منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله (١) تعالى (٢) كما في الخبر (٣) فيقيد بها (٤) أخبار البراءة ، لقوة (٥)

______________________________________________________

إذ المفروض وجود المعذّر وهو البراءة ، ومقتضى إطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص وبعده واختصاص ما دل على وجوب التعلم والمؤاخذة بما قبل الفحص تقييد إطلاق الأول بالثاني ، لكونه أخص من الأول كسائر المطلقات والمقيدات.

(١) متعلق بـ «المؤاخذة» التي هي نوع من التوبيخ ، و «على ترك» و «في مقام» متعلقان بالمؤاخذة أيضا ، و «عن عدم» و «بعدم العلم» متعلقان باعتذار.

(٢) فلله الحجة البالغة.

(٣) وهو ما ورد في تفسير هذه الآية من «أنه يقال للعبد يوم القيامة هل علمت ، فان قال : نعم ، قيل له فهلا عملت؟ وان قال لا ، قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل».

(٤) أي : بالآيات والأخبار الدالة على وجوب التفقه والمؤاخذة على تركه إطلاق أخبار البراءة ، لما مر آنفا من شمولها لما قبل الفحص وبعده. وغرضه (قده) التنبيه على أن النسبة بين تلك الآيات والأخبار وبين أدلة البراءة نسبة المقيد إلى المطلق فيقيد بها إطلاق أدلة البراءة ، لا أن النسبة بينهما هي التباين كما قد يتوهم بتقريب : أن مورد أخبار البراءة عدم العلم بالتكليف لا تفصيلا ولا إجمالا ، ومورد الآيات وأخبار وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه ترك العمل فيما علم وجوبه مثلا ولو إجمالا ، فتكون واردة في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وأجنبية عن الشبهات البدوية التي هي مورد أصالة البراءة ، فلا موجب لتقييد إطلاق أدلة البراءة بها مع تباين نسبتهما ، فيكون هذا الوجه كالوجهين المتقدمين وهما الإجماع والعقل ضعيفا وغير صالح لتقييد إطلاق أدلة البراءة بلزوم الفحص ، وإناطة جواز العمل بالبراءة النقليّة به.

(٥) هذا تعليل لقوله : «والأولى الاستدلال» ودفع للتوهم المزبور ، وكان الأولى تقديم «لقوة ظهورها» على قوله : «فيقيد بها» لأن التقييد متفرع على

٤٠١

ظهورها (١) في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا (٢) بترك العمل فيما علم وجوبه ولو (٣) إجمالا ، فلا (٤) مجال

______________________________________________________

إثبات ظهورها في كون الاحتجاج بترك التعلم حتى يتحد موردها مع مورد أدلة البراءة ويصح التقييد ، لورودهما معا في الشبهات البدوية ، وأخصيتها من أدلة البراءة.

وكيف كان فقد دفع التوهم المزبور بما محصله : أن تلك الآيات والروايات ظاهرة في كون المؤاخذة والذم على ترك التعلم فيما لم يعلم ، بل قوله عليه‌السلام في تفسير قوله تبارك وتعالى : فلله الحجة البالغة : «هلا تعلمت حتى تعمل «كالصريح في كون التوبيخ على ترك التعلم ، لا على ترك العمل فيما علم وجوبه حتى يكون مورده الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، دون الشبهات البدوية التي هي مورد أدلة البراءة. وأخبار المؤاخذة جلّها بل كلها في غاية الظهور في كون المؤاخذة على ترك التعلم ، لا ترك العمل بما علم حكمه ، ودعوى تواترها المعنوي قريبة جدا ، فلا حاجة إلى البحث عن أسنادها ، فراجع الوافي بابي فرض طلب العلم وسؤال العلماء وتذاكر العلم.

(١) أي : ظهور الآيات والروايات في كون المؤاخذة على ترك التعلم كما هو مورد أدلة البراءة.

(٢) هذا هو التوهم المزبور بقولنا : «بتقريب أن مورد أخبار البراءة عدم العلم»

(٣) وصلية متعلقة بقوله : «علم وجوبه» يعني : ولو علم وجوبه إجمالا.

(٤) هذه نتيجة ظهور الآيات والروايات في كون الذم على ترك التعلم ، لا على ترك العمل بما علم حكمه ، وإشارة إلى التوهم المذكور.

٤٠٢

للتوفيق (١) بحمل هذه الاخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم (٢).

ولا يخفى (٣) اعتبار الفحص في التخيير العقلي

______________________________________________________

(١) بين إطلاق أدلة البراءة وبين الآيات والأخبار المشار إليها ، بحملها على ما إذا علم إجمالا بثبوت التكاليف بين المشتبهات ، وأخبار البراءة على الشبهات البدوية ، حتى تكون النسبة بينهما هي التباين ، لا الإطلاق والتقييد ، ولا يصح تقييد إطلاق أدلة البراءة بهما.

(٢) لعله إشارة إلى صحة الجمع بين الآيات والروايات وبين أدلة البراءة ، بتقييد إطلاق أدلة البراءة بهما ، لاعتبار الروايات سندا ودلالة.

أو إشارة إلى توهم آخر ودفعه ، أما التوهم فهو : أنه يمكن أن يكون التوبيخ على ترك التعلم بالنسبة إلى العناوين الخاصة من الواجبات والمحرمات المعلومة إجمالا ، فلا يكون مورد التوبيخ الشبهة البدوية حتى يقيد به إطلاق أدلة البراءة ، ويثبت به وجوب الفحص ، بل مورده العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات.

