منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من تحقيق وجهه ، وأنه من جهة الحكومة أو التخصيص أو الأظهرية أو غيرها ، فان جميعها توفيق عرفي ، بمعنى أن الجمع بأي نحو منها كان مما يساعده العرف ، وليس التوفيق العرفي شيئا غيرها.

٣ ـ قاعدة لا ضرر ترفع الإلزام دون الملاك

الثالث : قد يقال : انه لمّا كان نفي الحكم الضرري امتنانيا ، فلا محالة يختص بنفي الحكم الإلزامي الوجوبيّ والتحريمي ، لأنه الملقي للمكلف في الضرر ، دون الحكم الترخيصي ، فانه لا يلقيه في الضرر ، بل الملقي له فيه هو اختياره من دون ارتباط له بجعل الشارع.

مضافا إلى : أن نفي الحكم الترخيصي ينافي الامتنان الّذي هو شرط جريان حديث نفي الضرر ، هذا.

لكن فيه : أنه بناء على كون معنى «لا ضرر» نفي الحكم الضرري أو نفى الحكم بلسان نفي الموضوع يلاحظ ضررية الحكم في مقام التشريع ، بمعنى أنه إذا عرض عليه عنوان يوجب حدوث ملاك فيه غير ملاكه السابق يتغير به التشريع ويصير حكمه الفعلي تابعا للملاك الحادث ، من غير فرق بين إرادة المكلف وعدمها وعلمه به وعدمه ، فلو فرض صيرورة الماء أو خبز الحنطة أو بعض الأثمار لشخص في حال مضرّا به صدق أن إباحة هذه الأشياء ضررية كضررية وجوب الوضوء مثلا والحكم الضرري لا جعل ، له أو هذه الأشياء ضررية والموضوع الضرري لا حكم له ، والامتنان موجود أيضا ، لأن نفي إباحتها في حال مضريتها منّة على المتضرر بها ، هذا.

ثم انه بناء على الاختصاص المزبور يصح ذلك مطلقا سواء كان معنى لا ضرر «أن الحكم الضرري لا جعل له» أم «الموضوع الضرري لا حكم له» ضرورة أنه على التقديرين يكون المنفي هو الحكم اما بلا واسطة كما هو مقتضى المعنى

٦٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأول وإما معها أي بلسان نفي الموضوع كما هو مقتضى المعنى الثاني ، هذا بناء على إرادة أحد هذين المعنيين.

وأما بناء على إرادة النهي من «لا ضرر» فلا يدل إلّا على حرمة الإضرار إذا كان «الضرر» مصدرا حتى يصح تعلق النهي به بماله من المعنى المصدري ، لكونه حينئذ فعلا اختياريا قابلا لتعلق التكليف به. وأما إذا كان اسم مصدر فعلا يصح تعلق النهي به ، لعدم كون معناه حينئذ فعلا اختياريا صالحا لتعلق التكليف به.

ثم انه بناء على إرادة النهي من «لا ضرر» يشمل إطلاقه الإضرار بالنفس وبالغير ، والإضرار المالي وغيره. ولو نوقش في إطلاقه للإضرار بالغير كفى دليلا على حرمته «لا ضرار». مضافا إلى غيره من النصوص الدالة على حرمة الإضرار بالغير.

ثم ان مقتضى كون «لا ضرر» حكما امتنانيا هو ارتفاع مجرد الإلزام به مع بقاء الجواز والملاك ، لأن الحكم الملقي في الضرر هو الإلزام دون الترخيص والملاك ، نظير قاعدة نفي الحرج ، فان المرفوع بها صرف الإلزام ، ولذا يبنى على صحة الوضوء الحرجي.

وعليه فلا بد من الحكم بصحة الوضوء الضرري أيضا فيما إذا لم يكن الضرر متعلقا بالنفس أو الطرف ، حيث انه حينئذ مبغوض وذو مفسدة ، ويمتنع أن يكون محبوبا ومقربا لفاعله إلى الله سبحانه وتعالى.

كما أن مقتضى امتنانية «لا ضرر» عدم جريانه فيما ينافي الامتنان كموارد الإقدام على الضرر.

منها : ما إذا زرع أرض الغير بدون اذنه ، فان لمالك الأرض قلع الزرع وان خرج بالقلع عن المالية. ولا تجري فيه قاعدة نفي ضرر الزارع حيث لا يتسلط مالك الأرض على قلعه ، حيث ان الضرر نشأ عن سوء اختيار مالك الزرع ،

٦٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا عن حكم الشارع حتى يقال : أن الحكم الضرري وهو جواز قلع الزرع منفي في الشريعة ، أو الموضوع الضرري لا حكم له. وهذا بخلاف جواز إبقاء الزرع ، فانه ضرر على المالك ، فينفي بقاعدة نفيه.

