تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تشبه به رغبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم ، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس ، وتشبيه سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام ، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) [محمد : ١٢].

والقول في (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) كالقول في قوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) [يونس : ٢٢] ، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء.

وأمر الله : تقديره وتكوينه. وإتيانه : إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء. وفي معنى الغاية المستفاد من (حتى) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارا كثيرة ، فذلك طوي في معنى (حتى).

وقوله : (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.

والزخرف : اسم الذهب. وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي.

وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارة مكنية. شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان. والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ ، قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: ٣١] ، وقال بشار بن برد :

وخذي ملابس زينة

ومصبّغات وهي أفخر

وذكر (ازَّيَّنَتْ) عقب (زُخْرُفَها) ترشيح للاستعارة ، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين. و (ازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فقلبت التاء زايا ؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.

واعلم أن في قوله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم ، كقوله تعالى : (حَتَّى

٦١

إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه ، ويزيد تلك الإشارة وضوحا قوله : (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) المؤذن بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة.

ومعنى : (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها ، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة.

والحصيد : المحصود ، وهو الزرع المقطوع من منابته. والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها. ومعنى (لَمْ تَغْنَ) لم تعمر ، أي لم تعمر بالزرع. يقال : غني المكان إذا عمر. ومنه المغني للمكان المأهول. وضد أغنى أقفر المكان.

والباء في (بِالْأَمْسِ) للظرفية. والأمس : اليوم الذي قبل يومك. واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن. والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان ، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال. وجمعها قول زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

وجملة : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) إلى آخرها تذييل جامع ، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع. فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات. وتقدم نظيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥].

واللام في (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لام الأجل.

والتفكر : التأمل والنظر ، وهو تفعل مشتق من الفكر ، وقد مر عند قوله تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠]. وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم. وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

الجملة معطوفة على جملة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس : ٢٤] ، أي

٦٢

نفصل الآيات التي منها آية حالة الدنيا وتقضيها ، وندعو إلى دار السلام دار الخلد. ولما كانت جملة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) [يونس : ٢٤] تذييلا وكان شأن التذييل أن يكون كاملا جامعا مستقلا جعلت الجملة المعطوفة عليها مثلها في الاستقلال فعدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار إذ وضع قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا) موضع ندعو لأن الإضمار في الجملة يجعلها محتاجة إلى الجملة التي فيها المعاد.

وحذف مفعول (يَدْعُوا) لقصد التعميم ، أي يدعو كل أحد. والدعوة هي : الطلب والتحريض. وهي هنا أوامر التكليف ونواهيه.

ودار السلام : الجنة ، قال تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقد تقدم وجه تسميتها بذلك في سورة الأنعام [١٢٧].

والهداية : الدلالة على المقصود النافع ، والمراد بها هنا خلق الاهتداء إلى المقصود بقرينة قوله : (مَنْ يَشاءُ) بعد قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا) المفيد التعميم فإن الدعوة إلى الجنة دلالة عليها فهي هداية بالمعنى الأصلي فتعين أنّ (يَهْدِي) هنا معناه إيجاد الهداية بمعنى آخر ، وهي حصول الاهتداء بالفعل ، أي خلق حصوله بأمر التكوين ، كقوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠] وهذا التكوين يقع إما في كل جزئية من جزئيات الاهتداء على طريقة الأشاعرة ، وإما بخلق الاستعداد له بحيث يقدر على الاهتداء عند حصول الأدلة على طريقة المعتزلة وهما متقاربان في الحال ، وشئون الغيب خفية. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة : ٦].

والصراط المستقيم : الطريق الموصل.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس : ٢٥] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهديا وغير مهدي. ففي هذه الجملة ذكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين ، ولك أن تجعلها بدل مفصّل من مجمل.

ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان علم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن ، وأن الحسنى هي دار

٦٣

السلام. ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة الأنعام [١٢٥ ـ ١٢٧] : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ* وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

والحسنى : في الأصل صفة أثنى الأحسن ، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولم تتبع موصوفها.

