منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن الفرق بين القول بإفادة الجملة للنفي أو النهي جوهري يظهر ثمرته في الحكومة كما سيأتي التعرض له في التنبيهات إن شاء الله تعالى ، ولا سبيل لإرجاع الثاني إلى الأول.

فالمتحصل : أن عمدة الإشكال على إرادة النهي من «لا ضرر» أمران :

أحدهما : الإجمال وعدم القرينة عليها ، إلّا أن يكون المورد قرينة عليها بالتقريب المتقدم بقولنا : «فانه بمنزلة الصغرى لأن فعله مضاره ... إلخ» فتأمل.

ثانيهما : عدم دلالته على فساد المعاملة الضررية.

٤ ـ نفي الضرر غير المتدارك

رابعها : ما عن بعض الفحول كالفاضل التوني والنراقي (قدهما) من أن المنفي هو الضرر غير المتدارك ، بمعنى نهي الشارع عن الضرر غير المجبور بشيء من الضمان ونحوه ، فالضرر المتدارك بحكم الشارع ينزل منزلة العدم ، كما هو كذلك عرفا ، ولذا لا يعدون التاجر الّذي ربح في إحدى معاملاته عشرين دينارا مثلا وخسر في بعضها هذا المقدار أيضا من التجار الذين خسروا وتضرروا في تجارتهم. وعليه «فلا ضرر» كناية عن لزوم تدارك الضرر شرعا للمتضرر.

فهذا الوجه يشترك مع الوجهين الأولين في كون المنفي هو طبيعة الضرر ، ويفترق عنهما بأنه مقيد بالتدارك. والمصحح لنفي الطبيعة فيه هو حكم الشارع بلزوم التدارك الّذي نزل وجودها منزلة العدم. ونتيجة هذا الوجه لزوم تدارك طبيعة الضرر ، هذا.

ويرد عليه أولا : أن إرادة الضرر غير المتدارك ان كانت بالاستعمال فيه مجازا فهي خلاف أصالة الحقيقة وتحتاج إلى قرينة صارفة ، وهي مفقودة. وان كانت بدال مستقل فهي خلاف أصالة الإطلاق ، ويحتاج التقييد إلى الدليل ، وهو أيضا

٦٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مفقود ، ومع الشك يكون المتبع أصالتي الحقيقة والإطلاق.

وثانيا : أن حكم الشارع بلزوم تدارك الضرر تكليفا لا يصحح نفي طبيعة الضرر بل المصحح له هو تداركه خارجا ، فان صرف وجوب رد الأموال المغصوبة على الظلمة والسارقين إلى مالكيها لا يجبر الضرر الوارد على أربابها ولا يصحح نفى طبيعة الضرر عنهم ، وانما الجابر له والمصحح لنفيها هو التدارك الخارجي ، ولذا أبدل المحقق النائيني (قده) الحكم التكليفي بالوضعي ، وهو الضمان واشتغال ذمة الضار بشرط يساره وكونه مؤديا ، فحينئذ يصح أن يقال : ان هذا الضرر المجبور بالضمان الكذائي ليس ضررا ، هذا.

أقول : هذا التقييد منه (قده) لا محيص عنه مع الإلجاء إلى الالتزام بهذا الوجه الرابع ، لكنه قد عرفت وستعرف أيضا عدم الوجه في الالتزام به.

وثالثا : أنه أخص من المدعى ، إذ ليس كل ضرر لازم التدارك تكليفا ووضعا ، كما إذا فرض غلو سعر كتاب لعزّة وجوده ، وقد طبعه شخص فصار الكتاب لكثرة وجوده رخيصا ، ومن المعلوم أن تنزل القيمة ضرر أورده طابع الكتاب على مالكه مع عدم لزوم تداركه على الطابع. وكاستيراد تاجر لمتاع عزيز الوجود غالي السعر الموجب لنزول قيمته. ونظائره كثيرة.

وبالجملة : فنفي طبيعة الضرر لأجل لزوم تداركه شرعا بعد فرض صحته لا يصح ، مع عدم لزوم ذلك في كثير من الموارد ، لاختصاصه بباب التغريمات والتضمينات ، وهو لا يكفي في صحة نفي الطبيعة المستلزم لنفي جميع أفرادها ، مع عدم كون الضرر بنفسه من موجبات الضمان.

وأما الإشكال عليه بما في رسالة الشيخ الأعظم من : «أن ظاهر قوله عليه‌السلام : لا ضرر في الإسلام كون الإسلام ظرفا للضرر ، فلا يناسب أن يراد به الفعل المضر ، وانما المناسب الحكم الشرعي الملقي للعباد في الضرر ، نظير قوله : لا حرج في

٦٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الدين» فغير ظاهر ، لعدم قرينية «في الإسلام» على كون المنفي هو الحكم ، فان الضرار أيضا منفي في الإسلام ، مع أنه لا ريب في كونه في موارد إطلاقه هو الفعل ، ولا يصح إرادة الحكم منه كما في إطلاقه على إمساك الزوجة ضرارا وغيره.

فيلزم عليه (قده) توجيه وقوع النفي في الإسلام بما يلتئم مع الفعل الضرري أيضا.

٥ ـ تحريم الضرر بالنهي السلطاني أو القضائي

خامسها : إرادة النهي من النفي ، لكن المراد به النهي السلطاني الصادر عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنه رئيس الدولة وسائسها ، لا بما أنه مبلغ أحكام الشرع عن الله عزوجل حتى يكون النهي إلهيّا كالنهي عن القمار وشرب الخمر ونحوهما من المحرمات الإلهية ، وبيانه منوط بالإشارة إلى أمور :

الأول : أنه لا إشكال في ثبوت مناصب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

منها : النبوة والرسالة أي تبليغ الأحكام الكلية.

