منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أقول : وبهذا البيان وان كان يسلم كلام الماتن عن إشكال المحقق النائيني (قده) إلّا أن الإنصاف عدم ظهور المتن في ما استفاده شيخنا العراقي ، ولعله فهم ذلك من مجلس درس أستاذه المحقق الخراسانيّ ، وعليك بالتأمل فيه. ولو تم هذا التوجيه لم يندفع إشكال التمسك بالإطلاق ، للشك في شمول بناء العقلاء لأصالة الإطلاق في هذا المورد ، لفرض أن المحذور في نفس مقام الإثبات ، ومعه لا مجال لكونه كاشفا عن مقام الثبوت كما يدعيه المحقق النائيني (قده) فتصل النوبة إلى الأصل العملي الّذي سيأتي الحديث عنه.

ويمكن الجواب عن الثاني بما أفيد أيضا من المنع من قوله : «فان الابتلاء بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه» ضرورة أن القدرة العادية كالعقلية من الانقسامات الأولية السابقة على الإنشاء اللاحقة للشيء قبل تعلق الأمر والنهي به ، فان ذات المأمور به والمنهي عنه قبل تعلق خطاب الشارع بها تكون معروضة لقدرة المكلف عليها وعجزه عنها ، فانقسام المكلف إلى القادر على إيجاد المتعلق والعاجز عنه ليس متأخرا عن مرتبة إنشاء الحكم حتى لا يكون الخطاب الإنشائي مطلقا بالنسبة إلى القدرة العرفية ولا مقيدا بها ، بل ذلك متقدم على مرتبته ، فهو مطلق بالنسبة إلى القدرة العرفية.

وتوهم «أن القدرة على إتيان المأمور به مثلا بوصف أنه مأمور به متأخرة عن الأمر ، ومن المعلوم عدم تكفل الأمر لما ينشأ منه ويترتب عليه ، فلا يكون مطلقا بالنسبة إلى القدرة أو مقيدا بها كقصد الأمر» كاد أن يكون من غرائب الكلام ، فان الاستهجان العرفي الّذي يدعيه القائل باعتبار الابتلاء انما هو العجز العادي عن المتعلق بما هو هو لا بوصف كونه مأمورا به ، وكذا عدم الاستهجان عند الابتلاء

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

به انما هو القدرة على مركب الأمر بما هو هو لا بوصف كونه مأمورا به حتى تكون متأخرة عن الإنشاء ويستحيل إطلاقه وتقييده بها ، هذا.

مضافا إلى أنه مع تسليم كون الابتلاء من الانقسامات المتأخرة عن الإنشاء لا وجه لجعله شرطا لتنجز الحكم ، فانه ـ مع منافاته لتصريح المصنف قبل بيان التنبيهات بكونه من شرائط مرتبة الفعلية كعدم الاضطرار إلى بعض الأطراف ونحوه ـ يرد عليه : أن التنجز الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن وصول التكليف بعلم أو علمي إلى المكلف ، فلا يكون للابتلاء دخل فيه ، فليتأمل.

وتوجيه الكلام بما في تقرير شيخنا المحقق العراقي من «أن المقصود من تنجز الخطاب انما هو كونه منشأ لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، وهذا كما أن للوصول دخلا فيه كذلك للقدرة دخل فيه» مناف لما أفاده المصنف في تربيعه لمراتب الحكم من أن التنجز ليس إلّا وصول التكليف البعثي أو الزجري بحجة من علم أو علمي إلى المكلف بحيث يستحق العقوبة على مخالفته ، فلاحظ.

وأما اشكاله في الفوائد ، فيجاب عنه بابتنائه على ما التزم به من المراتب الأربع للحكم ، وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وجعل الإطلاق جمعا بين القيود لا رفضا لها. إلّا أن الخطاب المدعى شمول إطلاقه لمورد الابتلاء والخارج عنه ليس مجردا عن الداعوية والتحريك حتى يستحيل تقييده بالابتلاء. ويظهر من كلام الشيخ ـ في بيان وجه اعتبار الابتلاء باستهجان الخطاب بدونه وعدم استهجانه مع الاشتراط به كأن يقول : اجتنب عن الخمر الموجود في بلاد الهند مثلا ان ابتليت به ـ أن المنشأ بالخطاب الشرعي انما هو الحكم الفعلي الواجد لمرتبة البعث والزجر الموجب لاستحقاق المؤاخذة على مخالفته عند وصوله إلى المكلف ،

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وليس للابتلاء في هذا التعريف عين ولا أثر. وان أبيت عن ذلك فالإطلاق المقامي كاف لنفي دخل الابتلاء ، بعد أن اعتبر الشارع أمورا عامة وخاصة في فعلية أحكامه ولم يعتبر الابتلاء فيها مع كونه بصدد البيان ، فالسكوت عنه وعدم ذكره في عداد الشروط دليل على عدم اعتباره فيها.

