تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وجملة (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) في موضع الحال من اسم الجلالة ، أي الله أعز في حال أنكم نسيتم ذلك. والاتّخاذ : الجعل ، وتقدّم في قوله : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) في سورة الأنعام [٧٤].

والظهريّ ـ بكسر الظاء ـ نسبة إلى الظهر على غير قياس ، والتغييرات في الكلم لأجل النسبة كثيرة. والمراد بالظهريّ الكناية عن النسيان ، أو الاستعارة لأن الشيء الموضوع بالوراء ينسى لقلة مشاهدته ، فهو يشبه الشيء المجعول خلف الظهر في ذلك ، فوقع ظِهْرِيًّا) حالا مؤكّدة للظرف في قوله : (وَراءَكُمْ) إغراقا في معنى النسيان لأنّهم اشتغلوا بالأصنام عن معرفة الله أو عن ملاحظة صفاته.

وجملة (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) استئناف ، أو تعليل لمفهوم جملة (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) الذي هو توكله عليه واستنصاره به.

والمحيط : الموصوف بأنه فاعل الإحاطة. وأصل الإحاطة : حصار شيء شيئا من جميع جهاته مثل إحاطة الظرف بالمظروف والسور بالبلدة والسوار بالمعصم. وفي «المقامات الحريرية» :

«وقد أحاطت به أخلاط الزمر ، إحاطة الهالة بالقمر ، والأكمام بالثمر». ويطلق مجازا في قولهم : أحاط علمه بكذا ، وأحاط بكل شيء علما ، بمعنى علم كل ما يتضمّن أن يعلم في ذلك ، ثم شاع ذلك فحذف التمييز وأسندت الإحاطة إلى العالم بمعنى : إحاطة علمه ، أي شمول علمه لجميع ما يعلم في غرض ما ، قال تعالى : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) [الجن : ٢٨] أي علمه. ومنه قوله هنا : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) والمراد إحاطة علمه. وهذا تعريض بالتهديد ، وأنّ الله يوشك أن يعاقبهم على ما علمه من أعمالهم.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)).

عطف نداء على نداء زيادة في التنبيه ، والمقصود عطف ما بعد النداء الثاني على ما بعد النداء الأوّل.

وجملة (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تقدّم تفسير نظيرها في سورة الأنعام.

٣٢١

والأمر للتهديد. والمعنى : اعملوا متمكّنين من مكانتكم ، أي حالكم التي أنتم عليها ، أي اعملوا ما تحبّون أن تعملوه بي.

وجملة (إِنِّي عامِلٌ) مستأنفة. ولم يقرن حرف (سَوْفَ) في هذه الآية بالفاء وقرن في آية سورة الأنعام بالفاء ؛ فجملة (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) هنا جعلت مستأنفة استئنافا بيانيّا إذ لمّا فاتحهم بالتّهديد كان ذلك ينشئ سؤالا في نفوسهم عما ينشأ على هذا التّهديد فيجاب بالتهديد ب (سَوْفَ تَعْلَمُونَ). ولكونه كذلك كان مساويا للتفريع بالفاء الواقع في آية الأنعام في المآل ، ولكنّه أبلغ في الدّلالة على نشأة مضمون الجملة المستأنفة عن مضمون التي قبلها ؛ ففي خطاب شعيب ـ عليه‌السلام ـ قومه من الشدة ما ليس في الخطاب المأمور به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة الأنعام جريا على ما أرسل الله به رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اللين لهم (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩]. وكذلك التفاوت بين معمولي (تَعْلَمُونَ) فهو هنا غليظ شديد (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) وهو هنالك لين (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) [الأنعام : ١٣٥].

و (مَنْ) استفهام معلق لفعل العلم عن العمل ، أي تعلمون جواب هذا السؤال. والعذاب : خزي لأنّه إهانة.

والارتقاب : الترقّب ، وهو افتعال من رقبه إذا انتظره.

والرّقيب هنا فعيل بمعنى فاعل ، أي أني معكم راقب ، أي كل يرتقب ما يجازيه الله به إن كان كاذبا أو مكذّبا.

[٩٤ ، ٩٥] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

عطف (لَمَّا جاءَ أَمْرُنا) هنا وفي قوله في قصة عاد (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً) [هود : ٥٩] بالواو فيهما وعطف نظيراهما في قصة ثمود (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً) [هود : ٦٦] وفي قصة قوم لوط (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [هود : ٨٢] لأن قصتي ثمود وقوم لوط كان فيهما تعيين أجل العذاب الذي توعد به النبيئان قومهما ؛ ففي قصة ثمود (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] ، وفي قصة قوم لوط (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود : ٨١] ؛ فكان المقام مقتضيا ترقب السّامع

٣٢٢

لما حل بهم عند ذلك الموعد فكان الموقع للفاء لتفريع ما حلّ بهم على الوعيد به. وليس في قصة عاد وقصة مدين تعيين لموعد العذاب ولكنّ الوعيد فيهما مجمل من قوله : وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) [هود : ٥٧] ، وقوله : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) [هود : ٩٣].

