منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الملاقي ، لتقدمه رتبة كما في الرسائل ، وأنه بمجرد التعبد بطهارة الملاقى يلزم ترتيب آثار الطهارة على الملاقي ، والعلم الإجمالي يمنع من التعبد بطهارة الملاقي ظاهرا ، أو وجوب الاجتناب عن الطاهر الظاهري.

وأما على مبنى اقتضاء العلم الإجمالي ـ كما لعله هو مبنى الإشكال ـ فقد يشكل هذا الكلام ، من جهة أن حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الملاقي ليس إلّا لرعاية احتمال التكليف فيه ووجوب دفع الضرر المحتمل ، ومن المعلوم أن هذا الحكم العقلي معلق على عدم تأمين الشارع وعدم تصرفه في مرحلة الفراغ ، إذ معه لا مسرح لحكمه بلزوم تحصيل القطع بالامتثال ، وعليه فإذا ورد التأمين الشرعي بلسان أصل الطهارة في الملاقى المستتبع لطهارة ملاقيه ظاهرا ، فقد حصل المانع من تنجيز العلم الإجمالي ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي حينئذ ، إلّا أن يرفع اليد عن الملازمة بين طهارة المتلاقيين ظاهرا ، والالتزام به كما ترى.

والحاصل : أن التخلص من الإشكال المذكور منوط بالالتزام بعلية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وأما على مسلك الاقتضاء فالجواب المذكور لا يخلو من شيء ، إلّا أن المصنف ومن تبعه في سعة منه بناء على ما أسسوه من علية العلم الإجمالي له.

المورد الثاني للصورة الثانية ـ وهي وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ـ العلم بالملاقاة ثم حدوث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ، وخروج الملاقى عن الابتلاء قبله أو مقارنا له وصيرورته مبتلى به بعده وقد بيّنا في التوضيح مقصود المصنف (قده) ووجه حكمه بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقى اعتمادا على كلماته الشريفة في الفوائد ، فراجع.

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وقد أورد عليه شيخ مشايخنا المحقق النائيني وغيره «بأنه لا أثر لخروج الملاقى عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم» والظاهر متانة هذا الإشكال ، إذ المفروض دوران المعلوم بالإجمال بين أطراف ثلاثة ، وخروج بعضها عن الابتلاء وان كان مانعا عن اشتغال الذّمّة به ، لكن إذا صار مبتلى به ثانيا ارتفع المانع عن الاشتغال ، فيجب الاجتناب ، وليس في المقام علمان كما في الصورة الأولى كي يشكل عليه بأنه غير منجز ، لاستحالة تنجز المنجز.

هذا إذا قلنا يدخل الابتلاء في مرتبة تنجز التكليف كما بنى عليه المصنف في حاشية الرسائل.

وأما بناء على كونه شرطا لفعلية الخطاب ، فالحق معه في عدم تأثير عود الملاقى إلى محل الابتلاء في وجوب الاجتناب عنه.

وفي هذا الفرض يرد إشكال شيخنا المحقق العراقي على ما استدل به مثل شيخنا الأعظم من عدم جريان الأصل في المفقود حتى يعارض أصل الطرف ويسلم أصل الملاقي عن المعارضة حتى لا يجب الاجتناب عنه بأن الخروج عن محل الابتلاء لا يمنع عن جريان الأصل فيه إذا ترتب عليه أثر فعلي ولو بالنسبة إلى ما يتبعه ، قال في المقالات : «وهذا المعنى بناء على علية العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية في غاية المتانة ، لأن العلم الإجمالي الحاصل بين اللازم وطرف الملزوم التالف كان منجزا للطرفين ، لعدم سبق علم آخر في البين يمنع عن تنجيز هذا العلم ، فيؤثر حينئذ أثره سواء كان فيه أصل غير معارض لأصل طرفه أو لم يكن. وأما لو بنينا على اقتضاء العلم في تأثيره في الموافقة القطعية بحيث كان

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قابلا لمنع المانع ، فهذا الكلام انما يتم في الأصول غير التنزيلية مثل قاعدة الحل على وجه بضميمة كون حلية اللازم أيضا من آثار حلية الملزوم ولو ظاهريا .... إلى أن قال : وأما لو كان الأصل تنزيليا كالاستصحاب مثلا ، فلا شبهة في جريانه حتى في التالف أو الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ ما له من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلف فعلا ، ولازمه حينئذ معارضة هذا الأصل الجاري في التالف مع الأصل في طرفه ، ويتساقط الأصلان ويرجع حينئذ إلى الأصل الجاري مستقلا في اللازم المسبب ، ونتيجته عدم لزوم الاجتناب عن الملزوم أيضا حتى في فرض التلف ، فلا مجال حينئذ لقيام المسبب مقام السبب عند تلف السبب ....» (١).