وتعريفها يفيد الاستغراق ، مثل البشرى ، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات. والمعنى : للذين أحسنوا جنس الأحوال الحسنى عندهم ، أي لهم ذلك في الآخرة. وبذلك تعين أن ما صدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علما بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة.

والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحسنى بالمعنى الذي صار علما بالغلبة ، فلا ينبغي أن تفسير بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار ، فقيل : هي رضى الله تعالى كما قال : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] ، وقيل : هي رؤيتهم الله تعالى. وقد ورد ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «صحيح مسلم» و«جامع الترمذي» عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة ، قال : فيكشف الحجاب ، قال : فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه. وهو أصرح ما ورد في تفسيرها.

والرهق : الغشيان. وفعله من باب فرح.

والقتر : لون هو غبرة إلى السواد. ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأئمة والاستعمال أن الفترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوف. وهو من آثار تهيج الكبد من ارتجاف الفؤاد خوفا وتوقعا.

والذلة : الهوان. والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل. والكلام مستعمل في صريحه وكنايته ، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة.

٦٤

وليس معنى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحا لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعا بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلا للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) إلى قوله : (مُظْلِماً) [يونس : ٢٧].

وجملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) نتيجة للمقدمة ، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف.

واسم الإشارة يرجع إلى (الَّذِينَ أَحْسَنُوا). وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

عطف على جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦]. وعبر في جانب المسيئين بفعل (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.

والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين ، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافا للمعتزلة والخوارج.

وجملة : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) خبر عن (الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ). وتنكير (سيئة) للعموم ، أي جزاء كل سيئة بمثلها ، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ. كقول الحريري :

يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا

أي كل ضر. وذلك العموم مغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ ، أو يقدر مجرور ، أي جزاء سيئة منهم ، كما قدر في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦] أي فعليه.

واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويرهقهم قتر ، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً).

٦٥

وجملة : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) خبر ثان ، أو حال من (الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أو معترضة. وهو تهديد وتأييس.

والعاصم : المانع والحافظ. ومعنى (مِنَ اللهِ) من انتقامه وجزائه. وهذا من تعليق الفعل باسم الذات ، والمراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣].

وجملة (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) إلخ بيان لجملة : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) بيان تمثيل ، أو حال من الضمير في قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ).

و (أُغْشِيَتْ) معدّى غشي إذا أحاط وغطا ، فصار بالهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسا. وتقدم في قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في الأعراف [٥٤] ، وقوله : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) في الأنفال [١١].

والقطع ـ بفتح الطاء ـ في قراءة الجمهور : جمع قطعة ، وهي الجزء من الشيء ، سمي قطعة لأنه يقتطع من كل غالبا ، فهي فعلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية. وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطَعاً) بسكون الطاء. وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم ، قال تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ٨١].

وقوله : (مُظْلِماً) حال من الليل. ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلما لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم : ليل أليل ، وظل ظليل ، وشعر شاعر ، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكّن ظلمته. وشبهت قترة وجوههم بظلام الليل.

وجملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) هي كجملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس : ٢٦].

[٢٨ ، ٢٩] (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩))

هذه الجملة معطوفة على جملة (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) [يونس : ٢٧] باعتبار كونها معطوفة على جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة

٦٦

بإجمال حالة جامعة للفريقين ثم بتفصيل حالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات ، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر ، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها.

والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعا ، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال ، ونحشرهم جميعا. وإنما زيد لفظ (يَوْمَ) في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمال عظيمة أريد التذكير به تهويلا وموعظة.

وانتصاب (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) إما على المفعولية بتقدير : اذكر ، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) والتقدير : ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعا. وضمير (نَحْشُرُهُمْ) للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات. وقوله : (جَمِيعاً) حال من الضمير البارز في نَحْشُرُهُمْ) للتنصيص على إرادة عموم الضمير. وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم. ومن نكت ذكر حشر الجميع هنا التنبيه على أن فظيع حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين ، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين.

والحشر : الجمع من أمكنة إلى مكان واحد. وتقدم في قوله تعالى : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) في سورة الأنعام [١١١].

