تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وبعدهم عن الإيمان ، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا ، وأن لا يحسبوا أيضا أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم ، كما قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧].

وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل ، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود. ونظير هذه الآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٨ ، ١٩]. فالمعنى من كان لا يطلب إلّا منافع الحياة وزينتها. وهذا لا يصدر إلّا عن الكافرين لأنّ المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلّا لذلك ، فمورد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة.

فأمّا قوله تعالى : يا أيها النبي (قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٢٨ ، ٢٩] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس ، خلافا لما يقتضيه إعراض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كثير من ذلك الترف وتلك الزينة.

وضمير (إِلَيْهِمْ) عائد إلى (مَنْ) الموصولة لأنّ المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة.

والتوفية : إعطاء الشيء وافيا ، أي كاملا غير منقوص ، أي نجعل أعمالهم في الدّنيا وافية ومعنى وفائها أنّها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق ، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس ، فالمراد أنهم لا ينقصون من لذاتهم التي هيّئوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا ، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيّأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيرا من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة.

وعدّي فعل (نُوَفِ) بحرف (إلى) لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين.

٢٢١

فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) ، فالتوفية : عدم النقص. وعلقت بالأعمال وهي المساعي. وإضافة الأعمال إلى ضمير (هُمْ) تفيد أنها الأعمال التي عنوا بها وأعدّوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا ندخل عليهم نقصا في ذلك. وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوّهم من كلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى ، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك.

وقوله : (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجا لهم وإمهالا. فهذا كالتكملة لمعنى جملة نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) ، إذ البخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلما. وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله.

وضمير (فِيها) يجوز أن يعود إلى (الْحَياةَ) وأن يعود إلى (الأعمال).

وجملة (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) مستأنفة ، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين ، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة. وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

و (إِلَّا النَّارُ) استثناء مفرّغ من (لَيْسَ لَهُمْ) أي ليس لهم شيء ممّا يعطاه الناس في الآخرة إلّا النار. وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا.

والحبط : البطلان أي الانعدام.

والمراد ب (ما صَنَعُوا) ما عملوا ، ومن الإحسان من الدنيا كإطعام العفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضا ، ولذلك عبر هنا ب (صَنَعُوا) لأنّ الإحسان يسمى صنيعة.

وضمير (فِيها) يجوز أن يعود إلى (الدُّنْيا) المتحدث عنها فيتعلق المجرور بفعل (صَنَعُوا). ويجوز أن يعود إلى (الْآخِرَةِ) فيتعلق المجرور بفعل (بطل) ، أي انعدم أثره. ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة «أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا».

٢٢٢

والباطل : الشيء الذي يذهب ضياعا وخسرانا.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ. مَوْعِدُهُ)

أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة ، ومن جهة إجمال المراد من الموصول ، وموقع الاستفهام ، وموقع فاء التفريع. وقد حكى ابن عطية وجوها كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها. والاختلاف في ما صدق (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ). وفي المراد من (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ، وفي المعني ب (يَتْلُوهُ). وفي المراد من (شاهِدٌ). وفي معاد الضمير المنصوب في قوله : (يَتْلُوهُ). وفي معنى (من) من قوله : (مِنْهُ) ، وفي معاد الضمير المجرور ب (من). وفي موقع قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) من قوله : (كِتابُ مُوسى). وفي مرجع اسم الإشارة من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) إلخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية.

والذي تخلّص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجها وأقرب بالمعنى المقصودشبها : أن الفاء للتفريع على جملة (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٣ ، ١٤] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان ، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له ، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وصف فثمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد ، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٤] ، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب.

والهمزة للاستفهام التقريري ، أي إن كفر به هؤلاء أفيؤمن به من كان على بينة من ربه ، وهذا على نحو نظم قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر : ١٩] أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب.

و (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) لا يراد بها شخص معيّن. فكلمة (من) هنا تكون كالمعرّف

٢٢٣

بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة ، أعني أنه على بينة من ربه. وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة. وإفراد ضمائر (كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) مراعاة للفظ (من) الموصولة وذلك أحد استعمالين. والجمع في قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ) مراعاة لمعنى (من) الموصولة وذلك استعمال آخر. والتقدير : أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في سورة القتال [١٤].

والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم ، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة ، فأصحابها مؤمنون بها.

والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبشّر به في التوراة والإنجيل. فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبوا رسولا صادقا. وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشّرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى ـ عليه‌السلام ـ ليسوا على بيّنة. فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله : فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] ، ويعينها اللاحق من قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن.

و (من) في قوله : (مِنْ رَبِّهِ) ابتدائية ابتداء مجازيا. ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] وقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) النبي (الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]. وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الإنجيل ، ويقوي أن المراد ب (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) النصارى.

وفعل (يتلوه) مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة ، أي يتبعه. والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له. وضمير الغائب المنصوب في قوله : (يَتْلُوهُ) عائد إلى (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ).

والمراد ب (شاهِدٌ مِنْهُ) شاهد من ربه ، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه

٢٢٤

المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله.

و (مِنْ) ابتدائية. وضمير (مِنْهُ) عائد إلى (رَبِّهِ). ويجوز أن يعود إلى شاهِدٌ) أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله.

و (مِنْ قَبْلِهِ) حال من (كِتابُ مُوسى). و (كِتابُ مُوسى) عطف على شاهِدٌ مِنْهُ) والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتّوراة لأنّها أصله وفيها بيانه ، ولذلك لما عطف (كِتابُ مُوسى) على (شاهِدٌ) الذي هو معمول (يَتْلُوهُ) قيد كتاب موسى بأنه من قبله ، أي ويتلوه شاهد منه. ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبل الشاهد أي سابقا عليه في النزول. وإذا كان المراد ب (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) النصارى خاصة كان لذكر كِتابُ مُوسى) إيماء إلى أن كتاب موسى ـ عليه‌السلام ـ شاهد على صدق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بيّنة من ربّهم كاملة من جهة عدم تصديقهم بعيسى ـ عليه‌السلام ـ.

و (إِماماً وَرَحْمَةً) حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم‌الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله.

والإشارة ب (أُولئِكَ) إلى (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ، أي أولئك الذين كانوا على بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين ، وذلك في معنى قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ)[الأنعام : ٨٩].

وإقحام (أُولئِكَ) هنا يشبه إقحام ضمير الفصل ، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الإنجيل والتوراة.

وجملة (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبر (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ).

وضمير (به) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [هود : ١٣].

وبه ينتظم الكلام مع قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إلى قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٣ ، ١٤] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله.

٢٢٥

والباء للتعدية لا للسببية ، فتعدية فعل (يؤمنون) إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] ، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله.

وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٤] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى ـ عليه‌السلام ـ من قبل بيّنتهم.

وقريب من معنى الآية قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : ١٠] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة ، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون ممّا يخالف ما ذكرناه كلا أو بعضا فبصرك فيها حديد ، وبيدك لفتح مغالقها مقاليد.

وجملة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) عطف على جملة (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[هود : ١٤] ، وأراهم القدوة بقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) ، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده.

والأحزاب : هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمر يجتمعون عليه ، فالمشركون حزب ، واليهود حزب ، والنصارى حزب ، قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ) [ص : ١٢ ، ١٣].

والباء في (يَكْفُرْ بِهِ) كالباء في (يُؤْمِنُونَ بِهِ).

والموعد : ظرف للوعد من مكان أو زمان. وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)

تفريع على جملة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه ، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه. ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيطلب منه تركه ويكون النهي طلب تحصيل الحاصل ، تعيّن أن يكون النهي

٢٢٦

غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملا في لازم ذلك بقرينة المقام. ئومما يزيد ذلك وضوحا قوله تعالى في سورة الم السجدة [٢٣] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى ـ عليه‌السلام ـ الكتاب ملازمة ، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاج سبق الوحي لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

و (فِي) للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظرا لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن.

وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير (افْتَراهُ) [هود : ١٣].

وجملة (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) من أنه لوضوح حقيقته لا ينبغي أن يمترى في صدقه. وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام.

والمرية : الشك. وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام. واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين ، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأولى ، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمّا وشناعة.

