تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

والخطاب في (أَلَّا تَعْبُدُوا) وضمائر الخطاب التي بعده موجهة إلى الذين لم يؤمنوا وهم كل من يسمع هذا الكلام المأمور بإبلاغه إليهم.

وجملة : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) معترضة بين جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) [هود : ١] وجملة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [هود : ٣] الآية ، وهو اعتراض للتحذير من مخالفة النهي والتحريض على امتثاله.

ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعار بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسبا لما وقع بعده وناشئا منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع ، ونذير لمن أعرض وعصى ، وذلك أيضا جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية ، وهذا عين الإحكام.

و (من) في قوله : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) ابتدائية ، أي أني نذير وبشير لكم جائيا من عند الله.

والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء ، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول ، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣))

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) عطف على جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) [هود : ٢] وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل ، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى ، ودلائل على ذلك وأمثال ونذر ، فالمقصود : تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها.

والاستغفار : طلب المغفرة ، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى ، وذلك الندم.

٢٠١

والتوبة : الإقلاع عن عمل ذنب ، والعزم على أن لا يعود إليه.

و (ثم) للترتيب الرتبي ، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة ، فإنّ تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة ، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة.

والمتاع : اسم مصدر التمتيع لما يتمتع به ، أي ينتفع. ويطلق على منافع الدنيا. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤].

والحسن : تقييد لنوع المتاع بأنه الحسن في نوعه ، أي خالصا من المكدرات طويلا بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). والمراد بالمتاع : الإبقاء ، أي الحياة ، والمعنى أنه لا يستأصلهم. ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة.

و (إِلى أَجَلٍ) متعلق ب (يُمَتِّعْكُمْ) وهو غاية للتمتيع ، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية ، فعلم أنه متاع الدنيا. والمقصود بالأجل : أجل كل واحد وهو نهاية حياته ، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة.

وجملة : (يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) عطف على جملة : (يُمَتِّعْكُمْ). والإيتاء: الإعطاء ، وذلك يدل على أنه من المتاع الحسن ، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة. والفضل : إعطاء الخير. سمي فضلا لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته ، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير.

والفضل الأول : العمل الصالح ، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس.

والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة ، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا. والمعنى : ويؤت الله فضله كلّ ذي فضل في عمله.

ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المجزي عليه ، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق ، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير. وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو سر بين العبد وربه. ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيان ، قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

٢٠٢

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)

عطف على (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) فهو من تمام ما جاء تفسيرا ل (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغه إلى الناس.

وتولوا : أصله تتولوا ، حذفت إحدى التاءين تخفيفا.

وتأكيد جملة الجزاء ب (أَنِ) وبكون المسند إليه فيها اسما مخبرا عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب.

وتنكير (يَوْمٍ) للتهويل ، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوما في الدنيا أو في الآخرة ، لأنهم كانوا ينكرون الحشر ، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوقع في نفوسهم. وبذلك يكون تنكير (يَوْمٍ) صالحا لإيقاعه مقابلا للجزاءين في قوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، فيقدّر السامع : إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين.

ووصفه بالكبير لزيادة تهويله ، والمراد بالكبر الكبر المعنوي ، وهو شدة ما يقع فيه ، أعني العذاب ، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

جملة في موضع التعليل للخوف عليهم ، فلذلك فصلت. والمعنى : أنكم صائرون إلى الله ، أي إلى قدرته غير منفلتين منه فهو مجازيكم على تولّيكم عن أمره.

فالمرجع : مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وهو مستعمل كناية عن لازمه العرفي وهو عدم الانفلات وإن طال الزمن ، وذلك شامل للرجوع بعد الموت. وليس المراد إياه خاصة لأن قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أنسب بالمصير الدنيوي لأنه المسلّم عندهم ، وأما المصير الأخروي فلو اعترفوا به لما كان هنالك قوي مقتض لزيادة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتقوي ، وليس المراد منه الحصر إذ هم لا يحسبون أنهم مرجعون بعد الموت بله أن يرجعوا إلى غيره.