ومنها : السلطنة على الأمة ، لكونه رئيسهم ومدبر أمورهم وسائس بلادهم ، وهم رعيته ، وأوامره بالنظر إلى هذا المنصب مولوية لا إرشادية كما في الأحكام التي يبلغها عنه تعالى ، فان إطاعتها إطاعة له تعالى لا لرسوله بما هو مبلغ الأحكام ، بخلاف أوامره السلطانية ، فانها مولوية ، وامتثالها إطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله كما إذا جعل الأمارة لشخص على الجيش ، فانه تجب إطاعته لكونه رئيسا على الأمة.

ومنها : القضاء وفصل الخصومات ، فان حكمه بموازين القضاء نافذ لا يجوز التخلف عنه. وهذه المناصب ثابتة له وللأئمة الهداة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين بالبراهين الواضحة التي ليس المقام محل ذكرها.

الثاني : كل ما ورد من رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما بلفظ «قضى» أو «حكم» أو «أمر» وأمثالها ليس المراد منه

٦٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بيان حكم الله الكلي ، ولو أريد منه ذلك كان مجازا أو إرشادا إلى حكم الله ، لظهورها في قضائه وحكمه بما أنه قاض أو سلطان ، لا من حيث انه مبلغ للأحكام ، إذ ليس للنبي حكم وقضاء بالنسبة إلى الأحكام الكلية.

بل يحمل بقرينة الحال أو المقام بعض الأحكام الواردة بعنوان «قال رسول الله أو أمير المؤمنين عليهما‌السلام» على صدور الحكم المولوي السلطاني أو القضائي لفصل الخصومة ، كما إذا ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنت رئيس الجيش» أو «هذه الدار لزيد» هذا في مقام الثبوت.

الثالث : في تأييد ما تقدم بحسب مقام الإثبات. أما ما ورد بلفظ «قضى» و «حكم» وأريد منه الحكم المولوي فأكثر من أن يحصى ، فمنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» (١) ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم بين الناس بالبينات والأيمان» (٢) ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرّجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأما ما كان من حقوق الله عزوجل أو رؤية الهلال فلا» (٣) تدل هذه الرواية على أن هذا التنفيذ وهذه الإجازة هو تنفيذ ولي الأمر والسلطان.

وأما ما ورد بلفظ «قال» مع كون المستفاد منه الأمر السلطاني فكثير ، فمنه رواية عقبة بن خالد الواردة في شق القناة بجنب قناة أخرى (٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم».

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٢ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : ١ ص ١٦٩

(٢) المصدر ، الحديث : ٣

(٣) المصدر ، الباب ١٤ ، الحديث : ١٢ ص ١٩٥

(٤) تقدم نقل هذه الروايات في ما يرتبط بكلام شيخ الشريعة ، فلاحظ ص ٥٥٦

٦٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإذا ورد عنه : «قال كذا» وشك في أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مخبر عن الله تعالى أو أمر أو نهى باعتبار المنصبين المتفرعين على الرسالة وهما الرئاسة والقضاء فالحمل على الأمر المولوي منوط بقيام قرينة من حال أو مقام.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول في توضيح إرادة النهي السلطاني من «لا ضرر» : ان هذه الجملة وردت في قصة سمرة تارة عقيب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : «اذهب فاقلعها وارم بها إليه» كما في موثقة زرارة ، وأخرى عقيب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة الفاسق : «انك رجل مضار» كما في مرسلته. كما أن هذه الجملة وقعت تارة مسبوقة بلفظ «قضى» كما في رواية عقبة بن خالد في حكاية قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنع فضل الماء ، إذ فيها «وقال لا ضرر ولا ضرار» وأخرى غير مسبوقة بلفظ قضى وشبهه كما في مرسلة الدعائم. وقد عرفت أن لفظي «قضى» و «حكم» ظاهران في المولوية لا الإرشادية ، وأن وجوب الإطاعة انما هو من جهة القضاوة والسلطنة لا من جهة الاخبار عن حكم الله الكلي.

وأما لفظا «قال ويقول» ونظائرهما ، فان وردت في مقام قطع الخصومات دلت على وجوب الإطاعة من حيث كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله قاضيا ، وان وردت في مقام جعل الأمارة لشخص دلت على الأمر السلطاني ، لكونه أميرا على الأمة.

ففي المقام تكون جملة «لا ضرر» بناء على وقوعها عقيب لفظ «قضى» كما نقل عن مسند أحمد بن حنبل برواية عبادة بن الصامت في ضمن أقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرة في كون النهي عن الضرر نهيا قضائيا تجب إطاعته من حيث انه صلى‌الله‌عليه‌وآله قاض وحاكم ، وبناء على وقوعها عقيب لفظ «فانه وقال» كما في موثقة زرارة ومرسلته من طرقنا فهي ظاهرة بعد التأمل في صدر قضية سمرة وذيلها وشأن صدور الحديث ـ وأنه من اشتكاء المظلوم عند السلطان لدفع الظلم والاعتداء ـ في صدورها منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو الآمرية بما أنه سلطان الأمة ودافع الظلم عن الرعية ، فان الأنصاري

٦٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

رفع الشكوى إليه لدفع ظلم سمرة الطاغي عنه ، لا للحكم بينه وبين سمرة ، إذ لم يكن هناك شبهة حكمية ولا موضوعية حتى يكون حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بيانا للحكم الكلي الإلهي ، لأن لزوم الاستئذان للدخول على الأجنبية حتى تتحجب كان معلوما عندهم ، ولم يكن مجرد بيان النهي الكلي مجديا في ارتداع سمرة ورفع يده عن ظلمه ، بل المجدي في ذلك هو النهي السلطاني ، ومن المعلوم أن الرجوع إليه حينئذ يناسب مقام إمارته على الأمة وكونه دافعا للظلم عنهم ، لا مجرد نبوته وتبليغه صلى‌الله‌عليه‌وآله للأحكام عنه سبحانه وتعالى.