ويمكن أن يجاب عن الإشكال الرابع بأن المراد بفعلية الحكم عقلا هو تنجزه المتقوم بوصوله إلى المكلف بعلم أو علمي تقوم المعلول بالجزء الأخير لعلته التامة ، والقدرة العقلية وان كانت دخيلة في التنجز أيضا ، إلّا أن دخلها فيه إعدادي ، ومن المعلوم أن الخطاب لا يتكفل مرتبة التنجز المتأخرة عنه ، فيمتنع التمسك بإطلاقه لتنجزه كما لا يخفى. وأما الابتلاء فهو دخيل في عدم استهجان الخطاب عرفا ، وليس وزانه وزان القدرة العقلية التي يقبح الخطاب بدونها عقلا ، بل وزانه وزان العناوين الثانوية المقدورة عقلا للمكلف كالعسر والضرر ونحوهما في صحة الخطاب معها إطلاقا وتقييدا ، فيصح للشارع أن يأمر المكلف بالوضوء مثلا وان كان حرجيا أو ضرريا ، كما يصح أن يأمره بالوضوء ان لم يلزم منه شيء منهما. وكذا الحال في الابتلاء ، فيصح للشارع أن ينهى المكلف عن شرب المتنجس مطلقا أو مقيدا بالابتلاء به.

فالمتحصل : أن تنجز الحكم متقوم بالوصول دون القدرة العقلية والابتلاء ، فانهما من معداته ، فالتمسك بإطلاق الخطاب من هذه الجهة في مشكوك الابتلاء لا محذور فيه.

وأما الثاني : وهو الإشكال على مرجعية الإطلاق في الشبهة المفهومية بعد الفراغ عن اعتبار الابتلاء ، فحاصله : أنه قد يقال في وجه عدم جواز التمسك به

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيها ، بأن إجمال مفهوم الابتلاء ـ الّذي هو مقيد لبّي متصل بكل خطاب ـ يسري إلى العام والمطلق كسراية إجمال المخصص المتصل اللفظي إلى العام وسقوط ظهوره به في الموارد المشكوكة. وعليه فإطلاق «حرم عليكم الخمر» محفوف بقرينة عقلية مجملة مفهوما ، فكأنه قال : «حرم الخمر المبتلى به» والمفروض عدم الإحاطة بحدود مفهوم الابتلاء ، فالقدر المتيقن من فعلية الحرمة هو حرمة الخمر الداخل في محل الابتلاء ، والمشكوك دخوله فيه لا سبيل لإثبات حكمه وهو الحرمة بالتشبث بأصالة الإطلاق.

لكنك خبير باندفاع هذا الإشكال بما تقدم في تقريب كلام الشيخ في التمسك بالإطلاق ونزيدك هنا توضيحا ـ بعد تسليم الكبرى ـ بمنع كون المقام من صغرياتها ، ضرورة أن حكم العقل بدخل القدرة العادية في التكليف ليس في الضرورة والوضوح بمثابة حكمه بقبح الظلم وحسن الإحسان ودخل القدرة العقلية في كل تكليف ، فانه يدركه كل ذي مسكة بأدنى التفات ، وهذا بخلاف الابتلاء ، ولذا استدل عليه بالاستهجان تارة واللغوية أخرى وطلب الحاصل ثالثة ، فهو من الحكم العقلي النظريّ الّذي لا يقدح احتفافه بالعامّ في انعقاد ظهوره في العموم ، ولا يخرج به العام عن الحجية إلّا فيما علم من التخصيص للمزاحمة وأقوائية ظهوره من ظهور العام ، وبعد مرجعية عموم أو إطلاق أدلة المحرمات لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

وأما الثالث ـ وهو الإشكال على التمسك بأصالة الإطلاق في الشبهة المصداقية للابتلاء ـ فهو ما تقدم منّا في بحث العام والخاصّ من عدم حجية أصالة العموم في مطلق الشبهات المصداقية ، وعدم إجراء التفصيل بين المخصص الّذي له عنوان

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبين ما لا عنوان له ، فراجع ما ذكرناه في الجزء الثالث.

وهل المرجع فيها بعد عدم حجية أصالة الإطلاق قاعدة الاحتياط عقلا كما اختاره شيخنا المحقق العراقي (قده) أم أصالة البراءة كما اختاره الماتن ووافقه بعض أعاظم العصر؟ فيه قولان.

أما الأول ـ وهو أصالة الاحتياط ـ فمحصل وجهه كما في تقرير بحث المحقق العراقي : صغروية المقام لكبرى العلم بالغرض والشك في القدرة المحكوم عقلا بالاحتياط ، فانه بعد تمامية مقتضيات التكليف من طرف المولى وعدم دخل القدرة العقلية والعادية فيها يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال وجود الموانع الموجبة لقصور العبد عن الامتثال إلى أن يتبين العجز ، ولا مجال لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به ، لاختصاصها بصورة احتمال قصور المقتضي للحكم المنفي حسب الفرض.

