر فهو لا يسبب أن يترك الكافرين يعمهون ، وبذلك تعرف أن قوله : فَنَذَرُ) ليس معطوفا على كلام مقدر وإنما التقدير تقدير معنى لا تقدير إعراب ، أي فنترك المنكرين للبعث في ضلالهم استدراجا لهم.

وقوله : (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تقدم نظيره في قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥]. والطغيان : الكفر.

والإتيان بالموصولية في تعريف الكافرين للدلالة على أن الطغيان أشده إنكارهم البعث ، ولأنه صار كالعلامة عليهم كما تقدم آنفا.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

عطف على جملة (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] الآية ، لأن الغرض الأهم من كلتيهما هو الاعتبار بذميم أحوال المشركين تفظيعا لحالهم وتحذيرا من الوقوع في أمثالها بقرينة تنهية هذه الآية بجملة (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). فلما بين في الآية السابقة وجه تأخير عذاب الاستئصال عنهم وإرجاء جزائهم إلى الآخرة بين في هذه الآية حالهم عند ما يمسهم شيء من الضر وعند ما يكشف الضر عنهم.

فالإنسان مراد به الجنس ، والتعريف باللام يفيد الاستغراق العرفي ، أي الإنسان الكافر ، لأن جمهور الناس حينئذ كافرون ، إذ كان المسلمون قبل الهجرة لا يعدون بضعة وسبعين رجلا مع نسائهم وأبنائهم الذين هم تبع لهم. وبهذا الاعتبار يكون المنظور إليهم في هذا الحكم هم الكافرون ، كما في قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] ـ وقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) [الانفطار : ٦ ، ٧]. ويأخذ المسلمون من هذا الحكم ما يناسب مقدار ما في آحادهم من بقايا هذه الحال الجاهلية فيفيق كلّ من غفلته.

وعدل عن الإتيان بالضمير الراجع إلى (الناس) من قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] لأن في ذكر لفظ الإنسان إيماء إلى التذكير بنعمة الله عليهم إذ جعلهم ، من أشرف الأنواع الموجودة على الأرض. ومن المفسرين من جعل اللام في الإنسان للعهد وجعل المراد به أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي ، واسمه مهشّم ، وكان مشركا ،

٣٢

وكان أصابه مرض. والضر تقدم في قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) في سورة الأنعام [١٧].

والدعاء : هنا الطلب والسؤال بتضرع.

واللام في قوله : (لِجَنْبِهِ) بمعنى (على) كقوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٩] وقوله : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣]. ألا ترى أنه جاء في موضع اللام حرف (على) في قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء : ١٠٣] وقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٩٠] ونحوه قول جابر بن جني التغلبي :

تناوله بالرمح ثم انثنى به

فخرّ صريعا لليدين وللفم

أي على اليدين وعلى الفم ، وهو متولد من معنى الاختصاص الذي هو أعم معاني اللام ، لأن الاختصاص بالشيء يقع بكيفيات كثيرة منها استعلاؤه عليه.

وإنما سلك هنا حرف الاختصاص للإشارة إلى أن الجنب مختص بالدعاء عند الضر ومتصل به فبالأولى غيره. وهذا الاستعمال منظور إليه في بيت جابر والآيتين الأخريين كما يظهر بالتأمل ، فهذا وجه الفرق بين الاستعمالين.

وموضع المجرور في موضع الحال ، ولذلك عطف (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) بالنصب. وإنما جعل الجنب مجرورا باللام ولم ينصب فيقال مثلا مضطجعا أو قاعدا أو قائما لتمثيل التمكن من حالة الراحة بذكر شق من جسده لأن ذلك أظهر في تمكنه ، كما كان ذكر الإعطاء في الآيتين الأخريين وبيت جابر أظهر في تمثيل الحالة بحيث جمع فيها بين ذكر الإعطاء وذكر الأفعال الدالة على أصل المعنى للدلالة على أنه يدعو الله في أندر الأحوال ملابسة للدعاء ، وهي حالة تطلب الراحة وملازمة السكون. ولذلك ابتدئ بذكر الجنب ، وأما زيادة قوله : (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) فلقصد تعميم الأحوال وتكميلها ، لأن المقام مقام الإطناب لزيادة تمثيل الأحوال ، أي دعانا في سائر الأحوال لا يلهيه عن دعائنا شيء.