وجملة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معطوفة على جملة : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ، أي

٢٠٣

فما ظنكم برجوعكم إلى القادر على كل شيء وقد عصيتم أمره أليس يعذبكم عذابا كبيرا.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

حول أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما أمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها ، فقدم لذلك إبطال وهم من أوهام أهل الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى ، فكان قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) إلخ تمهيدا لقوله : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، جمعا بين إخبارهم بإحاطة علم الله بالأشياء وبين إبطال توهماتهم وجهلهم بصفات الله. وقد نشأ هذا الكلام عن قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[هود : ٤] لمناسبة أن المرجوع إليه لما كان موصوفا بتمام القدرة على كل شيء هو أيضا موصوف بإحاطة علمه بكل شيء للتلازم بين تمام القدرة وتمام العلم.

وافتتاح الكلام بحرف التنبيه (أَلا) للاهتمام بمضمونه لغرابة أمرهم المحكي وللعناية بتعليم إحاطة علم الله تعالى.

وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإبلاغ إليهم في قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) [هود : ٢] وليس بالتفات. وضمائر الغيبة للمفرد عائدة إلى اسم الجلالة في قوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) [هود : ٤].

والثّني : الطّي ، وأصل اشتقاقه من اسم الاثنين. يقال : ثناه بالتخفيف ، إذا جعله ثانيا ، يقال : هذا واحد فاثنه ، أي كن ثانيا له ، فالذي يطوي الشيء يجعل أحد طاقيه ثانيا للذي قبله ؛ فثني الصدور : إمالتها وحنيها تشبيها بالطي. ومعنى ذلك الطأطأة.

وهذا الكلام يحتمل الإجراء على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور. ويحتمل أن يكون تمثيلا لهيئة نفسية بهيئة حسية.

فعلى الاحتمال الأول : يكون ذلك تعجيبا من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه

٢٠٤

ويستغشي ثوبه ويحني ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك من جهلهم بعظمة الله.

ففي «البخاري» عن ابن مسعود : اجتمع عند البيت قريشيان وثقفي ، كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [فصلت : ٢٢ ، ٢٣].

وجميع أخطاء أهل الضلالة في الجاهلية والأديان الماضية تسري إلى عقولهم من النظر السقيم ، والأقيسة الفاسدة ، وتقدير الحقائق العالية بمقادير متعارفهم وعوائدهم ، وقياس الغائب على الشاهد. وقد ضل كثير من فرق المسلمين في هذه المسالك لو لا أنهم ينتهون إلى معلومات ضرورية من الدين تعصمهم عند الغاية عن الخروج عن دائرة الإسلام وقد جاء بعضهم وأوشك أن يقع.

وعلى الاحتمال الثاني : فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به. وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذ بمصانعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية. وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين. وفي «أسباب النزول» للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وكان رجلا حلو المنطق ، وكان يظهر المودة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منطو على عداوته ، أي عداوة الدين ، فضرب الله ثني الصدور مثلا لإضماره بغض النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهو تمثيل وليس بحقيقة. وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] قيل فإنه هو الأخنس بن شريق.

ووقع في «صحيح البخاري» أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال : كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية. وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها. واعلم أن شأن

٢٠٥

دعوة الحق أن لا تذهب باطلا حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها ، فإنها تلفت عقولهم إلى فرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها ، وكل ذلك يثير حقيقتها ويشيع دراستها. وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها. وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها ، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرت حين تقاضاه أجر سيف صنعه فقال له : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد. فقال خباب : لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك. فقال العاصي له : إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه. فنزل فيه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧]. وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال.

والاستخفاء : الاختفاء ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر.

وجملة : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) إلخ يجوز أن تكون إتماما لجملة (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) متصلة بها فيكون حرف (أَلا) الثاني تأكيدا لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر ، فيتعلق ظرف (حين) بفعل (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ويتنازعه مع فعل (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب.