و (مِنْ) ابتدائية ، أي في شك ناشئ عن القرآن ، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكّا في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله ، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته. وهذا مثل الضمير في قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ) من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها.

وتعريف (الْحَقُ) لإفادة قصر جنس الحق على القرآن. وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك : حاتم الجواد.

والاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ناشئ على حكم الحصر ، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.

والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين.

٢٢٧

وحذف متعلق (يُؤْمِنُونَ) لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق ، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا.

[١٨ ، ١٩] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩))

لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ افترى القرآن ونسبه إلى الله ، وتعجيزهم عن برهان لما زعموه ، كرّ عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب ، منها نفيهم أن يكون القرآن منزّلا من عنده.

فعطفت جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) على جملة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير من أنزله ، وزعموا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتراه ، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلم منهم سؤال إنكار يؤول إلى معنى النفي ، أي لا أحد أظلم. وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) في سورة البقرة [١١٤] ، وفي سورة الأعراف [٣٧] في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ).

وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك ، كقولهم : إن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، وقولهم في كثير من أمور دينهم (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨]. وقال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [المائدة : ١٠٣] أي إذ يقولون : أمرنا الله بذلك.

وجملة (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) استئناف. وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف ، وهذا أشد الظلم كما تقدم في أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

ولما يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عرض زجر وانتقام.

٢٢٨

والعرض إذا عدّي بحرف (على) أفاد معنى الإحضار بإراءة.

واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم.

وعطف فعل (يقول) على فعل (يعرضون) الذي هو خبر ، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عن اسم الإشارة.

والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحا لهم.

والأشهاد : جمع شاهد بمعنى حاضر ، أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق. وهؤلاء الأشهاد من الملائكة.

واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم ، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم.

والإتيان بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة. والمقصود من إعلان هذه الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ).

وجملة (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) من بقية قول الأشهاد. وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير ، والخبر مستعمل في الدعاء خزيا وتحقيرا لهم ، وممّا يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة الأعراف [٤٤] مصرحا فيه بذلك (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية.

وقوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تقدم نظيره في سورة الأعراف [٤٥].

وضمير المؤنث في قوله : (يبغونها) عائد إلى سبيل الله لأنّ السبيل يجوز اعتباره مؤنثا.

والمعنى : أنهم يبغون أن تصير سبيل الله عوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيمة وأنهم

٢٢٩

يحاولون أن يصيروها عوجاء لأنهم يريدون أن يتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دينهم ويغضبون من مخالفته إياه. وهنا انتهى كلام الأشهاد لأن نظيره الذي في سورة الأعراف [٤٤] في قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية انتهى بما يماثل آخر هذه الآية.

واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة (هم) في قوله : (هُمْ كافِرُونَ) وهو توكيد يفيد تقوّي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريره إشعارا بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا ، وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد ، وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠))

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ).

استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإنّ ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل : هل هم سالمون من عذاب الدنيا. فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا ، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم.

وإعادة الإشارة إليهم بقوله : (أُولئِكَ) بعد أن أشير إليهم بقوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) [هود : ١٨] لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق. والمعنى : أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم.

والمعجز هنا الذي أفلت ممّن يروم إضراره. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) في سورة الأنعام [١٣٤].

والأرض : الدنيا. وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعا من الأرض يستعصمون به. فهذا نفي للملاجئ والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب. وعندي أنّ مقارنة (في الأرض) ب (معجزين) جرى مجرى المثل في القرآن

٢٣٠

كما في قوله تعالى : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) [الأحقاف : ٣٢] ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس بن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية :

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزني بقعة من بقاعها

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ).

يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار ، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله. فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه. و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق ب (أولياء) لما في الولي هنا من معاني الحائل والمباعد بقوله : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [النساء : ١١٩].

ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تولوها ، أي أخلصوا لها المحبة والعبادة.

ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف ، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) على هذا الوجه بمعنى من غير الله ، ف (دون) اسم غير ظرف ، و (من) الجارّة ل (دون) زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة ، و (من) الجارة ل (أولياء) زائدة لاستغراق الجنس المنفي ، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء.

والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله : (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لا عن عجز.

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ).

خبر عن اسم الإشارة. ويجوز أن تكون جملة (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) خبرا أوّلا وجملة (يُضاعَفُ) خبرا ثانيا. ويجوز أن تكون جملة (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) حالا وجملة (يُضاعَفُ) خبرا أول.

(ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ).

يجوز أن يكون هذا خبرا عن اسم الإشارة أو حالا منه فتكون استطاعة السمع

٢٣١

المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى :

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبّر هنا بالاستطاعة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنّهم يكرهون أن يسمعوه. قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) [الجاثية : ٨] وقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف في حصول الاهتداء.

والإبصار المنفي هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية ، أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق ، ولذلك لم يقل هنا : وما كانوا يستطيعون أن يبصروا ، لأنهم كانوا يبصرونها ولكنّ مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتّى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ).

ويجوز أن تكون الجملة حالا ل (أولياء) ، وسوّغ كونها حالا من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي. والمعنى : أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار.

وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تعقل ، ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التّهكم بهم.

والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) إلى قوله (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله : (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) آكد من : لا يعجزون وكذلك أخواته.

والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف (لم) له معنى المضي فليس المخالفة منها إلّا تفننا.

[٢١ ، ٢٢] (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا

٢٣٢

جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢))

استئناف ، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) [هود : ١٨].

والموصول في (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة ، أي إن بلغكم أنّ قوما خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبا ، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء ، فلما ضلوا فقد خسروها.

وتقدم الكلام على (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) عند قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام [١٢].

والضلال : خطأ الطريق المقصود.

و (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد ، قال تعالى : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأحقاف : ٢٨].

وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها. شبهت أصنامهم بمن سلك طريقا ليلحق بمن استنجد به فضلّ في طريقه.

وجملة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) [هود : ١٨] لأنّ ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة.

و (لا جرم) كلمة جزم ويقين جرت مجرى المثل ، وأحسب أن (جرم) مشتقّ مما تنوسي ، وقد اختلف أئمّة العربية في تركيبها ، وأظهر أقوالهم أن تكون (لا) من أول الجملة و (جرم) اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بدّ أي لا بدّ. ثم يجيء بعدها أنّ واسمها وخبرها فتكون (أنّ) معمولة لحرف جرّ محذوف. والتقدير : لا جرم من أن الأمر كذا. ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو : لا جرم لأفعلن. قاله عمرو بن معديكرب لأبي بكر.

وعبر عمّا لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا

٢٣٣

يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح.

وإنما كانوا أخسرين ، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة. ولأنهم شقوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٣ ، ١٠٤] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة.

وضمير (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ضمير فصل يفيد القصر ، وهو قصر ادّعائي ، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة ، فكأنّهم انفردوا بالأخسرية.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣))

لما ذكر أحوال البالغين أقصى غايات الخسارة ذكر مقابلهم الذين بلغوا أعلى درجات السعادة. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن النفوس تشرئب عند سماع حكم الشيء إلى معرفة حكم ضده.

والإخبات : الخضوع والتواضع ، أي أطاعوا ربهم أحسن طاعة.

وموقع (أُولئِكَ) هنا مثل موقعه في الآية قبلها.

وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) في موقع البيان لجملة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) لأن الخلود في المكان هو أحق الأحوال بإطلاق وصف الصاحب على الحالّ بذلك المكان إذ الأمكنة لا تقصد إلّا لأجل الحلول فيها فتكون الجملة مستأنفة لبيان ما قبلها فمنزلتها منزلة عطف البيان ، ولا تعرب في موضع خبر ثان عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيرها في سورة البقرة [٨٢] في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). فعد إليه وزد إليه ما هنا.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

بعد أن تبين الاختلاف بين حال المشركين المفترين على الله كذبا وبين حال الذين

٢٣٤

آمنوا وعملوا الصالحات في منازل الآخرة أعقب ببيان التنظير بين حالي الفريقين المشركين والمؤمنين بطريقة تمثيل ما تستحقه من ذم ومدح.

فالجملة فذلكة للكلام وتحصيل له وللتحذير من مواقعة سببه.

