تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

أجل محدود لا يقبل التغير. وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف.

و (إِذا) في هذه الآية مشربة معنى الشرط ، فلذلك اقترنت جملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في (إذا) معاملة جواب الشرط.

[٥٠ ، ٥١] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١))

هذا جواب ثان عن قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] باعتبار ما يتضمنه قولهم من الوعد بأنهم يؤمنون إذا حق الوعد الذي توعدهم به ، كما حكي عنهم في الآية الأخرى (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢] ، وهذا الجواب إبداء لخلل كلامهم واضطراب استهزائهم ، وقع هذا الأمر بأن يجيبهم هذا الجواب بعد أن أمر بأن يجيبهم بقوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [يونس : ٤٩] ، وهذا الجواب واقع موقع التسليم الجدلي بعد أن يجاب المخطئ بالإبطال. وحاصل هذا الجواب إن قدر حصول ما سألتم تعيين وقته ونزول كسف من السماء بكم أو نحوه ما ذا يحصل من فائدة لكم في طلب تعجيل حصوله إذ لا تخلون عن أن تكونوا تزعمون أنكم تؤمنون حينئذ فذلك باطل لأن العذاب يعاجلكم بالهلاك فلا يحصل إيمانكم. وهذا كما قال بعض الواعظين : نحن نريد أن لا نموت ؛ حتى نتوب ؛ ونحن لا نتوب حتى نموت.

ووقع في خلال هذا الجواب تفنن في تخييل التهويل لهذا العذاب الموعود بقوله : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) تخييلا يناسب تحقق وقوعه فإن هاذين الوقتين لا يخلو حلول الحوادث عن أحدهما ، على أنه ترديد لمعنى العذاب العاجل تعجيلا قريبا أو أقلّ قربا ، أي أتاكم في ليل هذا اليوم الذي سألتموه أو في صبيحته ، على أن في ذكر هذين الوقتين تخييلا ما لصورة وقوع العذاب استحضارا له لديهم على وجه يحصل به تذكيرهم انتهازا لفرصة الموعظة ، كالتذكير به في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٤٧].

والبيات : اسم مصدر التبييت ، ليلا كالسلام للتّسليم ، وذلك مباغتة. وانتصب بَياتاً) على الظرفية بتقدير مضاف ، أي وقت بيات.

وجواب شرط (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) محذوف دل عليه قوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ

١٠١

الْمُجْرِمُونَ) الذي هو ساد مسد مفعولي (أرأيتم) إذ علقه عن العمل الاستفهام ب (ما ذا).

و (ما ذا) كلمتان هما (ما) الاستفهامية و (إذا). أصله إشارة مشار به إلى مأخوذ من الكلام الواقع بعده. واستعمل (ذا) مع (ما) الاستفهامية في معنى الذي لأنهم يراعون لفظ الذي محذوفا. وقد يظهر كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]. وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار عليهم ، وفي التعجيب من تعجلهم العذاب بنية أنهم يؤمنون به عند نزوله.

و (من) للتبعيض. والمعنى ما الذي يستعجله المجرمون من العذاب ، أي لا شيء من العذاب بصالح لاستعجالهم إياه لأن كل شيء منه مهلك حائل بينهم وبين التمكن من الإيمان وقت حلوله.

وفائدة الإشارة إليه ، تهويله أو تعظيمه أو التعجيب منه كقوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : ٢٦] ، فالمعنى ما هذا العذاب العظيم في حال كونه يستعجله المجرمون ، فجملة (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) في موضع الحال من اسم الإشارة ، أي أن مثله لا يستعجل بل شأنه أن يستأخر.

و (من) بيانية ، والمعنى معها على معنى ما يسمى في فن البديع بالتجرد.

