تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

وَدُسُرٍ) [القمر : ١٣] أي سفينة.

وعدّي فعل (ارْكَبُوا) ب (فيّ) جريا على الفصيح فإنه يقال : ركب الدابة إذا علاها. وأما ركوب الفلك فيعدّى ب (في) لأن إطلاق الركوب عليه مجاز ، وإنما هو جلوس واستقرار فلا يقال : ركب السفينة ، فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له ، وهي تفرقة حسنة.

والباء في (بِسْمِ اللهِ) للملابسة مثل ما تقدم في تفسير البسملة ، وهي في موضع الحال من ضمير (ارْكَبُوا) أي ملابسين لاسم الله ، وهي ملابسة القول لقائله ، أي قائلين : باسم الله.

و (مَجْراها وَمُرْساها) ـ بضم الميمين فيهما ـ في قراءة الجمهور. وهما مصدرا ، أجرى السفينة إذا جعلها جارية ، أي سيّرها بسرعة ، وأرساها إذا جعلها راسية ، أي واقفة على الشاطئ. يقال : رما إذا ثبت في المكان.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف «مجراها» فقط ـ بفتح الميم ـ على أنه مفعل للمصدر أو الزمان أو المكان. وأما (مُرْساها) ـ فبضم الميم ـ مثل الجمهور ، لأنه لا يقال : مرساها ـ بفتح الميم ـ. والعدول عن الفتح في (مُرْساها) في كلام العرب مع أنه في القياس مماثل (مجراها) وجهه دفع اللبس لئلا يلتبس باسم المرسى الذي هو المكان المعدّ لرسوّ السفن.

ويجوز أن يكون (مَجْراها وَمُرْساها) في محل نصب بالنيابة عن ظرف الزمان ، أي وقت إجرائها ووقت إرسائها. ويجوز أن يكون في محل رفع على الفاعلية بالجار والمجرور لما فيه من معنى الفعل ، وهو رأي نحاة الكوفة ، وما هو ببعيد.

وجملة (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى ، ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعده بنجاتهم ، وذلك من غفرانه ورحمته. وأكّد ب (إِنَ) ولام الابتداء تحقيقا لأتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق.

[٤٢ ، ٤٣] (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))

٢٦١

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ).

جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر (مجراها) إتماما للفائدة وصفا لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيسير نجاتهم.

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم وتحقيقه.

وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩].

والموج : ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه ، وتشبيهه بالجبال في ضخامته. وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماء السابق لها ، فإن حادث الطوفان ما كان إلّا عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها ، كما سيأتي.

(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣).

عطفت جملة (وَنادى) على أعلق الجمل بها اتّصالا وهي (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) [هود : ٤١] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال ، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة.

وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زوج ثانية لنوح كان اسمها (واعلة) غرقت ، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم. قيل كان اسم ابنه (ياما) وقيل اسمه (كنعان) وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين. وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزبا.

وجملة (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) حال من (ابْنَهُ). والمعزل : مكان العزلة أي الانفراد ، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح ـ عليه‌السلام ـ فلم يصدق بوقوع الطوفان ، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول.

٢٦٢

وجملة (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) بيان لجملة (نادى) وهي إرشاد له ورفق به.

وأما جملة (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) فهي معطوفة على جملة (ارْكَبْ مَعَنا) لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلّا أثرا لتكذيبه بوقوع الطوفان. فقول نوح ـ عليه‌السلام ـ له (ارْكَبْ مَعَنا) كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير. وقد زاد ابنه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قوله متهكما (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ).

و (بنيّ) تصغير (ابن) مضافا إلى ياء المتكلم. وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة. فأصله بنيو ، لأنّ أصل ابن بنو ، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقص عن ثلاثة أحرف فعوّضوه همزة وصل في أوله ، ومهما عادت له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل ، ثم لمّا أريد إضافة المصغّر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بنيوي ، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنيّي بياءين في آخره أولاهما مشدّدة ، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبقاء الكسرة صار (بُنَيَ) ـ بكسر الياء مشدّدة ـ في قراءة الجمهور. وقرأه عاصم (بُنَيَ) بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء ، أصله يا بنيّي بياءين أولاهما مكسورة مشدّدة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية.