ولا ينتقض هذا بما إذا علم خروج أحد الطرفين عن الابتلاء بدعوى أن المبتلى به مما يشك في القدرة عليه ، فلا بد من الاحتياط ، مع أنه لا يجب بلا إشكال. وذلك لعدم صدق العلم بالغرض والشك في القدرة في مورد النقض ، وانما هو علم بالغرض والقدرة على تقدير قيام المقتضي بالداخل في الابتلاء ، وعلم بالملاك والعجز على تقدير وجوده في الخارج عن مورد الابتلاء ، فلا شك في القدرة ، وانما الشك في وجود الملاك في المقدور ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان» (١).

ويتوجه على ما أفاده أوّلا : النقض بما أورده على نفسه مع تسليمه لعدم دخل القدرة بأنحائها في المقتضيات ، واختصاص مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بما

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٤٢

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كان احتمال القصور من ناحية بيان المولى لا احتمال وجود المانع من قبل العبد ، ضرورة أنه لا يبقى مؤمّن لدى العبد في ارتكابه للطرف المقدور أو المبتلى به مع الجزم بخروج الطرف الآخر عن الابتلاء ، إذ الشك في قيام الملاك بهذا أو ذاك موجود بالوجدان.

وما أفاده في التخلص عن النقض لا يفي به ، حيث ان تردد الغرض بين ما هو مقطوع القدرة عليه ما هو مقطوع العجز عنه بنفسه موجب لتحقق الشك في القدرة على الغرض المعلوم ، ومقتضاه وجوب الاحتياط تحفظا على الغرض المشكوك تمكنه منه كما هو الحال في نظائر المقام ، مثل دوران الحيوان الداخل في الدار بين ما يعلم بموته بعد ثلاثة أيام وما يعلم ببقائه بعدها ، ودوران الحدث الناشئ من خروج البلل المشتبه بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء ، فان التردد بينهما يوجب الشك في بقاء الحيوان بعد ثلاثة أيام في الأول ، وفي بقاء كلي الحدث في الثاني.

ودوران الغرض في المقام بين ما يقطع بالقدرة عليه على تقدير ويقطع بالعجز عنه على آخر منشأ لحصول الشك في القدرة. وحينئذ فيندرج في كبرى العلم بالغرض والشك في القدرة ولا بد من الاحتياط ، مع عدم التزام أحد به ، والمفروض عدم جريان قاعدة القبح على مبناه (قده) أيضا.

وثانيا بالحل ، لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به ، لوجود المقتضي وفقد المانع.

توضيحه : أن القدرة وان لم تكن دخيلة في الملاك ، إلّا أن البيان المأخوذ عدمه في موضوع قاعدة القبح ليس هو بيان مطلق الغرض وان لم يكن مقدورا ، بل بيان الغرض المقدور ، فان وزان الغرض المعلوم وزان التكليف المعلوم ، فكما يعتبر في

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

منجزية العلم الإجمالي بالتكليف تعلقه بحكم فعلي على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير ، فكذا يعتبر في منجزية العلم بالغرض الملزم مقدورية المتعلق على كل تقدير ، ومع الجزم بخروج أحد الطرفين عن الابتلاء أو الشك في خروجه عنه لا علم بالغرض المقدور ، وانما هو علم بمطلق الغرض ، وهو غير منجز.

وعليه ، فالمقتضي لجريان القاعدة موجود والمانع عنه وهو مخالفة الغرض الملزم الّذي لا يرضى المولى بفواته مفقود ، فان قيام الملاك بالطرف غير المبتلى به محتمل ، وجريان القاعدة في المبتلى به لا يترتب عليه إلّا احتمال فوت الملاك وهو موجود في تمام موارد الأصول النافية ، وليس ذلك مانعا عن جريانها مطلقا لا في المقام ولا في سائر الموارد. ولا تجري القاعدة في الخارج عن الابتلاء ، لعدم الأثر العملي على جريانها فيه ، لفرض العجز عن ارتكابه. والمشكوك خروجه عن الابتلاء شبهة مصداقية لدليل البراءة فلا تجري فيه.

نعم لو ترتب العلم بفوت غرض المولى على تقدير جريان البراءة كان كالعلم بمخالفة التكليف لم تجر فيه قاعدة القبح ، ولا بد من الاحتياط حينئذ ، كما إذا شك المكلف في القدرة على دفن الميت المسلم لصلابة الأرض ونحوها ، أو شك الجنب في كون باب الحرام مفتوحا ، فان الفحص والإقدام متعين لئلا يستند فوات غرض المولى إلى تقصير المكلف بل إلى قصوره.

والحاصل : أن المترتب على جريان قاعدة القبح في المقام ليس إلّا احتمال فوات الملاك ، وهو غير مانع عنه. وعليه فما أفاده المحقق العراقي (قده) من لزوم الاحتياط عقلا لم يظهر له وجه.