وتقدم القول في معنى (جاءَ أَمْرُنا) إلى قوله : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) في قصة ثمود. وتقدم الكلام على (بُعْداً) في قصة نوح في قوله : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].

وأما قوله : (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود. ووجه الشبه التّماثل في سبب عقابهم بالاستئصال ، وهو عذاب الصيحة ، ويجوز أن يكون المقصود من التّشبيه الاستطراد بذمّ ثمود لأنهم كانوا أشدّ جرأة في مناواة رسل الله ، فلمّا تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدّها كفرا وعنادا فشبّه هلك مدين بهلكهم.

والاستطراد فنّ من البديع. ومنه قول حسّان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل :

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرّة ولجام

[٩٦ ، ٩٧] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧))

عطف قصة على قصة. وعقّبت قصة مدين بذكر بعثة موسى ـ عليه‌السلام ـ لقرب ما بين زمنيهما ، ولشدة الصلة بين النبيئين فإن موسى بعث في حياة شعيب ـ عليهما‌السلام ـ وقد تزوّج ابنة شعيب.

وتأكيد الخبر ب (قد) مثل تأكيد خبر نوح ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥].

والباء في (بِآياتِنا) للمصاحبة فإن ظهور الآيات كان مصاحبا لزمن الإرسال إلى فرعون وهو مدّة دعوة موسى ـ عليه‌السلام ـ فرعون وملأه.

والسلطان : البرهان المبين ، أي المظهر صدق الجائي به وهو الحجّة العقليّة أو

٣٢٣

التأييد الإلهي. وقد تقدّم ذكر فرعون وملئه في سورة الأعراف.

وعقب ذكر إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ بذكر اتّباع الملإ أمر فرعون لأنّ اتّباعهم أمر فرعون حصل بإثر الإرسال ففهم منه أنّ فرعون أمرهم بتكذيب تلك الرسالة.

وإظهار اسم فرعون في المرّة الثانية دون الضمير والمرة الثالثة للتّشهير بهم ، والإعلان بذمّة وهو انتفاء الرشد عن أمره.

وجملة (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) حال من (فِرْعَوْنَ).

والرشيد : فعيل من رشد من باب نصر وفرح ، إذا اتّصف بإصابة الصواب. يقال : أرشدك الله. وأجري وصف رشيد على الأمر مجازا عقليا. وإنّما الرشيد الآمر مبالغة في اشتمال الأمر على ما يقتضي انتفاء الرشد فكأنّ الأمر هو الموصوف بعدم الرشد. والمقصود أن أمر فرعون سفه إذ لا واسطة بين الرشد والسفه. ولكن عدل عن وصف أمره بالسّفيه إلى نفي الرشد عنه تجهيلا للذين اتبعوا أمره لأنّ شأن العقلاء أن يتطلبوا الاقتداء بما فيه صلاح وأنهم اتبعوا ما ليس فيه أمارة على سداده واستحقاقه لأن يتّبع فما ذا غرّهم باتباعه.

[٩٨ ، ٩٩] (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

جملة (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) يجوز أن تكون في موضع الحال من (فِرْعَوْنَ)[هود : ٩٧] المذكور في الجملة قبلها. ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا.

والإيراد : جعل الشيء واردا ، أي قاصدا الماء ، والذي يوردهم هو الفارط ، ويقال له: الفرط.

والورد ـ بكسر الواو ـ : الماء المورود ، وهو فعل بمعنى مفعول ، مثل دبح. وفي قوله: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) استعارة الإيراد إلى التقدّم بالناس إلى العذاب ، وهي تهكّمية لأن الإيراد يكون لأجل الانتفاع بالسقي وأمّا التقدّم بقومه إلى النار فهو ضد ذلك.

و (يَقْدُمُ) مضارع قدم ـ بفتح الدّال ـ بمعنى تقدّم المتعدي إذا كان متقدّما غيره.

وإنما جاء (فَأَوْرَدَهُمُ) بصيغة الماضي للتّنبيه على تحقيق وقوع ذلك الإيراد وإلّا

٣٢٤

فقرينة قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) تدلّ على أنّه لم يقع في الماضي :

وجملة (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) في موضع الحال والضمير المخصوص بالمدح المحذوف هو الرابط وهو تجريد للاستعارة ، كقوله تعالى : (بِئْسَ الشَّرابُ) [الكهف : ٢٩] ، لأن الورد المشبه به لا يكون مذموما.