الصورة الثالثة : حصول العلم بالملاقاة ثم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو عدله مع كون الجميع مورد الابتلاء ، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف ، لتعلق العلم بتكليف لم يتنجز بمنجز سابق ، فيصلح لأن يتنجز بهذا العلم ، غاية الأمر أن التكليف في بعض الأطراف ليس من سنخ التكليف في بعضها الآخر ، فانه بالنسبة إلى الملاقى والطرف هو وجوب الاجتناب عن النجس ، وبالنسبة إلى الملاقي هو وجوب الاجتناب عن المتنجس ، نظير العلم بنجاسة أحد هذين الإناءين وغصبية الثالث ، إذ لا ريب في تنجز الحكم الواقعي بالعلم في هذا المثال. وهنا كذلك ، فيدور الأمر بين وجوب الاجتناب عن النجس المردد بين الأصليين وعن المتنجس القائم بالملاقي ، وهو منجّز. والملاقاة الخارجية وان كانت سابقة على العلم الإجمالي ، إلّا أن الموجب الاشتغال الذّمّة عقلا بالتكليف هو العلم بنجاسة الملاقى والطرف ، وهو كما تعلق بالأصليين كذلك تعلق بالملاقي في عرض واحد ، لأن العلم بالملاقاة

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ٢ ، ص ٩٥

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

جعل المتلاقيين بمنزلة عدل واحد ، وهذا مراده قدس‌سره بقوله : «فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنان».

والمحكي عن المحقق النائيني وفاقا للشيخ الأعظم (قدهما) عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة ، بدعوى أن الأصل الجاري فيه متأخر رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى ، فيكون سليما عن المعارضة مع أصل الطرف.

ويرد عليه ما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من : أن الأصل الجاري في الملاقي وان كان متأخرا بالرتبة عن الأصل الجاري في الملاقى ، لكنه في عرض الأصل الجاري في طرفه ، لعدم ترتبه عليه حتى يكون أصله متأخرا عن الأصل الجاري في صاحب الملاقى ، فحينئذ تتعارض الأصول الثلاثة ويتنجز التكليف المعلوم.

وتوهم تأخر أصل الملاقي عن أصل الطرف بقياس المساواة ، حيث انه متأخر عن أصل الملاقى ، وبما أن الأصليين في رتبة واحدة ، فيتأخر مرتبة أصل الملاقي عن الطرف أيضا ، لأن المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر أيضا ، مندفع بتمامية القياس المذكور في التقدم والتأخر الزمانيين والشرفيين دون الرتبيين كما في المقام ، فان وجود العلة وعدمها متساويان في الرتبة ، ووجود المعلول وان كان متأخرا عن وجود علته ، لمكان معلوليته الموجبة لتأخر وجوده رتبة عنها ، إلّا أن ذلك لا يقتضي كونه متأخرا عنها عدما أيضا ، إذ لا علّية ولا معلولية بينهما في مرتبة العدم.

وبعبارة أخرى : التقدم والتأخر رتبة عبارة عن كون المتأخر ناشئا من المتقدم ومعلولا له ، وكون شيء ناشئا من أحد المتساويين في الرتبة ومعلولا له لا يقتضي

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كونه ناشئا من الآخر ومعلولا له أيضا ، هذا.

مضافا إلى أن أدلة اعتبار الأصول ناظرة إلى الأعمال الخارجية ومتكلفة لبيان أحكامها ، ومن هنا سميت بالأصول العملية ، وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه ، ومع فعلية الشك في كل واحد من المتلاقيين لا وجه لاختصاص المعارضة بالأصل السببي بعد تساوي نسبة العلم الإجمالي إليه وإلى الأصل المسببي. نعم التقدم الرتبي انما يجدي على تقدير جريان الأصل في السبب ، وأما على تقدير عدم جريانه فيه فهو والأصل المسببي على حد سواء (١).

ولا يخفى أن الأصل في الملاقي وان لم يكن متأخرا رتبة عن أصل طرف الملاقى ، إلّا أنه مع ذلك لا يجري في عرض أصل طرف الملاقى ، كي تتعارض الأصول الثلاثة ، لأن جريان الأصل المسببي منوط بسقوط الأصل السببي كما ثبت في محله ، ففي المقام لا يجري الأصل في الملاقي الا بعد سقوطه في الملاقى ، ومن المعلوم أن سقوطه منوط بمعارضته لأصل طرفه حتى يسقط أصلاهما معا وتصل النوبة إلى أصل الملاقي.

وبالجملة : أصل الملاقي وان لم يكن متأخرا رتبة عن أصل طرف ملاقاة ، وذلك يقتضي جريانه في عرض جريان أصله ، لكنه مع ذلك لا يجري في عرضه ، لإناطة جريانه بسقوط أصل ملاقاة ، والمفروض توقف سقوطه على معارضته لأصل طرفه ، فجريان أصل الملاقي يتوقف على سقوط أصل صاحب الملاقى.

فالنتيجة : أن أصل الملاقي قبل سقوط أصلي الملاقى وطرفه لا يجري حتى يسقط بمعارضته لهما ، وبعد سقوطهما يجري بلا مانع ، فلا تجتمع الأصول

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٤١٨ ، التنقيح ، ج ٢ ، ص ٣٨٠

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثلاثة حتى تتعارض كي يجب الاجتناب عن الملاقي.