والجنب : واحد الجنوب. وتقدم في قوله : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) في سورة براءة [٣٥].

والقعود : الجلوس.

والقيام : الانتصاب. وتقدم في قوله : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) في سورة البقرة [٢٠].

٣٣

و (إذا) ها لمجرد الظرفية وتوقيت جوابها بشرطها ، وليست للاستقبال كما هو غالب أحوالها لأن المقصود هنا حكاية حال المشركين في دعائهم الله عند الاضطرار وإعراضهم عنه إلى عبادة آلهتهم عند الرخاء ، بقرينة قوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إذ جعلها حالا للمسرفين. وإذ عبر عن عملهم بلفظ (كانُوا) الدال على أنه عملهم في ماضي أزمانهم ، ولذلك جيء في شرطها وجوابها وما عطف عليهما بأفعال المضي لأن كون ذلك حالهم فيما مضى أدخل في تسجيله عليهم مما لو فرض ذلك من حالهم في المستقبل إذ لعل فيهم من يتعظ بهذه الآية فيقطع عن عمله هذا أو يساق إلى النظر في الحقيقة.

ولهذا فرع عليه جملة : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) لأن هذا التفريع هو المقصود من الكلام إذ الحالة الأولى وهي المفرع عليها حالة محمودة لو لا ما يعقبها.

والكشف : حقيقته إظهار شيء عليه ساتر أو غطاء. وشاع إطلاقه على مطلق الإزالة. إما على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، وإما على طريقة الاستعارة بتشبيه المزال بشيء ساتر لشيء.

والمرور : هنا مجازي بمعنى استبدال حالة بغيرها. شبه الاستبدال بالانتقال من مكان إلى آخر لأن الانتقال استبدال ، أي انتقل إلى حال كحال من لم يسبق له دعاؤنا ، أي نسي حالة اضطراره واحتياجه إلينا فصار كأنه لم يقع في ذلك الاحتياج.

و (كأن) مخففة كأنّ ، واسمها ضمير الشأن حذف على ما هو الغالب. وعدي الدعاء بحرف (إلى) في قوله : (إِلى ضُرٍّ) دون اللام كما هو الغالب في نحو قوله :

دعوت لما نابني مسورا

على طريقة الاستعارة التبعية بتشبيه الضر بالعدو المفاجئ الذي يدعوا إلى من فاجأه ناصرا إلى دفعه. وجعل (إلى) بمعنى اللام بعد عن بلاغة هذا النظم وخلط للاعتبارات البلاغية.

وجملة : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل يعم ما تقدم وغيره ، أي هكذا التزيين الشيطاني زين لهم ما كانوا يعملون من أعمالهم في ماضي أزمانهم في الدعاء وغيره من ضلالاتهم.

وتقدم القول في معنى موقع (كذلك) في أمثال هذه الآية عند قوله تعالى : وَكَذلِكَ

٣٤

جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] وقوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨] ، فالإشارة إلى التزيين المستفاد هنا وهو تزيين إعراضهم عن دعاء الله في حالة الرخاء ، أي مثل هذا التزيين العجيب زين لكل مسرف عمله.

والإسراف : الإفراط والإكثار في شيء غير محمود. فالمراد بالمسرفين هنا الكافرون. واختير لفظ (لِلْمُسْرِفِينَ) لدلالته على مبالغتهم في كفرهم ، فالتعريف في المسرفين للاستغراق ليشمل المتحدث عنهم وغيرهم.

وأسند فعل التزيين إلى المجهول لأن المسلمين يعلمون أن المزين للمسرفين خواطرهم الشيطانية ، فقد أسند فعل التزيين إلى الشيطان غير مرة ، أو لأن معرفة المزين لهم غير مهمة هاهنا وإنما المهم الاعتبار والاتعاظ باستحسانهم أعمالهم الذميمة استحسانا شنيطا.

