تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

والتبوّؤ : اتخاذ مكان يسكنه ، وهو تفعل من البوء ، أي الرجوع ، كأنّ صاحب المسكن يكلف نفسه الرجوع إلى محل سكنه ولو كان تباعد عنه في شئون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك ، وتقدم عند قوله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) في آل عمران [١٢١]. فمعنى (تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) اجعلا قومكما متبوءين بيوتا.

وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة ، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ على طريقة المجاز العقلي ، إذ كانا سبب تبوّؤ قومهما للبيوت. والقرينة قوله : (لِقَوْمِكُما) إذ جعل التبوؤ لأجل القوم.

ومعنى تبوءوا البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به. وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل ، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن ، وقد كانوا ساكنين أرض (جاسان) قرب مدينة (منفيس) قاعدة المملكة يومئذ في جنوب البلاد المصرية ، كما بيناه في سورة البقرة ، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها.

واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذ. فقيل : أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها ، وربما حمل على هذا التفسير من تأوّله وقوع قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عقبه. وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريبا بإذنه. وقيل : البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت. وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى ، والمناسب أيضا لإطلاق البيوت ، وكونها بمصر.

فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في (جاسان) قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج : إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أول ما سأله موسى من فرعون ، وأن فرعون منعهم من ذلك ، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج ، وقد صار لهم ذلك عيدا بعد خروجهم.

وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها

١٦١

تجعلونها مفتوحة إلى القبلة. قاله ابن عطية عن ابن عباس.

والقبلة : اسم في العربية لجهة الكعبة. وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب ، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها ، وهي قبلة إبراهيم ، فيكون أمر بني إسرائيل يومئذ جاريا على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة.

والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة.

والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة : إما بمعنى متقابلة ، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم ، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال.

وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة ، أي جهة الكعبة.

وعن ابن عباس : كانت الكعبة قبلة موسى. وعن الحسن : كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء. وهذا التفسير يلائم تركيب (اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه ، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه.

وأسند فعل (اجْعَلُوا) إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة.

وأمرهم بإقامة الصلاة ، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى ، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعا لإبراهيم عليه‌السلام وأبنائه. والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم.

وعطف جملة : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ

١٦٢

البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) [يونس: ٨٥] فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة ، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس : ٨٣] وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) [يونس : ٨٤ ، ٨٥].

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨))

عطف بقية ما جرى في القصة مما فيه عبرة وموعظة. وهذا مقدمة لخبر خروج موسى ومن معه من أرض مصر. فهذه المقدمة لتعريف كرامة موسى ـ عليه‌السلام ـ على ربه بأن استجاب له دعاءه ، وأنفذ برسالته مراده تعالى من إنقاذ بني إسرائيل من الاستعباد.

ومهّد موسى لدعائه تمهيدا يدل على أن ما سأله من الله لزجر فرعون وملئه إنما هو لمصلحة الدين لا للانتقام منه لقومه ولنفسه ، فسأل الله سلب النعمة عن فرعون وملئه وحلول العذاب بهم لخضد شوكتهم وتذليل تجبرهم ليرجعوا عن ضلالهم ويسهل قبولهم الإيمان.

ولما كانت النعمة مغرية بالطغيان لأهل الجهالة والخباثة جعل موسى إمداد فرعون بالنعمة مغريا لفرعون بالاسترسال على الإعراض عن الدين فكان دعاء موسى عليهم استصلاحا لهم وتطلبا لإيمانهم بوسائل التشديد عليهم ، ولكن الله علم من قلوبهم ما لم يعلمه موسى وقضى عليهم بالاستئصال.

وافتتح الدعاء بالنداء لمناسبته لمقام الدعاء. ونودي الله بوصف الربوبية تذللا لإظهار العبودية.

وقوله : (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً) توطئة للدعاء عليهم فليس المقصود به حقيقة الإخبار ضرورة أن موسى يوقن بأن الله يعلم ذلك فتعين أن الخبر مستعمل في التمهيد لطلب سلب النعمة عنهم في قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ). ثم الانتقال إلى الدعاء بسلب ما أوتوه.

١٦٣

فاقتران الخبر بحرف (إنّ) في قوله : (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ) إلخ مقصود به الاهتمام بهذا المعنى الذي استعمل فيه الخبر إذ ليس المقام مقام دفع تردد أو دفع إنكار.

وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ). والذي سلكه أهل التدقيق منهم أن اللام لام العاقبة. ونقل ذلك عن نحاة البصرة : الخليل وسيبويه ، والأخفش ، وأصحابهما ، على نحو اللام في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] فاللام الموضوعة للتعليل مستعارة لمعنى الترتب والتعقيب الموضوع له فاء التعقيب على طريقة الاستعارة التبعية في متعلق معنى الحرف فشبه ترتب الشيء على شيء آخر ليس علة فيه بترتب المعلول على العلة للمبالغة في قوة الترتب حتى صار كأنه مقصود لمن ظهر عنده أثره ، فالمعنى : إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فضلوا بذلك وأضلوا.

وللمفسرين وجوه خمسة أخرى :

أحدها : أن يكون للتعليل ، وأن المعنى : إنك فعلت ذلك استدراجا لهم ، ونسب إلى الفراء ، وفسر به الطبري.

الثاني : أن الكلام على حذف حرف ، والتقدير : لئلا يضلوا عن سبيلك أي فضلّوا.

حكاه الفخر.

الثالث : أن اللام لام الدعاء. روي هذا عن الحسن. واقتصر عليه في «الكشاف». وقاله ابن الأنباري. وهو أبعد الوجوه وأثقلها.

الرابع : أن يكون على حذف همزة الاستفهام. والتقدير : أليضلوا عن سبيلك آتيناهم زينة وأموالا تقريرا للشنعة عليهم ، قاله ابن عطية. ويكون الاستفهام مستعملا في التعجب ، قاله الفخر.

الخامس : تأويل معنى الضلال بأنه الهلاك ، قاله الفخر. وهي وجوه ضعيفة متفاوتة الضعف فلا نطيل بتقريرها.

والزينة : ما يتزين به الناس ، وما يحسن في أنظارهم من طرائف الدنيا ، كالحلي والجواهر والمباني الضخمة. قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)[آل عمران : ١٤] وقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] وقال : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦].

١٦٤

والأموال : ما به قوام المعاش ، فالزينة تلهيهم عن اتباع المواعظ ، وتعظّم شأنهم في أنظار قومهم ، والأموال يسخّرون بها الرعيّة لطاعتهم ، وقد كان للفراعنة من سعة الرزق ورفاعية العيش ما سار ذكره في الآفاق. وظهرت مثل منه في أهرامهم ونواويسهم.

وأعيد النداء بين الجملة المعلّلة والجملة المعلّلة لتأكيد التذلل والتعرض للإجابة ولإظهار التبرؤ من قصد الاعتراض.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب (لِيُضِلُّوا) بفتح الياء. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ـ بضم الياء ـ على معنى سعيهم في تضليل الناس.

والمعنى الحاصل من القراءتين متحد لأنهم إذا ضلوا في أنفسهم وهم قادة قومهم كان ضلالهم تضليلا لغيرهم ، وكذلك إذا أضلوا الناس فإنهم ما أضلوهم إلا وهم ضالون مثلهم. وقد علمت آنفا أن الزينة سبب ضلالهم والأموال سبب إضلال الناس.

وأعيد النداء ثالث مرة ؛ لزيادة تأكيد التوجه والتضرع.

وجملة : (اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) هي المقصود من هذا الكلام ، والنداء يقوم مقام وصل الجملة بما قبلها بمنزلة حرف العطف.

والطمس : المحو والإزالة. وقد تقدم في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) في سورة النساء [٤٧]. وفعله يتعدى بنفسه كما في آية سورة النساء ، ويعدى بحرف (على) كما هنا. وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) في سورة يس [٦٦]. ولعل تعديته ب (على) لإرادة تمكن الفعل من المفعول ، أو لتضمين الطمس معنى الاعتلاء بآلة المحو والإزالة ، فطمس الأموال إتلافها وإهلاكها.

وأما قوله : (وَاشْدُدْ) فأحسب أنه مشتق من الشد ، وهو العسر. ومنه الشدة للمصيبة والتحرج ، ولو أريد غير ذلك لقيل : واطبع ، أو واختم ، أو نحوهما ، فيكون شدّ بمعنى أدخل الشدّ أو استعمله مثل جد في كلامه ، أي استعمل الجد.

وحرف (على) مستعار لمعنى الظرفية استعارة تبعية لإفادة تمكن الشدة. والمعنى : أدخل الشدة في قلوبهم.

والقلوب : النفوس والعقول. والمعنى : أنه يدعو عليهم بالأنكاد والأحزان التي

١٦٥

تجعل قلوبهم في ضيق وحرج أي اجعلهم في عناء وبلبلة بال ما داموا في الكفر. وهذا حرص منه ـ عليه‌السلام ـ على وسائل هدايتهم رجاء أنهم إذا زالت عنهم النعم وضاقت صدورهم بكروب الحياة تفكروا في سبب ذلك ، فعجّلوا بالنّوبة إلى الله كما هو معتاد النفوس الغافلة قال تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨].