وبالجملة : فجريان القاعدة في ضرر صاحب الزرع ينافي المنة على مالك الأرض ، فلا تجري فيه ، بل تجري في ضرر مالك الأرض.

ومنها : ما إذا أذن المالك في دفن الميت في ملكه أو في الصلاة فيه ، فانه ليس للمالك الرجوع عن اذنه بعد الدفن ، وبعد الشروع في الصلاة تمسكا بقاعدة نفي الضرر ، حيث ان المنشأ للضرر ليس هو الحكم الشرعي ، بل اذنه الناشئ عن إرادته واختياره ، فجريان القاعدة ينافي الامتنان بالنسبة إلى الميت ، للزوم نبش قبره. وكذا المصلي ، فان جريانها في ضرر المالك ينافي المنة على المصلي ، فحرمة النبش وإبطال الصلاة محكمة.

ومنها : ما إذا أذن في رهن ماله ، فانه بعد تحقق الرهن ليس له الرجوع عن الاذن ، فلو كان في بقاء ماله رهنا ضرر لا تجري فيه قاعدة الضرر ، لأن اذنه في الرهن مع لزومه من طرف الراهن اقدام على ضرره باختياره من دون دخل علي لحكم الشارع في هذا الضرر حتى يكون موردا لقاعدة نفي الضرر.

ومنها : ما إذا نصب لوحا مغصوبا في سفينة أو خشبا مغصوبا في جدار داره ، فان لمالكهما إخراجهما عن السفينة والجدار وان تضرر مالك الجدار والسفينة ضررا فاحشا ما لم يبلغ تلف النّفس المحترمة ، فانه ـ مضافا إلى اقدام الغاصب الّذي هو الجزء الأخير من علة الضرر دون الحكم الشرعي ـ لا تشمله قاعدة نفى الضرر ، لوجه آخر ، وهو ما دل على أنه ليس لعرق ظالم حق ، فانه يدل على أنه ليس للغاصب منع مالك اللوح والخشب من استرداد ماله وان تضرر الغاصب بتلف مال من أمواله.

٦٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما ما في رسالة قاعدة نفي الضرر للعلامة الخوانساري التي هي تقريرات بحث المحقق النائيني (قده) من توجيه عدم شمول القاعدة لهذا الفرع بعدم مملوكية تركيب السفينة وبناء الدار لمالكيهما ، فالهيئة في السفينة والدار ليست مملوكة للغاصب حتى يكون رفعها ضررا أي نقصا ماليا عليه ، فالخروج عن عموم قاعدة نفي الضرر موضوعي (١).

فلا يخلو من غموض ، ضرورة أن الهيئة ليست من المباحات الأصلية قطعا ، فلا بد أن تكون ملكا للغاصب ، إذ لا موجب لصيرورتها ملكا للمغصوب منه. نعم له إعدامها لاسترداد ماله ، فتكون كالمال الّذي يصرف في طريق رد المغصوب إلى مالكه ، فانه من مال الغاصب بلا إشكال وان لم تكن الهيئة ملكا للغاصب ، وفرض انتقال المغصوب إلى الغاصب بهبة أو غيرها ، فبأي سبب تنتقل الهيئة إلى الغاصب ، والقول بعدم ملكيته لها حتى بعد هذا الانتقال كما ترى.

ومنها : غير ذلك. وهذه الفروع وان كانت محل البحث والنّظر ، إلّا أن الغرض الإشارة إليها ، وتفصيلها موكول إلى محله من الفقه الشريف.

٤ ـ موضوع القاعدة الضرر الواقعي لا المعلوم

الأمر الرابع : لا يخفى أن مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية دون المعلومة والاعتقادية هو كون الضرر الواقعي مطلقا سواء علم أم جهل موضوعا في حديث نفي الضرر. لكن يظهر من الفقهاء في بعض الفروع خلاف ذلك ، حيث انهم لم يعوّلوا فيها على الضرر الواقعي مع وجوده.

منها : حكمهم بصحة الطهارة المائية باعتقاد عدم الضرر مع وجوده واقعا.

ومنها : حكمهم بصحة صوم من زعم عدم الضرر مع كونه مضرا واقعا.

ومنها : تقييدهم خياري الغبن والعيب بالجهل بهما ، مع اقتضاء وجودهما

__________________

(١) قاعدة لا ضرر ، ص ٢١٩

٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

واقعا للخيار من غير فرق في ذلك بين العلم والجهل بهما.

وبالجملة : فصارت جملة من الفروع موردا للإشكال ، وتصدى غير واحد لدفع الإشكال عنها.