واعلم أن النحاة يذكرون استعمال (ما ذا) بمعنى (ما الذي) وإنما يعنون بذلك بعض مواضع استعماله وليس استعمالا مطردا. وقد حقق ابن مالك في «الخلاصة» إذ زاد قيدا في هذا الاستعمال فقال :

ومثل ما ، ذا بعد ما استفهام

أو من إذا لم تلغ في الكلام

يريد إذا لم يكن مزيدا. وإنما عبر بالإلغاء فرارا من إيراد أن الأسماء لا تزاد. والحق أن المراد بالزيادة أن اسم الإشارة غير مفيد معناه الموضوع له ولا هو بمفيد تأسيس معنى في الكلام ولكنه للتقوية والتأكيد الحاصل من الإشارة إلى ما يتضمنه الكلام ، وقد أشار إلى استعمالاته صاحب «مغنى اللبيب» في فصل عقده ل (ما ذا) وأكثر من المعاني ولم يحرر انتساب بعضها من بعض. وانظر ما تقدم عند قوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] المتقدم آنفا ، وقوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦].

والمجرمون : أصحاب الجرم وهو جرم الشرك. والمراد بهم الذين يقولون (مَتى هذَا

١٠٢

الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨] ، وهم مشركو مكة فوقع الإظهار في مقام الإضمار عوض أن يقال ما ذا يستعجلون منه لقصد التسجيل عليهم بالإجرام ، وللتنبيه على خطئهم في استعجال الوعيد لأنه يأتي عليهم بالإهلاك فيصيرون إلى الآخرة حيث يفضون إلى العذاب الخالد فشأنهم أن يستأخروا الوعد لا أن يستعجلوه ، فدل ذلك على أن المعنى لا يستعجلون منه إلّا شرا.

وعطفت جملة : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) بحرف المهلة للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأن (ثم) في عطفها الجمل ، لأن إيمانهم بالعذاب الذي كانوا ينكرون وقوعه حين وقوعه بهم أغرب وأهم من استعجالهم به. وهمزة الاستفهام مقدمة من تأخير كما هو استعمالها مع حروف العطف المفيدة للتشريك. والتقدير : ثم أإذا ما وقع ، وليس المراد الاستفهام عن المهلة.

والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب ، وهذا الاستفهام مستعمل في الإنكار بمعنى التغليط وإفساد رأيهم ، فإنهم وعدوا بالإيمان عند نزول العذاب استهزاء منهم فوقع الجواب بمجاراة ظاهر حالهم وبيان أخطائهم ، أي أتؤمنون بالوعد عند وقوعه على طريقة الأسلوب الحكيم ، كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩].

وكلمة (آلْآنَ) استفهام إنكاري عن حصول إيمانهم عند حلول ما توعدهم ، فعبر عن وقت وقوعه باسم الزمان الحاضر وهو (الآن) حكاية للسان حال منكر عليهم في ذلك الوقت استحضر حال حلول الوعد كأنه حاضر في زمن التكلم ، وهذا الاستحضار من تخييل الحالة المستقبلة واقعة. ولذلك يحسن أن نجعل (آلآن) استعارة مكنية بتشبيه الزمن المستقبل بزمن الحال ، ووجه الشبه الاستحضار. ورمز إلى المشبه به بذكر لفظ من روادفه ، وهو اسم الزمن الحاضر.

وجملة : (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) ترشيح ، وإما تقدير قول في الكلام ، أي يقال لهم إذا آمنوا بعد نزول العذاب آلآن آمنتم ، كما ذهب إليه أكثر المفسرين. فذلك تقدير معنى لا تقدير نظم وإعراب لأن نظم هذا الكلام أدق من ذلك.

ومعنى : (تَسْتَعْجِلُونَ) تكذبون ، فعبر عن التكذيب بالاستعجال حكاية لحاصل قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨] الذي هو في صورة الاستعجال ، والمراد منه التكذيب.

١٠٣

وتقديم المجرور للاهتمام بالوعد الذي كذبوا به ، وللرعاية على الفاصلة.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))

معطوفة على جملة : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٥٠] الآية. و (ثم) للتراخي الرتبي ، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٥٠] فإن ذلك عذاب الدنيا وأما عذاب الخلد فهو عذاب الآخرة وهذا أعظم من عذاب الدنيا ، فذلك موقع عطف جملته بحرف (ثم).