وأما ما أفاده دام ظله «من فعلية الشك في كل واحد من المتلاقيين» ففيه : أن المراد بفعليته ان كان هو وجود الشك وجدانا فلا كلام فيه ، لكنه غير مقصود ، وإلّا لبطل ما أسّسوه من حكومة الأصول بعضها على بعض ، إذ الحكومة لا ترفع الشك الموضوع في الأصل المحكوم وجدانا.

وان كان هو الشك مع العلاج ، ففيه : أن الشك في الملاقي ليس موضوعا للأصل مطلقا ، بل بعد سقوط الأصل في الأصليين.

ومنه ظهر : أن التقدم الرتبي يوجب إناطة جريان الأصل في المسبب بعدم جريانه في السبب.

وأما ما أفاده دام ظله بقوله : «مضافا إلى أن أدلة اعتبار الأصول ناظرة إلى الأعمال الخارجية .... إلخ» ففيه : أن المراد بالأصول العملية هي الأصول التي يرجع إليها الشاك المتحير في الحكم الواقعي في تعيين وظيفته التي هي أعم من الفعل والترك ، فالمراد بالعمل ليس هو خصوص الفعل الوجوديّ ، بل أعم من الفعل والترك ، كما يشهد بذلك أصالة الاشتغال ، فانها قد تقتضي الفعل كما في الشبهات الوجوبية ، وقد تقتضي الترك كما في الشبهات التحريمية. وكذلك قاعدة التخيير ، حيث ان مقتضاها التخيير بين الفعل والترك ، فالمراد بالعمل في الأصول العملية هو ما يعم الفعل والترك.

وأما قوله مد ظله : «وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه» ففيه : أنه لا إشكال في عدم تكفل شيء من الأدلة لحفظ موضوعه ، بل مقتضاها ثبوت الحكم لموضوعه على تقدير وجوده ، فلا بد لإحراز الموضوع من دليل آخر ، وحينئذ

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نقول : ان دليل الأصل العملي قاصر عن إثبات موضوعه في الشك المسببي ، لأن شكه يعالج بدليل الأصل السببي ، وموضوعيته للأصل المسببي منوطة بعدم علاجه بجريان الأصل السببي ، إذ مع علاجه به يرتفع تعبدا ، ولا يبقى حتى يشمله دليل الأصل المسببي.

هذا ما يتعلق بحكم الملاقي حسب حالاته المختلفة التي أفادها المصنف هنا وفي الفوائد.

ومنه يعلم حكم بعض الصور الأخرى التي لم يتعرض لها قدس‌سره مثل ما إذا توسط العلم الإجمالي بوجود النجس بين الملاقى وطرفه بين الملاقاة والعلم بها ، كما إذا لاقى الثوب الإناء الأبيض يوم السبت مثلا ، وعلم إجمالا يوم الأحد بنجاسة الإناء الأبيض أو الإناء الأحمر ، ثم علم يوم الاثنين بملاقاة الثوب للإناء الأبيض يوم السبت ، فالمسألة عند المصنف ملحقة بالصورة الأولى التي يقتصر فيها على تنجز التكليف في الأصليين ، فان الملاقاة وان كانت متقدمة على العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، إلّا أنه حيث لا علم بها حين العلم الإجمالي بالنجاسة ، فيتنجز بهذا العلم الحادث يوم الأحد التكليف بين الأصليين.

والعلم بالملاقاة لا يوجب حدوث تكليف جديد بين الملاقي والطرف ، بل هو علم بالموضوع ، لتنجز الحكم على تقدير كونه في طرف الملاقى بالعلم الإجمالي السابق ، فيصير التكليف في الملاقي مشكوك الحدوث ، وهو مجرى الأصل.

ودعوى لزوم الاجتناب هنا عن الملاقي أيضا ، إذ العبرة بالمعلوم لا العلم ، فانه طريق محض إلى متعلقه ، وحيث ان الملاقاة سابقة على العلم ، فالتكليف

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موجود واقعا ، ولا بد من الاجتناب كما في الصورة الثالثة ، مخدوشة بما تقدم في مطاوي الكلمات من أن النّظر إلى الحيث الطريقي للعلم انما هو لترتيب الآثار الشرعية دون مثل التنجيز والتعذير اللذين يكون لقيام الحجة موضوعية لهما عقلا ، وحيث ان قيام الحجة على نجاسة أحد الإناءين متأخر عن زمان ملاقاة الثوب للإناء الأبيض ، فلا يكون منجزا بالنسبة إلى الملاقي وهو الثوب.

وعليه فالعلم الإجمالي السابق كان مقتضيا للتنجيز بلا مانع منه ، والعلم الثاني الحاصل بالعلم بالملاقاة غير صالح لتنجيز ما تنجز ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب الملاقي.

هذا بعض الكلام حول مسألة الملاقي ، واقتصرنا عليه ولم نستقص الصور بالتفصيل خوفا من الإطالة والخروج عن قانون الشرح ، وبهذا فرغنا عن تنبيهات الاشتغال التي عقدها المصنف أو أشار إليها ، وبقي أمور لم نتعرض لها تبعا للماتن وان كان المناسب جدا بيانها ولو بنحو الاختصار لئلا تخلو دورة الأصول من مهام أبحاثها.

