منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

وأما (*) ما لا ابتلاء به (١) بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة أنه (٢) بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل (٣) ، كان (٤) الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم ، فانه بدونه (٥) لا علم بتكليف فعلي ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

______________________________________________________

فلا يصدر من الحكيم ، بل النهي محال في نفسه ، لكونه طلبا للحاصل المحال ، ضرورة أن الغرض من النهي ـ وهو عدم الوقوع في المفسدة ـ حاصل بنفس خروج المتعلق عن الابتلاء ، فلا يعقل طلبه حينئذ.

(١) هذا الضمير وضمير «عنه» راجعان إلى «ما» الموصول في «ما لا ابتلاء» المراد به المورد الخارج عن الابتلاء ، وضمير «بحسبها» راجع إلى العادة.

(٢) أي : أن النهي عما لا ابتلاء به بحسب العادة بلا فائدة ، لعدم ترتب الغرض من النهي وهو كونه داعيا إلى الترك عليه ، وهذا إشارة إلى لغوية الخطاب بالخارج عن الابتلاء ، وهي تستفاد أيضا من كلام الشيخ الأعظم : «والسّر في ذلك أن غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه».

(٣) لحصول الغرض من النهي وهو ترك المفسدة بالترك الحاصل قهرا بنفس عدم الابتلاء ، ومعه يستحيل طلب الترك بالخطاب.

(٤) جواب «لما» في قوله : «لما كان النهي عن الشيء ... إلخ».

(٥) أي : بدون الابتلاء بجميع الأطراف ، وضمير «فانه» للشأن ، وضمير «منه» راجع إلى «ما» الموصول ، وحاصله : أنه بدون الابتلاء بتمام الأطراف ـ بحيث يكون قادرا عادة بالمعنى المتقدم على ارتكاب أي واحد منها شاء ـ لا علم

__________________

(*) الأولى بحسب السياق أن تكون العبارة هكذا : وأما ما لا يمكن عادة ابتلاؤه به فليس للنهي عنه ... إلخ.

٨١

ومنه (١) قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر (*)

______________________________________________________

بتكليف فعلي ، لاحتمال كون موضوعه ما هو خارج عن الابتلاء ، ولذا لا يجب الاحتياط حينئذ في سائر الأطراف ، لعدم دوران متعلق التكليف الفعلي بينها بالخصوص مع احتمال كونه هو الطرف الخارج عن الابتلاء ، فلا يكون التكليف الفعلي في الأطراف المبتلى بها محرزا حتى يجب فيها الاحتياط.

(١) يعني : ومن كون النهي عن الشيء لأجل احداث الداعي إلى الترك يظهر ما هو الملاك في الابتلاء المصحّح لفعلية الزجر ، ومحصله : أن انقداح طلب الترك الفعلي في نفس المولى تابع لإمكان حصول الداعي إلى الفعل في نفس العبد ، فان أمكن للعبد إرادة شيء جاز للمولى طلبه منه ، إذ لا يريد إلّا ما يمكن للعبد إرادته ، لقبح التكليف بغير المقدور. وحينئذ فان علم العبد بتكليف مردد بين أمور ، فان أمكنه إرادة فعل كل واحد منها أمكن أيضا للمولى إرادته وطلب ذلك منه ، وإلّا فلا. وهذا مرادهم بقولهم : ان الإرادة الآمرية تابعة للإرادة المأمورية ،

__________________

(*) ثم انه يمكن معرفة مورد الابتلاء عن غيره بحيث يكون ذلك معيارا له بتبديل العلم الإجمالي بالتفصيلي بالنسبة إلى الطرف الّذي لا يعلم الابتلاء به لبعده ، أو لمنع مانع من الوصول إليه ، أو لبعد اتفاق الابتلاء به عادة ، كما إذا أراد شراء دار للسكنى في بلد يعلم بغصبيتها أو غصبية دار أخرى في بلد آخر ، فمع فرض علمه تفصيلا بغصبية الدار التي تكون في غير محل سكناه ان لم يكن له شغل بها ولا مما يحتمل السكنى فيها فحينئذ لا عبرة بهذا العلم الإجمالي أصلا. هذا. وقد جعل شيخنا الأعظم المعيار في الابتلاء حسن الخطاب ، حيث قال : «والمعيار في ذلك وان كان صحة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بالنجاسة وحسن ذلك ...» وهذا لا يختلف عما أفاده المصنف غير أنه تعبير له بالملزوم وكلام الشيخ تعبير له باللازم.

٨٢

وانقداح (١) طلب تركه في نفس المولى فعلا هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من (٢) الحال.

ولو شك في ذلك (٣) كان المرجع هو البراءة ،

______________________________________________________

أو : الإرادة التشريعية تابعة للإرادة التكوينية. كما أن إرادة العبد في مقام الامتثال وانبعاثه تابعة لإرادة المولى وبعثه ، لأنها علة لإرادة العبد كما ثبت في محله.

(١) عطف تفسيري لـ «فعلية» والأولى إضافة «عنه» إلى كلمة «الزجر» وضمير «هو» خبر «أن الملاك».

(٢) بيان للموصول في «ما هو» وضمير «هو» راجع إلى الفعل المنهي عنه وضمير «عليه» راجع إلى الموصول ، وضمير «اطلاعه» إلى المولى ، يعني : أن المولى إذا اطلع على حال الفعل من حيث كونه داخلا في الابتلاء أو خارجا عنه ، فان رأى صحة انقداح الداعي في نفس العبد إلى فعله صحّ له الزجر عنه ، وإلا فلا. هذا تمام الكلام في اعتبار الابتلاء والعلم به.