والاتباع : الإلحاق.

واللعنة : هي لعنة العذاب في الدّنيا وفي الآخرة.

و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق ب (فَاتَّبَعُوا) ، فعلم أنّهم أتبعوا لعنة يوم القيامة ، لأنّ اللّعنة الأولى قيّدت بالمجرور بحرف (فِي) الظرفية ، فتعيّن أنّ الاتباع في يوم القيامة بلعنة أخرى.

وجملة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) مستأنفة لإنشاء ذمّ اللّعنة. والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ذكر اللّعنة ، أي بئس الرفد هي.

والرفد ـ بكسر الرّاء ـ اسم على وزن فعل بمعنى مفعول مثل ذبح ، أي ما يرفد به. أي يعطى. يقال : رفده إذا أعطاه ما يعينه به من مال ونحوه.

وفي حذف المخصوص بالمدح إيجاز ليكون الذمّ متوجّها لإحدى اللّعنتين لا على التعيين لأنّ كلتيهما بئيس.

وإطلاق الرّفد على اللّعنة استعارة تهكّمية ، كقول عمرو بن معديكرب :

تحية بينهم ضرب وجيع

والمرفود : حقيقته المعطى شيئا. ووصف الرفد بالمرفود لأنّ كلتا اللّعنتين معضودة بالأخرى ، فشبّهت كل واحدة بمن أعطي عطاء فهي مرفودة. وإنما أجري المرفود على التذكير باعتبار أنّه أطلق عليه رفد.

[١٠٠ ، ١٠١] (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))

استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مرّ ذكرها.

٣٢٥

واسم الإشارة إلى المذكور كلّه من القصص من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ وما بعدها.

والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر ، وتقدّم في سورة الأنعام [٣٤] في قوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ). وجملة (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) حال من اسم الإشارة. وعبّر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ.

وجملة (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) معترضة. حال من (الْقُرى).

و (قائِمٌ) صفة لموصوف محذوف دلّ عليه عطف (وَحَصِيدٌ) ، والمعنى : منها زرع قائم وزرع حصيد ، وهذا تشبيه بليغ.

والقائم : الزرع المستقل على سوقه. والحصيد : الزرع المحصود ، فعيل بمعنى مفعول. وكلاهما مشبّه به للباقي من القرى والعافي. والمراد بالقائم ما كان من القرى التي قصّها الله في القرآن قرى قائما بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة (وهو المعروف بأبي الهول) وهيكل الكرنك بمصر ، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس ، وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة ، وصنعاء بلد قوم تبّع ، وقرى بائدة مثل ديار عاد ، وقرى قوم لوط ، وقرية مدين. وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة. والمقصود من هذه الجملة الاعتبار.

وضمير الغيبة في (ظَلَمْناهُمْ) عائد إلى (الْقُرى) باعتبار أهلها لأنّهم المقصود.

وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب.

وفرع على ظلمهم أنفسهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئا ، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مظهره في عبادتهم الأصنام ، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتمادا على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضادا لتأميلهم وتقديرهم.

والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام ، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حلّ بهم من الاستئصال ما

٣٢٦

شاهدوا آثاره ، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين.

وجملة (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) علاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسب ولكنهم زادتهم تتبيبا وخسرانا ، أي زادتهم أسباب الخسران.

والتتبيب : مصدر تبّبه إذا أوقعه في التباب وهو الخسارة. وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيبا لمّا جاء أمر الله ، لأنّه عطف على الفعل المقيّد ب (لَمَّا) التوقيتية المفيدة أنّ ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم.

ووجه زيادتهم إياهم تتبيبا حينئذ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب.

ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها ، أي زادوهم تتبيبا قبل مجيء أمر الله بأن زادهم اعتقادهم فيها انصرافا عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام ، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

الإشارة إلى المذكورة من استئصال تلك القرى. وهو ما يدل عليه قوله : (أَخْذُ رَبِّكَ). والتقدير : وكذلك الأخذ الذي أخذنا به تلك القرى أخذ ربك إذا أخذ القرى. والتشبيه في الكيفيّة والعاقبة.

والمقصود من هذا التّذييل تعريض بتهديد مشركي العرب من أهل مكّة وغيرها.

والظلم : الشرك. وجملة (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) في موضع البيان لمضمون وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ). وفيه إشارة إلى وجه الشّبه.