١٨٨

المقام الثاني (١) : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر

الارتباطيين

والحق أن العلم الإجمالي بثبوت التكليف

______________________________________________________

الأقل والأكثر الارتباطيان

(١) يعني : من الشك في المكلف به ، فان المقام الأول منه كان في المتباينين والثاني منه يكون في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وينبغي قبل توضيح المتن بيان أمور :

الأول : في الفرق بين المتباينين والأقل والأكثر الارتباطيين والاستقلاليين ، أما المتباينان فقد مضى تعريفهما في المقام الأول من الشك في المكلف به ، وحاصله عدم انطباق أحد طرفي الترديد على الطرف الآخر سواء كان التباين ذاتيا كما في الصوم والإطعام إذا تردد التكليف بينهما ، أم عرضيا كما في القصر والتمام ، فان القصر وان كان بعض التمام وجزءا له ، لكنه لمّا لوحظ بشرط لا والتمام بشرط شيء صارا متباينين بالعرض ، ولذا يتوقف الاحتياط على رعاية التكليف في كل واحد من الطرفين.

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الأقل والأكثر فطرفا الترديد يمكن اجتماعهما بالإتيان بالأكثر.

والفرق بين الارتباطيين والاستقلاليين هو : أن المركب الارتباطي يتألف من أشياء يكون بين الأوامر المتعلقة بها ملازمة ثبوتا وسقوطا ، كتلازم الأغراض والملاكات الداعية إلى تلك الأوامر التي هي أمر واحد حقيقة منبسط على تلك الأشياء. والمركب الاستقلالي يتألف من أشياء يتعلق بها أوامر لا ملازمة بينها ثبوتا وسقوطا ، بل يكون لكل منها إطاعة مستقلة. وعليه فالحكم في المركب الارتباطي واحد ، وفي الاستقلالي متعدد ، فأمر التكبيرة وغيرها من أجزاء الصلاة التي هي من المركبات الارتباطية لا يسقط إلّا مع سقوط أوامر سائر أجزائها من الركوع والسجود والقراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأجزاء.

ولأجل هذا الارتباط عدّ المقام من صور الشك في المكلف به ، فلو علم إجمالا بوجوب الصلاة وتردد متعلقه بين تسعة أجزاء وعشرة ، فان مقتضى الارتباطية عدم سقوط أمر الصلاة لو أتى بها مجردة عن مشكوك الجزئية على تقدير جزئيته واقعا ، وهذا بخلاف الاستقلاليين ، فان وجود الأكثر على تقدير وجوبه واقعا غير معتبر في صحة الأقل وسقوط أمره ، فان الأمر المتعلق بالأقل نفسي استقلالي أيضا ، ويترتب الغرض عليه مطلقا ولو مع عدم تحقق الأكثر ، نظير الدين وقضاء الفوائت وقضاء صوم شهر رمضان إذا ترددت بين الأقل والأكثر ، فان أداء الأقل من الدين وقضاء الفوائت وقضاء صوم شهر رمضان يوجب سقوط أوامرها وان كان الأكثر واجبا واقعا ، ولزم امتثاله أيضا ، حيث ان وجوبه استقلالي كوجوب الأقل ، فلا يعتبر في سقوطه إطاعة الأمر بالأكثر.

والحاصل : أن وحدة التكليف في الارتباطيين وتعدده في الاستقلاليين المستلزم لتعدد الإطاعة والعصيان هو الفارق بينهما.

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وليس الملاك وحدة الغرض القائم بالمتعلق وتعدده ، لإمكان تعدد الغرض في المركب الارتباطي مع الارتباطية بين نفس الأغراض المتعددة ، فالمائز بين الاستقلالي والارتباطي هو وحدة الحكم في الثاني وتعدده في الأول.

الثاني : الظاهر أن النزاع في المقام بناء على انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الزائد عليه مندرج في الشك في التكليف كما هو مدعى القائل بالانحلال ، وبناء على عدم الانحلال مندرج في الشك في المكلف به ، ومن المعلوم أن مقتضى العلم بالتكليف الفعلي حينئذ بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو وجوب الاحتياط عقلا بالإتيان بالأكثر ، كوجوبه في المتباينين.

الثالث : في بيان أقسام الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهي أنه تارة يكون الأكثر المحتمل وجوبه زائدا على الأقل بحسب الوجود الخارجي فيكون من مقولة الكم ، وأخرى يكون زائدا عليه بحسب الوجود الذهني مع اتحاده مع الأقل ، فالزائد حينئذ من مقولة الكيف ، فالمعتبر حقيقة تقيده لا نفسه ، وهذا هو الشك في الشرطية ، ويندرج فيه الشك في المانعية باعتبار أن تقييد المأمور به بعدم المانع كتقييده بوجود الشرط ، وقيدية عدم المانع مع عدم تأثير العدم انما هي بلحاظ كون وجوده مخلا بالمأمور به ، فتحققه في الخارجي منوط بعدم المانع.