والاستغشاء : التغشي بما يغشي ، أي يستر ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح : ٧] ، مثل استجاب.

وزيادة (وَما يُعْلِنُونَ) تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر.

وجملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) نتيجة وتعليل للجملة قبله ، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأولى.

فذات الصدور صفة لمحذوف يعلم من السياق من قوله (عَلِيمٌ) أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور.

وكلمة (ذات) مؤنث (ذو) يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال : ٤٣] وقوله : (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) في سورة الأنفال [١].

٢٠٦

والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواسّ الباطنية بالصدر.

واختيار مثال المبالغة وهو (عَلِيمٌ) لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود.

وذات الصدور : الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها. فأضيفت إليها.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

عطف على جملة : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [هود : ٥]. والتقدير : وما من دابّة إلّا يعلم مستقرها ومستودعها ، وإنما نظم الكلام على هذا الأسلوب تفننا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب (من) ، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابّة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة ، فلأجل ذلك أخّر الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالا على أنّه عليم بأحوالها ، فإن كونه رازقا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر ، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلا على علمه بما تحتاجه.

والدابة في اللغة : اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان.

وزيادة (فِي الْأَرْضِ) تأكيد لمعنى (دَابَّةٍ) في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته.

والرزق : الطعام ، وتقدم في قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧].

والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول عليه بذكر رزقها الذي هو من أحوالها.

وتقديم (عَلَى اللهِ) قبل متعلقه وهو (رِزْقُها) لإفادة القصر ، أي على الله لا على غيره ، ولإفادة تركيب (عَلَى اللهِ رِزْقُها) معنى أن الله تكفّل برزقها ولم يهمله ، لأن (على) تدل على اللزوم والمحقوقية ، ومعلوم أن الله لا يلزمه أحد شيئا ، فما أفاد معنى اللزوم فإنّما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا) [الأنبياء : ١٠٤] وقوله : (حَقًّا عَلَيْنا) [يونس : ١٠٣].

٢٠٧

والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنّه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها ، أي رزقها على الله لا على غيره. فالمستثنى هو الكون على الله ، والمستثنى منه مطلق الكون مما يتخيّل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومقدره.

وجملة (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى ، أي والله يعلم مستقر كلّ دابة ومستودعها. فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيّز الحصر.

والمستقر : محلّ استقرارها. والمستودع : محلّ الإيداع ، والإيداع : الوضع والدخر. والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) في سورة الأنعام [٩٨].

وتنوين (كُلٌ) تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار ، أي كلّ رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين ، أي كتابة ، فالكتاب هنا مصدر كقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤]. وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانا ولا تخلفا. كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل. قال الحارث بن حلزة : حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء والمبين : اسم فاعل أبان بمعنى : أظهر ، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير.

وليس المراد أنّه موضح لمن يطالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

عطف على جملة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦]. والمناسبة أنّ خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع،

٢٠٨

فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته ، وقد تقدم القول في نظيرها في قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة الأعراف [٥٤].

وجملة (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) يجوز أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا بين فعل (خلق) ولام التعليل. وأما كونها معطوفة على جملة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] المسوقة مساق الدليل على سعة علم الله وقدرته فغير رشيق لأنّ مضمون هذه الجملة ليس محسوسا ولا متقررا لدى المشركين إذ هو من المغيبات وبعضه طرأ عليه تغيير بخلق السموات فلا يحسن جعله حجة على المشركين لإثبات سعة علم الله وقدرته المأخوذ من جملة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [هود : ٦] إلخ. والمعنى إن العرش كان مخلوقا قبل السموات وكان محيطا بالماء أو حاويا للماء. وحمل العرش على أنّه ذات مخلوقة فوق السموات هو ظاهر الآية. وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السموات والأرض. وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به إذ التعبير عنه تقريب.

ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلا بعرش السلطان ، أي كان ملك الله قبل خلق السموات والأرض ملكا على الماء.

وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق ب (خَلَقَ) واللّام للتعليل. والبلو : الابتلاء ، أي اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله ، وهو مستعمل كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات ، لأن حقيقة البلو مستحيلة على الله لأنه العليم بكلّ شيء ، فلا يحتاج إلى اختباره على نحو قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) في سورة البقرة [١٤٣].

وجعل البلو علة لخلق السموات والأرض لكونه من حكمة خلق الأرض باعتبار كون الأرض من مجموع هذا الخلق ، ثم إن خلق الأرض يستتبع خلق ما جعلت الأرض عامرة به ، واختلاف أعمال المخاطبين من جملة الأحوال التي اقتضاها الخلق فكانت من حكمة خلق السموات والأرض ، وكان التّعليل هنا بمراتب كثيرة ، وعلة العلة علّة.

و (أَيُّكُمْ) : اسم استفهام ، فهو مبتدأ ، وجملة المبتدأ والخبر سادّة مسدّ الحال اللّازم ذكرها بعد ضمير الخطاب في (لِيَبْلُوَكُمْ) ، نظرا إلى أن الابتلاء لا يتعلق بالذوات ، فتعدية فعل (يبلو) إلى ضمير الذوات ليس فيه تمام الفائدة فكان محتاجا إلى ذكر حال تقيّد متعلق الابتلاء ، وهذا ضرب من التعليق وليس عينه.

٢٠٩

وفي الآية إشارة إلى أن من حكمة خلق الأرض صدور الأعمال الفاضلة من شرف المخلوقات فيها. ثم إن ذلك يقتضي الجزاء على الأعمال إكمالا لمقتضى الحكمة ولذلك أعقبت بقوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) إلخ.

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

يظهر أن الواو واو الحال والجملة حال من فاعل (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) باعتبار ما تعلق بالفعل من قوله في (سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) ، والتقدير : فعل ذلك الخلق العجيب والحال أنهم ينكرون ما هو دون ذلك وهو إعادة خلق الناس. ويجهلون أنه لو لا الجزاء لكان هذا الخلق عبثا كما قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨]. فإن حمل الخبر في قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على ظاهر الإخبار كانت الحال مقدّرة من فاعل (خَلَقَ) أي خلق ذلك مقدّرا أنكم تنكرون عظيم قدرته ، وإن حمل الخبر على أنه مستعمل في التنبيه والاعتبار بقدرة الله كانت الحال مقارنة.

ووجه جعلها جملة شرطية إفادة تجدد التكذيب عند كلّ إخبار بالبعث ، واللّام موطّئة للقسم ، وجواب القسم (لَيَقُولَنَ) إلخ ، فاللام فيه لام جواب القسم. وجواب (إن) محذوف أغنى عنه جواب القسم كما هو الشأن عند اجتماع شرط وقسم أن يحذف جواب المتأخر منهما.

وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وما يتبعه من نون التوكيد لتنزيل السامع منزلة المتردد في صدور هذا القول منهم لغرابة صدوره من العاقل ، فيكون التأكيد القوي والتنزيل مستعملا في لازم معناه وهو التعجيب من حال الذين كفروا أن يحيلوا إعادة الخلق وقد شاهدوا آثار بدء الخلق وهو أعظم وأبدع.

وقرأ الجمهور (إِلَّا سِحْرٌ) على أنّ (هذا) إشارة إلى المدلول عليه ب (قلت) ، ومعنى الإخبار عن القول بأنّه سحر أنهم يزعمون أنّه كلام من قبيل الأقوال التي يقولها السحرة لخصائص تؤثر في النفوس.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : إلا ساحر فالإشارة بقوله (هذا) إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم المفهوم من ضمير (قُلْتَ) أي أنه يقول كلاما يسحرنا بذلك.

٢١٠

ووجه جعلهم هذا القول سحرا أن في معتقداتهم وخرافاتهم أنّ من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانيّة ، والمعنى أنّهم يكذّبون بالبعث كلّما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به.