[١٠٣ ، ١٠٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))

٣٢٧

بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح. والمعنى : وكذلك أخذ ربك فاحذروه وحذروا ما هو أشدّ منه وهو عذاب الآخرة. والإشارة إلى الأخذ المتقدّم. وفي هذا تخلّص إلى موعظة المسلمين والتّعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

وجعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأنّ القرى الظالمة توعّدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطور : ٤٧] فلمّا عاينوا عذاب الدّنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر.

وجملة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتّى أنّ المتكلّم يبتدئ كلاما لأجل وصفه.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى الآخرة لأنّ ما صدقها يوم القيامة ، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة.

واللّام في (مَجْمُوعٌ لَهُ) لام العلّة ، أي مجموع الناس لأجله.

ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدلّ على معنى الثّبات ، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم ، فيدلّ على تمكن تعلق الجمع بالنّاس وتمكّن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتّى لقّب ذلك اليوم يوم الجمع في قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن : ٩].

وعطف جملة (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) على جملة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لزيادة التّهويل لليوم بأنّه يشهد. وطوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشّاهدون ، إذ ليس القصد إلى شاهدين معيّنين. والإخبار عنه بهذا يؤذن بأنّهم يشهدونه شهودا خاصا وهو شهود الشيء المهول ، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرّد كونه مرئيا لكن المراد كونه مرئيا رؤية خاصة.

ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقّق أيّ مشهود بوقوعه ، كما يقال : حقّ مشهود ، أي عليه شهود لا يستطاع إنكاره ، واضح للعيان.

ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشّاهدين إياه لشهرته ، كقولهم : لفلان مجلس مشهود ، كقول أم قيس الضبّيّة :

٣٢٨

ومشهد قد كفيت الناطقين به

في محفل من نواصي الخيل مشهود

فيكون من نحو قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ٤١ ، ٤٢] الآية.

وجملة (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) معترضة بين جملة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) وبين جملة (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) [هود : ١٠٥] إلخ. والمقصود الردّ على المنكرين للبعث مستدلّين بتأخير وقوعه في حين تكذيبهم به يحسبون أنّ تكذيبهم به يغيظ الله تعالى فيعجّله لهم جهلا منهم بمقام الإلهيّة ، فبيّن الله لهم أن تأخيره إلى أجل حدّده الله له من يوم خلق العالم كما حدّد آجال الأحياء ، فيكون هذا كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ، ٣٠].

والأجل : أصله المدة المنظر إليها في أمر ، ويطلق أيضا على نهاية تلك المدّة ، وهو المراد هنا بقرينة اللّام ، كما أريد في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ)[الأعراف : ٣٤].

والمعدود : أصله المحسوب ، وأطلق هنا كناية عن المعيّن المضبوط بحيث لا يتأخر ولا يتقدم لأنّ المعدود يلزمه التعيّن ، أو كناية عن القرب.

[١٠٥ ـ ١٠٨] (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

جملة (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) تفصيل لمدلول جملة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) [هود : ١٠٣] الآية ، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشرّ والخير تبعا لذلك التفصيل. فالقصد الأوّل من هذه الجملة هو قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وما بعده ، وأمّا ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم. وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتّصل لأنّه أسعد بتناسب أغراض الكلام ، والظروف صالحة لاتّصال الكلام كصلاحيّة الحروف العاطفة وأدوات الشرط.

و (يَوْمَ) من قوله : (يَوْمَ يَأْتِ) مستعمل في معنى (حين) أو (ساعة) ، وهو استعمال

٣٢٩

شائع في الكلام العربيّ في لفظ (يوم) و (ليلة) توسّعا بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزّمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقها هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلّا معنى (حين) دون تقدير بمدّة ولا بنهار ولا ليل ، ألا ترى قول النابغة :

تخيّرن من أنهار يوم حليمة

فأضاف (أنهار) جمع نهار إلى اليوم. وروي : من أزمان يوم حليمة.

وقول توبة بن الحمير :

كأن القلب ليلة قيل : يغدى

بليلي الأخيلية أو يراح

أراد ساعة ، قيل : يغدى بليلى ، ولذلك قال : يغدى أو يراح ، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرّواح.

فقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) معناه حين يأتي ، وضمير (يأتي) عائد إلى (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] وهو يوم القيامة. والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) [الزخرف : ٦٦].

فقوله : (يَوْمَ يَأْتِ) ظرف متعلّق بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

وجملة (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) مستأنفة ابتدائية. قدّم الظرف على فعلها للغرض المتقدم. والتّقدير : لا تكلّم نفس حين يحلّ اليوم المشهود. والضّمير في (بِإِذْنِهِ) عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير (نُؤَخِّرُهُ) [هود : ١٠٤]. والمعنى أنّه لا يتكلّم أحد إلّا بإذن من الله ، كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨]. والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أنّ الأصنام لها حقّ الشفاعة عند الله.