ويجوز أن يكون (اشْدُدْ) من الشد ، وهو الهجوم. يقال : شد عليه ، إذا هجم ، وذلك أن قلوبهم في حالة النعمة والدعة آمنة ساكنة فدعا الله أن يشد عليهم بعذابه ، تمثيلا لحال إصابة نفوسهم بالأكدار والأحزان بحال من يشد على عدوّه ليقتله وهو معنى قوله تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء : ٦٤] أي طوّعهم لحكمك وسخّرهم.

وبهذا يظهر أن موقع الفاء في قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أن تكون فاء السببية في جواب الدعاء ، أي افعل بهم ذلك ليؤمنوا. والفعل منصوب بأن مضمرة إضمارا واجبا بعد فاء السببية.

فقوله : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) في قوة أن يقال : فيؤمنوا حين يرون العذاب لا قبل ذلك.

وإنما عدل عن إيقاع جواب الدعاء بصيغة إثبات الإيمان ، إلى إيراده بصيغة نفي مغيّا بغاية هي رؤية العذاب سلوكا لأسلوب بديع في نظم الكلام لأنه أراد أن يجمع بين ترتيب الجواب على الدعاء وبين ما استبان له من طبع نفوسهم بطبع أنهم لا تنفع فيهم الحجج وأن قساوة قلوبهم وشراسة نفوسهم لا تذللها إلا الآلام الجسدية والنفسانية ، وكل ذلك علاج بما هو مظنة إيصالهم من طرق الضغط والشدة حيث لم تجد فيهم وسائل الحجة ، فقال : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي أن شأنهم ذلك ، وهذا إيجاز بديع إذ جمع في هذا التركيب جواب الدعاء وبيان علة الدعاء عليهم بذلك. وأصل الكلام : فيؤمنوا فإنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب الأليم.

والمقصود من جواب فعل الدعاء هو غاية الجواب التي بعد حتى ، فتلك هي مصب الجواب. وهذا الوجه في تفسير الآية وجه لا ترهقه غبرة الإشكال ، ولا يعسر معه المنال ، ويجوز أن يكون قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا) إلخ عطفا على قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) وجملة الدعاء بينهما معترضة.

والمعنى : ليضلوا عن سبيلك فيستمر ضلالهم حتى يروا العذاب الأليم. وهذا تأويل

١٦٦

المبرد والزجاج. والمراد بالعذاب الأليم عذاب الفقر والجوع وعذاب النكد في النفس.

والرؤية مستعملة في الإحساس على وجه المجاز المرسل ، أو مستعملة كناية عن حلول العذاب بهم لأن المشاهدة ملازمة لحلول الشيء المشاهد.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

جواب من الله لكلام موسى جرى على طريقة حكاية المحاورات أن لا تعطف جملها كما تقدم غير مرة.

وافتتاح الجملة ب (قَدْ) والفعل الماضي يفيد تحقيق الحصول في المستقبل ، فشبه بالمضي.

وأضيفت الدعوة إلى ضمير التثنية المخاطب به موسى وهارون وإن كانت الدعوة إنما حكيت عن موسى ـ عليه‌السلام ـ وحده لأن موسى ـ عليه‌السلام ـ دعا لما كان هارون مواطئا له وقائلا بمثله لأن دعوتهما واحدة. وقيل : كان موسى ـ عليه‌السلام ـ يدعو وهارون ـ عليه‌السلام ـ يؤمّن.

ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربّه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم ، ويوالي عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومة دعوة موسى وتنحطّ غلواؤهم ، قال تعالى : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف : ١٣٠] وقال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) [الأعراف : ١٣٣].

وفرع على إجابة دعوتهما أمرهما بالاستقامة ، فعلم أن الاستقامة شكر على الكرامة فإن إجابة الله دعوة عبده إحسان للعبد وإكرام وتلك نعمة عظيمة تستحق الشكر عليها وأعظم الشكر طاعة المنعم.

وإذ قد كان موسى وهارون مستقيمين ، وناهيك باستقامة النبوءة كان أمرهما بالاستقامة مستعملا في الأمر بالدوام عليها. وأعقب حثهما على الاستقامة بالنهي عن اتباع طريق الذين لا يعلمون وإن كان ذلك مشمولا للاستقامة تنبيها على توخي السلامة من العدول عن طريق الحق اهتماما بالتحذير من الفساد.