وفصلت جملة (قالَ سَآوِي) وجملة (قالَ لا عاصِمَ) لوقوعهما في سياق المحاورة.

وقوله : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) قد كان قبل أن يبلغ الماء أعالي الجبال. و (آوي) : أنزل ، ومصدره : الأويّ ـ بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء ـ.

وجملة (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) إمّا صفة ل (جبل) أي جبل عال ، وإمّا استيناف بياني ، لأنّه استشعر أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ يسأل لما ذا يأوي إلى جبل إذ ابنه قد سمعه حين ينذر الناس بطوفان عظيم فظن الابن أن أرفع الجبال لا يبلغه الماء ، وأنّ أباه ما أراد إلا بلوغ الماء إلى غالب المرتفعات دون الجبال الشامخات.

ولذلك أجابه نوح ـ عليه‌السلام ـ بأنّه (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، أي مأموره

٢٦٣

وهو الطوفان (إِلَّا مَنْ رَحِمَ).

واستثناء (مَنْ رَحِمَ) من مفعول يتضمنه (عاصم) إذ العاصم يقتضي معصوما وهو المستثنى منه. وأراد ب (مَنْ رَحِمَ) من قدّر الله له النجاة من الغرق برحمته. وهذا التقدير مظهره الوحي بصنع الفلك والإرشاد إلى كيفية ركوبه.

والموج : اسم جمع موجة ، وهي : مقادير من ماء البحر أو النهر تتصاعد على سطح الماء من اضطراب الماء بسبب شدة رياح ، أو تزايد مياه تنصبّ فيه ، ويقال : ماج البحر إذا اضطرب ماؤه. وقالوا : ماج القوم ، تشبيها لاختلاط النّاس واضطرابهم باضطراب البحر.

وحيلولة الموج بينهما في آخر المحاورة يشير إلى سرعة فيضان الماء في حين المحاولة.

وأفاد قوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أنه غرق وغرق معه من توعّده بالغرق ، فهو إيجاز بديع.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

لما أفاد قوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣] وقوع الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمت انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان.

وبناء فعل (قِيلَ) للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول ، لأن مثله لا يصدر إلّا من الله. والقول هنا أمر التكوين. وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلّق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية. فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعيّة.

والبلغ حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم. وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة ، ومعنى بلع الأرض ماءها : دخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل. وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفا انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض.

٢٦٤

وإضافة (الْماءُ) إلى (الأرض) لأدنى ملابسة لكونه في وجهها.

وإقلاع السماء مستعار لكفّ نزول المطر منها لأنه إذا كفّ نزول المطر لم يخلف الماء الذي غار في الأرض ، ولذلك قدّم الأمر بالبلع لأنّه السبب الأعظم لغيض الماء.

وفي قران الأرض والسماء محسّن الطباق ، وفي مقابلة (ابلعي) ب (أَقْلِعِي) محسّن الجناس.

و (غِيضَ الْماءُ) مغن عن التعرّض إلى كون السماء أقلعت والأرض بلعت ، وبني فعل (غِيضَ الْماءُ) للنائب لمثل ما بني فعل (وَقِيلَ) باعتبار سبب الغيض ، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله حصول مسبب عن سبب والغيض : نضوبه في الأرض. والمراد : الماء الذي نشأ بالطوفان زائدا على بحار الأرض وأوديتها. وقضاء الأمر : إتمامه. وبناء الفعل للنائب للعلم بأنّ فاعله ليس غير الله تعالى.

والاستواء : الاستقرار.

والجوديّ : اسم جبل بين العراق وإرمينيا ، يقال له اليوم (أراراط). وحكمة إرسائها على جبل أنّ جانب الجبل أمكن لاستقرار السفينة عند نزول الرّاكبين لأنّها تخف عند ما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى جانب الجبل.