وعليه فلا يستفاد من «لا ضرر» قاعدة كلية حاكمية على أدلة الأحكام ، كما هو مقصود أكثر من تمسك به ، بل هو حكم قضائي بناء على نقل ابن حنبل ، وسلطاني بناء على النقل من طرقنا. ونتيجته تحديد قاعدة السلطنة خاصة ، هذا.

لكنه لا يخلو من تأمل ، وذلك فان ثبوت المناصب الثلاثة المذكورة للنبي والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وان كان من المسلمات ، إلّا أن الكلام في صغروية حديث «لا ضرر» للحكم السلطاني أو القضائي ، ضرورة أن الأصل الأولي في كل ما يبينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتضي صدوره بداعي التشريع وتبليغ الحكم الكلي الإلهي المنزل عليه ، إلّا مع قيام قرينة توجب رفع اليد عنه. وهي مفقودة في المقام.

وتوضيحه : أن هذه الجملة وردت تارة مسبوقة بلفظ «قضى» كما في رواية الشفعة ، وأخرى غير مسبوقة به كما في قضية سمرة ورواية دعائم الإسلام وغيرهما.

أما ما ورد عقيب «قضى» فلا يدل على كونه حكما مولويا قضائيا ، أما وروده في رواية عبادة ، ففيه ـ مضافا إلى ضعفها سندا كما تقدم فيما ذكرناه حول كلام شيخ الشريعة ـ أنه لا يثبت به الحكم القضائي ، لاشتمال روايته على عشرين قضاء أكثرها أحكام كلية إلهية كقضائه بالشفعة ، ومنع فضل الماء ، وعدم جواز تصرف الزوجة في

٦٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مالها بدون اذن زوجها ، ودية الكبرى المغلظة والصغرى ، وأنه ليس لعرق ظالم حق ، وأن للجدتين السدس من الميراث ، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وأن في الركاز الخمس ، وغيرها.

ولا ريب في أن هذه الأحكام ليست قضائية بل أحكام كلية إلهية ، وقد وردت من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام بعنوان «قال أو أمر» ونحوهما مما يدل بحسب الظهور الأولي على بيان ما أوحي إليه أو ألهم إليهم ، فمثل وجوب تخميس الركاز حكم إلهي قطعا كما يظهر من ملاحظة بعض أخبار الباب ، كمعتبرة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «سألته عن المعادن ما فيها؟ فقال : كل ما كان ركازا ففيه الخمس ...» (١) ونحوها غيرها.

وقد تعرضنا فيما يتعلق بكلام شيخ الشريعة لجملة من الروايات الحاكية لأقضيته صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكثرها متمحض في بيان الأحكام الكلية الإلهية ، سواء تصدر بلفظ «قضى» أم «حكم» أم «جعل» أم «أمر» وهذا مما يوهن ظهور ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان «قضى» أو «حكم» ونحوهما في الأمر المولوي السلطاني أو القضائي.

وأما مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» فليس شاهدا على المدعى ، لظهوره في أن ميزان القضاء وفصل الخصومة في الشريعة المقدسة هو الاعتماد على هذه الحجج الظاهرية دون غيرها من الأمارات غير العلمية كخبر الواحد والقرعة ، وعلم الحاكم لو قيل بعدم اعتباره ، فهو يدل على أن المجعول الإلهي لميزان القضاء في الخصومات هو الأخذ بالبينات والأيمان لا أن فصل الخصومات بها من شئون منصب قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام «لو كان الأمر إلينا أجزنا

__________________

(١) الوسائل ، ج ٦ كتاب الخمس ، الباب ٣ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٣ وغيره ، ص ٣٤٣

٦٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

شهادة الرّجل الواحد» فلا تدل أيضا على أن تنفيذ شهادة الرّجل الواحد مستند إلى ثبوت منصب السلطنة والرئاسة العاملة لهم عليهم‌السلام ، لاحتمال أن يكون بيان هذا التنفيذ اخبارا عن حكم الله تعالى الكلي ، لا من خصائص هذا المنصب كما يشهد به عدة روايات ، مثل ما أرسله الصدوق بقوله : «قضى رسول الله بشهادة شاهد ويمين المدعي ، قال : وقال عليه‌السلام : نزل جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق ، وحكم به أمير المؤمنين عليه‌السلام بالعراق» (١).

والحاصل : أن شيوع استعمال لفظ «قضى وحكم وأمر» في الروايات في تبليغ التكاليف الكلية الإلهية المنزلة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله يمنع من استقرار ظهور للألفاظ المذكورة في كون ما يتلوها من الأوامر والنواهي أحكاما مولوية سلطانية أو قضائية. وحديث «لا ضرر» بناء على وقوعه عقيب «قضى» لا يدل على أنه حكم قضائي.