والاستقامة : حقيقتها الاعتدال ، وهي ضد الاعوجاج ، وهي مستعملة كثيرا في معنى ملازمة الحق والرشد ، لأنه شاع تشبيه الضلال والفساد بالاعوجاج والالتواء. وقيل للحق :

١٦٧

طريق مستقيم. وقد تقدم في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ، فكان أمرهما بالاستقامة جامعا لجميع خصال الخير والصلاح.

وفي حديث أبي عمرة الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال : قل : آمنت بالله ثم استقم. ومن الاستقامة أن يستمرا على الدعوة إلى الدين ولا يضجرا.

والسبيل : الطريق ، وهو هنا مستعمل للسيرة والعمل الغالب.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعانِ) قرأه الجمهور بتشديد النون مكسورة. وهما نونان : إحداهما نون المثنى والأخرى نون التوكيد. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر (وَلا تَتَّبِعانِ) بنون خفيفة مكسورة. وهي نون رفع المثنى لا نون التوكيد ، فتعين أن تكون (لا) على هاته القراءة نافية غير ناهية ، والجملة في موضع الحال والواو واو الحال ، لأن جملة الحال المضارعة المفتتحة بحرف نفي يجوز اقترانها بالواو وعدمه.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠))

معطوفة على جملة (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) [يونس : ٨٧] عطف الغرض على التمهيد ، أي ، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر.

وجاوزنا ، أي قطعنا بهم البحر ، والباء للتعدية ، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر. وتقدم نظيره في سورة الأعراف [١٣٨]. ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه ، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمرون منها.

و (فَأَتْبَعَهُمْ) بمعنى لحقهم. يقال : تبعه فأتبعه إذا سار خلفه فأدركه. ومنه فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠]. وقيل : أتبع مرادف تبع.

والبغي : الظلم ، مصدر بغى. وتقدم عند قوله تعالى : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) في الأعراف [٣٣].

والعدو : مصدر عدا. وهو تجاوز الحد في الظلم ، وهو مسوق لتأكيد البغي. وإنما

١٦٨

عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا.

والمعنى : أن فرعون دخل البحر يقتصّ آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنعهم من السفر ، وإنما كان اتباعه إياهم ظلما وعدوانا إذ ليس له فيه شائبة حق ، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء ، فإن لذي الوطن حقا في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له ، وللإنسان أن يتخلى عن حقه ، فلذلك كان الخلع في الجاهلية عقابا ، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي ، وكان الإمساك بالمكان عقابا ، ومنه السجن ، فليس الخروج من الوطن طوعا بعدوان. فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشدّ للحاق بهم لردهم كرها كان في ذلك ظالما معتديا ، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم.

و (حَتَّى) ابتدائية لوقوع (إِذا) الفجائية بعدها. وهي غاية للإتباع ، أي استمر اتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه ، كل ذلك لا يفتأ يجدّ في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر ، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده ، فغرقوا وهلك فرعون غريقا ، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من (إذا) ، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذف. والتقدير : حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت ، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الاتباع ، وليست الغاية هي قوله : آمَنْتُ) وإن كان الأمران متقارنين.

والإدراك : اللحاق وانتهاء السير. وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجيا بهول البحر ومصارعته الموج ، وهو يأمل النجاة منه ، وأنه لم يظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت ، وذلك لتصلبه في الكفر.

وتركيب الجملة إيجاز ، لأنها قامت مقام خمس جمل :

جملة : تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق.

وجملة : تفيد أنه لم يلحقهم.

وهاتان مستفادان من (حتى) ، وهاتان منّة على بني إسرائيل.

وجملة : تفيد أنه غمره الماء فغرق ، وهذه مستفادة من قوله : (أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) وهي

١٦٩

عقوبة له وكرامة لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة : تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان. وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله : (إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ). وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية.

وجملة : تفيد أنه ما آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله.

وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى.

وقد بني نظم الكلام على جملة : (إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) ، وجعل ما معها كالوسيلة إليها ، فجعلت (حتى) لبيان غاية الاتباع وجعلت الغاية أن قال : (آمَنْتُ) لأن اتباعه بني إسرائيل كان مندفعا إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه ، فكانت غايته إيمانه بحقهم. ولذلك قال : (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هدوا إليه ، فجعل الصلة طريقا لمعرفته بالله ، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر ، ولذلك احتاج أن يزيد (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لأنه كان يسمع من موسى دعوته لأن يكون مسلما فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف ، ولذلك لم يقل : أسلمت ، بل قال أنا من المسلمين ، أي يلزمني ما التزموه. جاء بإيمانه مجملا لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله.

وسيأتي قريبا في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون ، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه.