وأما الثاني : وهو البراءة فقد استدل له بأن كبرى لزوم الاحتياط في العلم

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالغرض والشك في القدرة وان كانت مسلمة ، إلّا أن المقام أجنبي عنها وليس من صغرياتها ، إذ الغرض هنا مشكوك والقدرة معلومة ، فتجري البراءة عن الغرض. «وبعبارة أخرى : الفرق بين مثال دفن الميت والمقام أن الغرض في المثال معلوم والقدرة مشكوك فيها ، وفي المقام الغرض مشكوك فيه والقدرة معلومة ، فكم فرق بينهما» (١).

ويرد عليه : أن عدّ المقام من موارد الشك في الغرض انما يتجه لو كان المعتبر خصوص العلم التفصيليّ بالغرض دون مطلق العلم ولو كان إجماليا ، لكن المفروض خلافه ، لجريان البحث في العلم الإجمالي به أيضا ، فهو صغرى للشك في القدرة مع العلم بالغرض. وعليه فإذا تردد الملاك المعلوم إجمالا بين المقدور وغيره كان وظيفة العبد الفحص حتى يحرز العجز ، ومع تسليم هذه الكبرى في كلام القائل المتقدم وعدم دخل القدرة في ملاكات الأحكام ، فالمعلوم غرض قائم اما بهذا الإناء المقدور واما بذاك المشكوك حاله ، فلا تجري البراءة ، بل لا بد من الفحص.

وبعد عدم تمامية ما ذكر وجها لكل من الاحتياط والبراءة في الشبهة المصداقية للابتلاء على الإطلاق ، يمكن أن يقال : ان لزوم التحفظ على أغراض المولى عند الشك في القدرة عليها وان كان مسلما ، لكونه حكما عقليا أو عقلائيا ، إلّا أنه لا بد من النّظر في حده ومورد جريانه ، فنقول : لا ريب في اعتباره في مورد العلم التفصيليّ بالغرض والشك في القدرة ، كما تقدم في مثالي دفن الميت وغسل المجنب ، فان المكلف لو أهمل ذلك حتى فات الغرض كان مقصّرا في تفويته ، فيقع تحت خطر المؤاخذة. كما لا ريب في عدم اعتبار هذا الحكم العقلي إذا علم

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٤٠٠

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إجمالا بغرض مردد بين المقدور وغيره ، كالجزم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

وأما إذا علم إجمالا بالغرض الدائر بين ما يقطع بقدرته عليه وما يشك في قدرته عليه ـ وهو محط البحث في الشبهة المصداقية للابتلاء ـ فان تمكن المكلف من الفحص واستعلام حال المشكوك فيه ، فلا يبعد دعوى استقرار حكم العقل وسيرة العقلاء على لزوم الفحص وعدم جواز إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به وان لم يتمكن من الفحص لصعوبته لتوقفه على مقدمات بعيدة الحصول كان ملحقا بما علم خروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، فتجري فيه البراءة بلا معارض. وكذا الحال في ما لو شك في تمكنه من الفحص عن الطرف المشكوك فيه لقرب مقدماته وعجزه عنه لبعدها ، فان إطلاق دليل البراءة شامل للمورد ، والمتيقن من تقييده هو ما إذا كان مقدمة ظهور حال الفرد المشكوك فيه قريبة. هذا ما يمكن أن يقال في الشبهة المصداقية من التفصيل بين شبهاتها بعد أن لم يكن في البين أصل لفظي يرجع إليه.

١٠٩

الثالث (١) : أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت

______________________________________________________

(٣ ـ الشبهة غير المحصورة)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان أمرين :

الأول : أن ما قيل من كون كثرة الأطراف بنفسها مانعة عن فعلية التكليف وعن تنجيز العلم الإجمالي فيها مما لا أصل له ولا دليل عليه ، وضمير «أنه» الأول الثاني للشأن.

الثاني : أن مرجع الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هل هو إطلاق الدليل أم أصالة البراءة؟

ومحصل ما أفاده (قده) في الأمر الأول : أن المدار في تنجيز العلم الإجمالي كما مر سابقا هو فعلية التكليف المعلوم ، لا كثرة الأطراف وقلتها ، فلو كان التكليف المعلوم فعليا تنجز بالعلم الإجمالي من دون تفاوت بين كون الأطراف محصورة وغير محصورة ، فلا ينبغي عقد مقامين للشبهة الموضوعية التحريمة أحدهما للمحصورة والآخر لغير المحصورة كما صنعه شيخنا الأعظم (قده) واختار في الثاني منهما عدم وجوب الاجتناب. واستدل له بوجوه ستة أولها الإجماع واستند إليه ، وقد تقدم كلامه.