وقوله : (مَكانَكُمْ) منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره : الزموا مكانكم ، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر ، نحو : صه ، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره ، قال عمرو بن الأطنابة :

مكانك تحمدي أو تستريحي

وأمرهم بملازمة المكان تثقيف وحبس. وإذ قد جمع فيه المخاطبون وشركاؤهم علم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين ، وهي كون أحد الفريقين عابدا والآخر معبودا.

وقوله : (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر ، وهو المسوغ

٦٧

للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان.

والشركاء : الأصنام. وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك ، ولذلك أضيف إلى ضميرهم ، أي أنتم والذين زعمتم أنهم شركاء. فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم.

وعطف (فَزَيَّلْنا) بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث.

ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارنا لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

وزيّل : مضاعف زال المتعدي. يقال : زاله عن موضعه يزيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين ، فزيّل فعل للمبالغة في الزيل مثل فرّق مبالغة في فرق. والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوصل التي كانت بينهم. والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول.

وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبّادها.

وجملة (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) عطف على جملة : (فَزَيَّلْنا) فهو في حيز التعقيب ، ويجوز جعلها حالا.

ويقول الشركاء هذا الكلام بخلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرءوا منهم ، وذلك مما يزيدهم ندامة. وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم. وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذبا. وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر.

والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مبينا لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادة كاملة وهي العبادة التي يقصد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالما وآمرا بتلك العبادة. ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نفيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) كما تفسره

٦٨

الآية الأخرى وهي قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١].

فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها ، ويجوز أن يكون نطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولا فكانت عقولها مستحدثة يومئذ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عبدوها. ويفسر هذا قولهم بعد ذلك (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ).

وجملة : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) مؤكدة بالقسم ليثبتوا البراءة مما ألصق بهم. وجواب القسم (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ). وليس قولهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) قسما على كلامهم المتقدم لأن شأن القسم أن يكون في صدر الجملة.

وعطفت جملة القسم بالفاء للدلالة على أن القسم متفرع على الكلام المتقدم لأن إخبارهم بنفي أن يكونوا يعبدونهم خبر غريب مخالف لما هو مشاهد فناسب أن يفرع عليه ما يحققه ويبينه مع تأكيد ذلك بالقسم. والإتيان بفاء التفريع عند تعقيب الكلام بجملة قسمية من فصيح الاستعمال ، كقوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٠ ـ ٩٣]. ومن خصائصه أنه إذا عطف بفاء التفريع كان مؤكدا لما قبله بطريق تفريع القسم عليه ومؤكّدا لما بعده بطريق جواب القسم به. وهذه الآية لم تفسّر حق تفسيرها.

والشهيد : الشاهد ، وهو المؤيد والمصدّق لدعوى مدع ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء : ٦].

و (كفى) بمعنى أجزأ وأغنى عن غيره. وتقدم في قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) في سورة النساء [٤٥]. وهو صيغة خبر مستعمل في إنشاء القسم. والباء مزيدة للتأكيد. وأصله كفى الله شهيدا.

وانتصب : (شَهِيداً) على التمييز لنسبة الكفاية إلى الله لما فيها من الإجمال.

وجملة : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) جواب للقسم. (وإن) مخففة من (إنّ)

واسمها ضمير شأن ملتزم الحذف.

وجملة : (كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) مفسّرة لضمير الشأن. واللام فارقة بين (إن) المؤكدة المخففة و (إن) النافية.

٦٩

وتقديم قوله : (عَنْ عِبادَتِكُمْ) على عامله للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ)

تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله : وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] إلى هنا. وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة.

والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله : (نَحْشُرُهُمْ) [يونس : ٢٨] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه. واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية. وعامله (تَبْلُوا) ، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه.

و (تَبْلُوا) تختبر ، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين. و (أَسْلَفَتْ) قدّمت ، أي عملا أسلفته. والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه ، وضده.

وقرأ الجمهور (تَبْلُوا) بموحدة بعد المثناة الفوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة ، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار.