والمثل ، بالتحريك : الحالة والصفة كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الآية من سورة الرعد [٣٥] ، أي حالة الفريقين المشركين والمؤمنين تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من الجهة الأخرى ، فالكلام تشبيه وليس استعارة لوجود كاف التشبيه وهو أيضا تشبيه مفرد لا مركب.

والفريقان هما المعهودان في الذكر في هذا الكلام ، وهما فريق المشركين وفريق المؤمنين ، إذ قد سبق ما يؤذن بهذين الفريقين من قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [هود : ١٨]. ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) [هود : ٢٣] الآية.

والفريق : الجماعة التي تفارق ، أي يخالف حالها حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة وتقدم عند قوله تعالى : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) في سورة الأنعام [٨١].

شبه حال فريق الكفار في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى ، وشبهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم.

وشبه حال فريق المؤمنين في ضد ذلك بحال من كان سليم البصر ، سليم السمع فهو في هدى ويقين من مدركاته.

وترتيب الحالين المشبه بهما في الذكر على ترتيب ذكر الفريقين فيما تقدم ينبئ بالمراد من كل فريق على طريقة النشر المرتب. والترتيب في اللف والنشر هو الأصل والغالب.

وقد علم أن المشبهين بالأعمى والأصم هو الفريق المقول فيهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) [هود : ٢٠].

والواو في قوله : (وَالْأَصَمِ) للعطف على (كَالْأَعْمى) عطف أحد المشبهين على الآخر. وكذلك الواو في قوله : (وَالسَّمِيعِ) للعطف على (الْبَصِيرِ).

٢٣٥

وأما الواو في قوله : (وَالْبَصِيرِ) فهي لعطف التشبيه الثاني على الأول ، وهو النشر بعد اللف. فهي لعطف أحد الفريقين على الآخر ، والعطف بها للتقسيم والقرينة واضحة.

وقد يظن الناظر أن المناسب ترك عطف صفة (الْأَصَمِ) على صفة (كَالْأَعْمى) كما لم يعطف نظيراهما في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) في سورة البقرة [١٨] ظنا بأن مورد الآيتين سواء في أن المراد تشبيه من جمعوا بين الصفتين. وذلك أحد وجهين ذكرهما صاحب الكشاف. وقد أجاب أصحاب حواشي الكشاف بأن العطف مبني على تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات. ولم يذكروا لهذا التنزيل نكتة ولعلهم أرادوا أنه مجرد استمال في الكلام كقول ابن زيابة :

يا لهف زيابة للحارب ال

صابح فالغانم فالآئب

والوجه عندي في الداعي إلى عطف صفة (الْأَصَمِ) على صفة (كَالْأَعْمى) أنه ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تينك الصفتين على حدة ، فهم يشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر ، ويشبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهما السمع ، فهم في حالتين كلّ حال منهما مشبّه به ، ففي قوله تعالى : (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) تشبيهان مفرقان كقول امرئ القيس :

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين ، واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعهما ، إذ المشبّه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي.

وأما الدّاعي إلى العطف في صفتي (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي الْبَصِيرِ السَّمِيعِ) ، إذ الاهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان ، فهما في قوة الإثبات ؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف (السَّمِيعِ) على (الْبَصِيرِ) في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام ، والمزاوجة من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته.

٢٣٦

وجملة (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما ، ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام ، أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم. والاستفهام إنكاري.

وانتصب (مَثَلاً) على التمييز ، أي من جهة حالهما ، والمثل : الحال.

والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم.

وقرأ الجمهور «تذكرون» بتشديد الدال. وأصله تتذكرون ، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما وليتأتّى الإدغام تخفيفا. وقرأه حفص ، وحمزة ، والكسائي ـ بتخفيف الذال ـ على حذف إحدى التاءين من أول الفعل.

وفي مقابلة الأعمى والأصم ب (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) محسن الطباق.

[٢٥ ، ٢٦] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لاقاه الرّسل ـ عليهم‌السلام ـ قبله من أقوامهم.

فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية.

وأكدت الجملة بلام القسم و (لَقَدْ) لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته.

وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة (إِنِّي) بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال ، أي قائلا.