و (بُعْداً) مصدر (بعد) على مثال كرم وفرح ، منصوب على المفعولية المطلقة. وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه ، كالمدح والذم مثل : تبّا له ، وسحقا ، وسقيا ، ورعيا ، وشكرا. والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء ، فلذلك يقال : بعد أو نحوه لمن فقد ، إذا كان مكروها كما هنا. ويقال : نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد ، فيقال للميّت العزيز كما قال مالك بن الرّيب :

يقولون لا تبعد وهم يدفنوني

وأين مكان البعد إلّا مكانيا

وقالت فاطمة بنت الأحجم :

إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

والأكثر أن يقال (بعد) بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت ، و (بعد) المضموم العين في البعد الحقيقي.

والقوم الظالمون هم الذين كفروا فغرقوا. والقائل (بعدا) قد يكون من قول الله جريا

٢٦٥

على طريقة قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ويجوز أن يقوله المؤمنون تحقيرا للكفّار وتشفّيا منهم واستراحة ، فبني فعل (وَقِيلَ) إلى المجهول لعدم الحاجة إلى معرفة قائله.

قال في «الكشاف» بعد أن ذكر نكتا ممّا أتينا على أكثره «ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رءوسهم لا لتجانس الكلمتين ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي) وإن كان لا يخلي الكلام من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللّب وما عداها قشور» اه.

وقد تصدّى السكاكي في «المفتاح» في بحث البلاغة والفصاحة لبيان بعض خصائص البلاغة في هذه الآية ، تقفية على كلام «الكشاف» فيما نرى فقال :

«والنّظر في هذه الآية من أربع جهات ، من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ... (١) ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية. أما النظر فيها من جهة علم البيان ... فنقول : إنه عزوجل لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها ... وأن نقطع طوفان السماء ... وأن نغيض الماء .. وأن نقضي أمر نوح ـ عليه‌السلام ـ وهو إنجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه .. وأن نسوي السّفينة على الجوديّ .. وأبقينا الظّلمة غرقى بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور ... وتشبيه تكوين المراد بالأمر .. وأن السماوات والأرض ... تابعة لإرادته ... كأنها عقلاء مميّزون ... ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جلّ وعلا : (قِيلَ) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد ... فقال : (يا أَرْضُ) ـ (وَيا سَماءُ) ... ثم استعار لغور الماء في الأرض البلغ .. للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي ، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات ... تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) ... ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء ، ثم قال ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتّصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا (أَقْلِعِي) لمثل ما تقدم في (ابْلَعِي) ، ثم قال : (وَغِيضَ الْماءُ

__________________

(١) النكت مواضع كلام اختصرناه

٢٦٦

وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ). (وَقِيلَ بُعْداً) فلم يصرح بمن غاض الماء ، ولا بمن قضى الأمر وسوّى السفينة وقال (بُعْداً) ، كما لم يصرح بقائل (يا أَرْضُ) و (يا سَماءُ) في صدر الآية ، سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلّا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب ، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا (يا أَرْضُ) و (يا سَماءُ) ، ولا غائضا ما غاض ، ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.

ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنّما كانت لظلمهم.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النّظر في إفادة كل كلمة فيها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، لذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة .. وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ...

واختير (ابْلَعِي) على ابتلعي لكونه أخصر ، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين أَقْلِعِي) أوفر. وقيل (ماءَكِ) بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت .. وإنما لم يقل (ابْلَعِي) بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام مع (أَقْلِعِي) احترازا عن الحشو المستغنى عنه ، وهو الوجه في أن لم يقل : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء أقلعي فأقلعت .. وكذا الأمر دون أن يقال : أمر نوح ـ عليه‌السلام ـ وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا ـ عليه‌السلام ـ من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.

ثم قيل : (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) دون أن يقال : ليبعد القوم ، طلبا للتأكيد مع الاختصار وهو نزول (بُعْداً) منزلة ليبعدوا بعدا ، مع فائدة أخرى وهي استعمال اللّام مع (بعدا) الدّال على معنى أن البعد يحقّ لهم.

ثم أطلق الظلم ليتناول كلّ نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على

٢٦٧

فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.

وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قد قدّم النداء على الأمر ، فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء ، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح.

ثم قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل ، والأصل بالتقديم أولى ، ثم أتبعها قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) لاتّصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله ، وغيض الماء النازل من السماء فغاض ، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أنجز الموعود .. ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم ختمت القصة بما ختمت ... وأمّا النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخّصة مبيّنة ، لا تعقيد يعثّر الفكر في طلب المراد. ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تطابق معانيها ومعانيها تطابق ألفاظها.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التّنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسلة على الأسلات ...». هذه نهاية كلام المفتاح.