وصيغة المضي في قوله : (قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) مستعملة في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

والذين ظلموا هم القائلون (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨]. وأظهر في مقام الإضمار لتسجيل وصف الظلم عليهم وهو ظلم النفس بالإشراك. ومعنى ظلموا : أشركوا.

والذوق : مستعمل في الإحساس ، وهو مجاز مشهور بعلاقة الإطلاق.

والاستفهام في (هَلْ تُجْزَوْنَ) إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك جاء بعده الاستثناء إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

وجملة : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) استئناف بياني لأن جملة : (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) تثير سؤالا في نفوسهم عن مقدار ذلك العذاب فيكون الجواب على أنه على قدر فظاعة ما كسبوه من الأعمال مع إفادة تعليل تسليط العذاب عليهم.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣))

هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم ، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافا به ، ومرة يقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه : أهذا العذاب الخالد ، أي عذاب الآخرة ، حق.

فالجملة معطوفة على جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يونس : ٤٨] ، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم ، وضمير (هو) عائد إلى (عَذابَ الْخُلْدِ) [يونس : ٥٢].

والحق : الثابت الواقع ، فهو بمعنى حاقّ ، أي ثابت ، أي أن وقوعه ثابت ، فأسند

١٠٤

الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت.

وجملة : (أَحَقٌّ هُوَ) استفهامية معلقة فعل (يَسْتَنْبِئُونَكَ) عن العمل في المفعول الثاني ، والجملة بيان لجملة (يَسْتَنْبِئُونَكَ) لأن مضمونها هو الاستثناء.

والضمير يجوز كونه مبتدأ ، و (أَحَقٌ) خبر مقدم.

واستعملوا الاستفهام تبالها ، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولا ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطا لهم واغتناما لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم ، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذ جمع بين حرف إِي) وهو حرف جواب يحقق به المسئول عنه ، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب ، وبالقسم ، وإنّ ، ولام الابتداء ، وكلها مؤكدات.

والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). فجملة : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقسم عليه. ولما كان المقسم عليه جوابا عن استفهامهم كان مضمون (ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) جوابا عن الاستفهام أيضا باعتبار ما أضمروه من التكذيب ، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه. وليس فعل يَسْتَنْبِئُونَكَ) مستعملا في الظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤] ، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام.

و (إِي) بكسر الهمزة : حرف جواب لتحقيق ما تضمنه سؤال سائل ، فهو مرادف (نعم) ، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم.

والمعجزون : الغالبون ، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم ، أي بمفلتين. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) في سورة الأنعام [١٣٤].

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤))

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول ، فهي عطف على جملة (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ)

١٠٥

[يونس : ٥٣] إعلاما لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه ، ولذلك حذف المتعلّق الثاني لفعل (افتدت) لأنه يقتضي مفديا به ومفديا منه ، أي لافتدت به من العذاب.

والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام ، ولذلك ذكر (لِكُلِّ نَفْسٍ) دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به.

وجملة (أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ) واقعة موقع شرط (لو).

و (ما فِي الْأَرْضِ) اسم (أن). و (لِكُلِّ نَفْسٍ) خبر (أن) وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك. وجملة (ظَلَمَتْ) صفة ل (لِكُلِّ نَفْسٍ). وجملة : (لَافْتَدَتْ بِهِ) جواب (لو).

فعموم (لِكُلِّ نَفْسٍ) يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم.

ومعنى (ظَلَمَتْ) أشركت ، وهو ظلم النفس (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

و (ما فِي الْأَرْضِ) يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء.

و (افتدى) مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى ، أي لتكلفت فداءها به.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام. وضمير (أَسَرُّوا) عائد إلى (لِكُلِّ نَفْسٍ) باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث ، وعبر عن الإسرار المستقبلي بلفظ الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه حتى كأنّه قد مضى ، والمعنى : وسيسرّون الندامة قطعا. وكذلك قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

والندامة : الندم ، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي ، والندم من هواجس النفس ، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير ، أي يصدر عن صاحبه قول أو فعل يدل عليه ، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولا ولا فعلا فقد أسر الندامة ، أي قصرها على سره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها ، وإنما يكون ذلك من شدة الهول ؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخا ولا عويلا.