١١٠

بين أن يكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة (١). نعم ربما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها (٢) ، أو ارتكابه (٣) ، أو ضرر (٤) فيها ، أو غيرهما (٥) مما

______________________________________________________

نعم كثرة الأطراف ربما تلازم عنوانا يرفع فعلية التكليف كالضرر والحرج ، كما إذا كان اجتناب الكل أو ارتكابه مضرا بنفسه أو بماله ، أو موجبا لوقوعه في العسر والحرج ، أو كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء ، وإلّا فكثرة الأطراف بنفسها لا ترفع فعلية المعلوم ولا تنفي وجوب الاحتياط عنها. كما أن من الممكن طروء أحد هذه الموانع في الشبهة المحصورة وارتفاع وجوب الاحتياط ، فيها لأجلها أيضا ، فلا خصوصية في عدم انحصار الأطراف لعدم وجوب الاحتياط ، بل المدار في عدم وجوبه وجود أحد هذه الموانع ، فلا بد من ملاحظة الشيء الّذي يوجب ارتفاع الفعلية ، وإلّا فمع العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الحتمي تجب موافقته القطعية وتحرم مخالفته كذلك سواء كثرت أطرافه أم قلت.

وبالجملة : فالمناط في تنجيز العلم الإجمالي وعدمه هو فعلية التكليف وعدمها ، لا كثرة الأطراف وقلتها.

(١) سيأتي بيان بعض ما قيل في تحديد عدم الحصر.

(٢) هذا في الشبهة التحريمية كما إذا تردد إناء الخمر بين ألفي إناء مثلا.

(٣) أي : ارتكاب كل الأطراف ، وهذا في الشبهة الوجوبية كما إذا تردد زيد العالم الواجب إكرامه بين ألفي شخص مثلا.

(٤) بالجر معطوف على «عسر» وضمير «فيها» راجع إلى «موافقته» أي : موجبة لضرر في الموافقة القطعية.

(٥) أي : غير العسر والضرر من موانع فعلية التكليف كخروج بعض الأطراف

١١١

لا يكون معه (١) التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا (*) [وليست (٢) [وليس] بموجبة لذلك (٣) في غيره ، كما أن نفسها ربما تكون موجبة لذلك (٤) ولو كانت قليلة في مورد آخر (٥) ، فلا بد (**) من ملاحظة ذلك [ذاك]

______________________________________________________

عن مورد الابتلاء.

(١) الضمير راجع إلى الموصول في «مما» المراد به مانع فعلية التكليف غير العسر والضرر ، و «بعثا أو زجرا» قيدان للتكليف.

(٢) معطوف على «موجبة» يعني : أن كثرة الأطراف قد تكون موجبة لأحد موانع الفعلية في مورد ولا تكون موجبة له في غير ذلك المورد ، فلا تلازم بين كثرة الأطراف وبين وجود بعض موانع الفعلية. والأولى أن يقال : «وغير موجبة لذلك في غيره».

(٣) أي : لعسر موافقته القطعية ، وضمير «غيره» راجع إلى المورد.

(٤) أي : لأحد موانع الفعلية ، وضمير «نفسها» راجع إلى الموافقة القطعية ، يعني : أنه قد يتفق عروض أحد موانع الفعلية في صورة قلة الأطراف أيضا كما إذا اشتبه الماء المطلق بين إناءين مثلا ، وكانت الموافقة القطعية بالتوضؤ بهما معا موجبة للعسر ، أو الضرر.

(٥) يعني : غير المورد الّذي أوجبت فيه كثرة الأطراف عروض بعض الموانع

__________________

(*) الظاهر عدم الحاجة إليه ، إذ المستفاد من كلامه : أن التكليف من البعث أو الزجر لا يكون فعليا مع أحد هذه الموانع ، فقوله : «فعلا» مستدرك ، فحق العبارة أن تكون هكذا : مما لا يكون معه التكليف البعثي أو الزجري فعليا.

(**) الأولى أن تكون العبارة هكذا : فلا بد من ملاحظة أنه يكون في هذا المورد ذلك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أو لا يكون.

١١٢

الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه (١) يكون أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون (٢) مع كثرة أطرافه ، وملاحظة (٣) أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى.

ولو شك (٤) في عروض الموجب ،

______________________________________________________

عن فعلية التكليف.

(١) أي : أن الموجب ، والأولى أن يقال : «وأنه يكون» ، و «يكون» في المواضع الثلاثة تامة ، يعني : هل يوجد المانع عن الفعلية في ذلك المورد مطلقا أي من غير فرق بين قلة الأطراف وكثرتها ، أم يوجد المانع مع كثرة الأطراف فقط.

(٢) عدل لقوله : «أنه يكون ...».

(٣) أي : مع ملاحظة أن الموجب لرفع فعلية التكليف يوجد مع أية مرتبة من مراتب الكثرة ولا يوجد مع أية منها ، إذ يمكن أن يكون ذلك الموجب مع بعض المراتب لا جميعها ، وضمير «أنه» راجع إلى «الموجب» وضمير «أطرافه» راجع إلى «المعلوم بالإجمال» وضمير «كثرتها» إلى الأطراف.