وأما الدفع ، فهو قوله : «لقوة ظهورها في أن المؤاخذة» وحاصله : قوة ظهور تلك الروايات بل صراحة بعضها في كون المؤاخذة على ترك التعلم ، لا ترك العمل فيما علم حكمه ولو إجمالا.

أو إشارة إلى غيرهما مما يتوهم في المقام.

فتحصل مما أفاده المصنف (قده) : أن دليل اعتبار الفحص في جريان البراءة النقليّة في الشبهات الحكمية هو تقييد إطلاق أدلتها بالآيات والأخبار الدالة على وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه.

(٣) بعد أن فرغ عن بيان ما يعتبر في جريان الأصول الثلاثة وهي الاحتياط والبراءة العقلية والنقليّة شرع في بيان ما يعتبر في جريان أصالة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين.

٤٠٣

أيضا (١) بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل (٢).

______________________________________________________

ومحصل ما أفاده فيه هو : أن الفحص هنا معتبر بعين الوجه الّذي ذكر في لزوم الفحص في البراءة العقلية ، يعني : أن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان الّذي هو موضوع البراءة العقلية ، كذلك يكون محرزا لموضوع أصالة التخيير ، وهو تساوي الاحتمالين وعدم مرجح لأحدهما على الآخر ، بداهة أن هذا التساوي لا يحرز إلّا بالفحص الموجب اما لتعين أحد الاحتمالين ، فيتعين الأخذ به ، لحصول الموافقة القطعية حينئذ ، أو لتساويهما فيتخير في الأخذ بأحدهما ، لعدم التمكن مع تساويهما من الموافقة القطعية ، فالعقل لا يستقل بالحكم بالتخيير إلّا بعد إحراز عدم رجحان أحد الاحتمالين على الآخر ، كعدم استقلاله في الحكم بالبراءة إلّا بعد إحراز موضوعه وهو عدم البيان. بل وجوب الفحص هنا أولى من وجوبه في البراءة العقلية ، للعلم في المقام بجنس التكليف الموجب للفحص عن نوعه ، بخلاف البراءة ، إذ موضوعها وهو عدم الحجة موجودة قبل الفحص وبعده.

(١) يعني : كوجوبه في البراءة العقلية ، وقد عرفت المراد بقوله : «بعين ما ذكر» بقولنا : «يعني أن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان الّذي هو موضوع البراءة العقلية ... إلخ».

(٢) حتى تتوهم جواز الرجوع إلى التخيير العقلي قبل الفحص ، كما توهم ذلك في البراءة العقلية ، ببيان : أن المراد بالبيان هناك هو الحجة الواصلة فعلا ، وان كان ذلك التوهم هناك فاسدا ، ولكنه مع ذلك يفترق التخيير عن البراءة بأن جنس التكليف فيه معلوم ، وهو موجب للفحص ، بخلاف البراءة.

٤٠٤

ولا بأس (١) بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام. أما التبعة فلا شبهة في استحقاق

______________________________________________________

(حكم العمل بالبراءة قبل الفحص)

(١) لمّا فرغ المصنف (قده) من بيان اشتراط العمل بالبراءة بالفحص أراد أن يبين ما للعمل بها قبل الفحص من استحقاق العقوبة ، والحكم التكليفي والوضعي فالكلام يقع في مقامين : الأول في استحقاق العقوبة وعدمه ، والثاني في الحكم الوضعي.

أما المقام الأول ، ففيه أقوال ثلاثة :

أحدها : استحقاق العقاب مطلقا سواء صادف الواقع أم لا ، فلو شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ولم يكن حراما واقعا استحق العقوبة عليه ، وهذا القول منسوب إلى سيد المدارك وشيخه المحقق الأردبيلي (قدهما) استنادا إلى قبح تكليف الغافل ، حيث ان الجاهل غالبا غافل عن الواقع حين فعل الحرام وترك الواجب ، فيكون العقاب على ترك التعلم. وعليه فوجوب التعلم نفسي يترتب على مخالفته العقوبة.

ثانيها : استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفقت ، وإلّا فلا عقوبة ، ففي المثال المزبور لا يستحق العقاب إذا انكشف عدم حرمة شرب العصير العنبي. ونسب هذا القول إلى المشهور ، قال شيخنا الأعظم (قده) : «أما العقاب فالمشهور أنه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فإذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلم» ثم ذكر خلاف سيد المدارك وشيخه الأردبيلي (قدهما) حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلم. والوجه فيه : أن وجوب التعلم عند المشهور

٤٠٥

العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها (١) فانها (٢) وان كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلّا أنها منتهية إلى

______________________________________________________

ليس نفسيا كما ذهب إليه العلمان المتقدمان حتى يكون العقاب على نفس ترك التعلم ، بل المدار فيه على مخالفة الواقع لا على طريقه وهو التعلم حين تركه.