والمعنى أن شأن الأعمال الذميمة القبيحة إذا تكررت من أصحابها أن تصير لهم دربة تحسن عندهم قبائحها فلا يكادون يشعرون بقبحها فكيف يقلعون عنها كما قيل :

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣))

عاد الخطاب إلى المشركين عودا على بدئه في قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) ـ إلى قوله ـ (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٣ ـ ٥] بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب عنهم حتى حل بهم الهلاك فجأة. وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم.

والجملة معطوفة على جملة : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] بما تضمنته من الإنذار بأن الشر قد ينزل بهم ولكن عذاب الله غير معجل ، فضرب لهم مثلا بما نزل بالأمم من قبلهم فقضى إليهم بالعذاب أجلهم وقد كانوا يعرفون أمما منهم أصابهم الاستيصال مثل عاد وثمود وقوم نوح.

ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحقيق.

والإهلاك : الاستيصال والإفناء.

٣٥

والقرون : جمع قرن وأصله مدة طويلة من الزمان ، والمراد به هنا أهل القرون. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في سورة الأنعام [٦].

وقوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من القرون.

و (لَمَّا) اسم زمان بمعنى حين على التحقيق ، وتضاف إلى الجملة.

والعرب أكثروا في كلامهم تقديم (لما) في صدر جملتها فأشمّت بذلك التقديم رائحة الشرطية فأشبهت الشروط لأنها تضاف إلى جملة فتشبه جملة الشرط ، ولأن عاملها فعل مضي فبذلك اقتضت جملتين فأشبهت حروف الشرط.

والمعنى : أهلكناهم حينما ظلموا ، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا.

وجملة : (وَجاءَتْهُمْ) معطوفة على جملة (ظَلَمُوا).

والبينات : جمع بينة ، وهي الحجة على الصدق ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة الأنعام [١٥٧].

وجملة : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) معطوفة عليها. ومجموع الجمل الثلاث هو ما وقّت به الإهلاك (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩].

وعبر عن انتفاء إيمانهم بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفائه إشارة إلى اليأس من إيمانهم.

وجملة : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) تذييل. والتعريف في (الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين ، وبذلك كان إنذارا لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك. والمراد بالإجرام أقصاه ، وهو الشرك.

والقول في (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) كالقول في نظيره آنفا. وكذلك ذكر لفظ (القوم) فهو كما في نظيره في هذه السورة وفي البقرة.

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

عطف على (أَهْلَكْنَا) [يونس : ١٣] وحرف (ثم) مؤذن ببعد ما بين الزمنين ، أي ثم

٣٦

جعلناكم تخلفونهم في الأرض. وكون حرف (ثم) هنا عاطفا جملة على جملة تقتضي التراخي الرتبي لأن جعلهم خلائف أهم من إهلاك القرون قبلهم لما فيه من المنة عليهم ، ولأنه عوضهم بهم.

والخلائف : جمع خليفة. وتقدم في قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) في سورة الأنعام [١٦٥]. والمراد ب (الْأَرْضِ) بلاد العرب ، فالتعريف فيه للعهد ؛ لأن المخاطبين خلفوا عادا وثمودا وطسما وجديسا وجرهما في منازلهم على الجملة.

والنظر : مستعمل في العلم المحقق ، لأن النظر أقوى طرق المعرفة ، فمعنى (لِنَنْظُرَ) لنتعلم ، أي لنعلم علما متعلقا بأعمالكم. فالمراد بالعلم تعلقه التنجيزي.

و (كَيْفَ) اسم استفهام معلق لفعل العلم عن العمل ، وهو منصوب ب لِنَنْظُرَ) ، والمعنى في مثله : لنعلم جواب كيف تعلمون ، قال إياس بن قبيصة :

وأقبلت والخطى يخطر بيننا

لا علم من جبانها من شجاعها

أي (لا علم) جواب من (جبانها).