(٤) هذا هو الأمر الثاني أعني بيان حكم الشك في ارتفاع فعلية التكليف من جهة الشك في طروء الرافع لها مثل الضرر والعسر ، توضيحه : أنه بناء على ما تقدم من منجزية العلم الإجمالي بفعلية التكليف في الشبهة غير المحصورة أيضا ، إذا شك في أن الاجتناب عن جميع الأطراف هل يستلزم الضرر المنفي أو العسر والحرج الشديدين حتى يرتفع التكليف به أم لا؟ ففي المسألة صورتان :

الأولى : أن يكون دليل المعلوم بالإجمال لفظيا مطلقا كقوله : «اجتنب عن المغصوب» ويستلزم الاجتناب عن الجميع ضررا ماليا ، ويكون الشك في جريان

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

قاعدة نفي الضرر هنا من جهة عدم العلم بحدود مفهومه وقيوده ، فان كان المقام من موارد الضرر المنفي في الشريعة المقدسة كانت القاعدة حاكمة وموجبة لسقوط العلم الإجمالي حينئذ عن التأثير ، وان لم يكن من موارده أو شك في كونه من موارده كان المعلوم فعليا منجزا.

وما نحن فيه نظير ورود عام كـ «أكرم الأمراء» وتعقبه بمخصص منفصل مردد مفهوما بين الأقل والأكثر كـ «لا تكرم فساق الأمراء» بناء على إجمال مفهوم الفاسق وتردده بين مرتكب كل معصية ومرتكب خصوص الكبائر ، فان المقرّر عندهم التمسك بالعامّ في غير من علم شمول الخاصّ له. ففي المقام نعلم بحكومة أدلة العناوين الثانوية كالضرر على أدلة الأحكام الأولية كوجوب الاجتناب عن المغصوب ، ولكن الدليل الحاكم وهو الضرر المنفي شرعا لا يخلو من إجمال مفهوما ، ولذا لا يعلم صدقه على الضرر الناشئ من الاجتناب عن جميع الأطراف ، فإطلاق دليل الحكم الأولي محكم مع الشك في تقييده ، ولا نرفع اليد عن إطلاقه الا مع العلم بتقييده بكونه مستلزما للضرر مثلا.

فالنتيجة : لزوم الاجتناب عن جميع الأطراف الا عما علم كونه مستلزما للضرر ، وهذا معنى قوله : «فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف».

ويمكن ـ بمقتضى إطلاق العبارة ـ إرادة التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية أيضا ، يعني مضافا إلى الشبهة المفهومية ، كما إذا كان مفهوم الضرر والعسر معلوما لنا ، ولكن شككنا في تحقق ذلك الضرر المعلوم بالاجتناب عن جميع الأطراف ، فانه يتمسك بإطلاق دليل حرمة التصرف في المغصوب مثلا وفعلية الواقع المعلوم بالإجمال.

وعليه فحكم المصنف هنا بالرجوع في الشك في طروء مانع عن فعلية التكليف

١١٤

فالمتبع هو إطلاق (*) دليل التكليف لو كان (١) ، وإلّا (٢) فالبراءة

______________________________________________________

إلى إطلاق دليله يمكن أن يعم كلّا من الشبهة المفهومية والمصداقية. ولكنه في بحث العام والخاصّ التزم بعدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية في المخصص المتصل مطلقا وفي المنفصل اللفظي واللبي العقلي ، وحكم بجواز التمسك به في المخصص المنفصل اللبي غير العقلي كالإجماع والسيرة ، حيث قال هناك : «وان لم يكن كذلك ـ أي المخصص عقليا ـ فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه» وبعد تسليم جريان حكم العام والخاصّ على المطلق والمقيد ، يشكل حكمه في المقام بالرجوع إلى الإطلاق مع كون دليل القيد وهو الضرر والعسر لفظيا له إطلاق ، وليس مجملا أو لبيا.

الثانية : أن يكون دليل الحكم المعلوم إجمالا لبيا كالإجماع أو لفظيا مجملا ، واشتبه المحرم بين أطراف غير محصورة ، وشك في استلزام الاجتناب عن الجميع لعروض مانع عن التكليف من العسر والحرج ونحوهما ، فان المرجع أصالة البراءة ، للشك في التكليف الفعلي مع احتمال ارتفاعه بالمانع.

والفرق بينه وبين ثبوت الواقع بدليل لفظي هو : أن الدليل اللبي يؤخذ بالقدر المتيقن منه وهو ما علم ثبوته ، وعدم عروض شيء من الموانع حتى ما يشك في مانعيته ، بخلاف اللفظي ، فان إطلاقه محكّم وبه يدفع احتمال قيدية المشكوك ويثبت به الحكم.

(١) أي : لو ثبت إطلاق ، فـ «كان» هنا تامة.

(٢) أي : وان لم يكن إطلاق في البين كما إذا كان الدليل لبيا أو لفظيا مجملا فالمرجع أصالة البراءة ، لكون الشك في التكليف.