ولم يتعرض المصنف في المتن لذكر أقسام الأقل والأكثر ، ولكنه بينها في حاشية الرسائل ، فلا بأس بذكرها لما فيه من الفائدة كما سنشير إليه في التنبيه الأول قال (قده) : «الجزء المشكوك فيه اما جزء خارجي وهو ما كان له وجود على حدة قد أخذ في المأمور به كما أخذ فيه الاجزاء الأخر .... واما جزء تحليلي عقلي ، وهو ما لا وجود له في الخارج على حدة ، بل هو وسائر الاجزاء التي

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

تكون كذلك موجودة بوجود واحد ، وهذا كالفصول للأنواع. واما جزء ذهني وهو ما لا وجود له في الخارج أصلا ، وانما يكون وجوده بمعنى وجود منشأ انتزاعه كالتقيد للمقيد ، ومنشأ انتزاعه تارة يكون مباينا في الوجود مع المقيد كالطهارة مع الصلاة ، وأخرى من عوارضه وأحواله كالسواد والبياض والكفر والإيمان ..».

ولا يخفى أن الشيخ الأعظم جريان على تبويبه لمسائل الشك في التكليف والمكلف به عقد مسائل أربع للشك في الأقل والأكثر الارتباطيين من ناحية الجزء الخارجي ، باعتبار منشأ الشك من كونه تارة فقد النص وأخرى إجماله وثالثة تعارضه ورابعة اشتباه الأمور الخارجية ، وعقد مسألة للشك في القيد. ولكن المصنف ـ لما نبّه عليه في أول بحث البراءة من وحدة المناط ـ عقد المقام الثاني للشك في الجزء الخارجي والتنبيه الأول لغيره من الأجزاء التحليلية والذهنية مهما كان منشأ الاشتباه.

الرابع : أن نزاع الأقل والأكثر الارتباطيين كما يجري في الشبهات الوجوبية مثل الصلاة ، كذلك يجري في الشبهات التحريمية ، بأن كان المحرّم هو الأكثر أو المقيد ، ويمكن التمثيل له بحرمة تصوير تمام الجسم من ذوات الأرواح ، وحرمة حلق تمام اللحية ، فان الأقل منهما وهو تصوير بعضه وحلق بعض اللحية مشكوك الحرمة ، وهذا لم يتعرض له الشيخ أيضا ، بل قال : «واعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلف به صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأن مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشك في أصل التكليف ، لأن الأكثر معلوم الحرمة والشك في حرمة الأقل».

إلّا أن يقال : ان متعلق الحرمة إذا كان مركبا ذا أجزاء ، والمفروض أن المركب عين الأجزاء ، فلا ينفك العلم بحرمة الأكثر عن العلم بحرمة الأقل ، فتدبر.

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور ، فلنشرع في توضيح المتن ، فنقول : ان

١٩٢

بينهما (١) أيضا (٢) يوجب الاحتياط عقلا بإتيان

______________________________________________________

في الأقل والأكثر الارتباطيين أقوالا ثلاثة :

الأول : ما اختاره شيخنا الأعظم من جريان البراءة العقلية والنقليّة في الأكثر ، قال : «فالمختار جريان أصل البراءة ، لنا على ذلك حكم العقل وما ورد من النقل».

الثاني : عدم جريان شيء منهما ، بل الحكم وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر ، وهو المنسوب إلى المحقق السبزواري على ما حكاه عنه الشيخ بقوله : «بل الإنصاف أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط» وهو مختار المصنف في حاشية الكتاب التي ستمر عليك ، حيث عدل عما في المتن إلى عدم جريان البراءة النقليّة.

الثالث : التفصيل بين البراءة العقلية والشرعية بجريان الثانية دون الأولى ، فلا بد من الاحتياط عقلا ، وهذا هو مختار المصنف في المتن ، وقد استدل عليه بوجهين : الأول من ناحية منجزية العلم الإجمالي بالتكليف ، والآخر من ناحية العلم بالغرض ، وسيأتي بيانهما.

(١) أي : بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهذا شروع في الاستدلال على مختاره من لزوم الاحتياط عقلا ، وأما جريان البراءة شرعا ، فسيأتي بعد الفراغ من الوجهين المقتضيين للاشتغال بحكم العقل.

ومحصل هذا الوجه : أن العلم الإجمالي بثبوت التكليف بين الأقل والأكثر الارتباطيين يوجب الاحتياط كسائر العلوم الإجمالية المنجزة للتكاليف الموجبة للاحتياط ، فالاشتغال اليقيني بالتكليف النفسيّ يقتضي لزوم تحصيل العلم بفراغ الذّمّة المتوقف على الإتيان بالأكثر ، إذ لو كان هو الواجب لكان فعل الأقل لغوا ، وحيث ان هذا العلم غير منحل كما سيظهر فلا مناص من الاحتياط.

(٢) أي : كما أن العلم بثبوت التكليف بين المتباينين يوجب الاحتياط.

١٩٣

الأكثر (١) ، لتنجزه به (٢) حيث (٣) تعلق بثبوته فعلا.