وأما بناء على ما هو الصحيح من أخبار الباب من وقوعه بعد «قال» فظهوره في تحريم الضرر أو نفيه في الشريعة كسائر الأمور المنهي عنها أو المنفية بـ «لا» النافية مما لا ينكر ، وإرادة الحكم المولوي منه موقوفة على قرينة تدل عليه كما اعترف به القائل بهذا النّظر.

وما استشهد به على مدعاه لا ينهض بإثباته ، لإمكان أن يقال : ان غرض الأنصاري لمّا كان هو رفع الظلم والاعتداء عنه اعتقد بإمكان استيفاء هذا الغرض والوصول إليه بأحد نحوين : أحدهما صدور الحكم السلطاني عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآخر نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة الملعون عن المنكر الّذي ارتكبه ، لاعتقاد الأنصاري بأن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير نهي الرعية ، وأن سمرة ينتهي بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرتدع بردعه صلى‌الله‌عليه‌وآله خصوصا بناء على ورود «لا ضرر» بعد قوله صلى الله

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٤ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ١٤ : ص ١٩٦

٦٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه وآله كما في مرسلة زرارة : «انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» إذ المستفاد منه : «انك مضار ، وحرّم الله تعالى الإضرار بالمؤمن» ومن المعلوم أن اسناد الحرمة إليه تعالى في مقام الزجر والردع أولى من اسناده إلى نفسه المقدسة صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث ولايته وإمارته ، لكونه أوقع في التأثير وترك المنكر والانتهاء والانزجار عنه.

فالمراد بـ «لا ضرر» حينئذ ـ والله العالم ـ هو النهي الإلهي الصادر بداعي النهي عن المنكر الّذي هو وظيفة كل مسلم فضلا عن سيد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحاصل : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انك رجل مضار ، والإضرار من محارم الله تعالى ومبغوضاته» أوقع في النّفس من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا حرّمت الإضرار بالمؤمن» كما لا يخفى. وإذا شك في كون النهي سلطانيا أو إليها صادرا بداعي النهي عن المنكر ، فمقتضى الأصل الّذي أشرنا إليه هو الثاني.

وان أبيت عن ذلك وأنكرت كلّا من الظهور في الثاني وكونه مقتضى الأصل ، فلا أقل من تساوي الاحتمالين ، فيصير الكلام مجملا ولا يصلح لاستفادة شيء منهما منه.

ويمكن تأييد كون النهي إليها بورود «لا ضرر» بنحو القضية الكلية كسائر الأحكام الشرعية التي هي من القضايا الحقيقة ، إذ الأحكام القضائية والسلطانية من القضايا الخارجية ، فلو كان النهي سلطانيا كان المناسب أن يقال : «انك رجل مضار ، وأنا حرّمت عليك الإضرار بالمؤمن» ولذا يحمل «لا ضرر» في حديث الشفعة على الحكم الكلي الإلهي بثبوت حق الشفعة مع كونه مسبوقا بلفظ «قضى».

وأما الأمر بالقلع فهو على كل حال حكم ولائي سلطاني سواء كان لا ضرر نهيا إلهيا أم سلطانيا ، إذ لو كان إلهيا ـ والمفروض أن سمرة الشقي لعنه الله لم يرتدع بل كان مصرّا على إدامة ظلمه وإيذائه ـ اقتضت سلطنته صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأمة دفع الظلم

٦٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عنهم ، وحيث ان قطع مادة الفساد كان منوطا بقلع العذق عن محله وإفراغ الأرض عنه أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلعه حتى لا يبقى لسمرة حق الاستطراق إليه ، حيث انه لم يكن محل العذق ملكا له ، إذ لو كان ملكا له لم يسقط حق عبوره بقلع العذق ، بل كان له المرور به ، فبقاء العذق في مكان الغير كان اما بإذن مالكه واما بجعل حق له في بقائه.

وعلى كلا التقديرين لا يبقى له حق الإبقاء ، لكونه علة للضرر المنحصر اندفاعه بالقلع المزبور ، إذ المفروض عدم انتهائه بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم قبوله للاستئذان من الأنصاري ، فالعلاج الوحيد في دفع الظلم هو قلع العذق ، لأن منشأ الضرر هو بقاؤه في البستان ، فلذا أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب ولايته على النفوس والأموال بقلعه.

فلا يرد أن امتناعه عن الاستئذان بالدخول إلى دار الأنصاري لا يوجب ارتفاع احترام ماله ، حيث ان قلعه يرفع ماليته الشجرية.

مضافا إلى : أنه ظالم ، وليس لعرق ظالم حق نظير البناء في ملك الغير بدون اذنه ، فان لصاحب الأرض هدم البناء وتسليم آلاته إليه من دون ضمان لمالية البناء بعد تعميم الظالم للمضر ، وعدم اختصاصه بالغاصب ، لأن الظالم هو المتجاوز عن حدود العدالة.

وإلى : إمكان أن يكون القلع المسقط لمالية العذق حدّا لما ارتكبه من تمرده وعصيانه لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بناء على ثبوت التعزير المالي وكون الأمر بالقلع من أدلته ، وأعمية التعزير المالي من الإتلاف والنقل إلى بيت المال ، فليتأمل.