[٤٥ ـ ٤٧] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))

موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح ـ عليه‌السلام ـ هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداء دعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا ، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلّا للّذين يركبون السّفينة ، ولأنّ نوحا ـ عليه‌السلام ـ لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف

٢٦٨

يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة ، ويدلّ لذلك قوله تعالى : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) كما سيأتي.

ويجوز أن يكون دعاء نوح ـ عليه‌السلام ـ هذا وقع قبل غرق النّاس ، أي نادى ربّه أن ينجي ابنه من الغرق.

ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا ، أي نادى ربّه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة.

والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل : ودعا نوح ربّه ، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالبا ، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافا إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهي عتاب.

وجملة (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بيان للنّداء ، ومقتضى الظّاهر أن لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٣ ، ٤] ، وخولف ذلك هنا. ووجّه في «الكشاف» اقترانه بالفاء بأنّ فعل (نادى) مستعمل في إرادة النداء ، أي مثل فعل (قمتم) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية ، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل (نادى) مستعار لمعنى إرادة النداء ، أي أراد نداء ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء ، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لما علم من قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [هود : ٤٠] فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ، ربه ، ولذلك قدم الاعتذار بقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي). فقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالا لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسئول له من أهله فله عذر الشفقة عليه. وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للاهتمام به.

وكذلك جملة (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق.

والمراد بالوعد ما في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [المؤمنون : ٣٧] إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة. وهذا الموصول متعيّن لكونه صادقا على ابنه إذ ليس غيره من أهله

٢٦٩

طلب منه ركوب السفينة وأبى ، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم ، أي كافر ، وأنه مغرق ، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر. فالمعنى : أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ لا يجهل أنّ ابنه كافر ، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر ، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به ، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى ، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه.

وقرينة ذلك كله قوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه ، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه ، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال.

وقد كان نوح ـ عليه‌السلام ـ غير منهيّ عن ذلك ، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين ، فكان حال نوح ـ عليه‌السلام ـ كحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لأبي طالب «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» قبل أن ينزل قوله تعالى : ما كان للنبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية.

والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره ، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسئول استغناء بعلم المسئول كأنّه يقول : أسألك أم أترك ، كقول أميّة بن أبي الصلت :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك أن شيمتك الحياء

ومعنى (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أشدهم حكما. واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل ، فيفيد أن حكمه لا يجوز وأنّه لا يبطله أحد.

ومعنى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالا لقول نوح ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال.

قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :

إذا حاولت في أسد فجورا

فإني لست منك ولست منّي

وقال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦].

وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته.

٢٧٠

وجملة (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) تعليل لمضمون جملة (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ف (إنّ) فيه لمجرد الاهتمام.

و (عَمَلٌ) في قراءة الجمهور ـ بفتح الميم وتنوين اللام ـ مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع (غَيْرُ) على أنه صفة (عمل). وقرأه الكسائي ، ويعقوب (عَمَلٌ) ـ بكسر الميم ـ بصيغة الماضي وبنصب (غَيْرُ) على المفعولية لفعل (عمل). ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر (عمل) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان.

وتفرع على ذلك نهيه أن يسأل ما ليس له به علم نهي عتاب ، لأنّه لما قيل له (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقا بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أراد أن يسأله من الله.

وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر «فلا تسألنّي» ـ بتشديد النون ـ وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا. وأثبت ياء المتكلم من عدا ابن كثير من هؤلاء. أما ابن كثير فقرأ «فلا تسألنّ» ـ بنون مشدة مفتوحة ـ. وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف «فلا تسألن» ـ بسكون اللام وكسر النون مخففة ـ على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم.

وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو.

ثم إن كان نوح ـ عليه‌السلام ـ لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهي تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤلا لا يعلم إجابته. وهذا كقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] وقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبإ : ٣٨] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلبا تخصيصه من العموم. وكان نهيه نهي لوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك.

وكان قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) محتملا لظاهره ، ومحتملا لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع.