وإنما جعل استخلافهم في الأرض علة لعلم الله بأعمالهم كناية عن ظهور أعمالهم في الواقع إن كانت مما يرضي الله أو ممّا لا يرضيه فإذا ظهرت أعمالهم عملها الله علم الأشياء النافعة وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علما أزليا ، كما أن بيت إياس بن قبيصة معناه ليظهر الجبان من الشجاع. وليس المقصود بتعليل الإقدام حصول علمه بالجبان والشجاع ولكنه كنّى بذلك عن ظهور الجبان والشجاع. وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) في سورة آل عمران [١٤٠].

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))

عطف على جملة : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] إلخ لأن ذلك ناشئ عن قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] كما تقدم فذلك أسلوب من أساليب التكذيب. ثم حكي في هذه الآية أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون القرآن موحى إليه من الله تعالى

٣٧

فهم يتوهمون أن القرآن وضعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلقاء نفسه ، ولذلك جعلوا من تكذيبهم أن يقولوا له (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) إطماعا له بأن يؤمنوا به مغايرا أو مبدّلا إذا وافق هواهم.

ومعنى (غَيْرِ هذا) مخالفه. والمراد المخالفة للقرآن كله بالإعراض عنه وابتداء كتاب آخر بأساليب أخرى ، كمثل كتب قصص الفرس وملاحمهم إذ لا يحتمل كلامهم غير ذلك ، إذ ليس مرادهم أن يأتي بسور أخرى غير التي نزلت من قبل لأن ذلك حاصل ، ولا غرض لهم فيه إذا كان معناها من نوع ما سبقها.

ووصف الآيات ب (بَيِّناتٍ) لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها لا بطلب تبديله إذ لا طمع في خير منه.

والتبديل : التغيير. وقد يكون في الذوات ، كما تقول : بدلت الدنانير دراهم. ويكون في الأوصاف ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتما. فلما ذكر الإتيان بغيره من قبل تعيّن أن المراد بالتبديل المعنى الآخر وهو تبديل الوصف ، فكان المراد بالغير في قولهم : (غَيْرِ هذا) كلاما غير الذي جاء به من قبل لا يكون فيه ما يكرهونه ويغيظهم. والمراد بالتبديل أن يعمد إلى القرآن الموجود فيغير الآيات المشتملة على عبارات ذم الشرك بمدحه ، وعبارات ذم أصنامهم بالثناء عليها ، وعبارات البعث والنشر بضدها ، وعبارات الوعيد لهم بعبارات بشارة.

وسموا ما طلبوا الإتيان به قرآنا لأنه عوض عن المسمى بالقرآن ، فإن القرآن علم على الكتاب الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ائت بغير هذا مما تسميه قرآنا.

والضمير في (بَدِّلْهُ) عائد إلى اسم الإشارة ، أي أو بدل هذا. وأجمل المراد بالتبديل في الآية لأنه معلوم عند السامعين.

ثم إن قولهم يحتمل أن يكون جدا ، ويحتمل أن يريدوا به الاستهزاء ، وعلى الاحتمالين فقد أمر الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيبهم بما يقلع شبهتهم من نفوسهم إن كانوا جادين ، أو من نفوس من يسمعونهم من دهمائهم فيحسبوا كلامهم جدا فيترقبوا تبديل القرآن.

وضمير الغيبة في قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) راجع إلى الناس المراد منهم المشركون أو راجع إلى (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس: ٧].

وتقديم الظرف في قوله : (إِذا تُتْلى) على عامله وهو (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا)

٣٨

للاهتمام بذكر ذلك الوقت الذي تتلى فيه الآيات عليهم فيقولون فيه هذا القول تعجيبا من كلامهم ووهن أحلامهم.

ولكون العامل في الظرف فعلا ماضيا علم أن قولهم هذا واقع في الزمن الماضي ، فكانت إضافة الظرف المتعلق به إلى جملة فعلها مضارع وهو (تُتْلى) دالة على أن ذلك المضارع لم يرد به الحال أو الاستقبال إذ لا يتصور أن يكون الماضي واقعا في الحال أو الاستقبال فتعين أن اجتلاب الفعل المضارع لمجرد الدلالة على التكرر والتجدد ، أي ذلك قولهم كلما تتلى عليهم الآيات.