(٣) يعني : في الابتلاء ، وهذا شروع في الجهة الثانية من جهتي هذا التنبيه وهي بيان حكم الشك في الابتلاء ، كما إذا علم إجمالا بأن دارا مغصوبة مرددة بين هذه الدار التي يريد المكلف شراءها ودار أخرى في بلد آخر يشك المكلف في دخولها في محل الابتلاء وخروجها عنه ، فهل يكون هذا العلم الإجمالي منجزا وأن مشكوك الابتلاء به محكوم بحكم ما هو معلوم الابتلاء به أم لا يكون منجزا وأن مشكوك الابتلاء محكوم بحكم ما هو خارج عنه قطعا؟ فيه خلاف بين شيخنا الأعظم والمصنف (قدهما) فذهب الشيخ إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الابتلاء به ، وتمسك لذلك بالأصل اللفظي أعني أصالة الإطلاق المقتضية لتنجز الخطاب بالمعلوم الإجمالي ، وذهب المصنف إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الخروج

٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عن محل الابتلاء ، وأورد على الشيخ بما سيأتي ، ثم جعل المرجع في الشك في الابتلاء أصالة البراءة عن التكليف.

ولتوضيح كلامهما (قدهما) نقول : أما الشيخ فانه وان قرّب أوّلا التمسك بالبراءة ـ لأنه من دوران التكليف بين المطلق والمشروط ومن موارد الشك في تحقق الشرط الّذي لا يكون المرجع فيه إلّا أصالة البراءة ، حيث قال : «نعم يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه الا معلقا الأصل البراءة من التكليف المنجز» ـ لكنه عدل بعد ذلك إلى التمسك بأصالة الإطلاق ، وقال : «... وأما إذا شك في قبح التنجيز فيرجع فيه إلى الإطلاقات ، فمرجع المسألة إلى أن المطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد التعذر ضبط مفهومه هل يجوز التمسك به أو لا؟ والأقوى الجواز».

وحاصله : أنه لا شك في فعلية التكليف وتنجزه مع العلم بمعرضية الأطراف للابتلاء بها ، كما لا شك في عدم فعليته مع العلم بخروج بعضها عن محل الابتلاء. وأما إذا شك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء من جهة الشك في مفهومه سعة وضيقا وعدم تعين حدوده لعدم الإحاطة بحقيقته العرفية كان مقتضى إطلاق الهيئة مثل «لا تشرب الخمر» فعليه التكليف في الطرف المبتلى به ، إذ لو كان الطرف المشكوك فيه خارجا عن مورد الابتلاء به كان الخطاب بالنسبة إليه مقيدا ، فانه بمنزلة قوله : «لا تشرب الخمر ان ابتليت به» ولو كان داخلا فيه لم يكن الحكم مقيدا به ، ومن المعلوم أن المرجع في الشك في أصل التقييد وفي التقييد الزائد هو إطلاق الخطاب ، إذ الخارج عنه قطعا بملاحظة الاستهجان العرفي هو ما لا ابتلاء به أصلا ، وأما المشكوك خروجه عن الابتلاء فهو مما يشمله الإطلاق ، ولا بد من الاحتياط ، ومعه لا تصل النوبة إلى التمسك بالأصل العملي المحكوم من

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتياط والبراءة. هذا محصل ما أفاده الشيخ الأعظم (قده).

وأما المصنف فقد التزم بالرجوع في مورد الشك إلى أصل البراءة ، لأنه من الشك في التكليف الفعلي الّذي هو مجرى الأصل النافي ، لإناطة فعلية الحكم بالابتلاء بالمتعلق ، ومع الشك في الابتلاء به يشك في نفس الحكم. وأصالة الإطلاق وان كانت حاكمة أو واردة على الأصول العملية ، إلّا أنه لا سبيل للتمسك بها هنا ، وذلك لأن القيد تارة يكون مصحّحا للخطاب بحيث لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية ، لقبح التكليف بغير المقدور. وأخرى لا يكون كذلك بل يصح الخطاب بدونه كما يصح تقييده به أيضا كالاستطاعة الشرعية بالنسبة إلى وجوب الحج ، إذ يمكن توجيه الخطاب إلى المكلف القادر عقلا على الحج وان لم يكن مستطيعا شرعا كما يصح توجيه الخطاب إليه مقيدا بالاستطاعة أيضا ، فإذا شك في دخل الاستطاعة الشرعية فمقتضى إطلاق وجوب الحج عدم دخلها فيه ، نظير إطلاق الرقبة في قوله : «أعتق رقبة» في التمسك به عند الشك في تقيدها بالايمان.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن التمسك بإطلاق الخطاب انما يصح إذا كان ما شك في قيديته من قبيل القسم الثاني ، لصحة الإطلاق ـ بمعنى رفض القيد المشكوك اعتباره ـ حينئذ قطعا ، وبالتمسك به ينتفي الشك في إطلاق الحكم ثبوتا ، لكشف إطلاقه إنّا في مقام الإثبات عن إطلاقه ثبوتا ، فيثبت إطلاق الحكم واقعا بالنسبة إلى القيد الّذي يكون من قبيل القسم الثاني كالاستطاعة.