٢٧١

ثم إن كان قول نوح ـ عليه‌السلام ـ (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) إلى آخره تعريضا بالمسئول كان النّهي في قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) نهيا عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح ـ عليه‌السلام ـ مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : (فَلا تَسْئَلْنِ) نهيا عن الإفضاء بالسؤال الذي مهّد له بكلامه. والمقصود من النهي تنزيهه عن تعريض سؤاله للردّ.

وعلى كل الوجوه فقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام.

والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

فأجاب نوح ـ عليه‌السلام ـ كلام ربّه بما يدل على التنصّل ممّا سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم ، فإن كان نوح ـ عليه‌السلام ـ أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل ؛ وإن كان إنّما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة ، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال.

وقوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنّه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة.

وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح ـ عليه‌السلام ـ سؤالا لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وعرة متنائية ، ولقوا عناء في الاتصال بينها ، والآية بمعزل عنها ، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))

فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح ـ عليه‌السلام ـ وربّه ، فإنّ نوحا ـ عليه‌السلام ـ لما أجاب بقوله : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] إلى آخره خاطبه ربه إتماما للمحاورة بما يسكّن جأشه.

وكان مقتضى الظاهر أن يقول : قال يا نوح اهبط ، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ

٢٧٢

ابْلَعِي ... وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة ، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة.

ونداء نوح ـ عليه‌السلام ـ للتنويه به بين الملأ.

والهبوط : النزول. وتقدم في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) في سورة البقرة [٦١]. والمراد : النزول من السفينة لأنّها كانت أعلى من الأرض.

والسّلام : التحيّة ، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضا ، يقولون : اذهب بسلام ، ومنه قول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وخطابه بالسلام حينئذ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلا له النجاة ، كما قال تعالى : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٣ ، ١٤].

وأصل السّلام : السّلامة ، فاستعمل عند اللقاء إيذانا بتأمين المرء ملاقيه وأنّه لا يضمر له سوءا ، ثم شاع فصار قولا عند اللقاء للإكرام. وبذلك نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين قالوا : السّلام على الله ، فقوله هنا : (اهْبِطْ بِسَلامٍ) نظير قوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر : ٤٦] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب (آمنين). ولو كان السّلام مرادا به السلامة لكان التقييد ب (آمنين) توكيدا وهو خلاف الأصل.

و (مِنَّا) تأكيد لتوجيه السّلام إليه لأنّ (من) ابتدائية ، فالمعنى : بسلام ناشئ من عندنا ، كقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. وذلك كثير في كلامهم. وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشدّ مبالغة من الذي لا تذكر معه (من).

والباء للمصاحبة ، أي اهبط مصحوبا بسلام منّا. ومصاحبة السّلام الذي هو التّحية مصاحبة مجازية.

والبركات : الخيرات النامية ، واحدتها بركة ، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء.

ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح ـ عليه‌السلام ـ ومن معه ، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم.

٢٧٣

و (عليك) يتعلق (بسلام) و (بركات) وكذلك (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ).

والأمم : جمع أمة. والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس التي يجمعها نسب إلى جدّ واحد. يقال : أمّة العرب ، أو لغة مثل أمة الترك ، أو موطن مثل أمة أمريكا ، أو دين مثل الأمة الإسلامية ، ف (أُمَمٍ) دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ. وليس الذين ركبوا في السفينة أمما لقلة عددهم لقوله : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠]. وتنكير (أُمَمٍ) لأنّه لم يقصد به التعميم تمهيدا لقوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ).

و (من) في (مِمَّنْ مَعَكَ) ابتدائية ، و (من) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح ـ عليه‌السلام ـ في السفينة. ومنهم ابناؤه الثلاثة. فالكلام بشارة لنوح ـ عليه‌السلام ـ ومن معه بأن الله يجعل منهم أمما كثيرة يكونون محلّ كرامته وبركاته. وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمما بخلاف ذلك ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحا بالسلام والبركات وشرّك معه فيهما أمما ناشئين ممن هم معه ، وفيهم الناشئون من نوح ـ عليه‌السلام ـ لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده. فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عنون عنهم بوصف معية نوح ـ عليه‌السلام ـ تنبيها على سبب كرامتهم. وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح ـ عليه‌السلام ـ ، فحصل تنويه نوح ـ عليه‌السلام ـ وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع.