أما إشكال الطهارة المائية ، فقد أجاب عنه المحقق النائيني (قده) بما حاصله : أن المنفي بحديث «لا ضرر» هو الحكم الضرري في عالم التشريع بحيث يكون الداعي إلى إيجاد الضرر في الخارج حكم الشارع ، وهو لا يتحقق مع الجهل بالضرر أو اعتقاد عدمه ، إذ لو لم يكن الحكم ثابتا واقعا لوقع في الضرر أيضا ، إذ الموقع له في الضرر هو جهله به.

وبالجملة : فلا تجري هنا قاعدة الضرر ، لعدم عليّة الحكم الشرعي للضرر مع الجهل به. والظاهر أن هذا الجواب هو ما أفاده الشيخ (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر ، حيث قال : «فتحصل أن القاعدة لا تنفي إلّا الوجوب الفعلي على المتضرر العالم بتضرره ، لأن الموقع للمكلف في الضرر هو هذا الحكم الفعلي».

فعلى مسلك الميرزا (قده) يتوقف جريان القاعدة على أمرين : أحدهما العلم بعلية الحكم للضرر ، والآخر وجود الضرر واقعا. بخلاف مسلك صاحب الكفاية (قده) فانه لا يتوقف على شيء إلّا على كون الفعل مضرا واقعا.

وفيه : أن مقتضى ما أفاده الميرزا (قده) تقيد الحكم الضرري بالعلم بضرريته ، وهذا تقييد في تشريع نفي الحكم الضرري بلا موجب ، فان المراد كون الحكم بنفسه أو بمتعلقه ضرريا ، فان كان كذلك فهو منفي في صفحة التشريع سواء علم به المكلف أم لم يعلم.

فالحق في الجواب أن يقال : ان ضررية الحكم هنا وان كانت مجهولة ، لكن عدم جريان قاعدة نفي الضرر في الطهارة المائية انما هو لأجل فقدان شرطها

٦٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وهو الامتنان ، ضرورة أن بطلانها وإيجاب التيمم عليه وإعادة الصلاة خلاف الامتنان.

لا يقال : ان عدم جريان قاعدة الضرر لا يكفي في صحة الطهارة المائية ، لأن مقتضى عدم جريانها فقدان المانع عن صحتها ، وذلك لا يثبت المقتضي لصحتها.

فانه يقال : ان الكلام في وجود المانع. وأما المقتضي لصحتها وهو إطلاق الدليل فلا إشكال في وجوده ، فإذا انتفى المانع أثّر المقتضي ، وأثره الصحة الفعلية.

بل يمكن الحكم بالصحّة مع جريان قاعدة نفي الضرر في الطهارة أيضا إذ ما عدا ضرر النّفس والطرف الّذي علم بحرمته ومبغوضيته وامتناع محبوبيته يكون بحكم الحرج ، فكما لا ينبغي الإشكال في صحة الطهارة المائية الحرجية فكذلك لا ينبغي الإشكال في صحتها مع الضرر غير النّفس والطرف ، إذ المرفوع في كل من قاعدتي الحرج والضرر هو الإلزام فقط ، لأنه الموجب للكلفة والمشقة دون أصل الرجحان والمصلحة ، بل رفعهما ينافي الامتنان على العباد.

ومنه يظهر فساد توهم أنه لا دليل على بقاء المصلحة بعد ارتفاع الإلزام.

وبالجملة : فرفع الإلزام في هاتين القاعدتين نظير رفعه عن الصبي ، فان المرفوع عنه هو مجرد الإلزام أيضا مع بقاء الرجحان والملاك على حالهما ، ولذا يستدلون بإطلاقات الأدلة على استحباب عبادات الصبي.

وعليه فلا حاجة في دفع الإشكال عن صحة الطهارة المائية إلى ما قيل من الاستحباب النفسيّ للغسل والوضوء من دون قصد غاية من غاياتهما ، بتقريب : أن دليل «لا ضرر» حاكم على الأحكام الإلزامية ، دون غيرها من الاستحباب والإباحة.

إذ فيه : ـ مضافا إلى أن استحبابهما كذلك محل البحث والإشكال ـ أن أمرهما الاستحبابي لم يكن داعيا إلى إتيانهما حتى يقال بصحتهما أي موافقتهما لأمرهما ،

٦٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذ ليس المراد باستحبابهما النفسيّ استحبابهما الذاتي بمعنى كونهما من العبادات الذاتيّة التي لا تحتاج عباديتها إلى الأمر الشرعي كالركوع والسجود ، بل المراد بذلك تعلق الأمر الاستحبابي بهما مع عدم قصد شيء من غاياتهما.

فتلخص مما ذكرنا : صحة الطهارة المائية في صورة الجهل بالضرر والحرج ، بل في صورة العلم بهما أيضا ، بل صحة غير الطهارة المائية من سائر العبادات أيضا.