و (نَفْسٌ) يعمّ جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي ، فشمل النفوس البرة والفاجرة ، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه. وفصّل عموم النفوس باختلاف أحوالها. وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) [هود : ١٠٣] ، ولكنّه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلّل ذلك من شبه الاعتراض بقوله : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود : ١٠٤] إلى قوله : (بِإِذْنِهِ) وذلك نسيج بديع.

والشقيّ : فعيل صفة مشبهة من شقي ، إذا تلبّس بالشّقاء والشقاوة ، أي سوء الحالة

٣٣٠

وشرّها وما ينافر طبع المتّصف بها.

والسّعيد : ضدّ الشقيّ ، وهو المتلبّس بالسّعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيّرة الملائمة للمتّصف بها. والمعنى : فمنهم يومئذ من هو في عذاب وشدّة ومنهم من هو في نعمة ورخاء.

والشّقاوة والسّعادة من المواهي المقولة بالتّشكيك فكلتاهما مراتب كثيرة متفاوتة في قوّة الوصف. وهذا إجمال تفصيله (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) إلى آخره.

والزّفير : إخراج الأنفاس بدفع وشدّة بسبب ضغط التنفّس. والشّهيق : عكسه وهو اجتلاب الهواء إلى الصّدر بشدّة لقوة الاحتياج إلى التنفس.

وخص بالذّكر من أحوالهم في جهنّم الزّفير والشّهيق تنفيرا من أسباب المصير إلى النّار لما في ذكر هاتين الحالتين من التّشويه بهم وذلك أخوف لهم من الألم.

ومعنى (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) التأييد لأنّه جرى مجرى المثل ، وإلّا فإنّ السّماوات والأرض المعروفة تضمحلّ يومئذ ، قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] أو يراد سماوات الآخرة وأرضها.

و (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من الأزمان التي عمّها الظرف في قوله : (ما دامَتِ) أي إلّا الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم ، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعا للأزمان. وهذا بناء على غالب إطلاق (ما) الموصولة أنّها لغير العاقل. ويجوز أن يكون استثناء من ضمير (خالِدِينَ) لأنّ (ما) تطلق على العاقل كثيرا ، كقوله : (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣]. وقد تكرّر هذا الاستثناء في الآية مرّتين.

فأمّا الأوّل منهما فالمقصود أنّ أهل النّار مراتب في طول المدة فمنهم من يعذّب ثمّ يعفى عنه ، مثل أهل المعاصي من الموحّدين ، كما جاء في الحديث : أنّهم يقال لهم الجهنميون في الجنّة ، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفّار.

وجملة (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) استئناف بيانيّ ناشئ عن الاستئناف ، لأنّ إجمال المستثنى ينشئ سؤالا في نفس السّامع أن يقول : ما هو تعيين المستثنى أو لما ذا لم يكن الخلود عاما. وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله.

وأمّا الاستثناء الثاني الواقع في جانب (الَّذِينَ سُعِدُوا) فيحتمل معنيين :

٣٣١

أحدهما أن يراد : إلّا ما شاء ربك في أوّل أزمنة القيامة ، وهي المدّة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التّائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة ، أو بشفاعة كما في الصّحيح من حديث أنس : «يدخل ناس جهنّم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا وأدخلوا الجنّة فيقال : هؤلاء الجهنميون».

ويحتمل أن يقصد منه التّحذير من توهّم استحقاق أحد ذلك النعيم حقا على الله بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرّحمة.

وليس يلزم من الاستثناء المعلّق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنّما يقتضي أنّها لو تعلّقت المشيئة لوقع المستثنى ، وقد دلّت الوعود الإلهية على أنّ الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها. وأيّا ما كان فهم إذا أدخلوا الجنّة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها. وهو معنى قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

والمجذوذ : المقطوع.

وقرأ الجمهور (سُعِدُوا) ـ بفتح السّين ـ ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ـ بضم السّين ـ على أنّه مبني للنائب ، وإن كان أصل فعله قاصرا لا مفعول له ؛ لكنّه على معاملة القاصر معاملة المتعدّي في معنى فعل به ما صيّره صاحب ذلك الفعل ، كقولهم : جنّ فلان ، إذا فعل به ما صار به ذا جنون ف (سُعِدُوا) بمعنى أسعدوا. وقيل : سعد متعدّ في لغة هذيل وتميم ، يقولون : سعده الله بمعنى أسعده. وخرّج أيضا على أن أصله أسعدوا ، فحذف همز الزيادة كما قالوا مجنوب (بموحدة في آخره) ، ومنه قولهم : رجل مسعود.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقينا بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشّفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يؤذن بسوء حالهم في الآخرة ، ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشّرك وفساده.