وكيف كان فالمصنف (قده) تبع المشهور والتزم باستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم والفحص ، لا على نفس ترك التعلم ، فإذا شرب العصير العنبي بدون الفحص عن حكمه وكان حلالا واقعا لا يستحق مؤاخذة ، لعدم مخالفة حكم إلزاميّ واقعي. والوجه فيه : أن مخالفة الواقع وان فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع ، لكنها لمّا كانت مستندة إلى تقصيره في ترك الفحص والتعلم تنتهي إلى الاختيار ، ولا يقبح العقاب على ما ينتهي إلى الاختيار ، ولذا يعاقب أكثر الجهال العصاة على ارتكاب المحرمات مع غفلتهم عن احتمال حرمتها حين الارتكاب ، فان التفاتهم إجمالا قبل الارتكاب إلى احتمال حرمتها كاف في صحة العقوبة مع تمكنهم من الفحص وتركهم له اختيارا ، والأخبار المتقدمة في مؤاخذة تارك التعلم أيضا تقتضي استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع مع الشك فيه.

(١) أي : إلى المخالفة ، وأما إذا لم يؤدّ ترك التعلم إلى المخالفة كما إذا لم يكن ما ارتكبه حراما واقعا ، فلا عقاب ، كما إذا شرب التتن تاركا للتعلم والفحص وانكشف عدم حرمته. وأما سيد المدارك والمحقق الأردبيلي (قدهما) فقد ذهبا إلى حسن مؤاخذته كما تقدم ، استنادا إلى كون وجوب التعلم نفسيا ، وأن العقاب عليه لا على الواقع ، للغفلة عنه ، وقبح تكليف الغافل بديهي.

(٢) هذا تقريب وجه استحقاق العقوبة ، وقد مر آنفا بقولنا : «والوجه فيه أن مخالفة الواقع وان فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع ... إلخ» وضمائر «فانها ،

٤٠٦

الاختيار (١) ، وهو (٢) كاف في صحة العقوبة ، بل (٣) مجرد تركهما كاف في صحتها وان لم يكن (٤) مؤديا إلى المخالفة.

______________________________________________________

حينها ، أنها» راجعة إلى «المخالفة».

(١) وهو ترك التعلم والفحص اختيارا حين التفاته إلى عدم خلوّ واقعة عن حكم ، وبهذا يجاب عن قبح العقاب على الواقع المجهول مع الغفلة ، لكونه حينئذ بلا اختيار. وحاصل الجواب : أنه وان كان فعلا لأجل الغفلة بدون الاختيار ، لكنه منته إلى الاختيار ، وقوله : «وان كانت مغفولة حينها» إشارة إلى هذا.

(٢) يعني : والانتهاء إلى الاختيار كاف في صحة العقوبة عقلا.

(٣) هذا تعريض بما نسب إلى المشهور من عدم استحقاق العقوبة على نفس ترك التعلم ، واضراب عن استحقاق العقوبة على الترك المؤدّي إلى المخالفة ، ومحصله : ترتب استحقاقها على مجرد ترك التعلم والفحص وان لم يؤد تركهما إلى مخالفة الواقع فيما إذا احتمل أن تركهما يؤدي إلى ذلك ، لكن العقاب حينئذ لا يكون على ترك الواجب النفسيّ وهو التعلم ، كما هو المنسوب إلى الأردبيلي وصاحب المدارك (قدهما) بل على التجري ، حيث انه احتمل حرمة العصير العنبي أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ومع ذلك ترك التعلم لقلّة المبالاة بالدين ، وشرب العصير أو ترك الدعاء ، فان نفس التجري على المولى يوجب عقلا استحقاق العقوبة وان لم يخالف الواقع ، لعدم حرمة العصير وعدم وجوب الدعاء واقعا.

وعلى هذا فالموجب لحسن العقوبة والمؤاخذة أمران : أحدهما الانتهاء إلى الاختيار ، والآخر التجري ، فالمصنف (قده) قائل باستحقاق العقوبة على ترك التعلم مطلقا وان لم يؤدّ إلى مخالفة الواقع وضمير «تركهما» راجع إلى التعلم والفحص ، وضمير «صحتها» راجع إلى «العقوبة».

(٤) يعني : وان لم يكن ترك التعلم والفحص مؤدّيا إلى مخالفة الواقع ، كما

٤٠٧

مع احتماله (١) لأجل (٢) التجري وعدم (٣) المبالاة بها (*).

______________________________________________________

إذا شرب التتن من غير فحص عن حكمه وتبيّن عدم حرمته واقعا ، فان ترك التعلم حينئذ لم يؤدّ إلى مخالفة الحرمة ، إذ المفروض عدم حرمة شربه واقعا.

وعليه فليس المراد بأداء ترك التعلم إلى المخالفة كون الترك مقدمة للمخالفة ولا ملازما لها ، وإلّا لم ينفك الترك عنها ، بل المراد ترتب المخالفة على الترك من باب التصادف ، ولذا عبّر المصنف بالمؤدى ، فما في بعض الكلمات من التعبير عن المؤدّي بالملازم مسامحة.

(١) أي : مع احتمال أداء ترك التعلم إلى المخالفة ، فان هذا الاحتمال يوجب الاحتياط بالتعلم والفحص بحيث يعد تركهما تجرّيا ، لكونه إقداما على مخالفة حكم إلزاميّ محتمل تنجزه.

(٢) تعليل لقوله : «بل مجرد تركهما كاف» وقد عرفت تقريبه.

ثم ان هذا الوجه لاستحقاق العقوبة مبني على كون التجري موجبا لاستحقاق العقوبة كما اختاره المصنف في بحث التجري.

(٣) معطوف على «التجري» ومفسر له ، وضمير «بها» راجع إلى المخالفة.