١٠٦

وجملة : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عطف على جملة : (وَأَسَرُّوا) مستأنفة.

ومعنى : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) قضي فيهم ، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل ، فالقضاء بالعدل وقع فيهم ، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب ، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد ، بخلاف قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [يونس : ٤٧] فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) [الأعراف : ٦ ، ٧].

وجملة : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حالية.

[٥٥ ، ٥٦] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

تذييل تنهية للكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين. وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض ، وعلى تعليله بأن من هذه شئونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه.

فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفا لا يشاركه فيه غيره ؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها ، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب ؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس. ثم أعقب بتحقيق وعده ، وأعقب بتجهيل منكريه ، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث.

وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه ، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه ، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفا.

وتأكيد الخبر بحرف (إِنَ) للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله. ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) لأن ذلك اضطراب وخبط.

وقدم خبر (إِنَ) على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم

١٠٧

الشركة كما علمت.

وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به ، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر.

واللام في (لِلَّهِ) للملك ، و (ما) اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية.

ووعد الله : هو وعده بعذاب المشركين ، وهو وعيد ، ويجوز أن يكون وعده مرادا به البعث ، قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤] فسمّى إعادة الخلق وعدا.

وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة لتجري مجرى المثل والكلام الجامع.

ووقع الاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما ، فكأنه قيل : لا شك يحق في ذلك ، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يشكّون.

وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة ، كما قال في الآية السابقة (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ)[يونس : ٤٠]. فضمير (أَكْثَرَهُمْ) للمتحدث عنهم فيما تقدم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧))

استئناف أو اعتراض ، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه ، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رسلها ، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به ، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله : (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) [يونس : ٣٧ ـ ٤٣]. فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم ، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به ، ولذلك

١٠٨

كان الخطاب هنا عاما لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول. وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة.

ويجوز أن يكون خطابا للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدى ورحمة للمؤمنين إدماجا وتسجيلا على المشركين بأنهم حرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور ، فانتفع المؤمنون بذلك.

وافتتاح الكلام ب (قَدْ) لتأكيده ، لأن في المخاطبين كثيرا ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن.

والمجيء : مستعمل مجازا في الإعلام بالشيء ، كما استعمل للبلوغ أيضا ، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر ، يقال : بلغني خبر كذا ، ويقال أيضا : جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا. وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز.

والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم ، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي : أنه موعظة ، وأنه شفاء لما في الصدور ، وأنه هدى ، وأنه رحمة للمؤمنين.

والموعظة : الوعظ ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر. وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] ، وعند قوله تعالى : مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) في سورة الأعراف [١٤٥]. ووصفها ب (مِنْ رَبِّكُمْ) للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها.

والشفاء تقدم عند قوله تعالى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) في سورة براءة [١٤]. وحقيقته : زوال المرض والألم ، ومجازه : زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس ، وهذا هو المراد هنا.

والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال.

والهدى تقدم في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في طالع سورة البقرة [٢] ، وأصله :

١٠٩

الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود. ومجازه : بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة.

والرحمة تقدمت في تفسير البسملة.

وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن ، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء ، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها ، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة ، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض ، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليما وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وصبا ، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبّهة بأجزاء الهيئة المشبّه بها ، فزواجر القرآن ومواعظه يشبّه بنصح الطبيب على وجه المكنية ، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية ، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبّه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية ، وعبر عنها بالهدى ، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية.

ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا ، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية. ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها ، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع.

فالأوصاف الثلاثة الأول ؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك من قبلها وعمل بها ، ومن أعرض عنها ونبذها ، إلا أن وصفه بكونه هدى لمّا كان وصفا بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع. والوصف الرابع وهو الرحمة ، خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأول ، فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة. وهو ينظر إلى قوله تعالى : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢].