وأما إذا كان القيد من قبيل القسم الأول وهو ما لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية أو العادية التي منها الابتلاء ، فلا معنى للتمسك بالإطلاق في مرحلة الإثبات ، لعدم إمكان الإطلاق في مقام الثبوت بعد دخل القدرة في التكليف حتى يستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات ، فكل خطاب محفوف بمقيد عقلي وهو كون متعلقه مقدورا

٨٥

لعدم (١) القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب (٢) ، ضرورة (٣) أنه لا مجال للتشبث به (٤) الا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد (٥) الفراغ عن صحة

______________________________________________________

عقلا ومبتلى به عادة ، ولا يمكن تشريع الخطاب بنحو الإطلاق من هذا القيد العقلي ثبوتا حتى تصل النوبة إلى الإطلاق إثباتا ، ومع تقيد إطلاق الحكم بالقدرة العادية لا يبقى إطلاق في مثل قوله : «لا تشرب الخمر» حتى يتمسك به في الشك في الابتلاء. فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في أصل الحكم ، والمرجع فيه أصالة البراءة.

وبعبارة أخرى : التمسك بالإطلاق منوط بإحراز صحة إطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، وكون الشك متمحضا في مطابقة الإطلاق للواقع. فلا يصح التمسك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه كالابتلاء فيما نحن فيه.

(١) هذا تعليل لجريان البراءة ، ومحصله عدم منجزية العلم الإجمالي المثبت للتكليف ما لم يكن المعلوم حكما فعليا على كل تقدير ، وذلك منوط بالابتلاء بتمام الأطراف ، والمفروض عدم إحراز الابتلاء بجميعها ، فيصير الحكم مشكوكا فيه ، فتجري فيه البراءة.

(٢) كما عوّل عليه الشيخ بقوله فيما تقدم من عبارته : «والأقوى الجواز».

(٣) تعليل لعدم صحة التمسك بإطلاق الخطاب ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وذلك لأن القيد تارة يكون مصححا للخطاب ... إلخ».

(٤) أي : بالإطلاق ، وضمير «أنه» للشأن ، و «بشيء» متعلق بـ «التقييد» وضمير «بدونه» راجع إلى التقييد بشيء ، أو إلى الشيء ، وذلك كالابتلاء الّذي يتقيد كل خطاب به.

(٥) متعلق بـ «شك» وإشارة إلى القسم الثاني من قسمي دخل القيد في الخطاب

٨٦

الإطلاق بدونه ، لا (١) فيما شك في اعتباره في صحته (٢) (*)

______________________________________________________

كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فانه يصح التمسك بإطلاق الرقبة إذا شك في تقيدها به ، وضمير «بدونه» راجع إلى «شيء».

(١) معطوف على «فيما إذا شك» وإشارة إلى القسم الأول من قسمي القيد وهو ما اعتبر في صحة نفس الخطاب ، يعني : أنه لا يصح التمسك بالإطلاق فيما شك في تحقق ما اعتبر في صحة الإطلاق بدونه كالابتلاء ، فانه لا يصح الخطاب بدونه ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «لا فيما إذا شك في وجود ما اعتبر قطعا في صحة نفس الخطاب».

ثم ان الشك في الابتلاء تارة يكون بنحو الشبهة المفهومية ، وهذا هو محط بحث شيخنا الأعظم من التمسك بالإطلاق أو الرجوع إلى البراءة ، حيث قال : «ان المطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد لتعذر ضبط مفهومه ...» وان كان كلامه قبله : «لكن شك في تحققه أو كون المتحقق من أفراده كما في المقام» شاهدا على جريان النزاع في الشبهة المصداقية أيضا كالشبهة في الصدق. وأخرى يكون بنحو الشبهة الموضوعية كما إذا علم بحدود مفهوم الابتلاء وشك في انطباق المفهوم المبيّن على المصداق الخارجي لأمور خارجية ، كما إذا علم بخروج الشيء الفلاني عن مورد الابتلاء إذا كان خارج المنطقة الكذائية ، ولكن شك في خروج هذا المكان عن تلك المنطقة ودخوله فيها لظلمة أو غيرها من الأمور الخارجية الموجبة لهذا الشك.

(٢) أي : في اعتبار ذلك المشكوك ـ كالابتلاء ـ في صحة الإطلاق.

__________________

(*) نعم لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته ووجود الابتلاء المصحّح لها كما لا يخفى ، فافهم.

٨٧

تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى (*)

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(*) وتفصيل الكلام : أنه قد اختلفت كلمات الأعلام في شرطية الابتلاء لمطلق التكاليف وعدمها كذلك ، والتفصيل باعتباره في المحرمات دون الواجبات على أقوال ثلاثة ينبغي التعرض لها وبيان ما هو الحق منها.

ولا بأس قبل الخوض في المطلب بالتنبيه على أمر وهو : أن الشيخ الأعظم استشهد ببعض الفروع الفقهية على اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف وجعل وجه عدم منجزية العلم الإجمالي فيها خروج بعضها عن محل الابتلاء. لكن الإنصاف عدم ابتناء الحكم بعدم منجزيته في بعضها على الخروج عن الابتلاء ، كما في علم إحدى الضرّتين بأنها المطلقة أو ضرّتها ، وكالعلم الإجمالي لواجدي المني في الثوب المشترك ، فان كل شخص موضوع لحكم على حدة ، فلاحظ وتأمل.

