تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦))

هذا جواب عن لازم اقتراحهم وكنايته عن رميهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب عن الله فيما ادعى من إرساله وإنزال القرآن عليه كما تقدم في الجواب قبله. ولكونه جوابا مستقلا عن معنى قصدوه من كلامهم جاء الأمر به مفصولا عن الأول غير معطوف عليه تنبيها على استقلاله وأنه ليس بتكملة للجواب الأول.

وفي هذا الجواب استدلال على أنه مرسل من الله تعالى ، وأنه لم يختلق القرآن من عنده بدليل التفّت في مطاويه أدلة ، وقد نظم فيه الدليل بانتفاء نقيض المطلوب على إثبات المطلوب ، إذ قوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ) تقديره لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته. فإن فعل المشيئة يكثر حذف مفعوله في جملة الشرط لدلالة الجزاء عليه ، وإنما بني الاستدلال على عدم مشيئة الله نفي تلاوته لأن ذلك مدّعى الكفار لزعمهم أنه ليس من عند الله ، فكان الاستدلال إبطالا لدعواهم ابتداء وإثباتا لدعواه مآلا. وهذا الجمع بين الأمرين من بديع الاستدلال ، أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به ولبقيت على الحالة التي كنت عليها من أول عمري.

والدليل الثاني مطوي هو مقتضى جواب (لو) ، فإن جواب (لو) يقتضي استدراكا مطردا في المعنى بأن يثبت نقيض الجواب ، فقد يستغنى عن ذكره وقد يذكر ، كقول أبي بن سلمى بن ربيعة :

فلو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

فتقديره هنا : لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه عليما إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة ، وبلاغيا إذ جاء كلاما أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم ، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقا على جميعهم ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثله أحد منهم.

ولذلك فرعت على الاستدلال جملة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) تذكيرا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية ، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة ، وهي أربعون سنة ، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمة ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحى الله إليه بالرسالة ، ولا بلاغة قول واشتهارا

٤١

بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن ، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالا معتادا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك أطوارا وتدرجا. فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رباني محض ، وأن هذا الكلام موحى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.

فما كان هذا الكلام دليلا على المشركين وإبطالا لا دعائهم إلا لما بنى على تلاوة القرآن فكان ذكر القرآن في الاستدلال هو مناطه ، ثم لما فرع عليه جملة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ كان تذكيرا لهم بحاله قبل أن يتلو عليهم القرآن ولو لا ذانك الأمران لعاد الاستدلال مصادرة ، أي استدلالا بعين الدعوى لأنهم ينهض لهم أن يقولوا حينئذ : ما أرسلك الله إلينا وقد شاء أن لا يرسلك إلينا ولكنك تقولت على الله ما لم يقله.

فهذا بيان انتظام هذا الدليل من هذه الآية.

وقد آل الدليل بهذا الوجه إلى الاستدلال عليهم بمعجزة القرآن والأمية. ولكلمة تَلَوْتُهُ) هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تاليا كلاما ، ومتلوا ، وباعثا بذلك المتلو.

فبالأول : تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية لأن أسلوب الكتب الدينية غير الأسلوب الذي عرفه العرب من شعرائهم وخطبائهم.

وبالثاني : تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به لما فيه من الحقائق والإرشاد الديني الذي هو من شأن أنبياء الأديان وعلمائها ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٨ ، ٤٩].

وبالثالث : تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى ، فانتظمت بهذا الاستدلال دلالة صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته عن الله تعالى.

والتلاوة : قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلّغ. وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في سورة البقرة [١٠٢] ، وعند قوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) في سورة الأنفال [٢].

٤٢

و (أَدْراكُمْ) عرّفكم. وفعل الدراية إذا تعلق بذات يتعدى إليها بنفسه تارة وبالباء أيضا ، يقال : دريته ودريت به. وقد جاء في هذه الآية على الاستعمال الثاني وهو الأكثر في حكاية سيبويه.