وقرأ الجمهور (آمَنْتُ أَنَّهُ) بفتح همزة (أنه) على تقدير باء الجر محذوفة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف ـ بكسر الهمزة ـ على اعتبار (إنّ) واقعة في أول جملة ، وأنّ جملتها بدل من جملة (آمَنْتُ) بحذف متعلق فعل (آمَنْتُ) لأن جملة البدل تدل عليه.

[٩١ ، ٩٢] (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه ، تقديره : قال الله. وهو جواب لقوله : آمَنْتُ) [يونس : ٩٠] لأنه قصد بقوله ذلك طلب الإنجاء من الغرق اعترافا لله بالربوبية ، فكأنه وجه

١٧٠

إليه كلاما. فأجابه الله بكلام.

وقال الله هذا الكلام له على لسان الملك الموكل بتعذيبه تأييسا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة ، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال : (آمَنْتُ) [يونس : ٩٠] إلى آخره ، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى ، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله ، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق. ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) كما سيأتي.

والاستفهام في (آلْآنَ) إنكاري. والآن : ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله : آمَنْتُ) [يونس : ٩٠] تقديره : الآن تؤمن ، أي هذا الوقت. ويقدر الفعل مؤخرا ، لأن الظرف دل عليه ، ولأن محط الإنكار هو الظرف.

والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي علق به الإنكار ليس وقتا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي ، فيكون المعنى : لا إيمان الآن.

والمنفي هو إيمان ينجي من حصل منه في الدنيا والآخرة. وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت. وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء : ١٨].

و (الآن) اسم ظرف للزمان الحاضر ... وقد تقدم عند قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) في سورة الأنفال [٦٦].

وجملة : (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في موضع الحال من معمول (تؤمن) المحذوف ، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار ، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر ، ويزيده إنكارا أن صاحبه كان عاصيا لله ومفسدا للدين الذي أرسله الله إليه ، ومفسدا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر.

وصيغة : (كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أبلغ في الوصف بالإفساد من : وكنت مفسدا ، كما تقدم آنفا ، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب.

والفاء التي في قوله : (فَالْيَوْمَ) فاء الفصيحة ، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق. والمعنى : فإن رمت بإيمانك بعد فوات وقته أن أنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك ، والكلام جار مجرى التهكم ، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر

١٧١

استعارة تهكمية.

وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها ، بل فيها علاقة المشابهة ، لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكّته يشبه الإنجاء ، ولكنه ضد الإنجاء ، فكان بالمشابهة ، استعارة ، وبالضدية تهكما ، والمجرور في قوله : (بِبَدَنِكَ) حال.

والأظهر أن الباء من قوله : (بِبَدَنِكَ) مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد آية إنجاء الجسد ، فيكون قوله : (بدنك) في معنى البدل المطابق من الكاف في (نُنَجِّيكَ) كزيادة الباء في قول الحريري : «فإذا هو أبو زيد بعينه ومينه».

والبدن : الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق. والمعنى : ننجيك وأنت جسم. كما يقال : دخلت عليه فإذا هو جثة ، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد ، فإن كل زيادة في كلام البليغ يقصد منها معنى زائد ، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون ، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز.

و (لِمَنْ خَلْفَكَ) أي من وراءك. والوراء : هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي ، أي من ليسوا معك. والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء ، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به ، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط ، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا. فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء ، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل ، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يغلب ، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود. ولذلك كانوا يموّهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده ، فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تؤوّل بشيء من ذلك ، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا ، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية.

ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه ، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء ، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج ، وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله.

١٧٢

وكلمة (فَالْيَوْمَ) مستعملة في معنى (الآن) لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازا بعلاقة الكلية والجزئية.

وجملة : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) تذييل لموعظة المشركين ، والواو اعتراضية ، أو واو الحال.

والمراد منه : دفع توهم النقص عن آيات الله عند ما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها ، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم.

واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالة على أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق. وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة.

وفرعون هذا هو منفطاح الثاني ، ويقال له (ميرنبتا) ـ بياء فارسية ـ أو (منفتاح) ، أو (منيفتا) وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم (سيزوستريس) ، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية ، وكانوا في حدود سنة ١٤٩١ قبل المسيح.

قال ابن جريج : كان فرعون هذا قصيرا أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقا في البحر ، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدفن في وادي الملوك في صعيد مصر. فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبره هناك ، وذلك يومئ إلى قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). ووجود قبر له إن صح بوجه محقق ، لا ينافي أن يكون مات غريقا ، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته ، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة.

وخلفته في ملك مصر ابنته المسماة (طوسير) لأنه تركها وابنا صغيرا.

وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق.

ومن دقائق القرآن قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون ، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي. والظاهر أن الأمواج ألقت جثّته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقوا بعده بمدينة مصر

١٧٣

لما استبطئوا رجوعه ورجوع جيشه ، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣].

فلما ضرب الله مثل السوء أتبعه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه ، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق ، ليكون ذلك ترغيبا للمشركين في الإيمان ، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة.

فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [يونس : ٩١] الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بوأهم مبوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرق فرعون وجنوده ، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شئونهم ، ورزقوا المنّ والسّلوى ، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة.

فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مبوّأ الصدق.

والرزق : من الطيبات.

فمعنى (فَمَا اخْتَلَفُوا) أولئك ولا من خلفهم من أبنائهم وأخلافهم.

والتبوّؤ تقدم آنفا ، والمبوّأ : مكان البوء ، أي الرجوع ، والمراد المسكن كما تقدم ، وإضافته إلى (صدق) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدرا ميميا. والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢]. والمراد بمبوإ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا)[الأعراف : ١٣٧].

وتفريع قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا) على (بَوَّأْنا) وما عطف عليه تفريع ثناء عليهم بأنهم

١٧٤

شكروا تلك النعمة ولم يكفروها كما كفرها المشركون الذين بوّأهم الله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء ، فجعلوا لله شركاء ، ثم كفروا بالرسول المرسل إليهم. فوقع في الكلام إيجاز حذف. وتقدير معناه : فشكروا النعمة واتبعوا وصايا الأنبياء وما خالفوا ذلك إلا من بعد ما جاءهم العلم.

والاختلاف افتعال أريد به شدة التخالف ولا يعرف لمادة هذا المعنى فعل مجرد. وهي مشتقة من الاسم الجامد وهو الخلف لمعنى الوراء فتعين أن زيادة التاء للمبالغة مثل (اكتسب) مبالغة في (كسب) ، فيحمل على خلاف تشديد وهو مضادة ما جاء به الدين وما دعا إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المناسب للسياق فإن الكلام ثناء مردف بغاية تؤذن أنّ ما بعد الغاية نهاية للثناء وإثبات للوم إذ قد نفى عنهم الاختلاف إلى غاية تؤذن بحصول الاختلاف منهم عند تلك الغاية فالذين لم يختلفوا هم الذين بوّأهم الله مبوّأ صدق. وقد جاءوا بعدهم إلى أن جاء الذين اختلفوا على الأنبياء. وهؤلاء ما صدق ضمير الرفع في قوله : (جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [آل عمران : ١٩].

وما جاءهم من العلم يجوز أن يكون ما جاءهم به الأنبياء من شرع الله فلم يعملوا بما جاءوهم به ، وأعظم ذلك تكذيبهم بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فعن ابن عباس : هم اليهود الذين كانوا في زمن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا قبل مبعثه مقرين بنبي يأتي ، فلما جاءهم العلم ، وهو القرآن اختلفوا في تصديق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، قال ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع.

ويجوز أن يكون العلم هو القرآن ، وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية كمعنى قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩] ، وقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] فإن البينة هي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قبل هذا قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ١ ، ٢] الآية. وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وهذا المحمل هو المناسب لحرف (حتى) في قوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ).

وتعقيب (فَمَا اخْتَلَفُوا) بالغاية يؤذن بأنّ ما بعد الغاية منتهى حالة الشكر ، أي فبقوا

١٧٥

في ذلك المبوّأ ، وفي تلك النعمة ، حتى اختلفوا فسلبت نعمتهم فإن الله سلبهم أوطانهم.

وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تذييل وتوعد ، والمقصود منه : أن أولئك قوم مضوا بما عملوا وأن أمرهم إلى ربهم كقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ١٣٤] ، وفيه إيماء إلى أن على الحاضرين اليوم أن يفكروا في وسائل الخلاص من الضلال والوقوع في المؤاخذة يوم القيامة.

و (بين) ظرف مكان للقضاء المأخوذ من فعل (يقضي) ففعل القضاء كأنه متخلّل بينهم لأنه متعلق بتبيين المحق والمبطل.

وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى ما يفهم من قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا) من وجود مخالف (بكسر اللام) ومخالف (بفتحها).

[٩٤ ، ٩٥] (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥))

تفريع على سياق القصص التي جعلها الله مثلا لأهل مكة وعظة بما حل بأمثالهم. انتقل بهذا التفريع من أسلوب إلى أسلوب كلاهما تعريض بالمكذبين ، فالأسلوب السابق تعريض بالتحذير من أن يحل ما حل بالأمم المماثلة لهم ، وهذا الأسلوب الموالي تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث ، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالمراد من (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام وهو ما أنزل في هذه السورة من القصص.