والخطاب في نحو (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) يقصد به أيّ سامع لا سامع معيّن سواء كان

٣٣٢

ممّن يظنّ به أن يشكّ في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معيّنا.

ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون (فَلا تَكُ) مقصودا به مجرّد تحقيق الخبر فإنّه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة : لا شكّ ، ولا محالة ، ولا أعرفنّك ، ونحوها.

ويجوز أن يكون تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلّب في الشرك ، أي لا تكن شاكّا في أنّك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيه الرّسل من أممهم فإنّ هؤلاء ما يعبدون إلّا عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة.

و (فِي) للظرفية المجازية.

والمرية ـ بكسر الميم ـ : الشكّ. وقد جاء فعلها على وزن فاعل أو تفاعل وافتعل. ولم يجئ على وزن مجرّد لأنّ أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعارا من مريت الشاة إذا استخرجت لبنها. ومنه قولهم : لا يجارى ولا يمارى. وفي القرآن (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) [النجم : ١٢]. وقد تقدّم الامتراء عند قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) في أوّل الأنعام [٢].

وما في قوله : (مِمَّا يَعْبُدُ) مصدريّة ، أي لا تك في شكّ من عبادة هؤلاء ، والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش.

وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته عناهم باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعا وهو ممّا ألهمت إليه ونبّهت عليه عند قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١].

ومعنى الشكّ في عبادتهم ليس إلّا الشكّ في شأنها ، لأنّ عبادتهم معلومة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها ، وإنّما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشكّ من أنهم هل يعذّبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة.

وجملة (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) مستأنفة ، تعليلا لانتفاء الشكّ في عاقبة أمرهم في الدّنيا.

ووجه كونه علّة أنّه لمّا كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقابا على دينهم فأنتم توقنون بأنّ جزاءهم سيكون مماثلا لجزاء أسلافهم ،

٣٣٣

لأنّ حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة.

والاستثناء بقوله : (إِلَّا كَما يَعْبُدُ) استثناء من عموم المصادر. وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف. التّقدير : إلّا عبادة كما يعبد آباؤهم.

والآباء : أطلق على الأسلاف ، وهم عاد وثمود. وذلك أنّ العرب العدنانيين كانت أمّهم جرهمية ، وهي امرأة إسماعيل ، وجرهم من إخوة ثمود ، وثمود إخوة لعاد ، ولأنّ قريشا كانت أمهم خزاعيّة وهي زوج قصيّ. وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى ، وهو جدّ خزاعة.

وعبّر عن عبادة الآباء بالمضارع للدّلالة على استمرارهم على تلك العبادة ، أي إلّا كما اعتاد آباؤهم عبادتهم. والقرينة على المضي قوله : (مِنْ قَبْلُ) ، فكأنّه قيل : إلّا كما كان يعبد آباؤهم. والمضاف إليه (قَبْلُ) محذوف تقديره : من قبلهم ، تنصيصا على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم.

وجملة (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) عطف على جملة التّعليل ، والمعطوف هو المعلول ، وقد تسلّط عليه معنى كاف التّشبيه لذلك. فالمعنى : وإنّا لموفوهم نصيبهم من العذاب كما وفّينا أسلافهم.

والتوفية : إكمال الشيء غير منقوص.

والنصيب : أصله الحظ. وقد استعمل (موفوهم) و (نصيبهم) هنا استعمالا تهكّميا كأنّ لهم عطاء يسألونه فوفوه ، فوقع قوله (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حالا مؤكدة لتحقيق التّوفية زيادة في التهكم ، لأنّ من إكرام الموعود بالعطاء أن يؤكد له الوعد ، ويسمى ذلك بالبشارة.

والمراد نصيبهم من عذاب الآخرة ، فإنّ الله لم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة ببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده».

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ).

اعتراض لتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته بأنّ أهل الكتاب وهم أحسن حالا من أهل الشّرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه ، وهم أهل ملّة واحدة فلا تأس من اختلاف قومك عليك ،

٣٣٤

فالجملة عطف على جملة (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) [هود : ١٠٩].

ولأجل ما فيها من معنى التّثبيت فرع عليها قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢].

وقوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي في الكتاب ، وهو التّوراة. ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض ، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم ، وفي تأويل البعض على هواهم ، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه ، كما قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٧٩]. فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مثبت وناف ، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب. فجمعت هذه المعاني جمعا بديعا في تعدية الاختلاف بحرف (في) الدالة على الظرفيّة المجازيّة وهي كالملابسة ، أي فاختلف اختلافا يلابسه ، أي يلابس الكتاب.

ولأنّ الغرض لم يكن متعلّقا ببيان المختلفين ولا بذمّهم لأنّ منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف ، ومنهم المحمود وهم المنكرون على المبدّلين كما قال تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٦] وسيجيء قوله : وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] ، بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله.

بني فعل (اختلف) للمجهول إذ لا غرض إلّا في ذكر الفعل لا في فاعله.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

يجوز أن يكون عطفا على جملة (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] ويكون الاعتراض تمّ عند قوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ، وعليه فضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى اسم الإشارة من قوله : (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) [هود : ١٠٩] أي ولو لا ما سبق من حكمة الله أن يؤخّر عنهم العذاب لقضي بينهم ، أي لقضى الله بينهم ، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين.

فيكون (بَيْنَهُمْ) هو نائب فاعل (قضي). والتّقدير : لوقع العذاب بينهم ، أي فيهم.

ويجوز أن يكون عطفا على جملة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فيكون ضمير (بَيْنَهُمْ) عائدا إلى ما يفهم من قوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) لأنّه يقتضى جماعة مختلفين في أحكام الكتاب. ويكون (بَيْنَهُمْ) متعلّقا ب (قضي) ، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطئ في أحكام

٣٣٥

الكتاب فيكون تحذيرا من الاختلاف ، أي أنّه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شكّ. وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل ، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنّكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم.

والكلمة هي إرادة الله الأزليّة وسنته في خلقه. وهي أنّه وكل النّاس إلى إرشاد الرسل للدّعوة إلى الله ، وإلى النّظر في الآيات ، ثم إلى بذل الاجتهاد التّام في إصابة الحق ، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني ، وبالمراجعة فيما بينهم ، والتبصّر في الحق ، والإنصاف في الجدل والاستدلال ، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجّيراهم. وحكمة ذلك هي أنّ الفصل والاهتداء إلى الحقّ مصلحة للنّاس ومنفعة لهم لا لله. وتمام المصلحة في ذلك يحصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأنّ ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم. وقد تقدّم في قوله تعالى : وتمت كلمات (رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) في سورة الأنعام [١١٥] وقوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) في سورة الأنفال [٧].

ووصفها بالسبق لأنّها أزلية ، باعتبار تعلق العلم بوقوعها ، وبأنّها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل.

ومعنى (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أنّه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق ، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين ، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها.

وضمير (بَيْنَهُمْ) يعود إلى المختلفين المفاد من قوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) والقرينة واضحة.

ومتعلق القضاء محذوف لظهوره ، أي لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[السجدة : ٢٥].

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).

يجوز أن يكون عطفا على جملة (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] فيكون ضمير (وَإِنَّهُمْ) عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (ما يَعْبُدُونَ) [هود : ١٠٩] الآية ، أي أنّ المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنّهم لا يؤمنون بالبعث. ويلتئم مع قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) على أوّل الوجهين وأولاهما ، فضمير (مِنْهُ) عائد إلى

٣٣٦

(يَوْمَ) من قوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) [هود : ١٠٥] إلخ.

ويجوز أن تكون عطفا على جملة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ، أي فاختلف فيه أهله ، أي أهل الكتاب فضمير (وَإِنَّهُمْ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (بَيْنَهُمْ) على ثاني الوجهين ، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنّهم لفي شكّ.

أمّا ضمير (مِنْهُ) فيجوز أن يعود إلى الكتاب ، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شكّ وتردّد في كتابهم ، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلّة الشرعيّة ، أو يوجب الظنّ القريب من اليقين ، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده ، لأن الاستدلال الصّحيح المستنبط من الكتاب لا يعدّ اختلافا في الكتاب إذ الأصل متّفق عليه. فمناط الذّم هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التّفريع من أدلّته. ويجوز أن يكون ضمير (مِنْهُ) عائدا إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ)[هود: ١٠٠].

والمريب : الموقع في الشكّ ، ووصف الشكّ بذلك تأكيد كقولهم : ليل أليل ، وشعر شاعر.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

تذييل للأخبار السابقة. والواو اعتراضية. و (إن) مخفّفة من (إِنَ) الثّقيلة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي بكر عن عاص ، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها. و (إن) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق. وقرأ الباقون (إنّ) مشدّدة على الأصل.