فقيد (لِلْمُؤْمِنِينَ) متعلق ب (رَحْمَةٌ) بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين. ومن

١١٠

المحققين من جعله قيدا ل (هُدىً وَرَحْمَةٌ) ناظرا إلى قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون.

والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له ، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) فكانت عامة لمن خوطب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ). وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله.

وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حصلت له حقيقتهما ، وأما لمن لم تحصل له آثارهما ، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك ، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق. وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه (شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] ، وصرح في آية البقرة [٢] بأنه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، فالأظهر أن قيد (لِلْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى (هُدىً وَرَحْمَةٌ) معا إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات ، وأما رجوعه إلى (شِفاءٌ) فمحتمل ، لأن وصف (شِفاءٌ) قد عقب بقيد لِما فِي الصُّدُورِ) فانقطع عن الوصفين اللذين بعده ، ولأن تعريف (الصُّدُورِ) باللام يقتضي العموم ، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله. وهو إطلاق كثير. وصدّر به في «اللسان» و«القاموس» ، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل : ٦٩].

وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ) فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة. ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم ، كما دل عليه قوله بعده : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] أي المؤمنون. وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ١٧٤ ، ١٧٥] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس ، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين ، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما ، وأن يقدروا قدر نعمتها ، وأن يعلموا أنها

١١١

نعمة تفوق نعمة المال التي حرم منها أكثر المؤمنين ومنحها أكثر المشركين ، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع.

وجيء بالأمر بالقول معترضا بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويها بالجملة المفرعة ، بحيث يؤمر الرسول أمرا خاصا بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأمورا بأن يقوله.

وتقدير نظم الكلام : قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بذلك ليفرحوا.

فالفاء في قوله : (فَلْيَفْرَحُوا) فاء التفريع ، و (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) مجرور متعلق بفعل (فَلْيَفْرَحُوا) قدم على متعلّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر ، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعرض المال فقالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا.

والإشارة في قوله : (فَبِذلِكَ) للمذكور ، وهو مجموع الفضل والرحمة ، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار. ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيدا لفاء التفريع التي في (فَلْيَفْرَحُوا) لأنه لما قدم على متعلّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة ، وقد حذف فعل (ليفرحوا) فصار مفيدا مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع. وتقدير معنى الكلام : قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه.

والفرح : شدة السرور.

ولك أن تجعل الكلام استئنافا ناشئا مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن. ولما قدم المجرور وهو (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط. وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى : وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ففيهما فجاهد» ، وقوله : «كما تكونوا يولّ عليكم» بجزم (تكونوا) وجزم (يول). فالفاء في قوله : (فَبِذلِكَ) رابطة للجواب ، والفاء في قوله : (فَلْيَفْرَحُوا) مؤكدة للربط.

ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته. وقد روي حديث

١١٢

عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : فضل الله القرآن. ورحمته أن جعلكم من أهله (يعني أن هداكم إلى اتباعه). ومثله عن أبي سعيد الخدري والبراء موقوفا ، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن ، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة.

وجملة : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين. وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة. والضمير عائد إلى اسم الإشارة ، أي ذلك خير مما يجمعون.

و (مِمَّا يَجْمَعُونَ) مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال.

قال تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) [الهمزة : ٢]. ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه.

وضمير (يَجْمَعُونَ) عائد إلى (النَّاسُ) في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) [يونس : ٥٧] بقرينة السياق وليس عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (فَلْيَفْرَحُوا) فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها ، كقول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

ضمير (أحرزوا) عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله : (جمعهم). وضمير (جمّعوا) عائد إلى المسلمين ، أي لو لا نحن لغنم المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم ، ومنه قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) في سورة الروم [٩].

وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور ، وهو أيضا المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذ ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر. وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] وقال : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٤ ، ١٥] وقال : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧] ، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧]. وقد قال الله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٢ ،

١١٣

٥٣] حين قال له المشركون : لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك ، فكمدهم الله بأن المسلمين خير منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة. وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله : (يَجْمَعُونَ) المقتضي تجدد الجمع وتكرره ، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة.

والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك.

وقرأ الجمهور (يَجْمَعُونَ) ـ بياء الغيبة ـ فالضمير عائد على معلوم من الكلام ، أي مما يجمع المشركون من الأموال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب مما تجمعون ـ بتاء الخطاب ـ فيكون خطابا للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [يونس : ٥٧] ، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح ، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك. ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفا ، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة.

وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله ، فإنها كثيرة ، منها واضح وخفي. وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافته الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل (يَجْمَعُونَ) إلى ضمير (النَّاسُ) [يونس : ٥٧]. وهذا الفضل أخروي ودنيوي. أما الأخروي فظاهر ، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة. قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨] فجعل رضاها حالا لها وقت رجوعها إلى ربها. قال فخر الدين : «والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية ، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية ، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من

١١٤

خوف فواتها أكثر وأشد».

ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩))

استئناف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله للمشركين. وافتتاحه ب (قُلْ) لقصد توجه الأسماع إليه. ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق ، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة ، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته. فلما استوفى ذلك بأوضح حجة ، وبانت لقاصد الاهتداء المحجة ، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم ، فإنه بعد أن كان تكذيبا بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها ، فإنهم قد وضعوا دينا فجعلوا بعض أرزاقهم حلالا لهم وبعضها حراما عليهم فإن كان ذلك حقا بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولما ذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك ، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله ، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل.

ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن آخر الكلام المتقدم جملة (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ، أي من أموالهم. وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالا ومنها حراما وكفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم ، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة ، وأبوابا من الخير في وجوههم مغلقة.

والاستفهام في (أَرَأَيْتُمْ) و (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين : إما أن يكون الله أذن لهم ، أو أن يكونوا مفترين على الله ، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين.

والرؤية علمية ، و (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) هو المفعول الأول ل (رأيتم) ، وجملة

١١٥

(فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ) إلخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع ، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه. والاستفهام في (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) مفعول ثان ل (رأيتم) ، ورابط الجملة بالمفعول محذوف ، تقديره : أذنكم بذلك ، دل عليه قوله : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً).

و (قُلْ) الثاني تأكيد ل (قُلْ) الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه. وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل (أَرَأَيْتُمْ). وفعل الرؤية معلق عن العمل في المفعول الثاني ؛ لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني. وزعم الرضي أن الرؤية بصرية. وقد بسطت القول في ذلك عند قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) الآية في سورة الواقعة [٥٨ ، ٥٩].

و (أَمْ) متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين.

والرزق : ما ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سورة البقرة [٣] وفي قوله : (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) في الأعراف [٥٠].

وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال ؛ لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب ، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله ، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار ، ومعظم أموالهم الأنعام ، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر ، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٢٤ ، ٣٢]. وقال : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذاريات : ٢٢] أي سبب رزقكم وهو المطر. وقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء. وهو على المجاز في كلمة (بني) لأن الابن يطلق مجازا على الملازم للشيء. وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] بهذا الاعتبار.

والمجعول حراما هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) وقوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) في سورة الأنعام [١٣٨ ، ١٣٩].

ومحل الإنكار ابتداء هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراما عليهم. وأما عطف

١١٦

(حَلالاً) على (حَراماً) فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراما وميّزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضا حلالا ، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراما وأبقوا بعض الحلال على الحل ، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالا ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراما وبعضه حلالا ، وإلا فإنهم لم يجعلوا ما كان حراما حلالا إذ لم يكن تحريم في الجاهلية.

وقوله : (حَلالاً) عطف على (حَراماً) والتقدير : ومنه حلالا ، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين ، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراما وحلالا ، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم.

وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) لتقوية الحكم مع الاهتمام. وتقديم المجرور على عامله في قوله : (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعا لتعليق الافتراء به. وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه.