قرأ الجمهور (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) بحرف النفي عطفا على (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أي لو شاء الله ما أمرني بتلاوة القرآن عليكم ولا أعلمكم الله به. وقرأه البزي عن ابن كثير في إحدى روايتين عنه بلام ابتداء في موضع لا النافية ، أي بدون ألف بعد اللام فتكون عطفا على جواب (لو) فتكون اللام لاما زائدة للتوكيد كشأنها في جواب (لو). والمعنى عليه : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولو شاء لجعلكم تدرون معانيه فلا تكذبوا.

وتفريع جملة : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ) تفريع دليل الجملة الشرطية وملازمتها لطرفيها.

والعمر : الحياة. اشتق من العمران لأن مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الدنيوي. ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش المرء مقدارها لكان قد أخذ حظه من البقاء. وهذا هو المراد هنا بدليل تنكير (عُمُراً) وليس المراد لثبت مدة عمري ، لأن عمره لم ينته بل المراد مدة قدرها قدر عمر متعارف ، أي بقدر مدة عمر أحد من الناس. والمعنى لبثت فيكم أربعين سنة قبل نزول القرآن.

وانتصب (عُمُراً) على النيابة عن ظرف الزمان ، لأنه أريد به مقدار من الزمان.

واللبث : الإقامة في المكان مدة. وتقدم في قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) في سورة البقرة [٢٥٩].

والظرفية في قوله (فِيكُمْ) على معنى في جماعتكم ، أي بينكم.

و (قبل) و (بعد) إذا أضيفا للذوات كان المراد بعض أحوال الذات مما يدل عليه المقام ، أي من قبل نزوله. وضمير (قبله) عائد إلى القرآن.

وتفريع جملة : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على جملة الشرط وما تفرع عليها تفريع للإنكار والتعجب على نهوض الدليل عليهم ، إذ قد ظهر من حالهم ما يجعلهم كمن لا يعقل. ولذلك اختير لفظ (تَعْقِلُونَ) لأن العقل هو أول درجات الإدراك. ومفعول تَعْقِلُونَ) إما محذوف لدلالة الكلام السابق عليه. والتقدير أفلا تعقلون أنّ مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته إذ لا يتأتى مثله في العادة لأحد ولا يتأتى ما يقاربه إلا بعد مدارسة العلماء

٤٣

ومطالعة الكتب السالفة ومناظرة العلماء ومحاورة أهل البلاغة من الخطباء والشعراء زمنا طويلا وعمرا مديدا ، فكيف تأتّى ما هو أعظم من ذلك المعتاد دفعة لمن قضى عمره بينهم في بلاده يرقبون أحواله صباح مساء ، وما عرف بلدهم بمزاولة العلوم ولا كان فيهم من أهل الكتاب إلا من عكف على العبادة وانقطع عن معاشرة الناس.

وإما أن ينزل (تَعْقِلُونَ) منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول ، أي أفلا تكونون عاقلين ، أي فتعرفوا أن مثل هذا الحال لا يكون إلا من وحي الله.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أي أشركوا ـ إلى قوله ـ : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٣ ، ١٤] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥]. وفي ذلك أيضا توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافا بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) [يونس : ١٥] ، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله ، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فرع عليه أن المفتري على الله كذبا والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما ، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر ، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وجد انصبابه على الخصم وحده.

والتفريع صالح للمعنيين ، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن.

ومحل (أو) على الوجهين هو التقسيم ، وهو إما تقسم أحوال ، وإما تقسم أنواع.

والاستفهام إنكاري. والظلم : هنا بمعنى الاعتداء. وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته.

وجملة : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) تذييل ، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيل (بفتح التحتية) فيقتضي أن أولئك مجرمون ، وأنهم لا يفلحون.

٤٤

والفلاح تقدم في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة البقرة [٥].

وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين.

وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

عطف على جملة : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) [يونس : ١٥] عطف القصة على القصة. فهذه قصة أخرى من قصص أحوال كفرهم أن قالوا : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) [يونس : ١٥] حين تتلى عليهم آيات القرآن ، ومن كفرهم أنهم يعبدون الأصنام ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).