وإلى : احتمال كون لا ضرر الواقع عقيب الأمر بالقلع كما في مرسلة زرارة علة له ، يعني : أنه لا ضرر عليك في القلع ، فالمراد حينئذ «اقلع عذقه ، فانه

٦١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا ضمان عليك في قلعه» وان كان هذا الاحتمال لا يخلو من بعد ، بل عن إشكال إذ لا مناسبة بين الأمر بالقلع وعدم الضمان الّذي جعل علة له ، بداهة عدم صلاحية كون نفي الضمان علة لوجوب القلع ، لعدم الترتب بينهما ، فانه يحرم غصب الأوقاف العامة وإتلافها كالمساجد ونحوها من المشاعر التي ليست منفعتها مملوكة لأحد مع عدم ضمان المتلف والغاصب لها ، فمجرد عدم الضمان لا يصلح لأن يكون علة لوجوب إتلاف مال الغير أو جوازه كقلع العذق فيما نحن فيه.

كما أنه قد يجب الإتلاف مع الضمان كأكل مال الغير في المخمصة.

اللهم إلّا أن يقال كما عن الميرزا (قده) : ان «لا ضرر» عقيب الأمر بالقلع ليس علة للقلع ، بل هو علة لوجوب الاستئذان.

لكن فيه : أن وجوب الاستئذان قد استفيد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاستأذن» مع أن انفصال «لا ضرر» عنه بكلام طويل يمنع عن جعله علة لوجوب الاستئذان ، لأنه خارج عن طريق أبناء المحاورة في محاوراتهم ، ولا يصار إليه إلّا مع القرينة ، وهي مفقودة.

وبالجملة : فالظاهر كون «لا ضرر» علة للأمر بالقلع ، وعلى ما احتملناه من كون القلع حدا لعصيانه لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستيذان ، وكون «لا ضرر» للنهي يستقيم التعليل ، لأنه بمنزلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اقلع عذقه ، لأنه عصى الله تعالى في ارتكاب ما نهاه عنه» فالقلع تعزير لا ضراره بالمؤمن ، وهو حرام. أو لأن إضراره لا يندفع إلّا بقطع مادة الفساد وهو قلع العذق.

المختار في فقه الحديث

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن الأقرب بحسب المورد كون «لا ضرر» نهيا إلهيا وان كان الأمر بالقلع حكما ولائيا ، وبه يندفع ظلم سمرة اللعين واعتداؤه

٦١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على الأنصاري ، ولا يستفاد منه حكم كلي كما هو محتمل الشيخ الأعظم والمحقق الخراسانيّ (قدهما) ولا الضرر غير المتدارك ، لما تقدم من الإشكالات الواردة عليها.

وما ذكرناه من الأقربية انما هو بحسب مناسبة المورد ، لا بحسب الاستعمال ، إذ لا شاهد له على ذلك مع كثرة استعمال هذا التركيب في النفي والنهي معا بحيث لا يكون أحدهما شائعا دون الآخر حتى يتبادر ذلك الشائع ، بل تعين إرادة أحدهما منوط بالقرينة ، وبدونها يصير الكلام مجملا ، ولا يستفاد منه شيء. وان كان يمكن تأييد إرادة النهي من «لا ضرر» بالروايات الناهية عن الإضرار بالغير ، وقد تقدم بعضها ، فتدبر.

ثم ان هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها :

١ ـ توجيه الأمر بقلع العذق

الأول : أنه بناء على ما ذكرنا ـ من كون الأمر بالقلع ولائيا ناشئا من كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم ، وتوقف قطع مادة الفساد على القلع المزبور ـ لا يبقى مجال للإشكال في أن قاعدة الضرر لا تقتضي سلب احترام المال وعدم ضمانه ، قال الشيخ (قده) : «وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق ، مع أن القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك ، لكن لا يخل بالاستدلال».

أما اشكاله من ناحية القلع فقد عرفت اندفاعه.

وأما قوله (قده) : «لكن لا يخل بالاستدلال» ففيه : أن مرجع عدم انطباق العلة على الحكم المعلل إلى خروج المورد عن العموم ، وهو كاشف عن عدم إرادة ظاهر العلة من العموم ، وذلك يوجب إجمال العلة ، ومع إجمالها كيف

٦١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يصح الاستدلال بها؟ وأي إخلال به أعظم من الإجمال ، هذا.

وبناء على كون معنى «لا ضرر» نفي تشريع الحكم الضرري الّذي أفاده الشيخ (قده) يستقيم التعليل أيضا ، لأن جواز دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان ضرر نشأ من استحقاقه لا بقاء عذقه في أرض الأنصاري ، وهذا الحق ضرري ، فهو غير مجعول.

ولا يندفع هذا الضرر إلّا بالقلع ، فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اقلع العذق ، لأن بقاءه ضرر ، ولا ضرر في الشرع.

وبالجملة : فيستقيم التعليل على كل من المعنيين المزبورين ، بل بناء على نفى الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا ، لأن مفاده نفي الحكم الضرري أيضا ، غاية الأمر بلسان نفي موضوعه وهو الضرر.

٢ ـ نسبة القاعدة إلى أدلة الأحكام الأولية

الثاني : الظاهر حكومة «لا ضرر» على أدلة الأحكام الأولية سواء كان مفاده نفي الحكم الضرري كما هو مختار الشيخ (قده) أم نفي موضوع الحكم الضرري كما عليه المحقق الخراسانيّ (قده) ضرورة أن نفي الموضوع أو حكمه شرعا يرجع إلى التعرض للحكم.