__________________

(*) لا يخفى أنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يكن مشكوك المانعية عن الفعلية خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، وإلّا لم يصح التمسك بالإطلاق ،

١١٥

لأجل الشك في التكليف الفعلي. هذا (١) هو حق القول في المقام.

وما قيل (٢) في ضبط المحصور وغيره

______________________________________________________

(١) أي : التفصيل في رعاية المعلوم بالإجمال وعدمها بين ما إذا ثبت بدليل لفظي مطلق وبين ما إذا ثبت بغيره من إجماع ونحوه.

(٢) إشارة إلى ما نقله شيخنا الأعظم (قده) في ثاني تنبيهات الشبهة غير المحصورة عن بعض الأصحاب من ضابط المحصور وغيره ومناقشته فيه ، واختياره ضابطا آخر بقوله : «ويمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : ان غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى أنه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد

__________________

لما ذكره في التنبيه السابق من رجوع الشك حينئذ إلى أصل التكليف الّذي يرجع فيه إلى أصل البراءة.

نعم يصح التمسك به فيما إذا كان مشكوك المانعية غير الخروج عن مورد الابتلاء من العسر والضرر مثلا ، لصحة الإطلاق بدونهما ، حيث انهما ليسا من القيود المتوقفة عليها صحة الخطاب ، فيصح إطلاق الخطاب بالنسبة إليهما ، والتمسك به إذا شك في وجودهما.

لكن الإشكال في صحة الأخذ بإطلاقه إذا كانت الشبهة مصداقية ، فانه لا يجوز التمسك به عنده في غير المخصص اللبي غير العقلي كما عرفت ، وبناء على عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية مطلقا كما تقدم في الجزء الثالث ، فالمرجع هو الأصل العملي الّذي مقتضاه نفي الحكم الإلزامي ، للشك فيه ، إذ لو كان أحد موانع الفعلية موجودا ، فلا حكم. إلّا أن يكون هناك أصل موضوعي مثبت لفعلية الحكم ، فلاحظ وتأمل ، فلا بد من تقييد قوله : «فالبراءة» بعدم الأصل الموضوعي.

١١٦

لا يخلو (١) من الجزاف [من الانحراف] (*).

______________________________________________________

فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كبيرة يعلم بوجود زيد فيها لم يكن ملوما وان صادف زيدا ... إلى أن قال : هذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل وثوق بشيء منها ...» وأنت ترى عدم اعتماد الشيخ الأعظم على شيء من الضوابط المذكورة في كلامه ، وأنه التزم بالاحتياط في الموارد المشكوكة.

(١) إذ لا دليل على شيء من الضوابط المذكورة للحصر وعدمه ، مضافا إلى ورود النقض على كثير منها كما يظهر بمراجعة الرسائل.

__________________

(*) ولا يخفى أن المناسب للمقام ـ وهو تبعية تنجيز العلم لفعلية الحكم وعدم كون كثرة الأطراف رافعة لفعليته ـ بيان وجه عدم الحاجة إلى تلك الضوابط ولو مع صحتها لا الخدشة فيها ، لعدم إناطة الفعلية بحصر الأطراف وعدمه ، لما عرفت آنفا حتى نحتاج إلى معرفة ضابط الحصر وعدمه ، فالأولى أن يقال : «ان ما قيل في ضبط المحصور وغيره مضافا إلى عدم تماميته في نفسه مما لا حاجة إليه ، فلا جدوى في التعرض لنقله».

وكيف كان ، فلا بأس ببيان بعض الضوابط التي ذكروها للشبهة غير المحصورة :

منها : كون بعض الأطراف خارجا عن مورد الابتلاء. وفيه : أنه خلاف الفرض ، إذ المفروض في الشبهة غير المحصورة اعتبار جميع شرائط التنجيز فيها ، وانحصار مانع التنجيز فيها بكون الأطراف غير محصورة. وأما الخروج عن الابتلاء فلا ربط له بالمقام ، لكونه بنفسه مانعا عن تنجيز العلم الإجمالي وان كانت الشبهة محصورة.

ومنها : ما يظهر من صاحب العروة (قده) من كون نسبة المعلوم بالإجمال إلى الأطراف كنسبة الواحد إلى الألف ، حيث قال في الماء المضاف المشتبه في غير

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المحصور:«وان اشتبه في غير المحصور جاز استعمال كل منها كما إذا كان المضاف واحدا في ألف» (١).

وفيه أيضا ما لا يخفى ، بداهة أن العلم الإجمالي بنجاسة أو غصبية حبّة في ضمن حقّة من الحنطة مع كون نسبة الحبة إلى الحقة أزيد من نسبة الواحد إلى الألف بكثير لا يكون من الشبهة غير المحصورة ، ولعل نظره (قده) إلى ضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف بحيث لا يعتني به العقلاء ، فان كان كذلك فهو يرجع إلى الضابط الآتي.

ومنها : أن غير المحصورة ما يعسر عده.

وفيه أولا : أنه إحالة إلى أمر غير منضبط ، لاختلاف الأشخاص والأزمان في تحقق العسر بالعدّ.