والمناسبة بين القصتين أن في كلتيهما كفرا أظهروه في صورة السخرية والاستهزاء وإيهام أن العذر لهم في الاسترسال على الكفر ، فلعلهم (كما أوهموا أنه إن أتاهم قرآن غير المتلو عليهم أو بدل ما يرومون تبديله آمنوا) كانوا إذا أنذرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذاب الله قالوا : تشفع لنا آلهتنا عند الله. وقد روى أنه قاله النضر بن الحارث (على معنى فرض ما لا يقع واقعا) «إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى». وهذا كقول العاص بن وائل ، وكان مشركا ، لخبّاب بن الأرت ، وهو مسلم ، وقد تقاضاه أجرا له على سيف صنعه «إذا كان يوم القيامة الذي يخبر به صاحبك (يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فسيكون لي مال فأقضيك منه».

(وفيه نزل قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً)[مريم : ٧٧] الآية).

ويجوز أن تكون جملة : (وَيَعْبُدُونَ) إلخ عطفا على جملة : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [يونس : ١٧] فإن عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الافتراء.

وإيثار اسم الموصول في قوله : (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) لما تؤذن به صلة الموصول من التنبيه على أنهم مخطئون في عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، وفيه تمهيد لعطف

٤٥

(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) لتحقير رأيهم من رجاء الشفاعة من تلك الأصنام ، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة.

واختيار صيغة المضارع في (يَعْبُدُونَ) و (يَقُولُونَ) لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها ، أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيبا من تصميمهم على ضلالهم ومن قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فاعترفوا بأن المتصرف هو الله.

وقدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدتها بأنها تلحق بهم وبصبيانهم الضر ، كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تسلم فقالت : «أما تخشى على الصبية من ذي الشّرى» (١). فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصّادّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام.

وقد أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لهم شفعاء لهم عنده. ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئا اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف. ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه : ما علم الله هذا مني. وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء : يعلم الله كذا ، حتى صار عند العرب من صيغ اليمين.

و (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من الضمير المحذوف بعد (يَعْلَمُ) العائد على (ما) ، إذ التقدير : بما لا يعلمه ، أي كائنا في السماوات ولا في الأرض. والمقصود من ذكرهما تعميم الأمكنة ، كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب. وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي.

والاستفهام في (أَتُنَبِّئُونَ) للإنكار والتوبيخ. والإنباء : الإعلام.

وجملة : (سُبْحانَهُ وَتَعالى) إنشاء تنزيه ، فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت. وتقدم الكلام على نظيره عند قوله : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) في سورة الأنعام [١٠٠].

__________________

(١) الشرى ـ بفتح الشين المعجمة وألف في آخره ـ شجر الحنظل. وذو الشرى : صنم كان يعبده بنو دوس. كان بين مكة والطائف. ويسمى أيضا ذا الكفين.

٤٦

و (ما) في قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) مصدرية ، أي عن إشراكهم ، أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتا له.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف تشركون بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول. وقرأه الباقون بالتحية على أنها تعقيب للخطاب بجملة (قُلْ). وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

جملة معترضة بين جملة (يَعْبُدُونَ) [يونس : ١٨] وجملة : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠]. ومناسبة الاعتراض قوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة ، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)[يونس : ١٨].

وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحكم العمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الاسمى ، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبت ونفي عما عداه ، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار ، ولذلك يؤذن برد إنكار شديد.

وحسّن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، بخلاف آية سورة البقرة [٢١٣] (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) [البقرة : ٢١١] وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة. فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) إلى آخره ، وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية ، ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيئين مبشرين ومنذرين ، ثم جاء ذكر الاختلاف عرضا عقب ذلك بقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)

٤٧

[البقرة : ٢١٣]. وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) [البقرة : ٢١٣].

وتقدم القول في (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) في سورة البقرة [٢١٣].

والناس : اسم جمع للبشر. وتعريفه للاستغراق. والأمة : الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء ما.