فالمتحصل : أن المصنف (قده) اختار استحقاق تارك التعلم والفحص للعقاب مطلقا سواء خالف الواقع أم لا. أما في صورة المخالفة فواضح ، لتحقق المعصية. وأما في صورة عدم المخالفة فلأجل التجري ، فقوله مخالف للمشهور ، حيث انهم قائلون بالاستحقاق في خصوص ما إذا أدى ترك التعلم إلى مخالفة الواقع على ما نسب إليهم في عبارة الشيخ الأعظم المتقدمة. بخلاف المصنف ، فانه قائل بالاستحقاق مطلقا اما للعصيان وإما للتجري ، فما في حاشية العلامة الرشتي من أنه تبع المشهور غير ظاهر ، فراجع وتأمل.

__________________

(*) ثالث الأقوال في استحقاق العقوبة على ترك التعلم والفحص ما أفاده

٤٠٨

نعم (١) يشكل (٢) في الواجب المشروط

______________________________________________________

(١) غرضه : أن ما ذكر من وجوب التعلم والفحص في التكاليف المطلقة المنجزة تام ، إذ لو لم يجب الفحص لزم ترك الواجب المطلق. وأما في التكاليف المشروطة بزمان كصلاة الجمعة أو زماني كالحج المشروط بالاستطاعة ، فوجوب التعلم والفحص فيها مشكل ، إذ المفروض عدم وجوب فعلي يوجبها ، لإناطة التكليف المشروط بتحقق شرطه ، فقبل تحققه لا تكليف حتى يوجب التعلم.

فعليه ينحصر وجوب الفحص بالتكاليف المطلقة الفعلية ، ولا وجه لوجوبه في التكاليف المشروطة ، لا قبل حصول الشرط ولا بعده. أما الأول ، فواضح ، لعدم حكم واقعي حينئذ حتى يجب عليه التعلم لئلا يفوت عنه الواقع فيعاقب عليه. وأما الثاني ، فلأجل الغفلة عن تلك التكاليف في وقتها الناشئة عن ترك التعلم قبله.

فالمتحصل : أن وجوب التعلم في التكاليف المطلقة ثابت ، بخلاف التكاليف المشروطة ، فانه محل إشكال ، ولذا التجأ لدفع هذه الشبهة المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك (قدهما) إلى الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه لا على مخالفة الواقع.

(٢) المستشكل وهو الشيخ الأعظم (قده) أورد هذا الإشكال على المشهور

__________________

المحقق النائيني (قده) من أن العقوبة على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع. والفرق بينه وبين مذهب المشهور أن العقاب عندهم يكون على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، وعنده يكون على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع ، لا على نفس ترك التعلم ، لعدم وجوبه النفسيّ كما ذهب إليه الأردبيلي وسيد المدارك ، حيث ان وجوبه طريقي لا يستتبع مخالفته استحقاق العقوبة. ولا على ترك الواقع ، لقبح العقاب على المجهول ، وإيجاب التعلم لا يخرجه عن الجهالة ، فاذن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع.

٤٠٩

والموقت (١) ولو (٢) أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة

______________________________________________________

القائلين بكون العقاب على ترك الواقع. وحاصل الإشكال : أن استحقاق العقوبة ان كان من زمان المخالفة لا من حين ترك التعلم لزم من ذلك عدم العقاب في التكاليف الموقتة والمشروطة التي لا تتنجز الا بعد دخول أوقاتها وحصول شرائطها ، ضرورة أن الغفلة حين المخالفة التي هي بعد دخول الوقت وحصول الشرط توجب قبح النهي ، فلا موجب لاستحقاق العقوبة أصلا.

(١) هذا من عطف الخاصّ على العام ، إذ الوقت في الموقتات أيضا شرط على حدّ سائر الشرائط.

(٢) كلمة «لو» وصلية ، وغرضه : أنه بناء على المشهور ـ من كون العقوبة على مخالفة الواقع ـ يشكل الالتزام بترتبها على التكاليف المشروطة مطلقا حتى في صورة أداء ترك التعلم والفحص إلى مخالفة الواقع بعد الوقت وحصول الشرط ، للغفلة كما مر آنفا فضلا عما إذا لم يؤدّ تركهما إلى المخالفة ، وضمير «تركهما» راجع إلى التعلم والفحص.

__________________

أقول : الظاهر أن ما أفاده الميرزا (قده) هو عين مذهب المشهور ، لأنهم أيضا قائلون بعدم ترتب الاستحقاق إلّا على ترك الفحص المؤدي إلى مخالفة الواقع ، لا على مجرد ترك التعلم وان لم يؤدّ إلى مخالفته ، ولا على مجرد مخالفة الواقع ، فان عبارة الشيخ المتقدمة «أما العقاب فالمشهور أنه على مخالفة الواقع لو اتفقت» في غاية الظهور في أن العقاب في صورة ترك التعلم انما هو على مخالفة الواقع ، وحاصله : أن ترك التعلم المؤدي إلى فوت الواقع يوجب استحقاق العقوبة.