نعم يمكن أن يكون من فروع المسألة ما لو علم الزوج بارتداد بعض زوجاته مع غيبة بعضهن ، لجواز إجراء استصحاب الزوجية بالنسبة إلى الحاضرة وترتيب آثارها عليها ، وعدم جريان الاستصحاب في حق الغائبة حتى يقع التعارض. وقد تعرض المحقق الآشتياني في الشرح لهذا الفرع وغيره من الفروع التي ينحصر وجه عدم منجزية العلم الإجمالي فيها خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، فراجع (١).

وكيف كان فينبغي البحث في مقامين : أحدهما في الدليل على اعتبار الابتلاء في تنجز الحكم مطلقا ، وعدمه كذلك ، والتفصيل بين الواجبات والمحرمات.

ثانيهما في حكم الشك في الابتلاء ، فنقول وبه نستعين :

أما المقام الأول فمحصله : أنك قد عرفت الاستدلال على شرطية الابتلاء بالاستهجان واللغوية وطلب الحاصل. وقد أورد عليه بالنقض بصحة خطاب العصاة من

__________________

(١) بحر الفوائد ، ج ٢ ، ص ١٠٣

٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المسلمين ، فان المولى مع علمه بعدم ترتب انبعاث العبد وانزجاره عليه كيف تتمشى منه الإرادة والكراهة الجزميتان. وبصحة تكليف الكفار بالفروع بنفس الوجه. وعدم قبح تكليف غالب المكلفين ـ خصوصا أرباب المروات ـ ونهيهم عن بعض المحرمات كأكل الحشرات والقاذورات وكشف العورة مع أن دواعيهم مصروفة عنها قطعا ، وأمرهم بالإنفاق على الزوجة والأولاد ونحوه مما يكون بناؤهم على العمل به وعدم تركه ولو لم يشرّع خطاب أصلا. نعم منشأ لغوية الخطاب في الابتلاء وان كان هو بعد المسافة مثلا وفي مورد النقض الصارف النفسانيّ المانع عن الارتكاب. لكن هذا غير فارق. والالتزام بعدم الأمر والنهي المولويين في الموارد المذكورة كما ترى.

ولا يخفى أن النافي لشرطية الابتلاء في فسحة من هذا النقض ، لصحة التكليف في تمام هذه الموارد. إلّا أن المحقق النائيني (قده) مع التزامه باعتبار الابتلاء في خصوص التكاليف التحريمية أجاب عنه بما محصله : «الفرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم إرادته كذلك ، لكون الأولى من الانقسامات السابقة على الخطاب ، فيمكن دخلها فيه بحيث تكون من قيود موضوع الخطاب كالبلوغ والعقل ، وهذا بخلاف الإرادة والإطاعة ونحوهما مما يكون متأخرا عن الخطاب ومترتبا عليه ، فان مثلها يمتنع دخله فيه. فلا يمكن أن يتقيد التكليف بحال وجود إرادة العبد ولا بحال عدمها لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد. وعليه فاستهجان الخطاب ثابت عند عدم القدرة العقلية والعادية ، بخلاف عدم الإرادة ، فالقياس مع الفارق» (١)

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٧

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أقول : ما أفاده من الفرق بين القدرة والإرادة وان كان متينا في نفسه ، إذ لا سبيل لتقييد الخطاب بما هو متأخر عنه وكالمعلول له ، لا وجودا للزوم طلب الحاصل ، ولا عدما للزوم اجتماع المتنافيين ، فلا بد من إطلاق الخطاب لحال وجود إرادة المكلف وعدمها ، إلّا أن المدعى عدم إمكان تأثير إيجاب الشارع مع بناء المكلف على الإتيان بالفعل ، وعدم تحقق انبعاثه عن أمر المولى مع عزمه على الفعل ، وبتعذر الانبعاث يتعذر البعث الجدّي من المولى ، لأن البعث والانبعاث متضايفان متكافئان في الفعلية والقوة ، فالمحذور الّذي يدعيه المصنف في الحاشية باق بحاله ، هذا.

مضافا إلى أن استحالة تقييد الخطاب بالإرادة لا يقتضي ضرورة الإطلاق ، بل تقتضي امتناعه بناء على كون تقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة كما هو مذهبه (قده).

ثم انه قد استدل لعدم اعتبار الابتلاء بأمور :

الأول : ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) ومحصله : «أن حقيقة التكليف ليست هي جعل الداعي الفعلي إلى الفعل والترك حتى يستحيل في فرض وجود الداعي النفسانيّ ، بل هي جعل ما يمكن أن يكون داعيا بحيث لو انقاد العبد للمولى لانقدح الداعي في نفسه بدعوة البعث والزجر ، وغاية ما في عدم الابتلاء بالمتعلق هو عدم وجود الداعي له ، ولكنه غير مانع من جعل الداعي الإمكاني ، ولولاه لم يصح توجيه الخطاب إلى العاصي ، فانه لا داعي له إلى الامتثال بل له الداعي إلى الخلاف. ولو بطل التكليف مع عدم الداعي الفعلي للزم بطلان النهي لمن لا داعي له حتى إذ كان المتعلق محل ابتلائه. وليس كذلك قطعا ، لصحة التكليف في الفرض. فتمام المناط هو إمكان الدعوة ، ولا معنى للإمكان الا الذاتي والوقوعي ،

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيجتمع مع الامتناع بالغير أي بسبب حصول العلة فعلا أو تركا من قبل نفس المكلف.