والفرق بين المسلكين أن «لا ضرر» بناء على مختار الشيخ شارح للحكم بلا واسطة ، إذ معنى نفي الحكم الضرري حينئذ أن الحكم المجعول ينتهي إلى حد الضرر ، فإذا انتهى إليه فلا جعل له.

وبناء على مذهب صاحب الكفاية شارح لموضوع الحكم. فعلى التقديرين يكون دليل نفي الضرر ناظرا إلى الحكم ومتعرضا له بلا واسطة على الأول ، ومعها على الثاني.

٦١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثم انه لا بد من الإشارة إلى ضابط الحكومة وأخواتها حتى يتضح الحال ، فنقول وبه نستعين : ان أخصر بيان وأوضحه وأسده في تحديدها أن يقال : ان الخارج عن موضوع دليل لا يخلو إما أن يكون خروجه عنه بالتكوين كخروج الجاهل عن موضوع دليل وجوب إكرام العلماء ، وهذا يسمى بالتخصص.

وإما أن يكون بالتشريع ، وهو إما بلسان «المعارضة كخروج زيد العالم عن دليل وجوب إكرام العلماء بلسان «لا تكرم زيدا العالم» وهذا يسمى بالتخصيص ، وإما بغير لسان المعارضة ، وهو تارة يكون بنفس التعبد والحجية ، كخروج مشكوك الحكم كشرب التتن بنفس إيجاب الاحتياط عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فان نفس تشريع إيجابه من دون إحراز الحكم الواقعي به يوجب خروج مشكوك الحكم عن حيز قاعدة القبح ، وهذا يسمى بالورود.

وأخرى لا يكون بنفس التعبد ، بل بإثباته للمؤدى أي إحرازه له من دون لسان المعارضة. كما في قيام الأدلة غير العلمية على حكم كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فانه يخرج عن موضوع أدلة البراءة الشرعية بثبوت الوجوب له بقيام خبر الواحد عليه ، وهذا يسمى بالحكومة ، فيعتبر فيها أمور : الأول التعبد ، الثاني : عدم كونها بلسان المعارضة ، الثالث : كون تقدم الحاكم على المحكوم بالدلالة اللفظية لا بالحكم العقلي.

ويتحقق هذه الدلالة بتصرف الحاكم إما في حكم دليل المحكوم ، كما إذا قال : «الأمر في اغتسل للجمعة ليس للوجوب» إذ لم يصدر لبيان الحكم الواقعي ، بل صدر تقية ، أو وجوب الوضوء عند الضرر أو الحرج مرفوع ، حيث ان إطلاق الوجوب لجميع الحالات متفرع على وجوده ، والدليل القائم على عدم جعله في حال الضرر حاكم على ذلك ، لأنه يتكفل لكيفية جعله ، وأنه منفي حال الضرر ، ونفس الوجوب لا يتكفل لذلك.

٦١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإما في متعلق حكمه كقوله : «الوضوء الضرري ليس بوضوء» ويكون هذا تصرفا في عقد الوضع ، وكذا الإكرام المأمور به في «أكرم العلماء» ليس هو تقبيل أيديهم والتواضع لهم ، بل هو إطاعة أوامرهم ونواهيهم.

وإما في موضوع حكمه ، كقوله : «زيد ليس بعالم» مع كونه عالما بعد إيجاب إكرام العلماء ، أو «المال المدفوع إلى الفقير زكاة ليس بزكاة ان لم يكون بقصد القربة» أو «شك كثير الشك ليس بشك أخذ موضوعا لأحكام» إلى غير ذلك من النّظائر.

وبالجملة : فتقدم الحاكم على المحكوم مستند إلى دلالة لفظية بأحد أنحائها المتقدمة ، بخلاف تقدم الخاصّ على العام ، فان تقدمه عليه انما هو بحكم العقل من دون دلالة لفظ أحدهما على الجمع بينهما ، فان العقل يجمع بين «أكرم الأمراء» و «لا تكرم زيدا الأمير» اللذين يؤولان بعد انحلال الأول إلى قضيتين متعارضتين لا نظر لإحداهما إلى الأخرى وهما «أكرم زيدا ولا تكرم زيدا» بتقديم الثاني على الأول لأخصيته.

فالحكومة والتخصيص يشتركان في كون الخروج في كليهما بعناية التعبد ، وفي الاحتياج إلى إثبات المؤدى ، ويفترقان في أمرين أيضا :

أحدهما : أن الحاكم متفرع على المحكوم ، لأنه ناظر إليه وشارح له ، بخلاف الخاصّ ، فانه ليس متفرعا على العام ، فيصح أن يقال : «لا تكرم زيدا الأمير» وان لم يكن هناك عام وهو «أكرم الأمراء».

والآخر : كون لساني الخاصّ والعام لسان المعارضة ، ولساني الحاكم والمحكوم لسان الملاءمة والمسالمة كما عرفت في الأمثلة المتقدمة ، بداهة عدم المعارضة بين «لا شك لكثير الشك» وبين «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن علي الأربع» حيث ان الدليل المحكوم يدل على ثبوت الحكم على تقدير وجود

٦١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موضوعه ، ولا يدل على وجود ذلك التقدير أو عدمه ، والدليل الحاكم يهدم ذلك التقدير سواء أكان المحكوم بنحو القضية الشرطية كقوله : «إذا شككت فابن علي الأكثر» أم الحملية مثل «كل عالم يجب إكرامه» فانهما يدلان على وجوب البناء على الأكثر على تقدير وجود موضوعه وهو الشك ، أو وجوب إكرام العالم على فرض وجوده ، والحاكم يهدم ذلك التقدير ويدل على عدم الموضوع حتى يترتب عليه حكمه ، فقوله : «لا شك لكثير الشك» هادم لموضوع وجوب البناء على الأكثر ، ولسان هدم الموضوع غير لسان المعارضة ، بل لسان المسالمة. والمعارضة انما تكون بين الدليلين مع حفظ الموضوع كوجوب إكرام العالم وعدم وجوب إكرامه ، فالحكومة المضيقة ترجع لبا إلى التخصيص ، لكن لا بلسان المعارضة.