وما صدق (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) هو ما صدق الضمير في قوله : (عليهم) ، فكان المقام للإضمار ، فما كان الإظهار بالموصولية إلا لأن الذين لا يرجون لقاء الله اشتهر به المشركون فصارت هذه الصلة كالعلم عليهم. كما أشرنا إليه عند قوله آنفا (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) [يونس : ٧] ، وليس بين الصلة وبين الخبر هنا علاقة تعليل فلا يكون الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر.

ولما كان لاقتراحهم معنى صريح ، وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجود ، ومعنى التزامي كنائي ، وهو أنه غير منزل من عند الله وأن الذي جاء به غير مرسل من الله ، كان الجواب عن قولهم جوابين ، أحدهما : ما لقنه الله بقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) وهو جواب عن صريح اقتراحهم ، وثانيهما : ما لقنه بقوله : قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) [يونس : ١٦] وهو جواب عن لازم كلامهم.

وعن مجاهد تسمية أناس ممن قال هذه المقالة وهم خمسة : عبد الله بن أمية ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس ، والعاص بن عامر ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللات والعزى ومناة وهبل ، وليس فيه عيبها.

وقد جاء الجواب عن اقتراحهم كلاما جامعا قضاء لحق الإيجاز البديع ، وتعويلا على أن السؤال يبين المراد من الجواب ، فأحسوا بامتناع تبديل القرآن من جهة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا جواب كاف ، لأن التبديل يشمل الإتيان بغيره وتبديل بعض تراكيبه. على أنه إذا كان التبديل الذي هو تغيير كلمات منه وأغراض ممتنعا كان إبطال جميعه والإتيان بغيره أجدر بالامتناع.

٣٩

وقد جاء الجواب بأبلغ صيغ النفي وهو (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) أي ما يكون التبديل ملكا بيدي.

و (تِلْقاءِ) صيغة مصدر على وزن التفعال. وقياس وزن التفعال الشائع هو فتح التاء وقد شذ عن ذلك تلقاء ، وتبيان ، وتمثال ، بمعنى اللقاء والبيان والمثول فجاءت بكسر التاء لا رابع لها ، ثم أطلق التلقاء على جهة التلاقي ثم أطلق على الجهة والمكان مطلقا كقوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٢]. فمعنى (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من جهة نفسي. وهذا المجرور في موضع الحال المؤكدة لجملة : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) وهي المسماة مؤكدة لغيرها إذ التبديل لا يكون إلا من فعل المبدل فليست تلك الحال للتقييد إذ لا يجوز فرض أن يبدّل من تلقاء الله تعالى التبديل الذي يرومونه ، فالمعنى أنه مبلغ لا متصرف.

وجملة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) تعليل لجملة : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) أي ما أتبع إلا الوحي وليس لي تصرف بتغيير. و (ما) مصدرية. واتباع الوحي : تبليغ الحاصل به ، وهو الموصى به. والاتباع مجاز في عدم التصرف ، بجامع مشابهة ذلك للاتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي.

واقتضت (إن) النافية وأداة الاستثناء قصر تعلق الاتباع على ما أوحى الله وهو قصر إضافي ، أي لا أبلغ إلا ما أوحى إلي دون أن يكون المتبع شيئا مخترعا حتى أتصرف فيه بالتغيير والتبديل ، وقرينة كونه إضافيا وقوعه جوابا لرد اقتراحهم.

فمن رام أن يحتج بهذا القصر على عدم جواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد خرج بالكلام عن مهيعه.

وجملة : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) إلخ في موضع التعليل لجملة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ولذلك فصلت عنها. واقترنت بحرف (إن) للاهتمام ، و (إنّ) تؤذن بالتعليل.

وقوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ، أي عصيته بالإتيان بقرآن آخر وتبديله من تلقاء نفسي.

ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره ، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع.

ولذلك لم يلقن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول هنا : إلا ما شاء الله ، أو نحو ذلك.

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ

٤٠