وبهذا يرتفع محذور اللغوية وطلب الحاصل. ويبقى محذور الاستهجان العرفي ، وقد دفعه بما حاصله : عدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف ، إذ مدار صحة الخطاب على حسنه العقلي ، ومرجعية العرف انما هي في فهم الخطاب الملقى إليهم ، وتعيين حدود مفهوم متعلقه ، ومن المعلوم أن العقل بمجرد قدرة العبد يحكم بحسن الخطاب وان كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء» (١).

الثاني : أن المحاذير المتقدمة من الاستهجان واللغوية وطلب الحاصل انما تترتب إذا كان الغرض من الأمر تحقق الفعل كيف ما اتفق ومن النهي ترك المنهي عنه كذلك ، كما هو الحال في الأحكام العرفية بين الموالي والعبيد. وأما إذا كان المقصود الإتيان بالفعل المستند إلى أمر المولى والمضاف إليه وترك المنهي عنه كذلك ليحصل الكمال النفسانيّ للمكلف ، كان الأمر والنهي مما لا بد منه لأجل تحصيل الملكة الفاضلة المتحققة بالاستناد ، وبهذا يندفع محذور لغوية الخطاب وطلب الحاصل ، لتوقف حصول غرض المولى ـ وهو الفعل المستند والترك كذلك ـ على بعثه وزجره. ومن المعلوم أن وجود الداعي النفسانيّ إلى الفعل أو الترك لا ينافي قصد القربة المعتبر في صحة العبادات ، وفي تحقق الامتثال في غيرها بنحو الإطلاق ، بل قد يجتمعان (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٥٢

(٢) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٣٩٥

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثالث : أن قبح التكليف بالخارج عن الابتلاء انما هو في الخطابات الشخصية المتوجهة إلى آحاد المكلفين ، كما إذا خوطب زيد وعمرو بوجوب الاجتناب عن الخمر الموجود في بلاد الكفر ، وأما الأحكام الشرعية التي هي أحكام كلية مجعولة على الجميع نظير القوانين العرفية المجعولة لحفظ النظام ، فليس فيها الا خطاب واحد قانوني يعم المكلّفين المختلفين حسب الحالات والعوارض ، ولا يقدح في صحة خطاب «يا أيها الذين آمنوا» و «يا أيها الناس» عجز بعضهم عن الامتثال فالحكم فعلي في حق الجميع ، غير أن العجز والجهل عذر عقلي مانع عن تنجز التكليف في حق العاجز والجاهل ، والملاك في صحة الخطاب صلوحه لبعث عدد معتد به لا تمامهم ، والاستهجان انما يلزم لو علم المتكلم بعدم تأثير ذلك الخطاب العام في كل المكلفين. وعليه فلا تتقيد التكاليف الشرعية بالدخول في محل الابتلاء.

هذه عمدة ما ظفرنا عليه من الوجوه لعدم اعتبار الابتلاء في فعلية التكاليف. وفي المسألة بعض الوجوه الأخرى مثل ما اعتمد عليه المحقق النائيني (قده) في دورته الأولى من تمامية الملاك في صورة عدم الابتلاء أيضا. لكنه عدل عنه في دورته الأخيرة. وهو الحق ، لعدم كون الملاك غير المطالب بسبب الخروج عن محل الابتلاء مثلا موضوعا لاستحقاق المؤاخذة على مخالفته ، فتأمل.

وكذا ما أفاده المصنف في الفوائد (١) من أن خطاب «لا تشرب الخمر» بوجوده الإنشائي شامل للداخل في الابتلاء والخارج عنه ، لأنه خطاب عام على نحو القاعدة والقانون ، إلّا أنه لا يكون تحريما وزجرا فعليا إلّا عما كان مورد الابتلاء. ويكفى في صحة التحريم الإنشائي وجود المقتضي للتحريم وان لم تتحقق العلة التامة ، فمرتبة من الحكم يشترك فيها الجميع ومرتبة أخرى تختص ببعضهم.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٣٢٠

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وهذا الوجه كما ترى لا يجدى أيضا بناء على عدم كون الحكم الإنشائي واجدا لما هو المناط للحكم. وهل ينفع هذا المقدار لصحة التمسك بالخطاب عند الشك في الابتلاء أم لا؟ فيه كلام لعلنا نتعرض له في حكم الشك في الابتلاء هذا.

وأما تلك الوجوه الثلاثة فالظاهر عدم وفاء شيء منها بحل الإشكال.

أما الوجه الأول ـ وهو تصحيح الخطاب بإمكان الدعوة ـ فلأن مفاد صيغتي «افعل ولا تفعل» وان كان هو ما يمكن أن يكون باعثا وزاجرا كما أفاده (قده) إلّا أن إمكان الداعوية هنا إمكان الداعوية هنا إمكان استعدادي وهو ما يترقب منه بلوغه من القوة إلى الفعل كما في نظيره من التكوينيات ، فان الشجرة ثمرة بالإمكان ، وحيث ان المفروض وجود الصارف النفسيّ عن شرب الخمر أو خروجه عن معرضية الابتلاء به مدة العمر ، فما ذا يترتب على جعل الزاجر الإمكاني الّذي لا يصير زاجرا بالفعل أبدا؟ وقياس الإمكان الذاتي هنا بإمكان الماهيات الّذي لا ينافيه الامتناع بالغير بسبب عدم حصول العلة يكون مع الفارق ، فان إمكان الماهية ليس مجعولا اعتباريا للحكيم ، ولذا يجتمع بسبب وجود علته وعدمها مع الوجوب بالغير والامتناع كذلك ، وهذا بخلاف الحكم الشرعي ، فانه مجعول اعتباري للشارع ، وحقيقة الحكم الجدي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي بالإمكان ، ومن المعلوم أن جعل الممكن المستعد إذا لم يترقب منه الدعوة الفعلية في زمن التكليف ولو مرة واحدة لغو ، بل طلب للحاصل.