وقد ظهر مما تقدم ضعف القولين الآخرين في المسألة ، وهما : القول بفساد الطهارة المائية مع العلم بالضرر والحرج كما عن المحقق النائيني (قده) والقول بفسادها مع العلم بالضرر ، وبصحتها مع العلم بالحرج كما اختاره في العروة وأمضاه جلّ المحشين ، بل قيل : ولعله المشهور بين المتأخرين.

واستند أول القولين إلى ما حاصله : أن واجد الماء وفاقده موضوعان عرضيان يشتمل كل منهما على ما لا يحويه الآخر من المصلحة كالمسافر والحاضر ، فليس في الطهارة المائية لفاقد الماء ملاكها ، بل المصلحة لفاقده منحصرة في الطهارة الترابية ، فلا ملاك في الطهارة المائية ، كما لا أمر بها بالنسبة إلى فاقد الماء ، فالحكم بصحتها منه مع أمره بالتيمم يشبه الجمع بين النقيضين.

أما ضعفه فلما مر من أن المنفي بقاعدتي الضرر والحرج هو مجرد الإلزام دون الرجحان والملاك ، وليس واجد الماء وفاقده كالمسافر والحاضر موضوعين عرضيين حتى تكون الطهارة الترابية للفاقد كصلاة القصر للمسافر ، بل هي بدل اضطراري عن المائية ، وقد ثبت في محله بقاء مصلحة المبدل في حال مشروعية البدل الاضطراري. وعدم ارتفاعها بعروض الاضطرار ، وهذا شأن جميع الأبدال الاضطرارية من دون خصوصية للطهارة الترابية كما قرر في محله ، هذا.

واستند ثاني القولين إلى : ما اشتهر بين المتأخرين من حرمة الإضرار

٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالنفس المانعة عن استعمال الماء شرعا ، والممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، فالطهارة المائية مبغوضة ، والوظيفة منحصرة في التيمم. وهذا بخلاف الحرج ، فانه لا يوجب مبغوضية الفعل ، وانما يرفع الإلزام الموجب للمشقة ، ومع عدم المبغوضية يصلح لأن يكون مقربا إليه تعالى شأنه ، ولذا تصح الطهارة المائية الحرجية ، هذا.

وفيه : ما مرت الإشارة إليه من عدم الدليل على حرمة الضرر غير النفسيّ والطرفي.

وعليه فوزان «لا ضرر» وزان «لا حرج» في صحة الطهارة المائية في كلتا صورتي العلم بالضرر والحرج. نعم في الضرر النفسيّ والطرفي لا تصح الطهارة المائية ، لمبغوضيتها المنافية لمقرّبيتها.

وأما مسألة الصوم ، فقد اختلفت كلماتهم في حكمها ، ففي العروة في سادس شرائط صحة الصوم : «ولو صام بزعم عدم الضرر فبان الخلاف بعد الفراغ من الصوم ، ففي الصحة إشكال ، فلا يترك الاحتياط بالقضاء» وهذا الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في أن مانع الصحة هل هو المرض ، وخوفه طريق ظاهري إليه؟ أو أن كلّا منهما موضوع للمانعية. والنصوص أيضا مختلفة ، فمن بعضها يظهر أن المانع خوف الرمد ، ومن بعضها أنه نفس المرض ، ومن بعضها أنه المرض الّذي يضرّ به الصوم ، فمع اختلاف النصوص والفتاوى لا يمكن الحكم جزما ببطلان الصوم المضرّ واقعا مع اعتقاد عدم الضرر ، خصوصا مع الأمن منه ، فلا يعد هذه المسألة من موارد نقض قاعدة نفي الضرر ، إلّا إذا ثبت كون المانع عن الصوم الضرر الواقعي ، وأن الخوف طريق إليه ، وذلك غير مسلم وتنقيح المسألة موكول إلى محلها.

وأما مسألة خياري الغبن والعيب ، فالظاهر أنها غير مبنية على قاعدة نفي الضرر ،

٦٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بل الدليل عليهما هو تخلف الشرط الضمني ، وهو سلامة العوضين من العيب في خيار العيب ، وتساوي العوضين في المالية في خيار الغبن ، واستدلال العلامة (قده) عليه في التذكرة بقوله تعالى : «إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم» إشارة إلى الشرط المزبورة أيضا ، بتقريب : أن التراضي انما يتحقق في صورة تساوي العوضين من حيث المالية ، ومع انكشاف عدمه ينكشف فقدان التراضي المنوط بالتساوي المزبور ، هذا.