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ)

يجوز أن تكون معطوفة على جملة : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) فتكون من تمام التذييل ، ويكون ضمير (ردوا) عائدا إلى (كل نفس). ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٢٨] الآية فلا تتصل بالتذييل ، أي ونردهم إلينا ، ويكون ضمير (ردوا) عائدا إلى الذين أشركوا خاصة. والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه. ويناسب هذا المعنى قوله : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فإن فيه إشعارا بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة.

والرد : الإرجاع. والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين.

٧٠

والمولى : السيد ، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك. ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شئونه.

والحقّ : الموافق للواقع والصدق ، أي ردوا إلى الإله الحق دون الباطل. والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق ، أي الحاق المولوية ، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلا.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

هذه الجملة مختصة بالمشركين كما هو واضح.

والضلال : الضياع.

و (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام ، فيجوز أن يكون ما صدق (ما) الموصولة الأصنام ، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه ، فالتقدير : ما كانوا يكذبون عليه أو له. وضلالة : عدم وجوده على الوصف المزعوم له.

ويجوز أن يكون ما صدق (ما) نفس الافتراء ، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه. وضلاله : ظهور نفيه وكذبه.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١))

انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية.

وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [يونس : ٣٠] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية.

فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة ، وبموهبة الحواس ، وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع ، وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات ، فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور ، فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية.

والاستفهام تقديري. وجاء الاستدلال بطريق الاستفهام والجواب لأن ذلك في صورة الحوار ، فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين ، ولذلك كان من طرق

٧١

التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب.

وقوله : (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تذكير بأحوال الرزق ؛ ليكون أقوى حضورا في الذهن ، فالرزق من السماء المطر ، والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلإ.

و (أم) في قوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ) للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر.

ومعنى : (يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) يملك التصرف فيهما ، وهو ملك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه.

وأفرد (السَّمْعَ) لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس.

وأما (الْأَبْصارَ) فجيء به جمعا لأنه اسم ، فهو ليس نصا في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) في سورة الأنعام [٤٦].

وإخراج الحي من الميت : هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البيض ؛ فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة. و (من) في قوله : (مِنَ الْمَيِّتِ) للابتداء. وإخراج الميت من الحي إخراج النطفة والبيض من الحيوان.

والتعريف في (الْحَيَ) و (الْمَيِّتِ) في المرتين تعريف الجنس.

وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد ، كل ذلك لزيادة التعجيب منه. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) في سورة آل عمران [٢٧]. غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء.

وقوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة. وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعبرة في قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢١ ، ٢٢].

٧٢

والفاء في قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) فاء السبية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط ، وذلك أنه قصد تسبب قولهم : (اللهُ) على السؤال المأمور به النبي عليه الصلاة والسلام ، فنزل فعل (فَقُلْ) منزلة الشرط فكأنه قيل : إن تقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) [الإسراء : ٥١ ، ٥٢]. وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] وقوله : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣]. التقدير : إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا. وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يخرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام. والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال ، وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور.

ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جاءت الفاء كما في قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥] الآيات.

والفاء في قوله : (فَقُلْ) فاء الفصيحة ، أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون. والفاء في قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) فاء التفريع ، أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم. ومفعول (تَتَّقُونَ) محذوف ، تقديره تتقونه ، أي بتنزيهه عن الشريك.

وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن. وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحا ، ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامت عليهم الحجة بقوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢))

الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) [يونس ٣١] ، فالمفرع من جملة المقول. واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق ، الواهب الإدراك ، الخالق ، المدبر ، لأن اسم الإشارة قد جمعها. وأومأ إلى

٧٣

أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها. واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية. و (رَبُّكُمُ) خبر. (الْحَقُ) صفة له. وتقدم الوصف بالحق آنفا في الآية مثل هذه.

والفاء في قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) تفريع للاستفهام الإنكاري على الاستنتاج الواقع بعد الدليل ، فهو تفريع على تفريع وتفريع بعد تفريع.