نعم ما أفاده ينحل به النقض بتكليف العاصي ، حيث ان عدم فعلية البعث والزجر الإمكانيين فيه انما هو لأجل إيجاد موانع العبودية بسوء اختياره ، وإلّا فالمقتضي

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للجعل موجود ، وتأثيره الفعلي منوط بتخلية النّفس عما يزاحم الانقياد للمولى وإطاعة أحكامه. وهذا بخلاف من هو فاعل بالطبع أو تارك كذلك ، إذ لا مقتضي لبعثه الإمكاني ، لفعلية ما يترتب على جعل الإمكان الاستعدادي الناشئة من الداعي النفسانيّ. وعليه فما استدل به على اعتبار الابتلاء لا يندفع بهذا الوجه.

وأما الوجه الثاني ـ أعني كون الغرض من التكليف الاستناد إليه في مقام العمل ـ فهو انما يتم في العبادات التي يعتبر في صحتها إضافتها إلى المولى. وأما التوصليات ـ وهي العمدة في محل البحث ـ فلا شك في قيام الغرض فيها بذات الفعل ، واكتفاء الشارع بالعمل المجرد عن الاستناد إليه أيضا ، فلو كان الغرض قائما بخصوص الفعل المستند إليه لزم كون تشريع الواجب أوسع دائرة من الغرض الداعي إلى الجعل إذ المفروض سقوطه بكل من الفعل المستند إليه وغير المستند إليه ، ومن المعلوم أن شمول الحكم لحالات المكلف لا يمكن إلّا عن ملاك ينبعث منه الحكم الكذائي ، ومع فرض صحة الواجب التوصلي بلا استناد ـ بل ومع صدوره غفلة ـ كيف يدعى قيام الغرض بخصوص الفعل المستند؟ والتفكيك بين الملاك والحكم الناشئ منه واضح البطلان ، لأنه خلاف مقتضى تبعية الأحكام لملاكاتها.

هذا مضافا إلى أن ما أفاده في آخر كلامه من «حصول الامتثال إذا كان كل واحد من الداعي النفسانيّ والأمر الإلهي سببا تاما في عالم الاقتضاء بمعنى أن يكون كل واحد منهما كافيا في تحقق الفعل أو الترك مع عدم الآخر» لا يخلو من غموض ، إذ لو فرض قيام الأغراض بالأفعال والتروك المستندة إلى الأوامر والنواهي الشرعية ، فانما يراد بها الاستناد الفعلي لا التقديري ، ومن المعلوم أنه مع وجود الصارف النفسانيّ لا يبقى مجال للاستناد إلى الزاجر الشرعي ، فيعود محذور اللغوية.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم لو لا الداعي النفسانيّ إلى الترك لكان المكلف منزجرا بالاستناد إلى النهي الإلهي ، إلّا أن ذلك استناد تعليقي لا عبرة به ، إذ الموجب لكمال النّفس هو الاستناد الفعلي كما لا يخفى.

وأما الوجه الثالث ـ وهو كون القضايا الشرعية كالقوانين العرفية وليست أحكاما شخصية ـ ففيه أولا : أن القضايا الشرعية الكلية إمّا من القضايا الحقيقية التي ينشأ الحكم فيها على الموضوع المفروض وجوده ، وإما من القضايا الطبيعية التي ينشأ الحكم فيها على الطبيعة ويثبت للأفراد من باب الانطباق ، فخطاب «كتب عليكم الصيام» مثلا إنشاء لوجوب الصيام على المؤمن الّذي له وحدة نوعية ، وهذا الخطاب وان كان واحدا ، لكنه يشمل كل فرد من أفراد المكلفين إما لكون القضية حقيقية ، واما لانطباق الطبيعة عليه. وبعد اختصاص كل مكلف بخطاب يعود ما تقدم من المحذور. ومجرد تبعية الأحكام للملاكات التي لا دخل لعلم المكلف وجهله وقدرته وعجزه فيها لا ينفع شيئا ، إذ الكلام في استهجان خطاب التارك للمنهي عنه بطبعه لا في وجود المناط في الخارج عن الابتلاء ، فانه ليس محل البحث.

وثانيا : أنه ـ مع تسليم كفاية انبعاث الغالب أو العدد المعتد به وانزجاره في صحة إنشاء الخطاب القانوني ـ لا يسند به باب النقض ببعض ما يعلم بضرورة الفقه حرمته شرعا مع عدم ميل جل الناس ـ بل كلهم ـ إلى ارتكابه لو لا طروء العنوان الثانوي ، نظير أكل الميتة التي صارت جيفة ، فان من له أدنى مسكة يتنفر عنها بالطبع قطعا ، فيلزم عدم جعل حرمة أكلها لهؤلاء ، ومن المعلوم أنه مخالف لما يعلم من الدين ضرورة ، ونظيره من الأحكام التي لا تؤثر في إرادة المكلف وكراهته غير عزيز.