ثم أن الآية تحتمل معنيين لا يستقيم ما سواهما ؛ أولهما : أن تبقى الظرفية التي دلت عليها (في) على حقيقتها ، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه ، أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك ، أي يشكون في وقوع هذه القصص ، كما يقال : دخل في الفتنة ، أي في أهلها. ويكون معنى (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به ، فيزول الشك من نفوس أهل الشك إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار. فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعا لمعذرتهم.

١٧٦

وثانيهما : أن تكون (في) للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) [هود : ١٠٩] ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة التعريض لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة. وهذه طريقة في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه كما في قصة الخصم من اللذين اختصما إلى داود المذكورة في سورة ص.

وكلا الاحتمالين يلاقي قوله : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه يقتضي أن المسئول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب ، وأنهم يشهدون به ، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها. وغير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية ، ويقتضي أن المخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكان قوله : مِنْ قَبْلِكَ).

وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب ، لأن قوله : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يناكد ذلك إلا بتعسف.

وإنما تكون جملة : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) جوابا للشرط باعتبار ما تفيده مادة السؤال من كونهم يجيبون بما يزيل الشك ، فبذلك يلتئم التلازم بين الشرط والجواب ، كما دلت عليه جملة : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

وقرأ الجمهور (فَسْئَلِ) بهمزة وصل وسكون السين وهمزة بعد السين. وقرأه ابن كثير والكسائي فسل بفتح السين دون همزة الوصل وبحذف الهمزة التي بعد السين مخفف سأل.

فجملة : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه ، كأنّ السامع يقول : فإذا سألتهم ما ذا يكون ، فقيل : لقد جاءك الحق من ربك.

ولما كان المقصود من ذلك علم السامعين بطريق التعريض لا علم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه ليس بمحل الحاجة لإعلامه بأنه على الحق قرنت الجملة بحرفي

١٧٧

التأكيد ، وهما : لام القسم وقد ، لدفع إنكار المعرّض بهم.

وبذلك كان تفريع (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) تعريضا أيضا بالمشركين بأنهم بحيث يحذر الكون منهم.

والامتراء : الشك فيما لا شبهة للشك فيه. فهو أخص من الشك.

وكذلك عطف (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وهو أصرح في التعريض بهم (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ). وهذا يقتضي أنهم خاسرون. ونظيره (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] ، وحاصل المعنى : فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق ، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين.

[٩٦ ، ٩٧] (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

تبين تناسب هذه الآية مع التي قبلها بما فسرنا به الآية السابقة فإنه لما سبق التعريض إلى المشركين الشّاكّين في صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستشهاد عليهم في صدقه بشهادة أهل الكتاب أعقب ذلك بأنهم من زمرة الفرق الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا ، فهم لا تجدي فيهم الحجة لأنهم أهل مكابرة ، وليسوا طالبين للحق لأن الفطرة التي فطرت عليها عقولهم غير قابلة لحقائق الإيمان ، فالذين لم يؤمنوا بما يجيء من الآيات هم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون ، تلك أماراتهم. وهذا مسوق مساق التأييس من إيمانهم.

ومعنى (حقت) ثبتت. و (على) للاستعلاء المجازي ، وهو تمكن الفعل الذي تعلقت به. والمراد بكلمات الله : أمر التكوين ، وجمعت الكلمات بالنظر إلى أن متعلقها ناس كثيرون ، فكل واحد منهم تحق عليه كلمة.

وقرأ غير نافع ، وابن عامر (كَلِمَتُ رَبِّكَ) على مراعاة الجنس إذ تحق على كل أمة كلمة ، وهذا الكلام عظة للمشركين. قال غيرهم : وتحذير من أن يكونوا مظهرا لمن حقت عليهم كلمة الشقوة وإنذار بوشك حلول العذاب بهم.

فالموصول على هذا التفسير مراد به معهود ، والجملة كلها مستأنفة ، و (إنّ) للتوكيد

١٧٨

المقصود به التحقيق ، أي لا شك أن هؤلاء من أولئك فقد اتضح أمرهم واليأس من إيمانهم.

ويحتمل أن تجعل الجملة في موضع التعليل للقصص السابقة فتكون بمنزلة التذييل ، والموصول للعموم الجامع جميع الأمم التي هي بمثابة الأمم المتحدث عنهم وتكون (إن) لمجرد الاهتمام بالخبر ، فتفيد التعليل والربط ، وتغني عن فاء التفريع كالتي في قول بشار :

إن ذاك النجاح في التبكير

كما تقدم غير مرة ويكون في الآية تعريض آخر بالمشركين.