و (مُبِينٌ) اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بأن المجرد ، أي بيّن واضح أنه سحر أو أنه ساحر.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ).

مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية ، فإذا خبّرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبعث وأنّ شركهم سبب لتعذيبهم جعلوا كلامه سحرا ، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه ، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تهكم ظنا أن تأخره عجز.

واللام موطئة للقسم. وجملة (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) جواب القسم مغنية من جواب الشرط.

والأمّة : حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمرهم واحد ، وتطلق على المدة كأنهم راعوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة ، أي بعد مدة.

و (مَعْدُودَةٍ) معناه مقدرة ، أي مؤجلة. وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العدّ والحساب ونحوهما على التّقليل ، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد ، ولذلك يقولون في عكسه : بغير حساب ، مثل (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [البقرة : ٢١٢].

والحبس : إلزام الشيء مكانا لا يتجاوزه. ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا ، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم.

(أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب ، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة. وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه

٢١١

مؤخر.

وافتتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم.

وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت.

والصرف : الدفع والإقصاء.

والحوق : الإحاطة.

والمعنى : أنه حالّ بهم حلولا لا مخلص منه بحال.

وجملة (وَحاقَ بِهِمْ) في موضع الحال أو معطوفة على خبر (لَيْسَ).

وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق ، وهذا عذاب القتل يوم بدر.

وما صدق (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هو العذاب ، وباء (بِهِ) سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سببا لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم. وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصا.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩))

عطف على جملة (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨]. فإنه لما ذكر أن ما هم فيه متاع إلى أجل معلوم عند الله. وأنهم بطروا نعمة التمتيع فسخروا بتأخير العذاب ، بيّنت هذه الآية أن أهل الضلالة راسخون في ذلك لأنّهم لا يفكّرون في غير اللّذات الدنيوية فتجري انفعالاتهم على حسب ذلك دون رجاء لتغير الحال ، ولا يتفكرون في أسباب النعيم والبؤس وتصرفات خالق الناس ومقدّر أحوالهم ، ولا يتّعظون بتقلبات أحوال الأمم ، فشأن أهل الضلالة أنّهم إن حلّت بهم الضراء بعد النعمة ملكهم اليأس من الخير ونسوا النعمة فجحدوها وكفروا منعمها ، فإنّ تأخير العذاب رحمة وإتيان العذاب نزع لتلك الرحمة ، وهذه الجملة في قوة التذييل. فتعريف (الإنسان) تعريف الجنس مراد به الاستغراق ، وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل. فمعيار العموم الاستثناء في قوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] كما يأتي ، فيكون الاستغراق عرفيا جاريا

٢١٢

على اصطلاح القرآن من إطلاق لفظ الإنسان أو الناس ، ولأن وصفي (لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) يناسبان المشركين فيتخصص العام بهم.

وقيل التّعريف في (الْإِنْسانَ) للعهد مراد منه إنسان خاص ، فروى الواحدي عن ابن عبّاس أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة. وعنه أنّها نزلت في عبد الله بن أبي أميّة المخزومي. ويجوز أن يكون المراد كلّ إنسان إذا حلّ به مثل ذلك على تفاوت في النّاس في هذا اليأس.

واللّام موطئة للقسم.

والإذاقة مستعملة في إيصال الإدراك على وجه المجاز ، واختيرت مادة الإذاقة لما تشعر به من إدراك أمر محبوب لأنّ المرء لا يذوق إلّا ما يشتهيه.

والرحمة ، أريد بها : رحمة الدنيا. وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والأمن والعافية ، والمراد النعمة السابقة قبل نزول الضر.

والنزع حقيقته : خلق الثوب عن الجسد. واستعمل هنا في سلب النعمة على طريقة الاستعارة ، ولذلك عدّي بحرف (من) دون (عن) لأنّ المعنى على السلب والافتكاك ، فذكر (من) تجريد للمجاز.