مضافا إلى النصوص الخاصة في خيار العيب كما لا يخفى على من راجعها ، ومع العلم بالغبن وعدم تساوي العوضين في المالية أو وجود العيب فيما انتقل إليه يكون الإقدام على الضرر لسلطنته على تبديل ماله بمتاع معيب أو بأقل مما يساوي ماليته ، فهذا الإقدام منه إسقاط للشرط الضمني ، بل عدم لزوم هذه المعاملة ينافي الامتنان ، والغرض العقلائي الّذي دعاه إلى هذه المعاملة. وهذا وجه عدم الخيار مع العلم بالغبن والعيب واختصاصه بحال الجهل بهما.

٥ ـ موضوع القاعدة الضرر الشخصي لا النوعيّ

الأمر الخامس : مقتضى ما ثبت في محله ـ من كون الأحكام الشرعية انحلالية ، وأنها من قبيل القضايا الحقيقية ، ومن تبعية فعلية الحكم لوجود موضوعه تبعية المعلول لعلته ، وإلّا يلزم الخلف والمناقضة ، ومن كون نفي الضرر من الأحكام الامتنانية ـ هو كون الضرر المنفي في قاعدته شخصيا لا نوعيا ، من غير فرق بين معانية المتقدمة من نفي الحكم الضرري ، ومن نفي الموضوع الضرري ، ومن حرمته ، ومن نفي الضرر غير المتدارك ، لأن قضية المقدمات المذكورة هي عدم ثبوت الحكم لغير موضوعه ، فضرر زيد أجنبي عن عمرو ، ولا معنى لنفي ضرره عن عمرو الّذي لم يقع في الضرر ، فهذا من الوضوح كالقضايا التي قياساتها

٦٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

معها.

ولا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية كوجوب الطهارة المائية إذا كان ضرريا وبين الأحكام الوضعيّة كلزوم البيع الغبني ، فان حديث نفي الضرر يرفع كليهما.

وقد ظهر مما تقدم ضعف ما عن جماعة ومنهم شيخنا الأعظم (قده) في الرسائل من التفصيل بين العبادات والمعاملات بكون الضرر شخصيا في الأولى ونوعيا في الثانية ، حيث انهم استدلوا بقاعدة نفي الضرر لثبوت خيار الغبن وحق الشفعة مع عدم الضرر في جميع مواردهما ، لثبوت خيار الغبن مع عدم الضرر كما إذا كان ظهور الغبن حين ارتفاع سعر السلعة بما يتدارك به الغبن ، فلزوم البيع حينئذ ليس ضررا على المغبون حتى يرتفع ، ومع ذلك يحكم فيه بالخيار. وعدم الخيار مع وجود الضرر كما إذا تنزل السعر بعد البيع بلا فصل ، فانه لا خيار حينئذ ، لعدم الغبن حين البيع. واجتماع الخيار والضرر كما في صورة كون البيع حين إنشائه غبنيا. وكذا الضرر والشفعة ، فان النسبة بينهما عموم من وجه كما هو واضح ، فلا بد أن يكون الضرر في خيار الغبن وحق الشفعة نوعيا ، هذا.

وجه الضعف : أن مستند خيار الغبن كما تقدم هو تخلف الشرط الضمني ، ومدرك حق الشفعة نصوص خاصة ، فقاعدة نفي الضرر أجنبية عنهما.

فالنتيجة : أن الضرر في حديث نفي الضرر شخصي من غير فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.

٦ ـ اختصاص حكومة القاعدة بالأحكام الوجودية

الأمر السادس : مقتضى كون وزان حديث نفي الضرر وزان حديث رفع التسعة وقاعدة نفي الحرج هو رفع الحكم الثابت بالعمومات أو الإطلاقات ، حيث

٦٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ان مفاد هذا اللسان تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، فيختص حديث نفي الضرر ونظائره مما يكون لسانه النفي بالأحكام الوجودية. وان أبيت عن ظهور ذلك في الاختصاص المزبور فلا أقل من كونه المتيقن ، فلا وجه حينئذ للاستدلال به على إثبات حكم يلزم من عدمه الضرر.

وبعبارة أخرى : شأن قاعدة نفي الضرر رفع الحكم الّذي ينشأ منه الضرر ، أو رفعه عن الموضوع الضرري ، لا وضع الحكم الّذي ينشأ من عدمه الضرر ، وان حكي عن بعضهم حكمه بالضمان في جملة من الفروع استنادا في ذلك إلى قاعدة نفي الضرر ، حيث ان عدم حكم الشارع فيها بالضمان ضرر ، فينفي بحديث نفي الضرر ، ويحكم بالضمان :

منها : ضمان حابس الحر ظلما حتى شردت دابته ، أو أبق عبده ، أو طار طيره.

ومنها : ضمان منافع العبد المحبوس على الحابس.