نعم قوله (قده) بعد ذلك : «ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلم» وان كان صريحا في كون المصادفة للواقع موجبة للاستحقاق ،

٤١٠

بعدهما فضلا (١) عما إذا لم يؤد إليها ، حيث (٢) لا يكون حينئذ (٣)

______________________________________________________

(١) يعني : فضلا عما إذا لم يؤدّ ترك التعلم والفحص إلى مخالفة الواقع مع احتمال الأداء إليها. وهذا إشارة إلى صورة التجري المتقدمة في قوله : «بل مجرد تركهما كاف في صحتها وان لم يكن مؤديا إلى المخالفة» وضمير «إليها» راجع إلى «المخالفة».

(٢) هذا تقريب الإشكال ، وقد تقدم ذلك مفصلا بقولنا : «وحاصل الإشكال : أن استحقاق العقوبة ... إلخ».

(٣) أي : حين أداء ترك التعلم والفحص إلى المخالفة بعد تحقق الشرط ودخول الوقت.

__________________

لا ترك التعلم كما يراه الأردبيلي والمدارك ، لكنه يدل على كون العقاب في صورة أداء ترك التعلم إلى مخالفة الواقع ، فقوله : «ولو اتفقت حرمته» يعني : ولو اتفقت حرمته في ظرف ترك التعلم.

نعم يقع الكلام في أن العقاب في ظرف الترك المؤدي إلى ترك الواقع هل هو على نفس الواقع كما هو المشهور ، أم على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع كما يراه الميرزا (ره) وهذا النزاع لا ثمرة فيه ، ولا يوجب تعدد القول في المسألة.

وكيف كان فما أفاده الميرزا (قده) لا يخلو من النّظر ، لأن قبح العقاب على المجهول وعدم كون إيجاب التعلم مخرجا له عن الجهالة ، وكذا عدم استتباع ترك الواجب الطريقي للعقاب يقتضيان عدم استحقاق العقوبة أصلا ، لا على الواقع ، ولا على الطريق ولا على كليهما. إذ المفروض عدم اقتضاء شيء منهما منفردا لاستحقاقها ، فكيف يقتضيانه مع اجتماعهما ، وهذا نظير أن يقال : ضم العدم إلى العدم يقتضي الوجود ، أو يقال : الفاقد لا يعطي إلّا إذا انضم إليه فاقد مثله.

٤١١

تكليف فعلي أصلا لا قبلهما ، وهو واضح (١) ، ولا بعدهما ، وهو كذلك (٢)

______________________________________________________

(١) أي : وعدم التكليف قبل الشرط والوقت واضح ، لأنهما على المشهور من شرائط التكليف ، فلا تكليف قبلهما حتى يترشح منه وجوب غيري على التعلم والفحص ، فضميرا «قبلهما ، بعدهما» راجعان إلى الشرط والوقت.

(٢) يعني : وعدم التكليف بعد الشرط ودخول الوقت أيضا واضح ، لعدم التمكن من الواجب في ظرفه لأجل الغفلة عنه الموجبة لقبح الخطاب به ، وضمير «هو» راجع إلى ما يفهم من العبارة من عدم التكليف.

__________________

ولا يقاس المقام بالمركبات مطلقا حقيقية أم اعتبارية إذا كان الأثر المترتب عليها غير آثار أجزائها حال انفرادها ، حيث ان كل واحد من الأجزاء فاقد لذلك الأثر الحادث للمركب.

توضيح وجه عدم المقايسة : أن ذلك الأثر يستند إلى آثار الأجزاء في حال الاجتماع ، نظير الأثمار المترتبة على الأشجار المركبة. وهذا بخلاف المقام ، إذ لا مقتضي لشيء من الواقع والطريق للاستحقاق ، واجتماعهما ليس إلّا اجتماع اللااقتضائيين ، ومن المعلوم أن اللااقتضاء لا يصلح لأن يكون علة للاقتضاء ، إذ لا معنى لعلية العدم للوجود.

فالحق أن يقال : ان العقوبة تترتب على كل حال ، اما للعصيان ان أدى ترك التعلم إلى مخالفة الواقع وان كان مجهولا ، لفرض تنجزه بمجرد الاحتمال كمنجزية الاحتمال في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، وكمنجزية الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية الناشئة عن فقد الحجة قبل الفحص كما عليه الكل من المحدثين والأصوليين ، وبعد الفحص أيضا كما عليه المحدثون ، فان المحقق النائيني معترف بمنجزية الاحتياط للحكم الواقعي المجهول مع عدم خروجه عن الجهالة ، فمن الغريب إنكاره اقتضاء الواقع المجهول المنجز هنا لاستحقاق العقوبة.

٤١٢

لعدم (*) التمكن منه (١) بسبب الغفلة ، ولذا (٢) التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك قدس‌سرهما إلى الالتزام بوجوب التفقه

______________________________________________________

(١) أي : من الواجب المشروط والموقت ، وقوله : «لعدم التمكن» تعليل لعدم التكليف بعد الشرط ودخول الوقت ، فان تارك التعلم والفحص عن الواجب كالحج قبل تحقق شرطه كالاستطاعة يصير غافلا عن ذلك الواجب في وقته ، وبعد حصول شرطه يتركه للغفلة عنه ، ومن المعلوم أنه في حال الغفلة يقبح تكليفه ، فقوله : «لا قبلهما ، ولا بعدهما» مفسران لقوله : «أصلا».