و (فَما ذا) مركّب من (ما) الاستفهامية و (ذا) الذي هو اسم إشارة. وهو يقع بعد (ما) الاستفهامية كثيرا. وأحسن الوجوه أنه بعد الاستفهام مزيد لمجرد التأكيد. ويعبر عن زيادته بأنه ملغى تجنبا من إلزام أن يكون الاسم مزيدا كما هنا. وقد يفيد معنى الموصولية كما تقدم في قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦]. وانظر ما يأتي عند قوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) في هذه السورة [٥٠].

والاستفهام هنا إنكاري في معنى النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء في قوله : (إِلَّا الضَّلالُ).

و (بَعْدَ) هنا مستعملة في معنى (غير) باعتبار أن المغاير يحصل إثر مغايره وعند انتفائه. فالمعنى : ما الذي يكون إثر انتفاء الحق.

ولما كان الاستفهام ليس على حقيقته لأنه لا تردد في المستفهم عنه تعيّن أنه إنكار وإبطال فلذا وقع الاستثناء منه بقوله : (إِلَّا الضَّلالُ). فالمعنى لا يكون إثر انتفاء الحق إلا الضلال إذ لا واسطة بينهما. فلما كان الله هو الرب الحق تعين أن غيره مما نسبت إليه الإلهية باطل. وعبر عن الباطل بالضلال لأن الضلال أشنع أنواع الباطل.

والفاء في (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) للتفريع أيضا ، أي لتفريع التصريح بالتوبيخ على الإنكار والإبطال.

و (فَأَنَّى) استفهام عن المكان ، أي إلى مكان تصرفكم عقولكم. وهو مكان اعتباري ، أي أنكم في ضلال وعماية كمن ضل عن الطّريق ولا يجد إلا من ينعت له طريقا غير موصولة فهو يصرف من ضلال إلى ضلال. قال ابن عطية : وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوق كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا.

وقد اشتملت هذه الآيات على تسع فاءات من قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) : الأولى جوابية ، والثانية فصيحة ، والبواقي تفريعية.

٧٤

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

تذييل للتعجيب من استمرارهم على الكفر بعد ما ظهر لهم من الحجج والآيات ، وتأييس من إيمانهم بإفادة أن انتفاء الإيمان عنهم بتقدير من الله تعالى عليهم فقد ظهر وقوع ما قدره من كلمته في الأزل. والكاف الداخلة قبل اسم الإشارة كاف التشبيه. والمشبه به هو المشار إليه ، وهو حالهم وضلالهم ، أي كما شاهدت حقّت كلمة ربك ، يعني أن فيما شاهدت ما يبين لك أن قد حقت كلمة ربك عليهم أنهم لا يؤمنون.

وقوله : (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من (كَلِمَةُ) أو من كلمات. والمراد مضمون جملة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وقرأ نافع ، وابن عامر كلمات ربك بالجمع. وقرأها الباقون بالإفراد ، والمعنى واحد لأن الكلمة تطلق على مجموع الكلام كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ، ولأن الجمع يكون باعتبار تعدد الكلمات أو باعتبار تكرر الكلمة الواحدة بالنسبة لأناس كثيرين.

والفسق : الخروج من المسلك الذي شأن الشيء سلوكه ، والمراد به فسق عن تلقي دعوة الرسل وإعمال النظر ، وتقدم في قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في سورة البقرة [٢٦].

ثم يجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا كل من استمر على فسقه فلا يؤمن ، فتكون الجملة تذييلا لما فيها من العموم الشامل لهؤلاء المتحدث عنهم ، كقوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) [الرعد : ١٧] ، ويجوز أن يكون المراد بالذين فسقوا المتحدث عنهم خاصة فيكون من الإظهار في مقام الإضمار لإفادة أنهم مع صفاتهم السابقة قد اتصفوا بالفسق ، ولإفادة كون فسقهم علة في أن حقت عليهم كلمة الله ، ويكون المشبه به هو الحق المأخوذ من (حَقَّتْ) أي كذلك الحق حقّت عليهم كلمة ربك مبالغة في ظهوره حتى أنه إذا أريد تشبيهه وتقريبه لم يشبه إلا بنفسه على طريقة قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وهي مع ذلك تذييل لما فيه من الفذلكة والتعجيب.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى

٧٥

تُؤْفَكُونَ (٣٤))

استئناف على طريقة التكرير لقوله قبله (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ٣١]. وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال ، وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال آلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن آلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها. وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل ، وموقع التكرير يزيده استقلالا.

والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من آلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، فلذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فصار مجموع الجملتين قصرا لصفة بدء الخلق وإعادته على الله تعالى قصر إفراد ، أي دون شركائكم، أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها.

وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع.

وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفا عند قوله : (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) [يونس : ٢٨].

وقوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) كقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس : ٣٢]. وأفكه : قلبه.

والمعنى : فإلى أي مكان تقلبون. والقلب مجازي وهو إفساد الرأي. و (أنى) هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يحول فيها التفكير. واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضا.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥))

هذا تكرير آخر بعد قوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣٤]. وهذا استدلال بنقصان آلهتهم عن الإرشاد إلى الكمال النفساني بنشر الحق ، وبأن الله تعالى هو الهادي إلى الكمال والحق ، ومجموع الجملتين مفيد قصر صفة الهداية إلى

٧٦

الحق على الله تعالى دون آلهتهم قصر إفراد ، كما تقدم في نظيره آنفا. ومعلوم أن منة الهداية إلى الحق أعظم المنن لأن بها صلاح المجتمع وسلامة أفراده من اعتداء قويّهم على ضعيفهم ، ولو لا الهداية لكانت نعمة الإيجاد مختلة في مضمحلة.

والمراد بالحق الدين ، وهو الأعمال الصالحة ، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح.

وقد أتبع الاستدلال على كمال الخالق ببدء الخلق وإعادته بالاستدلال على كماله بالهداية كما في قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] وقول موسى ـ عليه‌السلام ـ (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ١ ـ ٣]. وذلك أن الإنسان الذي هو أكمل ما على الأرض مركب من جسد وروح ، فالاستدلال على وجود الخالق وكماله بإيجاد الأجساد وما فيها هو الخلق ، والاستدلال عليه بنظام أحوال الأرواح وصلاحها هو الهداية.

وقوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) إلى آخره تفريع استفهام تقريري على ما أفادته الجملتان السابقتان من قصر الهداية إلى الحق على الله تعالى دون آلهتهم. وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه أهل العقول بأن الذي يهدي إلى الحق يوصل إلى الكمال الروحاني وهو الكمال الباقي إلى الأبد وهو الكون المصون عن الفساد فإن خلق الأجساد مقصود لأجل الأرواح ، والأرواح مراد منها الاهتداء ، فالمقصود الأعلى هو الهداية. وإذ قد كانت العقول عرضة للاضطراب والخطأ احتاجت النفوس إلى هدي يتلقى من الجانب المعصوم عن الخطإ وهو جانب الله تعالى ، فلذلك كان الذي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع لأنه مصلح النفوس ومصلح نظام العالم البشري ، فاتباعه واجب عقلا واتباع غيره لا مصحح له ، إذ لا غاية ترجى من اتباعه. وأفعال العقلاء تصان عن العبث.

وقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي الذي لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره ، أي لا يقبل الهداية فكيف يهدي غيره فلا يحق له أن يتبع.

والمراد ب (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) الأصنام فإنها لا تهتدي إلى شيء ، كما قال إبراهيم ـ (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢].

وقد اختلف القراء في قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) فقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ـ بفتح التحتية وفتح الهاء ـ على أن أصله يهتدي ، أبدلت التاء دالا لتقارب

٧٧

مخرجيهما وأدغمت في الدال ونقلت حركة التاء إلى الهاء الساكنة (ولا أهمية إلى قراءة قالون عن نافع إلى قراءة أبي عمرو بجعل فتح الهاء مختلسا بين الفتح والسكون لأن ذلك من وجوه الأداء فلا يعد خلافا في القراءة).