ومنها : ما في العروة الوثقى (١) من جواز تطليق الحاكم زوجة من لا يتمكن من النفقة ، بتقريب : أن عدم الحكم بجواز طلاقها للحاكم ضرر عليها فينفي هذا العدم بحديث نفي الضرر ، ومقتضاه جواز طلاقها للحاكم ، قال في عداد النساء اللّاتي يجوز للحاكم الشرعي طلاقهن : «وكذا في الحاضر المعسر الّذي لا يتمكن من الإنفاق مع عدم صبر زوجته على هذه الحالة ، ففي جميع هذه الصور وأشباهها وان كان ظاهر كلماتهم عدم جواز فكّها وطلاقها للحاكم ، لأن الطلاق بيد من أخذ بالساق ، إلّا أنه يمكن أن يقال بجوازه ، لقاعدة نفي الحرج والضرر ، خصوصا إذا كانت شابة واستلزم صبرها طول عمرها وقوعها في مشقة شديدة ، ولما يمكن أن يستفاد من بعض الأخبار».

وقد نقل بعض أعاظم أساتيذنا (قده) أن صاحب العروة أعلى الله تعالى مقامه

__________________

(١) العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٧٥ مطبعة الحيدري بطهران ، المسألة ٣٣

٦٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أجرى هذه القضية وطلّق امرأة لم يتمكن زوجها من الإنفاق عليها.

والّذي أعتقده هو أن السيد (ره) لم يعتمد في ذلك على قاعدة الضرر أو الحرج ، بل اعتمد فيه ـ بعد بنائه على الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط ـ على الروايات التي بعضها صحيح ، وتعرض لها في العروة في هذه المسألة.

ولا تعارض تلك الروايات بما دل على «أنها ابتليت فلتصبر» لأن مورده امتناع الزوج عن المواقعة ، لا عن النفقة.

وأما مسألة حبس الحرّ حتى شردت دابته ، فالضمان فيه انما هو لقاعدة الإتلاف الّذي هو من موجبات الضمان ، لأن الحابس صار سببا لذلك ، حيث ان ضابط المسبب التوليدي ينطبق عليه.

نعم يمكن أن يكون المستند في تلك الفروع حديث نفي الضرر بناء على المعنى الرابع وهو نفي الضرر غير المتدارك ، يعني «لا ضرر بدون لزوم التدارك شرعا» بحيث يكون الضرر من موجبات الضمان. لكن قد تقدم الإشكال في صحته.

وكيف كان ، فالحق ما تقدم من عدم صحة التمسك بقاعدة نفي الضرر لإثبات الحكم وان كان يظهر من كلام شيخنا الأعظم (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر أنه محل الإشكال ، حيث قال في التنبيه الثاني ـ بعد نفي الإشكال عن نفي الأحكام الوجودية بقاعدة نفي الضرر ـ ما لفظه : «وأما الأحكام العدمية الضررية مثل عدم ضمان ما يفوت على الحر من عمله بسبب حبسه ، ففي نفيها بهذه القاعدة فيجب أن يحكم بالضمان إشكال ، من أن القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية ... إلى أن قال : ومن أن المنفي ليس خصوص المجعولات ، بل مطلق ما يتدين به ويعامل عليه في شريعة الإسلام وجوديا كان أو عدميا ...».

وقد ظهر مما ذكرنا ضعف الاستدلال على جريان حديث نفي الضرر في

٦٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العدميات كجريانه في الوجوديات بفروع كثيرة تقدمت الإشارة إلى بعضها ، حيث انهم زعموا أن الحكم بالضمان أو غيره فيها مستند إلى حديث نفي الضرر ، ببيان أن عدم الضمان مثلا ضرر منفي بالحديث ، ومن المعلوم أن نفي العدم يفيد الإثبات ، فينتج الضمان.

وجه الضعف : ما تقدم من أن الضمان أو غيره في تلك الفروع اما مستند إلى الإتلاف ، أو اليد ، أو النصوص الخاصة كما في تطليق الحاكم زوجة الحاضر المعسر. ولم يظهر استنادهم في شيء منها إلى قاعدة نفي الضرر.

وبالجملة : فظهور حديث نفي الضرر في نفي الحكم الوجوديّ الثابت بالعمومات والإطلاقات مما لا يقبل الإنكار ، هذا.

مضافا إلى : أن العدم ليس حكما شرعيا حتى يكون حديث الضرر نافيا له وحاكما عليه.