(٢) يعني : ولأجل هذا الإشكال التجأ هذان العلمان قدس‌سرهما إلى الالتزام بكون وجوب التفقه نفسيا تهيئيا لتكون العقوبة على ترك التعلم لا على مخالفة الواقع حتى يرد عليه الإشكال المذكور ، والمراد بالواجب التهيئي ما يجب مقدمة للخطاب بواجب آخر. وببيان أوضح : الواجب التهيئة هو ما وجب تهيؤا لإيجاب عمل ، في قبال الواجب الغيري وهو الّذي يجب مقدمة لوجود واجب آخر ، فالأوّل واجب مقدمة لإيجاب شيء ، والثاني واجب لوجود الشيء ثبت وجوبه ، ففرق واضح بين الوجوب النفسيّ التهيئي والوجوب الغيري المقدمي ،

__________________

واما للتجري ان لم يؤد ترك التعلم إلى مخالفة الواقع.

والحاصل : أن الأقوى ما في المتن من استحقاق تارك الفحص والتعلم للعقوبة سواء صادف الواقع أم لا.

(*) إلّا أن يقال : بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت عند العقلاء إذا تمكن منهما في الجملة ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت ، وعدم لزوم التمكن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا ، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو الموقتة بترك تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله ، فتأمل.

٤١٣

والتعلم نفسيا تهيئيا (١) فيكون العقوبة على ترك التعلم

______________________________________________________

فان كلّا منهما مباين للآخر ، فلا إشكال في تغايرهما مفهوما. نعم يقع الكلام في وقوع الواجب النفسيّ التهيئي في الخارج ، لقصور أدلة وجوب التعلم عن إثباته.

ويمكن أن يكون وجوب قبول الهبة للحج من قبيل الوجوب التهيئي ، حيث ان وجوبه مقدمة للخطاب بواجب آخر وهو الحج ، بخلاف البذل ، فانه بنفسه يوجب الحج ، وأما الهبة فبنفسها لا يجب الحج ، بل بقبولها الّذي هو واجب تهيؤا لا يجاب الحج عليه ، فتدبر.

(١) أما المحقق الأردبيلي فما يستفاد منه وجوب التعلم نفسيا هو كلامه في شرح الإرشاد : «واعلم أيضا أن سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مثلا هو النهي عن الصلاة فيها المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير ، وأن النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطر ولا الناسي بل ولا الجاهل ، لعدم النهي حين الفعل ، ولأن الناس في سعة ما لا يعلمون وان كان في الواقع مقصّرا ومعاقبا بالتقصير».

وأما صاحب المدارك ، فقال في شرح مسألة إخلال المصلي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه ما لفظه : «فهنا مسائل ثلاث : الأولى : أن يسبق علمه بالنجاسة ويصلي ذاكرا لها ، ويجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، قال في المعتبر : وهو إجماع من جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق في العالم بالنجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا بل صرح العلامة وغيره بأن جاهل الحكم عامة ، لأن العلم ليس شرطا في التكليف ، وهو مشكل ، لقبح تكليف الغافل.

والحاصل : أنهم ان أرادوا أنه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل ، لأن القضاء بفرض مستأنف ، فيتوقف على الدليل ، فان ثبت مطلقا أو في بعض

٤١٤

نفسه (١) لا على ما أدى إليه من (٢) المخالفة ، فلا إشكال حينئذ (٣) في المشروط والموقت (*)

______________________________________________________

الصور ثبت الوجوب ، وإلّا فلا. وان أرادوا أنه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل ، لأن تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق. نعم هو مكلف بالبحث والنّظر إذا علم وجوبهما بالعقل أو الشرع ، فيأثم بتركهما ، لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح».

(١) لكون التعلم على هذا واجبا نفسيا ، فتكون العقوبة على نفسه لا على مخالفة الواقع.

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، والضمير المستتر في «أدى» راجع إلى «ترك التعلم» يعني : لا على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم.

(٣) أي : حين وجوب التعلم نفسيا ، إذ بعد فرض وجوبه النفسيّ تصح العقوبة على تركه لا على ترك الواقع.

__________________

(*) ثم انه يقع الكلام في أن وجوب التعلم هل هو نفسي أم لا؟ فيه وجوه :

أحدها : الوجوب النفسيّ الاستقلالي كوجوب الصلاة والصوم وغيرهما. أو النفسيّ التهيئي بمعنى تهيؤ المكلف بسبب الفحص والتعلم لامتثال التكاليف الإلزامية الوجوبية والتحريمية كما عن المحقق العراقي (قده)

ثانيها : الوجوب الطريقي كوجوب سائر الطرق الموجبة مخالفتها لاستحقاق العقوبة عند مصادفتها للواقع.

ثالثها : الوجوب الشرطي بمعنى جعل الفحص شرطا تعبديا للعمل بالأصول النافية ، وأن معذّريتها منوطة بذلك.

رابعها : الوجوب الغيري المقدمي ، بدعوى كون التعلم مقدمة للعمل.

خامسها : الوجوب العقلي بأن يكون إرشادا إلى حكم العقل بلزوم الفحص

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والتعلم تخلصا عن العقوبة المحتملة ، أما للعلم الإجمالي ، وإما لمنجزية احتمال التكليف قبل الفحص ، وإما لتوقف معذرية الجهل على استقراره المنوط بالفحص.