وتوهم انحلاله (٤) إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في

______________________________________________________

(١) قيل : ان مفروض الكلام هو ما إذا لم يكن الزائد المحتمل وجوبه من الأركان التي يبطل الكل بتركه مطلقا عمدا أو سهوا أو نسيانا كالركوع في الصلاة ، بل مثل السورة فيها. لكنه لا يخلو من التأمل ، إذ لا فرق في جريان البراءة على القول به بين كون مجراها محتمل الركنية أو غيره كما هو مقتضى إطلاق دليلها.

(٢) أي : لتنجز التكليف بالأكثر بالعلم الإجمالي.

(٣) تعليل لقوله : «لتنجزه» وحاصله : أن علة تنجز التكليف الموجب للاحتياط عقلا هي كون العلم الإجمالي هنا واجدا لشرط التنجيز وهو العلم بالتكليف الفعلي ، فلا محيص حينئذ من تحصيل العلم بالفراغ بإتيان الأكثر.

(٤) أي : انحلال العلم الإجمالي ، وهذا إشارة إلى كلام الشيخ الأعظم القائل بالانحلال بجريان البراءة العقلية والنقليّة في المقام ، وله طريقان للانحلال يبتني أحدهما على العلم بوجوب الأقل تفصيلا اما نفسيا واما غيريا ، وثانيهما على العلم بوجوب الأقل نفسيا كذلك اما ضمنيا واما استقلاليا ، وكلام الماتن ناظر إلى المسلك الأول للانحلال ، قال شيخنا الأعظم : «وبالجملة : فالعلم الإجمالي غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلا والآخر مشكوك الإلزام رأسا ، ودوران الإلزام في الأقل بين كونه مقدميا أو نفسيا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل ...».

وتوضيحه : أن العلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ المردد بين الأقل والأكثر ينحل بوجوب الأقل تفصيلا اما بوجوب نفسي لو كان هو المأمور به ، واما بوجوب غيري لو كان المأمور به هو الأكثر ، فاجتمع علمان في الأقل أحدهما العلم التفصيليّ بتعلق إلزام المولى به ، وثانيهما العلم الإجمالي بوجهه ، وهو تردده بين النفسيّ

١٩٤

وجوب الأكثر بدوا ، ضرورة (١) لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعا أو لغيره كذلك (٢) أو عقلا ، ومعه (٣) لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر فاسد (٤) قطعا ، لاستلزام الانحلال المحال ،

______________________________________________________

والغيري ، والمعتبر في الانحلال هو العلم التفصيليّ بالإلزام في أحد الطرفين وان لم يعلم وجهه ، إذ الموضوع لحكم العقل باشتغال الذّمّة هو العلم بذات الوجوب ، وأما العلم بخصوصيته فلا يعتبر فيه.

وعليه فالتكليف بالنسبة إلى الأقل منجز ويترتب العقاب على مخالفته ، لكونه مخالفة لما هو واجب على كل تقدير ، فترك الواجب إذا كان من ناحية الأقل ترتب عليه استحقاق العقوبة ، بخلاف ما إذا كان تركه من ناحية الأكثر ، فانه لا يترتب عليه استحقاق المؤاخذة ، لعدم تنجز وجوبه ، فالتكليف بالنسبة إليه بلا بيان ، وهو مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(١) تعليل لقوله : «وانحلاله» وبيان له ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) أي : شرعا ، وقوله : «لغيره» معطوف على «لنفسه» وضميراهما راجعان إلى «الأقل» ثم ان هذا الوجوب الشرعي مبني على كون وجوب المقدمة شرعيا كما قيل لقاعدة الملازمة أو غيرها وقوله : «عقلا» قيد أيضا لـ «غيره» أي بناء على كون وجوب المقدمة غيريا عقليا.

(٣) أي : ومع الانحلال لا يوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر ، فضمير «يوجب» راجع إلى العلم الإجمالي. وضميرا «تنجزه ، كان» راجعان إلى التكليف.

(٤) خبر «وتوهم» وردّ لكلام الشيخ الأعظم (قده) ، وقد أجاب عنه بوجهين أحدهما : وهو المذكور في حاشيته على الرسائل أيضا استلزام الانحلال للمحال

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الخلف ، وما يترتب عليه المحال محال أيضا ، وثانيهما التناقض ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانه عند شرح كلام المصنف (قده).

أما الوجه الأول ، فتوضيحه منوط بالإشارة إلى أمور :

الأول : أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط والفعلية والتنجز ، لأن وجوبها سواء كان بحكم الشرع أم العقل وجوب ترشحي متفرع في مقام الثبوت على وجوب ذي المقدمة ، فيقال : وجب ذو المقدمة فوجبت مقدمته ، وتخلل الفاء برهان الترتب الثبوتي ، وفي مرتبة التنجز لا بد أيضا من تنجز حكم ذي المقدمة حتى يتنجز حكم المقدمة ، وهذا واضح.

الثاني : أن الخلف محال ، مثلا إذا فرض اشتراط جواز التقليد بعدالة المجتهد ثم بني على جواز تقليد الفاسق ، لزم أن لا يكون ما فرض شرطا له بشرط ، وهذا محال ، للزوم التناقض وهو دخل العدالة وعدمه في جواز التقليد.