وجملة (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) إلخ ، عطف على جملة (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) إلى آخرها ، وهي استئناف بياني لأنّها تبيين لما أفاده التنكير في قوله : (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) من الاحتراز عن أمم آخرين. وهذه الواو تسمى استينافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة ، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم ، والمقصود : تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا ، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنّهم من ذريّة نوح ولم يتبعوا سبيل جدّهم ، فأشعروا بأنّهم من الأمم التي أنبأ الله نوحا بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم. ونظير هذا قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة.

وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدّم عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ

٢٧٤

فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) في الأنعام [١٧].

وذكر (مِنَّا) مع (يَمَسُّهُمْ) لمقابلة قوله في ضدّه (بِسَلامٍ مِنَّا) ليعلموا أنّ ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسبّبات العادية على أسبابها ، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسّموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألسنة الرسل ، فإنّ الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها. ومثاله ما هنا فقد بيّن لهم على لسان نوح ـ عليه‌السلام ـ أنّه يمتع أمما ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون.

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

استئناف أريد منه الامتنان على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والموعظة والتسلية.

فالامتنان من قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها).

والموعظة من قوله : (فَاصْبِرْ) إلخ.

والتّسلية من قوله : (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

والإشارة ب (تِلْكَ) إلى ما تقدم من خبر نوح ـ عليه‌السلام ـ ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة.

والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر. وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم. فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها ، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له : نوح ـ عليه‌السلام ـ أصاب قومه طوفان ، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه. على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أباه وإصابته بالغرق ، ومثل كلام الرّب مع نوح ـ عليه‌السلام ـ عند هبوطه من السفينة ، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك ، وما دار بين نوح ـ عليه‌السلام ـ وقومه من المحاورة ، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب.

٢٧٥

وجملة (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ـ و (نُوحِيها) ـ و (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) أخبار عن اسم الإشارة ، أو بعضها خبر وبعضها حال. وضمير (أَنْتَ) تصريح بالضمير المستتر في قوله : (تَعْلَمُها) لتصحيح العطف عليه.

وعطف (وَلا قَوْمُكَ) من الترقي ، لأن في قومه من خالط أهل الكتاب ومن كان يقرأ ويكتب ولا يعلم أحد منهم كثيرا مما أوحي إليه من هذه القصة.

والإشارة بقوله : (مِنْ قَبْلِ هذا) إما إلى القرآن ، وإما إلى الوقت باعتبار ما في هذه القصة من الزيادة على ما ذكر في أمثالها مما تقدم نزوله عليها ، وإما إلى (تِلْكَ) بتأويل النبأ ، فيكون التذكير بعد التأنيث شبيها بالالتفات.

ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فكما صبر نوح ـ عليه‌السلام ـ فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح ـ عليه‌السلام ـ مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم ، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر.

وجملة (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) علة للصبر المأمور به ، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين ، فستكون لك وللمؤمنين معك.

والعاقبة : الحالة التي تعقب حالة أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢].

والتعريف في (الْعاقِبَةُ) للجنس.

واللام في (لِلْمُتَّقِينَ) للاختصاص والملك ، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة ، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم.

[٥٠ ـ ٥٢] (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

عطف على (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥] ، فعطف (وَإِلى عادٍ) على (إِلى قَوْمِهِ) [هود : ٢٥] ، وعطف (أَخاهُمْ) على (نُوحاً) [هود : ٢٥] ، والتقدير : وأرسلنا إلى

٢٧٦

عاد أخاهم هودا. وهو من العطف على معمولي عامل واحد.

وتقديم المجرور للتنبيه على أن العطف من عطف المفردات لا من عطف الجمل لأن الجارّ لا بد له من متعلّق ، وقضاء لحق الإيجاز ليحضر ذكر عاد مرتين بلفظه ثم بضميره.

ووصف (هود) بأنه أخو عاد لأنه كان من نسبهم كما يقال : يا أخا العرب ، أي يا عربي.

وتقدم ذكر عاد وهود في سورة الأعراف.