وقرأ حفص عن عاصم ، ويعقوب ـ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ـ على اعتبار طرح حركة التاء المدغمة واختلاف كسرة على الهاء على أصل التخلص من التقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر عن عاصم ـ بكسر الباء وكسر الهاء ـ بإتباع كسرة الياء لكسرة الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ـ بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال ـ على أنه مضارع هدى القاصر بمعنى اهتدى ، كما يقال : شرى بمعنى اشترى.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) تهكم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. وأريد بالهدي النقل من موضع إلى موضع أي لا تهتدي إلى مكان إلا إذا نقلها الناس ووضعوها في المكان الذي يريدونه لها ، فيكون النقل من مكان إلى آخر شبه بالسير فشبه المنقول بالسائر على طريقة المكنية ، ورمز إلى ذلك بما هو من لوازم السير وهو الهداية في (لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى).

وجوز بعض المفسرين أن يكون فعل (إِلَّا أَنْ يُهْدى) بمعنى إهداء العروس ، أي نقلها من بيت أهلها إلى بيت زوجها ، فيقال : هديت إلى زوجها.

وجملة : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) تفريع استفهام تعجيبي على اتباعهم من لا يهتدي بحال. واتباعهم هو عبادتهم إياهم.

(فَما) استفهامية مبتدأ ، و (لَكُمْ) خبر ، واللام للاختصاص. والمعنى : أي شيء ثبت لكم فاتبعتم من لا يهتدي بنفسه نقلا من مكان إلى مكان.

وقوله العرب : ما لك؟ ونحوه استفهام يعامل معاملة الاستفهام في حقيقته ومجازه. وفي الحديث أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة ، فقال الناس : «ما له! ما له!» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرب ما له». فإذا كان المستفهم عنه حالا ظاهرة لم يحتج إلى ذكر شيء بعد (ما له) كما وقع في الحديث.

وجعل الزجاج هذه الآية منه فقال : (فَما لَكُمْ) : كلام تام ، أي شيء لكم في عبادة الأوثان.

قال ابن عطية : ووقف القراء (فَما لَكُمْ) ثم يبدأ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

٧٨

وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٥] (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ولذلك قال بعض النحاة : مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده ، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي.

وجملة : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة : (فَما لَكُمْ) من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب. ولك أن تجعل هذه الجملة دليلا على حال محذوفة.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

عطف على جملة : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلها ، فبعد أن أمر الله رسوله بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها ، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل ، أي لوهم ليس فيه شبهة حق.

والضمير في قوله : (أَكْثَرُهُمْ) عائد إلى أصحاب ضمير (شُرَكائِكُمْ) [يونس : ٣٥] وضمير (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥].

وإنما عمّهم في ضمائر (شُرَكائِكُمْ) و (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وخصّ بالحكم في اتّباعهم الظن أكثرهم ، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام. وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عقلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفا ولكنهم أظهروا عبادتها تبعا للهوى وحفظا للسيادة بين قومهم. والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تخيل ، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عبّادها فريقا ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها. وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن. ففيه إيقاظ لجمهورهم ، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطمئن إليه قلوبهم. وهذا كقوله الآتي : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ)

٧٩

[يونس : ٤٠].

والظن : يطلق على مراتب الإدراك ، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٥ ، ٤٦] ؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك. ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك. وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة. ومنه قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في سورة الأعراف [٦٦] ، وقوله : وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) في سورة براءة [١١٨].

وقد أطلق مجازا على الاعتقاد المخطئ ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.

والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطئ أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة ، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] وقوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات : ١٢]. وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه. وهو العلم المستند إلى دليل راجع مع احتمال الخطإ احتمالا ضعيفا. وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة.

فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه ، فمحمل قوله هنا : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئا في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقين من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالا صائبا إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين ، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفي فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد.

و (ظَنًّا) منصوب على المفعولية به ل (يَتَّبِعُ). ولما كان الظن يقتضي مظنونا كان اتباع الظن اتباعا للمظنون أي يتبعون شيئا لا دليل عليه إلا الظن ، أي الاعتقاد الباطل.

٨٠