الثالث : أن يكون وجوب الأقل غيريا على تقدير وجوب الأكثر نفسيا بناء على ما قيل من تصوير المقدمات الداخلية.

الرابع : أن مقتضى الانحلال هو عدم تنجز التكليف المعلوم إجمالا بناء على تعلقه بغير ما قامت الحجة على ثبوت التكليف فيه من الأطراف ، كما إذا قامت البينة مثلا على نجاسة أحد الإناءين معينا بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فان مقتضى الانحلال عدم تنجز وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال والعذر عن مخالفته على تقدير انطباقه على غير ما قامت البينة على نجاسته.

الخامس : يعتبر في انحلال العلم الإجمالي بالتكليف تنجز الطلب في بعض الأطراف على كل تقدير حتى يتبدل العلم الإجمالي به يعلم تفصيلي بالتكليف في ذلك الطرف وشك بدوي في الآخر ، وحينئذ يستقل العقل باشتغال الذّمّة بالتكليف فيما

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تنجز فيه والبراءة عمّا لم يتنجز فيه ، فالعلم بوجوب الأقل نفسيا أو غيريا انما ينحل إذا كان وجوبه المعلوم بالتفصيل منجّزا على كل تقدير ، إذ لو لم يكن كذلك بأن لكان منجزا على تقدير وجوبه النفسيّ وغير منجز على تقدير وجوبه الغيري ـ لجريان البراءة عن الأكثر المستلزم لعدم تنجز وجوب الأقل غيريا ومقدميا ـ لما أمكن دعوى اشتغال الذّمّة به قطعا حتى يرتفع الترديد المقوّم للعلم الإجمالي ، إذ الموجب لاشتغال الذّمّة هو التكليف الفعلي المنجز لا الفعلي ولو لم يبلغ مرتبة التنجز ، فإذا لم يتنجز وجوب الأكثر لم يتنجز وجوب الأقل الّذي هو مقدمة له ، وحينئذ فلم يعلم اشتغال الذّمّة بهذا الأقل على تقدير وجوبه الغيري ، والمفروض أن الانحلال متوقف على القطع بالاشتغال بأحد الطرفين بالخصوص على كل تقدير ، وإلّا فلا مجال له ، لتبعية النتيجة لأخس المقدمتين (*)

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي هنا في غير محلها ، لأنه خلاف الفرض ، إذ المفروض توقف الانحلال على تنجز وجوب الأقل على كل تقدير ـ بمقتضى المقدمة الخامسة ـ سواء كان الواجب الواقعي هو الأقل أم الأكثر ، مع أنه ليس كذلك ، فان الواجب لو كان هو الأكثر لم يكن

__________________

(*) قد يقال : «ان الانحلال لا يتوقف على تنجز التكليف على تقديري تعلقه بالأقل وتعلقه بالأكثر ، بل الانحلال وتنجز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان ، فكيف يكون متوقفا عليه ، بل الانحلال مبني على العلم بوجوب ذات الأقل على كل تقدير أي على تقدير وجوب الأقل في الواقع بنحو الإطلاق وعلى تقدير وجوبه في الواقع بنحو التقييد ، فذات الأقل معلوم الوجوب ، انما الشك في الإطلاق والتقييد ... وانما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجز على كل تقدير شرطا للانحلال ، وهذا ليس مراد القائل بالبراءة».

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب الأقل منجزا ، لتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في التنجز كما عرفت في المقدمة الأولى ، والمفروض عدم تنجز وجوب ذيها وهو الأكثر ، فيكون تنجز الأقل مختصا بتقدير تعلق الوجوب به لا بالأكثر ، مع أن المعتبر في الانحلال تنجز الأقل على كل تقدير ، ففي الحقيقة يكون لتنجز الأكثر دخل في الانحلال حتى يكون وجوب الأقل منجزا على كل من تقديري وجوبه النفسيّ والمقدمي ، وليس له دخل ، لأن دخله مانع من الانحلال ، وهذا هو الخلف المحال.

وان شئت فقل : ان الانحلال الموجب لعدم تنجز وجوب الأكثر موقوف على العلم التفصيليّ بوجوب الأقل فعلا ، وهذا العلم يتوقف على تنجز وجوب الأقل على كل حال سواء كان الوجوب متعلقا بالأقل أم بالأكثر ، وقد فرض عدم تنجز وجوب الأكثر بالانحلال ، لجريان البراءة فيه ، فدعوى تنجز وجوب الأقل على كل تقدير تنافي عدم تنجز وجوب الأكثر ، فالذي يكون دخيلا في الانحلال هو تنجز الوجوب المتعلق بالأقل فقط ، وهو خلاف ما فرضناه من دخل تنجز وجوبه مطلقا ولو كان الواجب هو الأكثر.

__________________

لكنه لا يخلو من غموض ، وذلك فان التنافي بين الانحلال والتنجز وان كان مسلما ، إلّا أن هذا بنفسه منشأ إشكال المصنف هنا وفي حاشية الرسائل على من يدعي انحلال العلم بالجامع بالعلم في طرف معين وان لم يعلم وجهه.