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف ـ بفتح الهمزة ـ على تقدير حرف جرّ وهو الباء للملابسة ، أي أرسلناه متلبسا بذلك ، أي بمعنى

٢٣٧

المصدر المنسبك من (أني نذير) ، أي متلبسا بالنذارة البيّنة.

وتقدم الكلام على نوح ـ عليه‌السلام ـ وقومه عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في آل عمران [٣٣]. وعند قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) في سورة الأعراف [٥٩].

وجملة (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) مفسرة لجملة (أَرْسَلْنا) لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ، ويجوز كونها تفسيرا ل (نَذِيرٌ) لما في (نَذِيرٌ) من معنى القول ، كقوله في سورة نوح [٢ ، ٣] (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ). وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة (أني) إذا اعتبرت (أنّ) تفسيرية. ويجوز جعل (أن) مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) على قراءة ـ فتح الهمزة ـ واسمها ضمير شأن محذوفا ، أي أنّه لا تعبدوا إلّا الله.

وجملة (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) تعليل ل (نَذِيرٌ) لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه.

ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي ، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم ، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما ، أي مؤلما.

وجملة (أَخافُ عَلَيْكُمْ) ونحوها مثل أخشى عليك ، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به ، كقول لبيد :

أخشى على أربد الحتوف ولا

أخشى عليه الرياح والمطرا

فيتعدّى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف (على) كما في الآية وبيت لبيد.

و (العذاب) هنا نكرة في المعنى ، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح ـ عليه‌السلام ـ بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة. ولذلك قال في كلامه الآتي (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) [هود : ٣٣] على ما يأتي هنالك. وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر ، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة ، فلذلك قال نوح ـ عليه‌السلام ـ في كلامه الآتي (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [هود : ٣٣] ، وقد تبادر إلى أذهان

٢٣٨

قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود : ٣٢]. ولعلّ في كلام نوح ـ عليه‌السلام ـ ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧))

عطف قول الملأ من قومه بالفاء على فعل (أَرْسَلْنا) [هود : ٢٥] للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لمّا قال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [هود : ٢٥] إلى آخره. ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه ب (قال) مجردا عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف.

والملأ : سادة القوم. وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في سورة الأعراف [٦٠].

جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه ، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم ، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسبابا مادية جسدية ، فيسوّدون أصحاب الأجسام البهجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات ، ويسوّدون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم ، ويسوّدون الأبطال لأنهم يعدونهم لدفاع أعدائهم. ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إمّا بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيّد قوم ولم يعرفوه تعرّفوا أتباعه وأنصاره ، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتّبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة ؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني.

فلما دعاهم نوح ـ عليه‌السلام ـ دعوة علموا منها أنّه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدّروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح ـ عليه‌السلام ـ ومن الذين اتّبعوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادّعاه من الرسالة بسيادة

٢٣٩

للأمة وقيادة لها.

وهؤلاء لقصور عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق ، فذهبوا يتطلّبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدقة من سعة مال ، أو قوة أتباع ، أو عزة قبيلة. وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولا ، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن ، والشاة بما على ظهرها من صوف ، بل غالب حالها أنها بضد ذلك.

وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن ، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة ، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنّها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات ، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمها والطواويس ، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو. وهذه أشبه بأن تعدّ في أسباب الكمال ولكنها مكمّلات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين ، وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السّيئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطّاع الطريق والشّطّار ، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين.

وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل ، فهما السبب المطّرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم ، ولهما تكون القوى المنفّذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدّين ، على أن ذلك معرض للخطإ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلّا إذا كان محفوفا بالإرشاد الإلهي المعصوم ، وهو مقام النبوءة والرسالة.

فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لمّا قصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحا ـ عليه‌السلام ـ وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر ، وتأمّلوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميّزهم عن الناس وربّما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوها أو أطول أجساما.

من أجل ذلك أخطئوا الاستدلال فقالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية. والرؤية هنا رؤية العين لأنّهم جعلوا استدلالهم ضروريا من المحسوس من أحوال الأجسام ، أي ما نراك غير إنسان ، وهو مماثل للنّاس لا يزيد عليهم

٢٤٠