وبتنوين (كُلًّا) عوض عن المضاف إليه. والتقدير : وإنّ كلّهم ، أي كلّ المذكورين آنفا من أهل القرى ، ومن المشركين المعرّض بهم ، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ.

و (لما) مخفّفة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، والكسائي ، فاللّام الدّاخلة على (ما) لام الابتداء التي تدخل على خبر ـ (إِنَ). واللّام الثّانية الدّاخلة على لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لام جواب القسم. و (ما) مزيدة للتأكيد. والفصل بين اللّامين دفعا لكراهة توالي مثلين.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ـ بتشديد الميم ـ من (لمّا).

٣٣٧

فعند من قرأ (إن) مخفّفة وشدّة الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون (إن) مخفّفة من الثقيلة ، وأمّا من شدّد النون (إنّ) وشدّد الميم من (لمّا) وهم ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء : إنّها بمعنى (لمن ما) فحذف إحدى الميمات الثلاث ، يريد أنّ (لمّا) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف (لمّا) في رسم المصحف (لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها) وإنّما هي مركّبة من لام الابتداء و (من) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري :

وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم

أي نكثر ضرب الكبش ، أي أمير جيش العدوّ على رأسه. وقول ابن عبّاس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلاقي من الوحي شدّة ، وكان ممّا يحرّك لسانه حين ينزل عليه القرآن ، فقال الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] الآية. فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإنّ كلا لمن ما ليوفينهم ، فلمّا قلبت نون (من) ميما لإدغامها في ميم (ما) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم (من) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون (من) فصار (لمّا).

ولام (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لام قسم.

ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به.

والمعنى : وإنّ جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه. فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي (١) ومشى عليه البيضاوي. وقد أنهاها أبو شامة في «شرح منظومة الشّاطبي» إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه.

وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات ، أوّلها : كلمة

__________________

(١) هو نصر بن علي بن محمد الشيرازي الفسوي الفارسي المعروف بأبي مريم ، خطيب شيراز. له «تفسير القرآن» ، و«شرح إيضاح أبي علي الفارسي». كان حيا سنة ٥٦٥.

٣٣٨

(إن) وهي للتأكيد ، وثانيها (كلّ) وهي أيضا للتّأكيد ، وثالثها اللّام الدّاخلة على خبر (إنّ) ، ورابعها حرف (ما) إذا جعلناه موصولا على قول الفراء ، وخامسها القسم المضمر ، وسادسها اللّام الدّاخلة على جواب القسم ، وسابعها النون المؤكدة في قوله : لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).

وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال ، أي إعطاء الجزاء وافيا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء.

وجملة (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع إرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقا للعمل تمام المطابقة. وذلك محقق التوفية.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ).

ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) [هود : ١١٠] وعن التثبيت المفاد بقوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) [هود : ١٠٩] الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم. وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام ، دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر من تغييره.

ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى ـ عليه‌السلام ـ إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة على كتابه أمر المؤمنين بتلك الاستقامة أيضا ، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم ، ولأنّ مخالفة الأمّة عمدا إلى أحكام كتابها إن هو إلّا ضرب من ضروب الاختلاف فيه ، لأنّه اختلافها على أحكامه. وفي الحديث : «فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلا دون ذلك ، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر. ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة. وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي عمرة الثقفي لمّا قال له : «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال : قل آمنت بالله ثم استقم» فجعل الاستقامة شيئا بعد الإيمان.

٣٣٩

ووجّه الأمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بشأنه ليبني عليه قوله : (كَما أُمِرْتَ) فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء. وهذا تنويه له بمقام رسالته ، ثم أعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ). وكاف التّشبيه في قوله : (كَما أُمِرْتَ) في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من (استقم). ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم طبقه. ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى (على) كما يقال : كن كما أنت. أي لا تتغيّر ، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه.

(وَمَنْ تابَ) عطف على الضمير المتّصل في (أُمِرْتَ). ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور.

(وَمَنْ تابَ) هم المؤمنون ، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك ، و (مَعَكَ) حال من (تابَ) وليس متعلّقا ب (تابَ) لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن من المشركين.

وقد جمع قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله : كَما أُمِرْتَ).

قال ابن عبّاس : ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب «شيبتني هود وأخواتها». وسئل عمّا في هود فقال : قوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

(وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

الخطاب في قوله : (وَلا تَطْغَوْا) موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم (وَمَنْ تابَ مَعَكَ).

والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥]. والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به ، قال تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه : ٨١]. فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.

وقد شمل الطغيان أصول المفاسد ، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودرء المفاسد ، فكان النهي عنه جامعا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى

٣٤٠