ودعوى كون العدم حكما شرعيا كشرعية الترك في النواهي والاستصحابات العدمية ، وأنه كالوجود مسند إلى الشارع ، فلا فرق بينهما في حكومة «لا ضرر» عليهما ، لكون كل منهما حكما شرعيا ، وعليه فعدم الضمان أيضا حكم شرعي ينفيه حديث نفي الضرر (غير مسموعة) إذ فرق واضح بين العدم الأزلي وهو ما لم يوجد علة وجوده ، وبين العدم الشرعي وهو ما وجد علة عدمه ، حيث ان الأول أجنبي عن الشارع وغير مسند إليه ، غاية الأمر أن للشارع إبقاءه على حاله ، وطرده بنقيضه ، وليس هذا إلّا مجرد القابلية للجعل بقاء.

وما ورد من «أنه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا بلا حكم» لا يدل على مجعولية العدم القابل للجعل حتى يقال : ان العدم مطلقا مجعول ، فيرفعه حديث نفي الضرر كما يرفع الحكم الوجوديّ. وذلك لأنه في مقام بيان تكميل الشريعة وعدم إهمال حكم واقعة من الوقائع ، وليس في مقام بيان سنخ الحكم من كونه وجوديا أو

٦٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عدميا ، أو كون عدم الحكم في موضع قابل للجعل حكما ، فلا إطلاق له من هذه الحيثية حتى يشمل الأحكام العدمية الفعلية والشأنية.

مضافا إلى : أن هذا الإطلاق بعد تسليمه لا يشمل مطلق العدم ، بل خصوص ما جعل موردا لحكم الشارع فعلا ، لكونه حينئذ مسندا إلى الشارع بحيث يعد من المجعولات الشرعية ، كما إذا تعلق به النهي ، أو جرى فيه الاستصحاب ، إذ مرجع النهي والاستصحاب المتعلقين به إلى حكم الشارع بإبقائه ووضعه على حاله.

إلّا أنه مع ذلك لا يشمله مثل حديث نفي الضرر ، لظهوره في رفع الحكم الثابت ، وقصوره عن إثبات الحكم الوجوديّ ، لكونه حينئذ خلاف مقتضاه من الرفع. وعدم الضمان من قبيل العدم القابل للحكم الشرعي ، لا من قبيل ما تعلق به الحكم فعلا ، ومن المعلوم أن القابلية للجعل غير فعلية الجعل ، وهذا هو الحكم دون الأول ، فما أفاده المحقق النائيني (قده) من أن عدم الحكم ليس حكما مجعولا فلا يجري فيه حديث نفي الضرر في غاية المتانة.

ولا يرد عليه ما في تقريرات بعض الأعاظم من : «أن عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل جعل لعدم ذلك الحكم ، فيكون العدم مجعولا» لما مر من أن مجرد صلاحية العدم للجعل لا يوجب فعلية الجعل وصيرورته من الأحكام الشرعية ، هذا.

فتلخص مما ذكرناه أمور :

الأول : أن حديث نفي الضرر ناف للحكم الوجوديّ لا مثبت له ، فلا يثبت به الضمان أو غيره في موارد عدم ثبوت موجب من موجباتهما فيها من الإتلاف واليد وغيرهما ، وإلّا يلزم تأسيس فقه جديد ، إذ لازمه وجوب تدارك كل ضرر لكل متضرر ولو من بيت المال كالدم في عدم ذهابه هدرا ، وهو كما ترى.

الثاني : ضعف الاستدلال بجملة من الفروع على كون حديث نفي الضرر مثبتا

٦٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للحكم.

الثالث : أن العدم الأزلي ليس حكما مجعولا شرعيا ، وانما هو قابل للجعل الشرعي ، وجعله انما يكون بتشريع علة بقائه ، كجعله متعلقا للنهي ، أو موردا للاستصحاب ، حيث ان العدم في هاتين الصورتين مجعول شرعي.

الرابع : أن المرفوع بحديث نفي الضرر في قضية سمرة كما تقدم سابقا هو إما سلطنته على إبقاء عذقه ، وإما حرمة تصرف الأنصاري في مال سمرة ، فليس المرفوع بالحديث عدم تسلط الأنصاري على قلع العذق حتى يقال : ان حديث نفي الضرر رافع للأحكام العدمية كالوجودية.

٧ ـ شمول القاعدة للضرر الاختياري والقهري

الأمر السابع : الظاهر أنه لا فرق في الضرر الموضوع لحديث نفي الضرر بين كونه اختياريا كما إذا أوجد المكلف ما يوجب مرضه المانع عن الصوم أو الطهارة المائية أو الصلاة قائما ، أو الحج مباشرة ، أو غير ذلك من الموارد ، وغير اختياري كالأمثلة المزبورة مع عدم كون المرض بفعله الاختياري ، فانه يسقط وجوب هذه الأمور في كلتا صورتي الضرر الاختياري وقهريته. وكذا لا فرق بين كونه جائزا شرعا كإجناب نفسه مع علمه بتضرره بالغسل ، وحراما كذلك كإيجاد مرض يسلب القدرة عن الحج مباشرة ما دام حيّا. والظاهر أن جميع الأبدال الاضطرارية كذلك ، لاستلزام الضرر الاختياري العجز عن فعل المبدلات الموجب لفوات مقدار مهم من المصالح الداعية إلى تشريعها ، ومن المعلوم أن تفويت المصلحة الملزمة بدون مسوغ حرام.