وقد تحصل : أن محذور الاستهجان العرفي في الخطاب بالخارج عن الابتلاء

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الّذي هو كالقرينة المتصلة الحافة بالإنشاءات الشرعية باق على حاله ، ولم يندفع بالوجوه المتقدمة ، ولذا فلا مناص من الالتزام بشرطية الابتلاء. وأما النقض بمخاطبة العاصي ونحوه فيندفع بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من أن حقيقة التكليف جعل الداعي الإمكاني ، ومن المعلوم أن مثله يتمكن من الانبعاث والانزجار برفع موانع العبودية عن نفسه. وأما من له صارف طبعي عن ارتكاب محرّم فيكفي في خروج الخطاب عن اللغوية في حقه إمكان استناده إلى الشارع في مقام التقرب إليه تعالى. وعليه فالاستدلال على اعتبار الابتلاء بالاستهجان العرفي سليم عن الإشكال حلّا ونقضا ، والله تعالى هو العالم.

وأما المقام الثاني : أعني به حكم الشك في الابتلاء ، فهو تارة يكون من جهة الشك في أصل دخل الابتلاء بموضوع التكليف في فعلية الحكم وتنجزه ، وأخرى من جهة الشبهة في الصدق بعد إحراز أصل الدخل ، وثالثة من جهة الشبهة المصداقية. وفي شرح المحقق الآشتياني أن كلام الشيخ الأعظم في حكم الشك في الابتلاء ومرجعية الأصل اللفظي أو العملي فيه شامل للموارد الثلاثة. لكنه لا ريب في كون الشبهة المفهومية والمصداقية محط نظره الشريف ، وقد نقلنا بعض عباراته في التوضيح فلاحظ ، ومعه لا وجه لدعوى اقتصار كلام الشيخ على بيان حكم الشبهة المصداقية فحسب.

وكيف كان فهل المرجع إطلاق أدلة الأحكام الأولية فيما إذا كان دليل الإيجاب أو التحريم لفظيا فيلحق مشكوك الابتلاء ـ بجهاته الثلاث ـ بمعلومه ، أم الأصل العملي وهو إما البراءة كما في المتن أو الاحتياط كما في تقرير بحث شيخنا المحقق العراقي (قده)؟ فيه وجهان.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أما وجه التمسك بأصالة الإطلاق ـ بحيث يصح الرجوع إليها في كل من الشك في أصل دخل الابتلاء وفي الصدق والمصداق ـ فحاصله : أن خطاب «انما حرم عليكم الميتة مثلا» مطلق شامل للميتة الداخلة في محل الابتلاء والخارجة عنه ، والشك في اعتبار الابتلاء به شك في أصل التقييد ، وقضية إطلاق الهيئة عدم التقييد ، على ما تقرر من اقتضاء الأصل اللفظي إطلاق الوجوب فيما إذا شك في أصل اشتراطه بشيء.

وكذا فيما إذا شك فيه من جهة الشبهة المفهومية ، فانه يتمسك بأصالة الإطلاق أيضا إذا كان المقيد والمخصّص منفصلا مرددا بين الأقل والأكثر أو بحكمه وهو المخصص اللبي الّذي لا يحكم به العقل بالضرورة بل بالنظر والتأمل ، كما إذا علم المكلف بخروج الميتة الموجودة في بلاد الهند مثلا عن محل الابتلاء ، ودخول الميتة الموجودة في البلد الّذي يسكن فيه وما يجاوره من المدن في مورد الابتلاء ، وشك في الابتلاء بالميتة الموجودة في البلاد المتوسطة بين بلده وبلاد الهند ، لوجود مراتب متفاوتة للقدرة العادية والعرفية أوجبت الشك فيه ، فان مقتضى حجية الإطلاق فيما عدا القدر المتيقن من التقييد إلحاق مشكوك الابتلاء بمعلومه ، كما يتمسك بعموم «أكرم الأمراء» بعد تخصيصه منفصلا بـ «لا تكرم الفساق» في وجوب إكرام من ارتكب منهم صغيرة بلا إصرار ، وبه يرتفع الإجمال عنه.

وكذا يصح التمسك بالإطلاق فيما إذا كان الشك في الابتلاء من جهة الشبهة المصداقية ، كما إذا علم أن الميتة الموجودة في بلاد الهند مثلا خارجة عن محل ابتلائه ، والموجودة في بلاد مملكته داخلة فيه ، وشك لأجل أمور خارجية في أن البلد الّذي فيه الميتة هو من بلاد مملكته أم من بلاد مملكة الهند. والوجه في حجية

٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإطلاقات في مثل المقام تفصيل شيخنا الأعظم كما في التقريرات المنسوبة إليه (قده) بين المخصص الّذي له عنوان ـ كأغلب ما يكون لفظيا ـ وبين ما لا عنوان له كأكثر ما يكون لبيا ، وفي الثاني يرجع إلى العام ، لأنه في حكم المخصص المنفصل اللفظي المردد بين الأقل والأكثر الّذي لا يسري إجماله إلى العام (١).