والمراد هنا أمة واحدة في الدين. والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحريف. والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف. وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال ، لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات ، فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاما على عقولهم ، فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع ، ووضع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعا جبلّيا كما وضع الإلهامات في أصناف الحيوان. وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه‌السلام.

ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة. وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦] ، فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمة واحدة الوحدة في الحق ، وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول ، وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم ، ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك.

ووقوعه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال ، فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق ، ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح «ذبوا والله إن استقسما بها قط ، وقرأ : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران : ٦٧]» وبهذا الوجه يجعل التعريف في (النَّاسُ) للاستغراق.

٤٨

ويجوز أن يراد بالناس العرب خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه‌السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيد كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٨] ، أي في عقبه من العرب ، فيكون التعريف للعهد.

وجملة : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) إخبار بأن الحق واحد ، وأن ذلك الاختلاف مذموم ، وأنه لو لا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستيصال المبطل وإبقاء المحق. وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة الشورى [١٤] بقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

والأجل : هو أجل بقاء الأمم ، وذلك عند انقراض العالم ، فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب. وأصرح من ذلك في بيان معنى (الكلمة) قوله في سورة هود [١١٨]وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وسيأتي بيانها.

وتقديم المجرور في قوله : (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) للرعاية على الفاصلة.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

عطف على جملة : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) [يونس : ١٨] ، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفي بهتانهم في جانب النبوءة.

والضمير في (عَلَيْهِ) عائد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية ، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد. وقد كان ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم ، وقد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد ، علم المتخاطبون أنه المقصود. ونظير هذا كثير في القرآن.

و (لو لا) في قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) حرف تحضيض ، وشأن التحضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيض من الطلب وشأن الطلب أن يواجه به المطلوب ، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مؤولا بأحد وجهين :

٤٩

إما أن يكون التفاتا ، وأصل الكلام : لو لا أنزل عليك ، وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] أي قل لهم أقيموا ، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع.

وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعا في أن يردوهم إلى الكفر.

والآية : علامة الصدق. وأرادوا خارقا للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣] وقولهم : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهم في حقائق الأشياء ، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه يستفزّه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه ، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر ، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دروا أن الله قدر نظام الأمور تقديرا ، ووضع الحقائق وأسبابها ، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره ، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها ، ولا يضره أن يكذّب المكذّبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة ، وفي الدنيا تارات ، كل ذلك يجري على نظم اقتضتها الحكمة لا يحمله على تبديلها سؤال سائل ولا تسفيه سفيه. وهو الحكيم العليم.

فهم جعلوا استمرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلا على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله ، لأنه لو أرسله لأيّده بما يوجب له القبول عند المرسل إليهم. وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة بهم وطلبا لصلاحهم ، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته. ولذلك أتى في حكاية كلامهم العدول عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (مِنْ رَبِّهِ) إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي ربوبية المصطفي (بصيغة اسم الفاعل) للمصطفى (بصيغة المفعول) من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى.

وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى

٥٠

من مداركهم جوابا فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) ، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره.

والغيب : ما غاب عن حواس الناس من الأشياء ، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات. وتفسير هذا قوله : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [الأنعام : ١٠٩].

واللام للملك ، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله. وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق ، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله ، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام.

وجملة : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) تفريع على جملة : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي ليس دأبي ودأبكم إلّا انتظار ما يأتي به الله إن شاء ، كقول نوح لقومه : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [هود : ٣٣].

وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شرا لهم ، كقوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)[الأنعام : ٨].

والمعية في قوله : (مَعَكُمْ) مجازية مستعملة في الإشراك في مطلق الانتظار.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١))

لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء ، كما قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١].

وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم ، والملقى إليه الكلام هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥١

والمؤمنون. وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون ، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله (فَانْتَظِرُوا) [يونس : ٢٠] كما في الحديث : «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

فالمراد ب (النَّاسَ) الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) [يونس : ١٢].