وحذف متعلق (أَذِنَ) لظهوره. والتقدير : آلله أذن لكم بذلك الجعل.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

عطف على جملة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) [يونس : ٥٩] ، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به ، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس. و (ما) للاستفهام. والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم. والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم.

ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير (هم) مضافا إليه الظن إما ضمير خطاب أو غيبة. فيقال : وما ظنكم أو وما ظنهم ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرّموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني ، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم ، فإذا تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم. وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة.

١١٧

وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له ، أي ما ظنهم بحالهم وبجزائهم وبأنفسهم. وانتصب (الْكَذِبَ) على المفعول المطلق ، واللام فيه لتعريف الجنس ، كأنه قيل كذبا ، ولكنه عرف لتفظيع أمره ، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول.

و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) منصوب على الظرفية وعامله الظن ، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذ ما ذا يكون ظنهم أنهم لاقون ، وهذا تهويل.

وجملة : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) تذييل للكلام المفتتح بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) [يونس : ٥٧]. وفيه قطع لعذر المشركين ، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

معطوفة على جملة (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [يونس : ٦٠] عطف غرض على غرض ، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر ، وذلك الوعد بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شئون المسلمين وتأييد دين الإسلام ، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه. وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله ، فهو كقوله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ). ويتضمن ذلك تنويها بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى ، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية ، كقوله : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] ، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين.

و (ما) الأولى و (ما) الثانية نافيتان.

١١٨

والشأن : العمل المهم والحال المهم. و (في) للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس.

وضمير (منه) إما عائد إلى (شأن) ، أي وما تتلو من الشّأن قرآنا فتكون (من) مبينة ل (ما) الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل ، أي تتلو من أجل الشأن قرآنا. وعطف (وَما تَتْلُوا) من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، فإن التلاوة أهم شئون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وإما عائد إلى (قُرْآنٍ) ، أي وما تتلو من القرآن قرآنا ، فتكون (مِنْهُ) للتبعيض ، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع. وواو (تتلو) لام الكلمة ، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فيكون الكلام قد ابتدئ بشئون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل ، وثنّي بما هو من شئونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس ، وثلّث بما هو من شئون الأمة في قوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله : تَعْمَلُونَ) فلا يبقى مرادا منه إلا ما يعمله بقية المسلمين.

ووقع النفي مرتين بحرف (ما) ومرة أخرى بحرف (لا) لأن حرف (ما) أصله أن يخلص المضارع للحال ، فقصد أولا استحضار الحال العظيم من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قراءته القرآن ، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها.

ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواء ، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز. وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في موضع الحال منها (إِلَّا كُنَّا) للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباس كأنه قيل : وما كنتم وتكون وهكذا ، إلّا كنا ونكون عليكم شهودا.

و (مِنْ عَمَلٍ) مفعول (تَعْمَلُونَ) فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه (من)

١١٩

للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العمل ، أي إلا في حالة علمنا بذلك ، فجملة (كُنَّا عَلَيْكُمْ) في موضع الحال. ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف (قد) لأن الربط ظاهر بالاستثناء.

والشهود : جمع شاهد. وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعا لضمير الجمع المستعمل للتعظيم ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤]. ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن علبة الحارثي :

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم

لشيء ولا أني من الموت أفرق

وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها.

والشاهد : الحاضر ، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف (على).

و (إِذْ) ظرف ، أي حين تفيضون.

والإضافة في العمل : الاندفاع فيه ، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام ، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين. وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماما بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام ، كأنه قيل : ولا تعملون من عمل ما وعمل عظيم تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهودا حين تعملونه وحين تفيضون فيه.

وجملة : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) إلخ عطف على جملة : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) ، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

والعزوب : البعد ، وهو مجاز هنا للخفاء وفوات العلم ، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد ، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال : (عَنْ رَبِّكَ).

وقرأ الجمهور (يَعْزُبُ) ـ بضم الزاي ـ ، وقرأه الكسائي ـ بكسر الزاي ـ وهما

١٢٠