وجملة (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) جواب القسم ، وجردت من الافتتاح باللّام استغناء عنها بحرف التوكيد وبلام الابتداء في خبر (إنّ). واستغني بجواب القسم عن جواب الشرط المقارن له كما هو شأن الكلام المشتمل على شرط وقسم كما تقدم في قوله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) [هود : ٨] إلى آخره.

واليئوس والكفور مثالا مبالغة في الآيس وكافر النعمة ، أي جاحدها ، والمراد بالكفور : منكر نعمة الله لأنّه تصدر منه أقوال وخواطر من السخط على ما انتابه كأنّه لم ينعم عليه قط.

وتأكيد الجملة باللّام الموطئة للقسم وبحرف التوكيد في جملة جواب القسم لقصد تحقيق مضمونها وأنّه حقيقة ثابتة لا مبالغة فيها ولا تغليب.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠))

٢١٣

هذه الجملة تتميم للّتي قبلها لأنها حكت حالة ضدّ الحالة في الّتي قبلها ، وهي جملة قسم وشرط وجواب قسم كما تقدم في نظائرها.

وضمير (أَذَقْناهُ) المنصوب عائد إلى الإنسان فتعريفه كتعريف معاده للاستغراق بالمعنى المتقدم.

والنعماء ـ بفتح النون وبالمد ـ النعمة واختير هذا اللفظ هنا وإن كان لفظ النعمة أشهر لمحسن رعي النظير في زنة اللّفظين النعماء والضراء. والمراد هنا النعمة الحاصلة بعد الضراء.

والمس مستعمل في مطلق الإصابة على وجه المجاز. واختيار فعل الإذاقة لما تقدم ، واختيار فعل المس بالنسبة إلى إدراك الضّراء إيماء إلى أنّ إصابة الضّراء أخفّ من إصابة النّعماء ، وأن لطف الله شامل لعباده في كلّ حال.

وأكّدت الجملة باللّام الموطئة للقسم وبنون التّوكيد في جملة جواب القسم لمثل الغرض الذي بيّنّاه في الجملة السابقة.

وجعل جواب القسم القول للإشارة إلى أنّه تبجح وتفاخر ، فالخبر في قوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) مستعمل في الازدهاء والإعجاب ، وذلك هو مقتضى زيادة (عَنِّي) متعلقا ب (ذَهَبَ) للإشارة إلى اعتقاد كل واحد أنّه حقيق بأن تذهب عنه السيّئات غرورا منه بنفسه ، كما في قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].

وجملة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) استئناف ابتدائي للتعجيب من حاله ، و (فرح وفخور) مثالا مبالغة ، أي لشديد الفرح شديد الفخر. وشدة الفرح : تجاوزه الحد وهو البطر والأشر ، كما في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦].

والفخر : تباهي المرء على غيره بما له من الأشياء المحبوبة للنّاس.

والمعنى أنّه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وما كان فيه من الضرّاء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وناقل الأحوال ، والمخالف بين أسبابها. وفي معنى الآيتين قوله في سورة الشورى [٤٨] (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ).

٢١٤

(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

احتراس باستثناء من (الإنسان). والمراد بالّذين صبروا المؤمنون بالله لأنّ الصبر من مقارنات الإيمان فكني بالذين صبروا عن المؤمنين فإنّ الإيمان يروض صاحبه على مفارقة الهوى ونبذ معتاد الضلالة. قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣].

ومن معاني الصبر انتظار الفرج ولذلك أوثر هنا وصف (صبروا) دون (آمنوا) لأنّ المراد مقابلة حالهم بحال الكفّار في قوله : (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩]. ودل الاستثناء على أنّهم متّصفون بضد صفات المستثنى منهم. وفي هذا تحذير من الوقوع فيما يماثل صفات الكافرين على اختلاف مقادير. وقد نسجت الآية على هذا المنوال من الإجمال لتذهب نفوس السامعين من المؤمنين في طرق الحذر من صفتي اليأس وكفران النعمة ، ومن صفتي الفرح والفخر كل مذهب ممكن.