إلّا أنه قد يمنع من فرض الشبهة هنا مفهومية أو مصداقية بما أفيد من أن الحاكم باعتبار الابتلاء في مقام التنجز هو العقل والعرف اللذان لا يدور حكمهما مدار صدق مفهوم مجمل ، بل يتعلق حكمهما بنفس المصاديق من حيث هي ، فالخارج عن عموم الخطابات انما هو العاجز الواقعي بأشخاصه لا بعنوانه ، وليس هنا عنوان لفظي حتى يؤخذ بعموم لفظه عند الشك في شموله لمشكوك الفردية ويحكم فيه بنفي الحكم عنه ، فالمتجه الرجوع إلى الإطلاق في غير المعلوم خروجه عن الابتلاء ، فالمقام أجنبي عن مسألة التمسك بالعامّ في الشبهة المفهومية والمصداقية (٢).

لكنك خبير بما فيه ، فان دعوى خروج ذوات المصاديق بأشخاصها لا بعنوانها عن العمومات ممنوعة ، فان خروجها انما هو لانطباق عنوان عام ذي ملاك عليها اعتبره العقل والعرف من جهة استهجان توجيه الخطاب بما هو خارج عن محل الابتلاء ، وإلّا فلا دخل للخصوصيات المفردة في خروجها عن الإطلاقات ، وانما يكون خروجها دائرا مدار صدق هذا العنوان ، فلا فرق بين كون المقيّد العقل والنقل في أن التقييد عنواني لا أفرادي ، كما هو الحال في خروج الفرد الكذائي

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ، ص ١٩٢ و ١٩٤

(٢) مصباح الفقيه ، كتاب الطهارة ، ص ٥٠ ، ونحوه في حاشية الرسائل ، ص ٨٢

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عن عموم «لعن الله بني أمية قاطبة» حيث ان خروجه عنه انما هو لأجل انطباق عنوان المؤمن الّذي استقل العقل بقبح لعنه عليه. فعلى هذا ينطبق ضابط الشبهة في الصدق والمصداق على المقام.

هذا ما يمكن أن يقال في تقريب التمسك بإطلاق الخطاب.

وقد أورد عليه تارة بمنع التمسك به مطلقا ، وأخرى في خصوص الشبهة المفهومية ، وثالثة في الشبهة المصداقية.

أما على الأول ، فأمور : أحدها : ما تقدم من المصنف في المتن ، وقد عرفته.

ثانيها : ما في حاشيته على الرسائل ، وحاصله : أن الابتلاء من قيود التنجز المتأخر رتبة عن الخطاب ومن الانقسامات المترتبة عليه ، ومعه لا يمكن لحاظ إطلاق الخطاب ولا تقييده اللذين هما في رتبة إنشائه بالنسبة إلى الابتلاء حتى يتمسك بالإطلاق لدفع الشك في اعتباره (١).

ثالثها : ما في فوائده من كون الابتلاء من شرائط فعلية التكليف المتأخرة عن مرتبة إنشائه ، ومن المعلوم عدم تكفل الإنشاء لما هو شرط للرتبة المتأخرة عنه (٢).

رابعها : ما في حاشية بعض المدققين من «أن إطلاق الخطاب انما يجدي في نفي القيود الدخيلة في فعلية الحكم شرعا ، فله أخذها ورفضها بما هو شارع وأما القيود الدخيلة في فعليته بحكم العقل كالقدرة والوصول والابتلاء ونحوها مما لا دخل له بالشارع ، فلا معنى لدفع تقيد الخطاب به بتجرد خطابه منه كما هو واضح» (٣).

وأجاب المحقق النائيني عن الأول : بأن لازم الإشكال المذكور عدم صحة

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٤٧

(٢) حاشية الرسائل ، ص ٣٢٨

(٣) نهاية الدراية ، ج ٢ ص ٢٥٤

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التمسك بالإطلاق في شيء من المقامات ، ضرورة تحقق هذا الاحتمال في جميع الموارد خصوصا على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، إذ لا طريق إلى إحراز الملاكات الا إطلاقات التي تكون الألفاظ ظاهرة فيها وكاشفة إنّا عن وجودها الداعي إلى الجعل.

والحاصل : أن السيرة العقلائية الممضاة تكشف عن التطابق بين الإرادتين الاستعمالية والجدية ما لم يترتب عليه محال.

وهذا البيان كما ترى واف بدفع الإشكال المتقدم توضيحه. إلّا أن شيخنا المحقق العراقي وجّه كلام الماتن (قدهما) بنحو آخر وهو : أن أصالة الإطلاق حكم ظاهري ، وجعله كجعل الحكم الواقعي يتوقف على عدم لغويته وترتب الأثر عليه ، فكما أن القدرة العقلية والعادية شرط في صحة الخطاب الواقعي ، كذلك شرط في صحة التعبد بصدوره وظهوره ، فلا يصح التعبد بهما بالنسبة إلى الخارج عن محل الابتلاء ، لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بمثله ، لفرض عدم القدرة العقلية والعادية عليه ، فيكون التعبد به لغوا. وعليه ، فإيجاب التعبد بالظهور الإطلاقي مشكوك فيه هنا ، للشك في طريقيته إلى الواقع للعمل به من جهة الشك في قابلية المورد لتعلق الخطاب به ، فلا قطع بحجية الخطاب حتى يتمسك بالإطلاق لإثبات التكليف الفعلي في مورد الشك.

والحاصل : أن المنع عن التمسك بالإطلاق هنا من جهة عدم إحراز قابلية المورد إثباتا لحجية الخطاب فيه من جهة الشك في القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري (١).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٤٥

١٠٠