وقد قيل : إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشا من القحط سبع سنين بدعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم كشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر ، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكيدون له. والقحط الذي أصاب قريشا هو المذكور في سورة الدخان. وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى. وقال ابن عباس : هي بطشة يوم بدر. فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيوا ، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة.

والإذاقة : مستعملة في مطلق الإدراك استعارة أو مجازا ، كما تقدم في قوله : لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) في سورة العقود [٩٥].

والرحمة : هنا مطلقة على أثر الرحمة ، وهو النعمة والنفع ، كقوله : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى : ٢٨].

والضراء : الضر. والمس : مستعمل في الإصابة. والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر ، كالمطر بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض.

و (إذا) في قوله : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ) للمفاجأة ، وهي رابطة لجواب (إذا) الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفا ثم إن وقعت شرطا فلا تصلح لأن تكون جوابا لها ، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف (إذا) الفجائية ، لأن حرف المفاجأة يدل على البدار والإسراع بمضمون الجملة ، فيفيد مفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه ، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها.

والمكر : حقيقته إخفاء الإضرار وإبرازه في صورة المسألة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) في سورة آل عمران [٥٤].

و (في) من قوله : (فِي آياتِنا) للظرفية المجازية المراد منها الملابسة ، أي مكرهم

٥٢

المصاحب لآياتنا. ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكرا يتعلق بها ، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عنادا ومكابرة وحفاظا على دينهم في الشرك.

ولما كان الكلام متضمنا التعريض بإنذارهم ، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكرا ، أي منكم ، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله.

ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضا ، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع. والمعنى أن الله أعجل مكرا بكم منكم بمكركم بآيات الله.

وأسرع : مأخوذ من أسرع المزيد على غير قياس ، أو من سرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي.

وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر ، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران.

وجملة : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديدا من الله ، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب. وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك ، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك. والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل ، وهو إنذار بالعذاب عليه ، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك.

وعبر بالمضارع في (يَكْتُبُونَ) ويمكرون للدلالة على التكرر ، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم ، فليس في قوله : (ما تَمْكُرُونَ) التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين.

وقرأه الجمهور (ما تَمْكُرُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه روح عن يعقوب ما يمكرون بياء الغائب ، والضمير ل (النَّاسَ) في قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً). وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٣

[٢٢ ، ٢٣] (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)

هذه الجملة بدل الشمال من جملة (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) [يونس : ٢١] إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله. والمقصود من هذه الجملة هو قوله : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان. أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم ، ثم كيف تفرج عنهم رحمة بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر ، فكان المقصود أنّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس : ٢٠] وفي كل شيء له آية ، وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزا عن أخذهم ، وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية.

وإسناد التسيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية ، فالإسناد مجاز عقلي ، فالقصر المفاد من جملة : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر.

و (حَتَّى) ابتدائية ، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله : (دَعَوُا اللهَ) ـ إلى قوله ـ (بِغَيْرِ الْحَقِ) ، والمغيّا هو ما في قوله (يُسَيِّرُكُمْ) من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس ، فكان ما بعد (حتى) ومعطوفاتها نهاية ذلك الرفق ، لأن تلك الحالة التي بعد (حتى) ينتهي عندها السير المنعم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء ، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام.

ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر

٥٤

الخطاب الصالحة لجميع السامعين ، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) على طريقة الالتفات ، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين ، فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.

وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز.

وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعا «للكشاف» بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضا ، وما نحوته أنا أليق.

وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) للتصريح بأن النعمة شملتهم ، وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم. فهو تمهيد لقوله : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ).

والسير في البر معروف للعرب. وكذلك السير في البحر. كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة. وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك.

وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها ، وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته ، والنابغة في داليته.