و (لو) وصلية للمبالغة ، أي لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية فكيف إذا لم تجئهم إلا بعض الآيات.

و (كل) مستعملة في معنى الكثرة ، وهو استعمال كثير في القرآن. كما سيأتي عند قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) في سورة الحج [٣١] وقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) في سورة البقرة [٢٧] ، أي ولو جاءتهم آيات كثيرة تشبه في الكثرة استغراق جميع الآيات الممكن وقوعها. وقد تقدم نظير ذلك آنفا.

ورؤية العذاب ، كناية عن حلوله بهم.

والمعنى : أنهم لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم الإيمان ، لأن نزول العذاب هو ابتداء مجازاتهم على كفرهم ، وليس بعد الشروع في المجازاة عفو.

ومن بركة هذا الدين أن الذين كفروا به قد هداهم الله قبل أن ينزل بهم عذابا.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))

الفاء لتفريع التغليط على امتناع أهل القرى من الإيمان بالرسل قبل أن ينزل بهم العذاب على الإخبار بأن الذين حقت عليهم كلمة الله أن لا يؤمنوا لا يؤمنون حتى يروا العذاب فإن أهل القرى من جملة الذين حقت عليهم الكلمة بأن لا يؤمنوا. والغرض من ذكر أهل القرى التعريض بالمقصود ، وهم أهل مكة فإنهم أهل قرية فكان ذلك كالتخلص بالتعريض إلى المخصوصين به ، وللإفضاء به إلى ذكر قوم يونس فإنهم أهل قرية.

١٧٩

و (لو لا) حرف يرد لمعان منها التوبيخ ، وهو هنا مستعمل في لازم التوبيخ كناية عن التغليط ، لأن أهل القرى قد انقضوا ، وذلك أن أصل معنى (لو لا) التحضيض ، وهو طلب الفعل بحثّ ، فإذا دخلت على فعل قد فات وقوعه كانت مستعملة في التغليط والتنديم والتوبيخ على تفويته ، ويكون ما بعدها في هذا الاستعمال فعل مضي مثل قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) [النور : ١٦]. وإذا توجه الكلام الذي فيه (لو لا) إلى غير صاحب الفعل الذي دخلت عليه كانت مستعملة في التعجيب من حال المتحدث عنه ، كقوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) [النور : ١٣] وقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) [الأنعام : ٤٣] وهذه الآية أصرح في ذلك لوجود (كان) الدالة على المضي والانقضاء. والمقصود : التعريض بأن مشركي أهل مكة يوشك أن يكونوا على سنن أهل القرى. قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٦] ، ونظير هذه الآية استعمالا ومعنى قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) [هود : ١١٦] ، وذلك تعريض بتحريض أهل مكة على الإيمان قبل نزول العذاب.

والمستخلص من الروايات الواردة في قوم يونس أنهم بادروا إلى الإيمان بعد أن فارقهم يونس ، توقعا لنزول العذاب ، وقبل أن ينزل بهم العذاب ، وذلك دليل على أن معاملة الله إياهم ليست مخالفة لما عامل به غيرهم من أهل القرى ، وأن ليست لقوم يونس خصوصية ، وبذلك لا يكون استثنائهم استثناء منقطعا.

وإذ كان الكلام تغليطا لأهل القرى المعرضين عن دعوة الرسل ، وتعريضا بالتحذير مما وقعوا فيه. كان الكلام إثباتا صريحا ووقوع قرية وهو نكرة في مساق الإثبات أفاد العموم بقرينة السياق مثل قول الحريري : «يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا» أي كل ضر لا ضرا معينا ، وبقرينة الاستثناء فإنه معيار العموم ، وهذا الاستثناء من كلام موجب فلذلك انتصب قوله: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فهذا وجه تفسير الآية. وجرى عليه كلام العكبري في «إعراب القرآن» ، والكواشي في «التخليص» وجمهور المفسرين جعلوا جملة : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) في قوة المنفية ، وجعلوا الاستثناء منقطعا منصوبا ولا داعي إلى ذلك.

وجملة : (لَمَّا آمَنُوا) مستأنفة لتفصيل مجمل معنى الاستثناء. وفي الآية إيماء إلى أن أهل مكة يعاملهم الله معاملة قوم يونس إذ آمنوا عند رؤية العذاب. وذلك حالهم عند ما تسامعوا بقدوم جيش غزوة الفتح الذي لا قبل لهم به عدة وعدة ، فيكاد يحل بهم عذاب

١٨٠