وأما الحكومة والورود فهما يشتركان في كون الخروج تعبديا ، ويفترقان في أنه في الأول مستند إلى إثبات المؤدى ، وفي الثاني إلى مجرد التعبد.

وأما الحكومة الموسعة فهي عبارة عن الحاكم الّذي يتصرف في موضوع حكم الدليل المحكوم أو متعلقه بالتوسعة ، بأن يدرج في أحدهما ما ليس مصداقا له حقيقة ، نظير ما دل على حرمة الخمر ووجوب الحج على المستطيع ـ وهو المالك للزاد والراحلة ـ وكون المسافة الموجبة للقصر ثمانية فراسخ امتدادية ، فانها محكومة بما دل على كون الفقاع خمرا ، وما دل على أن المبذول له ما يحج به مستطيع ، وما دل على كون المسافة التلفيقية موجبة للقصر. ونظير ما دل على أحكام الصلاة ، فان دليل تنزيل الطواف منزلة الصلاة حاكم عليه بتوسعة المتعلق وهو الصلاة وإثبات أحكامها للطواف.

والحاصل : أن الحاكم سواء كان موسعا أم مضيقا يتكفل لما لا يتكفله المحكوم ،

٦١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولذا لا يكون بينهما تعارض ، حيث ان التعارض منوط بوحدة المتعارضين موضوعا ومحمولا مع اختلافهما في السلب والإيجاب ، كقوله : «أكرم الأمراء ولا تكرمهم» وأما مع اختلافهما موضوعا أو محمولا فلا تعارض بينهما ، كما إذا قال : «زيد ليس بأمير» فانه لا يعارض «أكرم الأمراء» الذين يكون زيد منهم.

ومما ذكرنا يظهر وجه حكومة «لا ضرر» بناء على مذهبي الشيخ والمحقق الخراسانيّ على أدلة الأحكام الأولية. أما على مذهب الشيخ فلأن «لا ضرر» ناظر إلى أحكام الشريعة المطهرة ، فان كان فيها حكم يوجب الضرر فهو غير مجعول ، فالوجوب الضرري للوضوء لا جعل له ، وكذا لزوم البيع الغبني.

وأما على مذهب المحقق الخراسانيّ فلأن «لا ضرر» ناظر إلى متعلق الحكم ، فكل موضوع ضرري لا حكم له.

فعلى كلا المعنيين ـ وهما كون الحكم الضرري لا جعل له أو كون الموضوع الضرري لا حكم له ـ يكون «لا ضرر» حاكما على أدلة الأحكام الأولية وان كان بينهما فرق ، وهو حكومة «لا ضرر» بناء على مذهب الشيخ على قاعدة الاحتياط الموجب للعسر أو الضرر ، لأن الاحتياط نشأ عن لزوم مراعاة الأحكام الواقعية المجهولة ، وعدم حكومته عليها بناء على مذهب صاحب الكفاية ، لأن الاحتياط ناش عن الجمع بين المحتملات ، ولا ضرر ولا عسر في نفس المتعلقات إذ لو كانت معلومة لم يكن في فعلها ضرر ولا حرج كما صرح به في دليل محتملاته احتياطا» ولكن فيه إشكال ذكرناه هناك في الجزء الرابع ص ٥٩٢ فراجع.

وعليه فلا وجه للعدول عن الحكومة إلى التوفيق العرفي بالنسبة إلى المعنى الّذي اختاره صاحب الكفاية.

وأما على مذهب من جعل «لا ضرر» نهيا ، فيقدم على أدلة الأحكام الأولية

٦١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، لأعمية الضرر المنهي عنه من الوضوء وغيره ، وأعمية الوضوء من الوضوء الضرري وغيره ، فيجتمعان في الوضوء الضرري ويقدم دليل النهي على الأمر بالوضوء ، إذ لو لم يقدم النهي عليه لزم لغويته كما لا يخفى.

وقد يقال بتقدم «لا ضرر» ـ بناء على إفادة النهي ـ على الأحكام الأولية بوجهين آخرين.

أحدهما : ما أفاده شيخ الشريعة ، أما في العبادات فلاقتضاء النهي عن العبادة للفساد ، فلا فرق في بطلان الوضوء الضرري بين القول بالنهي والنفي.

وأما الخيارات فحيث ان الحق عدم استناد شيء منها إلى قاعدة نفي الضرر فهي خارجة عن محل البحث موضوعا.

وفيه : أنه منوط بإثبات حرمة الإضرار بالنفس بحديث نفي الضرر ، وهو غير مدلوله أعني حرمة الضرر بالمؤمن ، وبدلالة الحديث على انتفاء الملاك حال الضرر. مع أن المسألة مختلف فيها ، لمكان أن يقال : ان امتنانية القاعدة لا ترفع إلّا الإلزام ، كنفي الحرج ، ومن المعلوم أن هذا أجنبي عن الفساد الّذي يقتضيه النهي عن الضرر الرافع للمصلحة. وعليه ، فالقول بإفادة النهي للفساد لا يلتئم مع مسلك القوم ، مع أنه (قده) أراد توجيه فساد الوضوء الضرري ونحوه على مختارهم.