وثانيا : أن العسر قد يعد بالنسبة إلى بعض الأشياء من شبهة غير المحصورة ، كتردد شاة محرمة بالغصب أو غيره بين عشرة آلاف شاة ، وقد لا يعد من الشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى بعضها الآخر ، كتردد حبة واحدة متنجسة من الحنطة مثلا بين مائة ألف حبة : فان العسر مع تحققه في كليهما لا يوجب كون المثال الثاني من الشبهة غير المحصورة.

وثالثا : أن التحديد بالعسر ناظر إلى ما يرفع الحكم ، ومن المعلوم أن المناط حينئذ هو لحاظ ذلك العنوان الرافع بالنسبة إلى علم المكلف ، فالعسر يرفع الفعل العسري أو الترك كذلك. وأما عسر العد مع عدم العسر في الفعل أو الترك فلا يصلح لرفع الحكم حتى يناط به حد الشبهة غير المحصورة ، فتدبر.

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل الماء المشكوك نجاسته ، المسألة : ٢

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنها : ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) من كون كثرة الأطراف بمثابة توجب وهو احتمال التكليف في كل واحد منها بحيث لا يحتمل العقاب في واحد منها ، كما صرح المصنف بذلك في توضيح عبارة الشيخ في حاشية الرسائل بقوله : «والأحسن في تقرير الاستدلال بهذا الوجه أن يقال : ان العلم بالتكليف بين أطراف كثيرة غير محصورة لا يوجب تنجزه بحيث يورث مخالفته العقاب ، فلا يحتمل العقاب في واحد من الأطراف». وقريب منه ما في تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من «أن الضابط فيها هو بلوغ الأطراف في الكثرة بمثابة توجب ضعف احتمال وجود الحرام في كل واحد من الأطراف» (١).

وفيه ـ مضافا إلى ما قيل : من أنه إحالة إلى أمر مجهول ، لكون الوهم ذا مراتب كثيرة ، فأي مرتبة منها تكون ميزانا للشبهة غير المحصورة ، وان أمكن دفعه بأن المدار في احتمال العقاب الموجب لتنجز التكليف على الاحتمال المرجوح ، مقابل الراجح والمساوي وهما الظن والشك ، وهذا أمر مبيّن غير مجهول وان كان له مراتب ـ أن وهن احتمال التكليف ان كان مانعا عن التنجيز لكان مانعا عنه في الشبهة المحصورة أيضا ، كما إذا فرض كون احتمال انطباق النجس المعلوم إجمالا بين الإناءين مثلا على أحدهما موهوما ، إذ كثرة الأطراف جهة تعليلية لوهن الاحتمال ـ لا تقييدية ـ حتى تختص مانعية وهنه لتنجيز العلم بغير المحصورة ، فالمدار على موهومية الاحتمال مطلقا لا على علتها ، ومن المعلوم أن هذه الموهومية لا تقدح في تنجيز العلم ولزوم الاجتناب عن كليهما ، كما لا تقدح في تنجيزه في الشبهات البدوية قبل الفحص ، ومساوقتها لاحتمال العقاب إلى أن يحصل المؤمّن.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٣٠

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنها : أن الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقتها القطعية.

وفيه أولا : أنه تعريف باللازم الأعم ، لعدم اختصاص العسر المزبور بالشبهة غير المحصورة ، إذ قد يتفق ذلك في المحصورة أيضا.

وثانيا : أن عسر الامتثال اليقيني لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي حتى يرفع التكليف رأسا كما هو المقصود في غير المحصورة ، بل يوجب التنزل إلى الإطاعة الاحتياطية الناقصة.

وثالثا : أنه لا انضباط للعسر ، لاختلافه بحسب الأشخاص والأزمان ، فالإحالة إليه إحالة إلى أمر مجهول ، فتأمل.

ومنها : أن الضابط هو الصدق العرفي ، فما صدق عليه عرفا أنه غير محصور ترتب عليه حكمه.

وفيه أولا : أن الرجوع إلى العرف في تشخيص المفاهيم انما يكون في الألفاظ الواقعة في الأدلة الشرعية لترتيب ما لها من الأحكام عليها ، ومن المعلوم أن لفظ «غير المحصور» لم يقع في شيء من تلك الأدلة حتى يرجع في تشخيص مفهومه إلى العرف ، بل هو اصطلاح مستحدث من الأصوليين.

وثانيا : أن الرجوع إلى العرف لا يوجب تميز ضابط غير المحصور عن المحصور ، إذ ليس له معنى متأصل عندهم ، بل هو من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ، فلا جدوى في الرجوع إليهم في تعيين ما هم فيه مختلفون.

ومنها : ما اختاره المحقق الهمداني (قده) في الحاشية وذكر ملخصه في مصباحه أيضا ، قال في الحاشية : «والحق أن يقال في تفسيرها : الشبهة غير المحصورة

١٢٠