وقرأ الجمهور (يُسَيِّرُكُمْ) ـ بتحتية في أوله مضمومة فسين مهملة بعدها تحتية بعدها راء ـ من السير ، أي يجعلكم تسيرون. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ينشركم بتحتية مفتوحة في أوله بعدها نون ثم شين معجمة ثم راء ـ من النّشر ، وهو التفريق على نحو قوله تعالى : (إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم : ٢٠] وقوله : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠]. قال ابن عطية عن عوف بن أبي جميلة وأبي الزغل : كانوا (أي أهل الكوفة) يقرءون ينشركم فنظروا في مصحف عثمان بن عفان فوجدوها (يُسَيِّرُكُمْ) (أي بتحتية فسين مهملة فتحتية) فأوّل من كتبها كذلك الحجاج بن يوسف ، أي أمر بكتبها في مصاحب أهل الكوفة.

٥٥

و (حَتَّى) غاية للتسيير. وهي هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابه ، والجملة والغاية هي مفاد جواب (إِذا) وهو قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) ، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به ، إذ حينئذ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة.

والفلك : اسم لمركب البحر ، واسم جمع له بصيغة واحدة. وقد تقدم عند قوله تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في سورة البقرة [١٦٤]. وهو هنا مراد به الجمع.

والجري : السير السريع في الأرض أو في البحر ، قال تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) [هود : ٤١] والظاهر أنه حقيقة فيهما.

والريح مؤنثة في كلام العرب. وتقدم في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) في سورة الأعراف [٥٧]. والطيبة : الملائمة الرفيقة بالراكبين.

والطيب : الموصوف بالطيب الشديد. وأصل معنى الطيب الملاءمة فيما يراد من الشيء ، كقوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] ، ويقال : طاب له المقام في مكان كذا. ومنه سمي الشيء الذي له ريح وعرف طيبا.

وجملة : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) جواب (إِذا). وفي ذكر جريهن بريح طيبة وفرحهم بها إيماء إلى أن مجيء العاصفة حدث فجأة دون توقع من دلالة علامات النوتية كما هو الغالب. وفيه إيماء إلى أن ذلك بتقدير مراد لله تعالى ليخوفهم ويذكرهم بوحدانيته. وضمير (جاءَتْها) عائد إلى (الْفُلْكِ) لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث.

والعاصف : وصف خاص بالريح ، أي شديدة السرعة. وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث ، مثل : نافس وحائض ومرضع ، فشاع استعماله كذلك ، وذكر وصفا للريح فبقي لا تلحقه التاء. وقالوا : إنما لم تلحقه التاء لأنه في معنى النسب ، مثل : لابن ، وتامر. وفيه نظر.

ومعنى (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من كل جهة من جهات الفلك ، فالابتداء الذي تفيده (من) ابتداء الأمكنة المتجهة إلى الفلك.

ومعنى (أُحِيطَ بِهِمْ) أخذوا وأهلكوا ، فالعرب يقولون : أحاط العدو بالقبيلة إذا تمكن منها وغلبها ، لأن الإحاطة بها تدل على الإحداق بها وتطويقها. ولما كان ذلك هزيمة وامتلاكا لها صار ترتيب (أُحِيطَ بِهِمْ) استعارة تمثيلية للهلاك كما تقدم في قوله

٥٦

تعالى : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩] وقوله تعالى : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦] وقوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢] أي هلكت. فمعنى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) ظنوا الهلاك.

وجملة : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) جواب (إِذا). ومعنى مخلصين له الدين ممحضين له العبادة في دعائهم ، أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم. وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد. وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم ، مثل قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) [الأنعام : ٤٠ ، ٤١].

وجملة : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) بيان لجملة (دَعَوُا) لأن مضمونها هو الدعاء.

والإشارة ب (هذِهِ) إلى حالة حاضرة لهم ، وهي حالة إشرافهم على الغرق ، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم.

وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات : لام توطئة القسم ، ونون التوكيد ، والتعبير بصيغة (مِنَ الشَّاكِرِينَ) دون لنكونن شاكرين ، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر ، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

وأتى بحرف (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة.