وجملة (قالَ) مبينة للجملة المقدّرة وهي (أَرْسَلْنا) [هود : ٢٥].

ووجه التصريح بفعل القول لأن فعل (أرسلنا) محذوف ، فلو بين بجملة (يا قَوْمِ اعْبُدُوا) كما بين في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [هود : ٢٥] لكان بيانا لمعدوم وهو غير جليّ.

وافتتاح دعوته بنداء قومه لاسترعاء أسماعهم إشارة إلى أهمية ما سيلقي إليهم.

وجملة (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) حال من ضمير (اعْبُدُوا) أو من اسم الجلالة. والإتيان بالحال الاستقصاد إبطال شركهم بأنّهم أشركوا غيره في عبادته في حال أنّهم لا إله لهم غيره ، أو في حال أنّه لا إله لهم غيره. وذلك تشنيع للشّرك.

وجملة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) توبيخ وإنكار. فهي بيان لجملة (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، أي ما أنتم إلّا كاذبون في ادّعاء إلهية غير الله تعالى.

وجملة (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) إن كان قالها مع الجملة التي قبلها فإعادة النداء في أثناء الكلام تكرير للأهمية ، يقصد به تهويل الأمر واسترعاء السمع اهتماما بما يستسمعونه ، والنداء هو الرابط بين الجملتين ؛ وإن كانت مقولة في وقت غير الذي قيلت فيه الجملة الأولى ، فكونها ابتداء كلام ظاهر.

وتقدم تفسير (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ ، أي لا أسألكم أجرا على ما قلته لكم.

والتعبير بالموصول (الَّذِي فَطَرَنِي) دون الاسم العلم لزيادة تحقيق أنّه لا يسألهم على الإرشاد أجرا بأنه يعلم أن الذي خلقه يسوق إليه رزقه ، لأن إظهار المتكلم علمه

٢٧٧

بالأسباب يكسب كلامه على المسببات قوة وتحقيقا.

ولذلك عطف على ذلك قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بفاء التفريع عاطفة استفهاما إنكاريا عن عدم تعقلهم ، أي تأملهم في دلالة حاله على صدقه فيما يبلغ ونصحه لهم فيما يأمرهم. والعقل : العلم.

وعطف جملة (وَيا قَوْمِ) مثل نظيرها في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ آنفا.

والاستغفار : طلب المغفرة للذنب ، أي طلب عدم المؤاخذة بما مضى منهم من الشرك ، وهو هنا مكنى به عن ترك عقيدة الشرك ، لأن الاستغفار الله يستلزم الاعتراف بوجوده ويستلزم اعتراف المستغفر بذنب في جانبه ولم يكن لهم ذنب قبل مجيء هود ـ عليه‌السلام ـ إليهم غير ذنب الإشراك إذ لم يكن له شرع من قبل. وأما ذنب الإشراك فهو متقرر من الشرائع السابقة جميعها فكان معلوما بالضرورة فكان الأمر بالاستغفار جامعا لجميع هذه المعاني تصريحا وتكنية.

والتوبة : الإقلاع عن الذنب في المستقبل والندم على ما سلف منه. وفي ماهية التوبة العزم على عدم العود إلى الذنب فيؤول إلى الأمر بالدّوام على التوحيد ونفي الإشراك.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، لأن الدوام على الإقلاع أهم من طلب العفو عمّا سلف.

و (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ) جواب الأمر من (اسْتَغْفِرُوا).

والإرسال : بعث من مكان بعيد فأطلق الإرسال على نزول المطر لأنه حاصل بتقدير الله فشبّه بإرسال شيء من مكان المرسل إلى المبعوث إليه.

والسماء من أسماء المطر تسمية للشيء باسم مصدره. وفي الحديث : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أثر سماء».

و (مِدْراراً) حال من السماء صيغة مبالغة من الدرور وهو الصبّ ، أي غزيرا. جعل جزاءهم على الاستغفار والتوبة إمدادهم بالمطر لأنّ ذلك من أعظم النّعم عليهم في الدنيا إذ كانت عاد أهل زرع وكروم فكانوا بحاجة إلى الماء ، وكانوا يجعلون السّداد لخزن الماء. والأظهر أن الله أمسك عنهم المطر سنين فتناقص نسلهم ورزقهم جزاء على الشرك بعد أن أرسل إليهم هودا ـ عليه‌السلام ـ ؛ فيكون قوله : (يُرْسِلِ السَّماءَ) وعدا وتنبيها على غضب الله عليهم ، وقد كانت ديارهم من حضر موت إلى الأحقاف مدنا وحللا وقبابا.