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) مستأنفة ابتدائية. والإتيان باسم الإشارة عقب وصفهم بما دل عليه الاستثناء وبالصبر وعمل الصالحات تنبيه على أنّهم استحقوا ما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥].

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢))

تفريع على قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) ـ إلى قوله ـ يَسْتَهْزِؤُنَ) [هود : ٧ ، ٨] من ذكر تكذيبهم وعنادهم. ويشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأسا قد يبعث على ترك دعائهم ، فذلك كله أفيد بفاء التفريع.

والتوقع المستفاد من (لعل) مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ. ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته. والتقدير : ألعلّك تارك. ويكون الاستفهام مستعملا في النفي للتحذير ، وذلك نظير قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حدا يوجب توقع الأمر المستفهم عنه حتى أنّ

٢١٥

المتكلّم يستفهم عن حصوله. وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهاب همته لدفع الفتور عنه ، فليس في هذا تجويز ترك النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه ، وذلك البعض هو ما فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) [الأعراف : ٢٠٣]. والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم ، ويستتبع ذلك تأييس المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب ، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه.

(وَضائِقٌ) : اسم فاعل من ضاق. وإنما عدل عن أن يقال (ضيّق) هنا إلى ضائِقٌ) لمراعاة النظير مع قوله : (تارك) لأنّ ذلك أحسن فصاحة. ولأنّ (ضائِقٌ) لا دلالة فيه على تمكّن وصف الضّيق من صدره بخلاف ضيّق ، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف ، إيماء إلى أنّ أقصى ما يتوهّم توقعه في جانبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ضيق قليل يعرض له.

والضيق مستعمل مجازا في الغم والأسف ، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة.

و (ضائِقٌ) عطف على (تارِكٌ) فهو وفاعله جملة خبر عن (لعلّك) فيتسلط عليه التفريع.

والباء في (بِهِ) للسببية ، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو (أَنْ يَقُولُوا). و (أَنْ يَقُولُوا) بدل من الضمير. ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] ، فيكون تحذيرا من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [هود : ٧] ، ومن قولهم : ما يحبس العذاب عنا ، بواسطة كون (ضائِقٌ) داخلا في تفريع التحذير على قوليهم السّابقين. وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّنا في الذهن ، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيها على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعد لما في لفظ التفسير من الطول ، فيحصل بذكره بعد بين اسم الفاعل ومرفوعه ، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه ، فحصل الاهتمام وقوّي الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.

٢١٦

ومعظم المفسرين جعلوا ضمير (بِهِ) عائدا إلى (بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ). على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره ، أي لا يضيق له صدرك ، وجعلوا (أَنْ يَقُولُوا) مجرورا بلام التعليل مقدرة. وعليه فالمضارع في قوله : (أَنْ يَقُولُوا) بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك. واللام متعلقة ب (ضائِقٌ) وليس المعنى عليه بالمتين.

و (لَوْ لا) : للتحضيض ، والكنز : المال الكنوز أي المخبوء.

وإنزاله : إتيانه من مكان عال أي من السماء.

وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي ، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سببا في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل.

ومرادهم ب (جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أن يجيء ملك من الملائكة شاهدا برسالته ، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أنّ الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم ، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومدى التأييد الربّاني.

وجملة (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) في موقع العلّة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم. فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذير لا وكيل على تحصيل إيمانهم ، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم ترك دعوتهم.

والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر إضافي ، أي أنت نذير لا موكّل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله ، كما دلّ عليه قوله قبله (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) فهو قصر قلب. وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أنّ الرسول يأتي بما يسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سندا لتكذيبهم إيّاه ردا حاصلا من مستتبعات الخطاب ، كما تقدم عند قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الرد على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم.