وبيان الإشكال زائدا على ما تقدم في التوضيح : أن المنجّز سواء كان هو العلم أم غيره من الحجج لا بد من تعلقه بتكليف قابل للتنجز على كل تقدير حتى يوجب شغل العهدة ويلزم العقل بتفريغها عنه ، إذ ليس التكليف بوجوده الواقعي غير المنجز سببا لاشتغال الذّمّة عقلا كما هو واضح ، وما لم يتنجز الإلزام الشرعي في بعض الأطراف لم يرتفع الترديد ولم يصر الطرف الآخر موردا للشبهة البدوية

١٩٨

بداهة (١) توقف لزوم الأقل فعلا اما لنفسه أو لغيره (٢) على تنجز

______________________________________________________

فما يظهر من كلام شيخنا الأعظم (قده) من كفاية مطلوبية الأقل في الانحلال مطلقا نفسيا أو غيريا وان لم يكن منجزا على تقدير وجوبه الغيري ، قد عرفت الخلل فيه ، وأنه لا بد في الانحلال من كون التكليف في أحد الطرفين منجزا على كل تقدير ، هذا تقريب إشكال الخلف. وأما الوجه الثاني وهو إشكال التناقض فسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

(١) بيان لاستلزام الانحلال المحال وهو الخلف ، وقد عرفته بقولنا : «إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن دعوى انحلال العلم الإجمالي ...».

(٢) هذا و «لنفسه» قيدان لـ «لزوم» المقيد بقوله «فعلا» و «على تنجز» متعلق بـ «توقف» يعني : بداهة توقف وجوبه الفعلي النفسيّ أو الغيري على تنجز التكليف ... إلخ.

__________________

حقيقة أو حكما.

وعلى هذا فإذا جرت أصالة البراءة عن الأكثر لم يكن المعلوم ـ وهو وجوب الأقل ـ قابلا للتنجز على كل تقدير ، لارتفاع تقدير وجوبه الغيري بجريان البراءة في وجوب الأكثر ، فلا يبقى إلّا احتمال كونه تمام الواجب لا بعضه ، فالأقل حينئذ غير معلوم الوجوب على كل تقدير ، بل على تقدير وجوبه النفسيّ فقط ، ومن المعلوم أن هذا القدر من العلم بالجامع لا يوجب شغل الذّمّة ، لفرض أن تقدير وجوبه المقدمي منفي بالأصل الجاري في نفي وجوب الأكثر.

وعليه فما أفاده المصنف من امتناع الانحلال سليم عن هذه المناقشة.

هذا كله مضافا إلى استحالة الانحلال ببيان آخر حكي عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من عدم معقولية انحلال العلم الإجمالي بنفسه ، لأن العلم بوجوب الأقل هو المعلوم بالإجمال ، والترديد انما يكون في كيفيته وأنها هل هي بنحو

١٩٩

التكليف مطلقا ولو كان (١) متعلقا بالأكثر ، فلو كان لزومه (٢) كذلك

______________________________________________________

(١) بيان للإطلاق.

(٢) أي : فلو كان لزوم الأقل مطلقا ولو كان متعلقا بالأكثر مستلزما لعدم تنجزه.إلخ.

__________________

الإطلاق أو الاشتراط ، فان كان الواجب هو الأكثر كان وجوب الأقل مقيدا به ، وإلّا كان مطلقا ، ولا ينحل هذا الترديد بنفس العلم بالوجوب ، والعلم باشتغال الذّمّة يستدعي العلم بالفراغ حقيقة أو جعلا ، والاكتفاء بالأقل امتثال احتمالي غير رافع لخطر العقاب.

وأورد عليه بأن الاشتغال اليقيني بغير الأقل لم يثبت حتى يجب عقلا إحراز الفراغ عنه ، توضيحه : أن الارتباطية وكون كل جزء جزءا في نفسه وشرطا لغيره من الأجزاء السابقة واللاحقة منتزعة عن تعلق الأمر ، فان تعلق بالأكثر كان المشكوك جزءا أو شرطا ، وإلّا فلا ، فالشك في تقيد الأقل بالمشكوك وإطلاقه متأخر رتبة عن انبساط الأمر على المشكوك ، فالشك متعلق بحد الأمر وأن حده ذرع مثلا أو أزيد ، فان كان متعلقا بالأكثر لم يكن منجزا ، لكونه بلا بيان ، إذ المفروض عدم وفاء البيان الا بالأقل ، فالعقاب عليه قبيح عقلا.

وعليه فتجري البراءة العقلية في وجوب الأكثر ، ومعه لا يبقى شك في إطلاق الأقل وتقيده بالمشكوك ، لارتفاع منشأ الانتزاع وهو تعلق الأمر بالأكثر. فالقول بوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر لتردد وجوب الأقل بين كونه بشرط شيء أو لا بشرط ضعيف ، لأن هذا التردد نشأ من الشك في حدّ الأمر وأنه قصير أم طويل ، وحيث ان طوله غير معلوم فالعقاب عليه بلا بيان ، هذا.

وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس بأن ما أفيد متين في غير المركبات الارتباطية ، لوجوب الأقل فيه على كل تقدير ، وأما فيها فلا ، إذ

٢٠٠