والبغي : الاعتداء. وتقدم في قوله : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) في سورة الأعراف [٣٣]. والمراد به هنا الإشراك كما صرح به في نظيرها (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥]. وسمي الشرك بغيا لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء ، كما يسمى ظلما في آيات كثيرة منها قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض ، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم ، ولأنه لا يناسب قوله بعد (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر ، كقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الزمر : ٨] الآية.

وزيادة (فِي الْأَرْضِ) لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة. وهو كقوله تعالى : (فَلَمَّا

٥٧

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكانا للبغي.

وكذلك قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) هو قيد كاشف لمعنى البغي ، إذ البغي لا يكون بحق ، فهو كالتقييد في قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

استئناف خطاب للمشركين وهم الذين يبغون في الأرض بغير الحق.

وافتتح الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لاستصغاء أسماعهم. والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم.

وصيغة قصر البغي على الكون مضرا بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله : (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) [التوبة : ٣٩]. فمعنى (على) الاستعلاء المجازي المكنّى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلى عليه ، ولذلك يكثر أن يقولوا : هذا الشيء عليك ، وفي ضده : هذا الشيء لك ، كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦]. ويقول المقر : لك عليّ كذا. وقال توبة بن الحمير :

وقد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقال السموأل اليهودي :

ألي الفضل أم عليّ إذا حو

سبت أني على الحساب مقيت

وذلك أن (على) تدل على الإلزام والإيجاب ، واللام تدل على الاستحقاق. وفي الحديث : «القرآن حجة لك أو عليك».

فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله : (بَغْيُكُمْ) وبين أفراد الأنفس ، كما في قولهم : «ركب القوم دوابّهم» أي ، ركب كل واحد دابته. فالمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه ، لأن الشرك لا يضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب.

و (مَتاعَ) مرفوع في قراءة الجمهور على أنه خبر لمبتدإ محذوف ، أي هو متاع

٥٨

الحياة الدنيا. وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على الحال من (بغيكم). ويجوز أن يكون انتصابه على الظرفية للبغي ، لأن البغي مصدر مشتق فهو كالفعل فناب المصدر عن الظرف بإضافته إلى ما فيه معنى المدة. وتوقيت البغي بهذه المدة باعتبار أنه ذكر في معرض الغضب عليهم ، فالمعنى أنه أمهلكم إمهالا طويلا فهلا تتذكرون؟ فلا تحسبون الإمهال رضى بفعلكم ولا عجزا وسيؤاخذكم به في الآخرة. وفي كلتا القراءتين وجوه غير ما ذكرنا.

والمتاع : ما ينتفع به انتفاعا غير دائم. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤]. والمعنى على كلتا القراءتين واحد ، أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا.

وجملة : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) عطفت ب (ثم) لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديدا من مضمون جملة (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).

وتقديم المجرور في قوله : (إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) لإفادة الاختصاص ، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا تنزيلا للمخاطبين منزلة من يظن أنه يرجع إلى غير الله لأن حالهم في التكذيب بآياته والإعراض عن عبادته إلى عبادة الأصنام كحال من يظن أنه يحشر إلى الأصنام وإن كان المشركون ينكرون البعث من أصله.

وتفريع (فَنُنَبِّئُكُمْ) على جملة : (إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) تفريع وعيد على تهديد. واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة ، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع. وفي ذكر (كُنْتُمْ) والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم. والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظا من هذا الوعيد.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [يونس : ٢٣] المؤذنة بأن

٥٩

تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة ، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال ، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد.

والمثل : الحال المائلة على هيئة خاصة ، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة.

وصيغة القصر لتأكيد المقصود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء. ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ. والمعنى : قصر حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف ، فالقصر قصر قلب ، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة.

شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاما ومصيره حصيدا. ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين ، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه.

فقوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته ، فلذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمّل منه من زخرف الأرض ونضارتها.

وقوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) شبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة ، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول ، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء ، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه.

وقوله : (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول ، وأصناف تأكلها الأنعام من العشب والكلأ ، وذلك يشبّه به ما ينعم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان ، فإن له حظا في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته.

٦٠