ويستدل للأول بظهور الأمر بشيء في مطلوبيته النفسيّة وقيام الملاك به ، وقد تقرر أن إطلاق الصيغة يقتضي النفسيّة والعينية والتعيينية ، فاحتمال وجوب التعلم غيريا مقدمة للعمل يندفع بهذا الظهور ، سواء قلنا بوجوبه النفسيّ ، لكونه نورا كما هو الحق في وجوب المعرفة ، أم بوجوبه النفسيّ التهيئي ، لكون الحكمة في إيجابه قابلية المكلف لا لقاء الخطابات إليه. وعليه فالعقاب على ترك التعلم والفحص لا على مخالفة الواقع.

وقد أورد عليه بما محصله : «أن مقتضى الظهور وان كان ما ذكر ، إلّا أن القرينة الصارفة عنه تقتضي كون وجوب التعلم طريقيا وان ترك العمل بترك الفحص ليس عذرا ، وتلك القرينة داخلية وخارجية. أما الداخلية فهي ظهور الأمر بالسؤال من أهل الذّكر في طريقيته للعمل بما يتعلمونه من الأحكام لا في مطلوبيته النفسيّة ، فان السؤال عن طريق كربلاء مثلا انما هو للوصول إلى تلك البلدة المقدسة ، ولا خصوصية في العلم بالطريق ، وعليه فالترغيب في السؤال من أهل الذّكر قرينة على كون الأمر به طريقا للعلم بالواقع وإحرازه.

وأما الخارجية فروايتان : إحداهما : رواية مسعدة بن زياد ، فان قوله : «فهلا تعلمت حتى تعمل» صريح في أن وجوب التعلم انما هو للعمل.

وثانيتهما : ما ورد في مجدور صار جنبا فغسلوه فمات فقال عليه‌السلام : «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا ألا يمّموه» فان عتابه عليه‌السلام ودعاءه عليهم لم يكن لمجرد ترك السؤال ، بل لترك التيمم أيضا ، إذ من الواضح أن مجرد السؤال والتعلم لم

٤١٦

ويسهل بذلك (١) الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدق

______________________________________________________

(١) أي : بوجوب التفقه والتعلم نفسيا يندفع إشكال العقوبة على مخالفة الواقع مع الغفلة حين المخالفة ، توضيحه : أن هذا الإشكال ـ الّذي دفعناه في غير الواجب المشروط والموقت بأن العقل لا يقبح المؤاخذة على ترك الواقع إذا انتهى إلى الاختيار ـ يمكن دفعه أيضا بما أفاده المحقق الأردبيلي وسيد المدارك قدس‌سرهما من كون وجوب التعلم نفسيا ، إذ العقاب حينئذ على ترك التعلم الّذي هو بنفسه أمر اختياري ، بخلاف المؤاخذة على نفس الواقع المغفول عنه حين المخالفة ، وعدم اختياريتها للغفلة المانعة عن صحة الخطاب الموجبة لقبح العقاب ، فلو لم يكتف بعض في دفع الإشكال عن صحة العقوبة على ترك الواقع بالانتهاء إلى الاختيار ، فله أن يدفع الإشكال بالالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب عليه.

وبهذا الجواب يندفع الإشكال في غير الواجب المشروط والموقت أيضا ،

__________________

يكن موجبا لنجاته من القتل ، وانما الموجب لنجاته كان هو التيمم ، فالأمر بالسؤال والتعلم انما هو للعمل لا محالة.

هذا مضافا إلى أنه على تقدير أداء ترك التعلم إلى خلاف الواقع ، فالقول باستحقاق العقاب على ترك التعلم دون المخالفة بعيد ، لأن وجوب الفحص انما هو لتنجز الواقع قبله ، فكيف يمكن الالتزام بعدم الاستحقاق على مخالفته. والالتزام باستحقاقه على ترك الفحص عنه ، فانه خلف والالتزام باستحقاق عقابين أبعد ولم يقل به أحد ، فتعين القول باستحقاق عقاب واحد على مخالفة الواقع دون ترك التعلم ، وهذا هو معنى الوجوب الطريقي» (١).

أقول : أما القرينة الداخلية المدعاة فلا تخلو من نظر ، إذ الكلام في وجوب التعلم نفسيّا وعدمه ، والأمر بالسؤال لا ريب في كونه طريقيا لحصول العلم.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩٧

٤١٧

كفاية (١) الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة

______________________________________________________

ضرورة أن العقاب حينئذ ليس على ترك الواقع المغفول عنه حتى يقبح ذلك لأجل الغفلة عنه ، بل العقوبة انما هي على ترك التعلم ، وضمير «غيرهما» راجع إلى المشروط والموقت.

(١) فاعل «صعب» ونائب فاعل «تصدق» بناء على كونه مجهولات. وأما بناء على ما عن بعض النسخ من «يصدق» بصيغة الغائب المعلوم ، ففاعل «صعب» ضمير راجع إلى الجواب المذكور ، و «كفاية» مفعول «يصدق» وفاعله ضمير مستتر فيه راجع إلى «أحد» يعني : لو صعب الجواب المذكور ـ وهو الانتهاء إلى الاختيار ـ على شخص ، ولم يصدّق كفاية الانتهاء إلى الاختيار ... إلخ.