وجملة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) تذييل لقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) إلى هنا ، وهي معطوفة على جملة (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلا على إلجائهم للإيمان. ومما شمله عموم (كُلِّ شَيْءٍ) أن الله وكيل على قلوب

٢١٧

المكذبين وهم المقصود ، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلا وإتيانا للغرض بما هو كالدّليل ، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك ، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبي جهده في التبليغ.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣))

(أَمْ) هذه منقطعة بمعنى (بل) التي للإضراب للانتقال من غرض إلى آخر ، إلّا أن (أم) مختصة بالاستفهام فتقدر بعدها همزة الاستفهام. والتقدير : بل أيقولون افتراه. والإضراب انتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي ، فللجملة حكم الاستئناف. والمناسبة ظاهرة ، لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين ، فإنهم قالوا : هذا كلام مفترى ، وقرعهم بالحجة. والاستفهام إنكاري.

والافتراء : الكذب الذي لا شبهة لصاحبه ، فهو الكذب عن عمد ، كما تقدم في قوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].

وجملة (قُلْ فَأْتُوا) جواب لكلامهم فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة سواء كانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول أو كانت أمرا بالقول كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠]. والضمير المستتر في (افتراه) عائد إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ المذكور في قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢]. وضمير الغائب البارز المنصوب عائد إلى القرآن المفهوم من قوله : (بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢].

والإتيان بالشيء : جلبه ، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسعة عليهم في التحدّي.

وتحدّاهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحدّاهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله ، كما في سورة البقرة وسورة يونس. فقال ابن عبّاس وجمهور المفسرين : كان التحدّي أوّل الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن. وهو ما وقع في سورة هود ، ثمّ نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس. فتخطّى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس ، وهو الذي يعتمد عليه.

٢١٨

وقال المبرّد : تحدّاهم أولا بسورة ثمّ تحدّاهم هنا بعشر سور لأنهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلمّا وسع عليهم في صفتها أكثر عليهم عددها. وما وقع من التحدّي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني ، وليس بالقويّ.

ومعنى (مُفْتَرَياتٍ) أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم. وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي ، فالمماثلة في قوله مِثْلِهِ) هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه. قال علماؤنا : وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علوّ معانيه وتصديق بعضه بعضا. وهو كذلك.

والدعاء : النداء لعمل. وهو مستعمل في الطلب مجازا ولو بدون نداء.

وحذف المتعلق لدلالة المقام ، أي وادعوا لذلك. والأمر فيه للإباحة ، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسّمون فيه المقدرة على ذلك ومن ترجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونوكم كقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣].

و (مِنْ دُونِ اللهِ) وصف ل (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) ، ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله ، فلما عمّم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكّد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكلّ من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في قولكم (افْتَراهُ) ، وجواب الشرط هو قوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ). ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

تفريع على (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) [هود : ١٣] أي فإن لم يستجب لكم من تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلّا حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعا في يأس الدّاعين من الإتيان بعشر سور.

٢١٩

والاستجابة : الإجابة ، والسين والتاء فيه للتأكيد. وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه ، وهي مجاز مرسل لأنّ المعاونة تنشأ عن النّداء إلى الإعانة غالبا فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسمّيت استجابة.

والعلم : الاعتقاد اليقين ، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلّا بعلم الله ، أي ملابسا لعلم الله. أي لأثر العلم ، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه. وقد أفادت (أنما) الحصر ، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله. و (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) عطف على (أَنَّما أُنْزِلَ) لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم. ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم.

والفاء في (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) للتفريع على (فَاعْلَمُوا). والاستفهام مستعمل في الحثّ على الفعل وعدم تأخيره كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] أي عن شرب الخمر وفعل الميسر. والمعنى : فهل تسلمون بعد تحققكم أنّ هذا القرآن من عند الله.

وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته. ولم يقل فهل تسلمون لأنّ حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدلّ عليه الجملة الاسمية.

[١٥ ، ١٦] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٤] لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم ، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعا لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّروا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعلموا بأنّ وراء ذلك العذاب الدائم وأنّهم على الباطل ، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية ، أعني جملة (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) إلخ ... وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول.

ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم

٢٢٠