والحاصل : أنه بناء على النفي يمكن تصحيح العبادة بالملاك ، إذ المنفي بالضرر هو مجرد الإلزام ، وبناء على النهي لا يمكن تصحيحها ، لأن النهي يرفع الملاك أيضا.

مضافا إلى مخالفته لما صرح به حول «لا ضرر» الواقع ذيل حديث الشفعة من أن المستفاد منه نفي الحكم الوضعي بقوله : «ولا مجال لإرادة ما عدا الحكم الوضعي في حديث الشفعة».

وانما رفع اليد عنه لزعمه أن جملة لا ضرر قضاء مستقل لم يصدر من النبي

٦١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عقيب قضائه بالشفعة.

ثانيهما : ما أفاده صاحب العناوين بقوله : «الظاهر من سياق الخبر أن عدم تجويز ذلك ليس محض التعبد الشرعي ، بل انما هو شيء يمنع منه العقل أيضا ومناف للحكمة كذلك ، فكما هو قبيح غير مجوّز بالنسبة إلى المكلفين ، فكذا الحكيم على الإطلاق ، فانه أيضا لا يصدر منه مثل ذلك ، فيصير المعنى أن الضرر والضرار غير مجوّز بل هو قبيح ، ويكون القضية مسوقة مساق قاعدة عقلية».

وفيه أولا : أن استظهار النهي والتحريم من الخبر منوط بكون الجملة إنشائية ، وهو ينافي جعلها إرشادا إلى ما يستقل به العقل بقوله : «ليس محض التعبد الشرعي».

وثانيا : أن إلقاء المكلف في الضرر انما يكون قبيحا لو لم يكن الضرر متداركا ، وأما مع تداركه بالنفع الدنيوي أو الأجر الأخروي فلا قبح فيه كما اختاره صاحب العناوين بعد مقالته المتقدمة بأسطر بقوله : «فعلى هذا ما ورد في الشرع من التكاليف بعد وجود النّفع الأخروي في الجميع ، بل النّفع الدنيوي من دفع بلية وحفظ مال وزيادة نعمة كما هو مقتضى الآيات والأخبار في الزكاة والصدقة ونظائر ذلك لا يعدّ ضررا حقيقة».

وعليه فمع تدارك الضرر الدنيوي بنفع مثله أو مثوبة أخروية لا يبقى موضوع للضرر حتى يكون تشريعه قبيحا وغير جائز على الحكيم. ومقتضى ذلك لغوية قاعدة نفي الضرر من رأس.

والحاصل : أنه لا وجه لنفي الأحكام الضررية بناء على إرادة التحريم منه الا ما ذكرناه من التخصيص.

وأما على مذهب من جعل «لا ضرر» من نفي الضرر غير المتدارك ، فتقديمه على الأدلة الأولية يكون أيضا بالحكومة ، لكونه ناظرا إلى المتعلق وهو الضرر ،

٦١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حيث ان مفاده حينئذ نفي الضرر شرعا لأجل تداركه بضمان أو غيره ، فالضرر المجبور بحكم الشرع منفي ، هذا.

وقد يجمع بين «لا ضرر» وبين أدلة الأحكام الأولية بوجوه أخر :

منها : أن قاعدة نفي الضرر من القواعد الامتنانية المانعة عن تأثير الملاكات في فعلية الأحكام الأولية ، والامتنان يقتضي تقدم الحكم الامتناني على غيره ، هذا.

وقد أجيب عنه بأن الكلام في وجه كون الامتنان مقتضيا للتقدم ، إذ مجرد الامتنان لا يصلح لذلك. لكن الظاهر أن مراد القائل بهذا الجمع كون الامتنان قرينة على صرف الحكم الأولي عن الفعلية إلى الاقتضائية ، وإلّا لم يتحقق الامتنان. أو لكون «لا ضرر» أخص من الأدلة الأولية.

ومنها : تقدم قاعدة الضرر على أدلة الأحكام الأولية ، لأرجحيتها منها بسبب موافقتها لأصل البراءة ونحوها ، فنفي الضرر مقرّر ، والمقرر مقدم على الناقل على ما عن القدماء.

وفيه : ما ثبت في محله من عدم صلاحية الأصل لترجيح إحدى الأمارتين المتعارضتين ، لأن الأمارة تحرز الواقع ، والأصل وظيفة الشاك في الواقع.

وان شئت فقل : ان موضوع الأصل هو الشك في الحكم الواقعي ، والأمارة رافعة للشك ، فكيف يعقل ترجيح الأمارة بالأصل؟

ومنها : ترجيح قاعدة نفي الضرر على الأدلة الأولية بعمل الأصحاب.

وفيه : أن الكلام في وجه العمل بعد البناء على تعارضهما وعدم وصول النوبة إلى التساقط وغيره من أحكام التعارض.

ومنها : التوفيق العرفي بين قاعدة الضرر وبين أدلة الأحكام الثابتة لموضوعاتها بعناوينها الأولية بحمل الأول على الحكم الفعلي والثاني على الاقتضائي. وهذا الجمع الّذي أفاده المحقق الخراسانيّ (قده) وان كان مطابقا للواقع ، لكن لا بد

٦٢٠