وحاصله : أنه لو استشكل بعض في حسن المؤاخذة على ترك الواقع بعدم كفاية الانتهاء إلى الاختيار في حسنها ، فلا بد أن يدفع الإشكال في غير الواجب المشروط والموقت بوجه آخر ، وهو الالتزام بوجوب التعلم نفسيا ليكون العقاب على تركه ، لا على ترك الواقع ، وفي المشروط والموقت بهذا الوجه. أو بالالتزام

__________________

وأما وجوب التعلم فلا يستفاد منه أنه نفسي أم طريقي ، والاستشهاد على الطريقية بالسؤال عن طريق كربلاء ممنوع ، للقرينة على أن الغرض منه الوصول إلى تلك المدينة المقدسة ، فهو سؤال عن مفروغ الطريقية ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية فان دعوى طريقية أوامر التعلم مصادرة على المطلوب. ولا سيما مع ملاحظة مورد الآية وهو أصول العقائد كما يظهر من صدرها : «وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذّكر ...» ولا ريب في أن تحصيل المعارف الإلهية مطلوب نفسي ، وله الموضوعية لا المقدمية للعمل ، وعليه فلم يتضح قرينية السؤال على طريقية الفحص والتعلم.

وأما القرينة الخارجية من معتبرة ابن زياد وغيرها فهي تامة بالنسبة إلى

٤١٨

على ما (١) كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار

______________________________________________________

بكونهما من الواجب المطلق المعلق الّذي سيأتي توضيحه عند شرح كلام المصنف (قده)

فالمتحصل : أن إشكال العقوبة على الواقع المغفول عنه يندفع في الواجب المطلق بأحد وجهين على سبيل منع الخلو ، اما بالانتهاء إلى الاختيار ، واما بكون العقوبة على ترك التعلم الّذي هو واجب نفسي تهيئي ، وفي الواجب المشروط والموقت أيضا بأحد وجهين ، وهما : الالتزام بالوجوب النفسيّ التهيئي للتعلم ، وكون الواجب فيهما مطلقا لا مشروطا.

(١) أي : الواقع الّذي كان فعلا ـ يعني حين المخالفة ـ مغفولا عنه ، ولم يكن تركه حينئذ بالاختيار ، حيث ان الغفلة تخرج مخالفة الواقع عن حيّز الاختيار ، فلا تصح المؤاخذة عليه ، لعدم كونه اختياريا.

__________________

نفي ما يدعيه صاحب المدارك وشيخه الأردبيلي من الوجوب النفسيّ ، لظهورها في عدم معذورية الجاهل التارك للواقع بتركه السؤال والفحص ، وبه يسقط الظهور الإطلاقي لأوامر التعلم في المطلوبية النفسيّة عن الحجية ، كما تسقط دعوى الوجوب التهيئي بأن يكون التعلم واجبا نفسيا حتى يتهيأ المكلف لإلقاء الخطابات الشرعية إليه ، إذ الغافل لغفلته غير قابل لإلقائها إليه. وذلك لظهور المعتبرة وغيرها في كون التعلم لمحض العمل لا لمطلوبيته في نفسه الناشئة من كون الحكمة فيه التهيؤ.

والحاصل : أن ظهور «هلا تعلمت حتى تعمل» في أن التعلم ليس مقصودا بالذات ومطلوبا لنفسه غير قابل للإنكار ، إلّا أن استفادة الوجوب الطريقي منه وهو الإنشاء بداعي تنجيز الواقع ـ كما أراد دام ظله ـ استظهاره منه ومن نظائره غير واضحة ، إذ الوجوب الطريقي كما صرح به في بحث البراءة هو الّذي

٤١٩

ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال (١) إلّا بذلك (٢)

______________________________________________________

(١) أي : استحقاق العقوبة في الواجب المشروط والموقت ، لعدم تكليف فعلي فيهما توجب مخالفته استحقاقها لا قبل الشرط ولا بعده كما تقدم تفصيله ، وضمير «أنه» للشأن.

(٢) أي : بالالتزام بالوجوب النفسيّ التهيئي للتعلم ، وغرضه : أن هذا الإشكال لا يندفع عن الواجب المشروط والموقت إلّا بأحد وجهين قد أشير إليهما : أحدهما : وجوب التعلم نفسيا لتكون العقوبة على تركه ، لا على مخالفة الواقع. والآخر كون الوجوب في الواجب المشروط والموقت مطلقا بجعل الشرط وقتا كان أم غيره من قيود المادة لا الهيئة ، فالوجوب فعلي غير مشروط بشيء ، ويترشح منه الوجوب على مقدماته كالتعلم ، فترك الفحص والتعلم حينئذ يصحح العقوبة على ما يقع بعد ذلك غفلة من مخالفة الواقع.

__________________

يترتب عليه احتمال العقاب ويكون إيجابه منشأ له ، لعدم استلزام احتمال التكليف الواقعي لاحتمال العقاب إلّا مع تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بنفسه أو بطريقه ، كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات ، إذ لولاها لم يكن العقاب محتملا.

وهذا الضابط لا ينطبق على وجوب الفحص عن أحكام المولى ، فانه (مد ظله) في ثالث أدلة اعتبار الفحص في الرجوع إلى البراءة جعل ذلك مقتضى حكم العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة قبله ، لفرض احتمال العقاب الّذي لا بد من دفعه بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فإذا استند لزوم الفحص عن أحكام المولى إلى هذا الحكم العقلي ، فمقتضاه كون احتمال العقاب في رتبة سابقة على وجوب التعلم كما هو شأن الاستدلال بقاعدة وجوب الدفع على منجزية العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة مثلا لا ناشئا منه.

وعليه فالالتزام بأن مناط وجوب الفحص هو حكم العقل بلزوم دفع الضرر

٤٢٠