٢٧٨

وكانوا أيضا معجبين بقوة أمتهم وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] فلذلك جعل الله لهم جزاء على ترك الشرك زيادة قوتهم بكثرة العدد وصحة الأجسام وسعة الأرزاق ، لأن كلّ ذلك قوة للأمة يجعلها في غنى عن الأمم الأخرى وقادرة على حفظ استقلالها ويجعل أمما كثيرة تحتاج إليها.

و (إِلى قُوَّتِكُمْ) متعلق ب (يَزِدْكُمْ). وإنما عدّي ب (إِلى) لتضمينه معنى يضم. وهذا وعد لهم بصلاح الحال في الدنيا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ.

وعطف عليه (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) تحذيرا من الرجوع إلى الشرك.

والتولّي : الانصراف. وهو هنا مجاز عن الإعراض.

و (مُجْرِمِينَ) حال من ضمير (تَتَوَلَّوْا) أي متصفين بالإجرام ، وهو الإعراض عن قبول أمر الله تعالى.

[٥٣ ـ ٥٦] (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ).

محاورة منهم لهود ـ عليه‌السلام ـ بجواب عن دعوته ، ولذلك جردت الجملة عن العاطف.

وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه ، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه ، فهو مستعمل في معناه الكنائيّ أيضا. وقد يكون مرادا منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية ، أو استعمال النّداء في حقيقته ومجازه.

وقولهم : (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) [هود : ٥٩] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود ـ عليه‌السلام ـ.

ولعل آيته أنّه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطّراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم ، كما يشير إليه

٢٧٩

قوله تعالى : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥].

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من الأنبياء نبيء إلّا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث.

وإنما أرادوا أن البيّنات التي جاءهم بها هود ـ عليه‌السلام ـ لم تكن طبقا لمقترحاتهم. وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ). ولم يجعلوا (وَما نَحْنُ بِتارِكِي) مفرّعا على قولهم : (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ).

و (عَنْ) في (عَنْ قَوْلِكَ) للمجاوزة ، أي لا نتركها تركا صادرا عن قولك ، كقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف : ٨٢]. والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم.

وجملة (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) استئناف بياني لأنّ قولهم : (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) من شأنه أن يثير للسامع ومن معه في أنفسهم أن يقولوا إن لم تؤمنوا بما جاء به أنّه من عند الله فما ذا تعدّون دعوته فيكم ، أي نقول إنك ممسوس من بعض آلهتنا ، وجعلوا ذلك من فعل بعض الآلهة تهديدا للنّاس بأنه لو تصدّى له جميع الآلهة لدكوه دكّا.

والاعتراء : النزول والإصابة. والباء للملابسة ، أي أصابك بسوء. ولا شك أنهم يعنون أن آلهتهم أصابته بمسّ من قبل أن يقوم بدعوة رفض عبادتها لسبب آخر ، وهو كلام غير جار على انتظام الحجّة ، لأنه كلام ملفّق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين ، فجعلوه مجنونا وجعلوا سبب جنونه مسّا من آلهتهم ، ولم يتفطنوا إلى دخل كلامهم وهو أن الآلهة كيف تكون سببا في إثارة ثائر عليها.

والقول مستعمل في المقول اللساني ، وهو يقتضي اعتقادهم ما يقولونه.

(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦).

لما جاءوا في كلامهم برفض ما دعاهم إليه وبجحد آياته وبتصميمهم على ملازمة عبادة أصنامهم وبالتنويه بتصرف آلهتهم أجابهم هود ـ عليه‌السلام ـ بأنّه يشهد الله عليهم أنّه أبلغهم وأنّهم كابروا وجحدوا آياته.

وجملة (أُشْهِدُ اللهَ) إنشاء لإشهاد الله بصيغة الإخبار لأنّ كل إنشاء لا يظهر أثره في

٢٨٠