وبالجملة : فإيجاد الضرر من قبيل إيجاد الموضوع وتبديله ، ومن المعلوم أن الحكم تابع لموضوعه الفعلي سواء وجد اختيارا على وجه جائز كتبديل السفر

٦٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالحضر ، أم على وجه حرام كإيجاد المستطيع المرض المانع عن الحج مباشرة بحيث ينقلب تكليفه إلى الاستنابة ، وغير ذلك مما يوجب الانتقال إلى البدل الاضطراري بالإرادة والاختيار من دون مجوز شرعي ، أم وجد قهريا وبلا اختيار.

٨ ـ الحكم الثابت في مورد الضرر لا يرتفع بالقاعدة

الأمر الثامن : قد تقدم سابقا أن حديث نفي الضرر وكذا نفي الحرج لا يشملان الأحكام الثابتة بعنوانهما أو في حال وجودهما غالبا بحيث يكون نفيهما في حال وجودهما موجبا لحمل إطلاق الدليل على الفرد النادر ، بل يخصص عموم نفى الضرر والحرج بما دل على ثبوت تلك الأحكام الضررية والحرجية.

ومن هنا يظهر (أن التمسك) بقاعدتي الضرر والحرج لنفي استحباب زيارة إمامنا المظلوم سيد الشهداء أرواحنا فداه ، أو إثبات مرجوحيتها مع اقترانها غالبا خصوصا في الأزمنة السابقة بالمحن والبلايا من الضرر المالي والبدني وإرعاب الزوار وتخويفهم بالقتل وقطع الأطراف ، ببيان : أن مورد هاتين القاعدتين هو نفي الحكم الضرري والحرجي مطلقا وان كان ترخيصيا ، ومع الغض عن ذلك والبناء على اختصاصهما بالحكم الإلزامي يمكن الاستدلال على عدم الجواز بما دل على حرمة الإضرار بالنفس والإلقاء في التهلكة (في غاية الضعف) وذلك لعدم جريان قاعدتي الضرر والحرج في المقام سواء كانت الزيارة واجبة أم مستحبة مع ورود النص على رجحانها والترغيب فيها حال الخوف كما سيأتي بعض النصوص الدالة على ذلك.

ومع ورود الدليل على استحبابها ، بل وجوبها مع الخوف لا بد من تخصيص عموم قاعدتي الضرر والحرج ، كلزوم تخصيصه بكل حكم شرّع في مورد الضرر كوجوب الحقوق المالية ووجوب الجهاد ، كما أنه لا بد أيضا من تخصيص عموم

٦٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ما دل على حرمة الإضرار بالنفس والإلقاء في التهلكة بذلك.

أما النصوص الدالة على رجحان الزيارة ، بل وجوبها فكثيرة :

منها : ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه‌السلام ، فان إتيانه مفترض على كل مؤمن يقرّ للحسين عليه‌السلام بالإمامة من الله عزوجل (١).

ومنها : رواية أم سعيد الأحمسية عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قالت : قال لي : يا أم سعيد تزورين قبر الحسين عليه‌السلام؟ قالت : قلت : نعم ، فقال لي : زوريه ، فان زيارة قبر الحسين واجبة على الرّجال والنساء» (٢)

ومنها : رواية عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر عليه‌السلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي عليهما‌السلام لكان تاركا حقا من حقوق الله وحقوق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن حق الحسين عليه‌السلام فريضة من الله واجبة على كل مسلم (٣).

ومنها : غير ذلك.

بل يستفاد من بعض النصوص وجوب زيارة سائر الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أيضا ، كرواية الوشّاء «قال : سمعت الرضا عليه الصلاة والسلام يقول : ان لكل امام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وان من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة» (٤).

بل يفهم من هذه الرواية ونظائرها أن التمسك بحبل ولا يتهم والإيمان بإمامتهم لا يتمّ إلّا بزيارتهم صلوات الله عليهم ، فلا يكون أحد إماميّا إلّا بالاعتقاد الجناني

__________________

(١) كامل الزيارات طبع المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف ص ٤٣

(٢) كامل الزيارات طبع المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف ص ٤٣

(٣) كامل الزيارات طبع المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف ص ٤٤

(٤) المصدر ، ص ١٢٢

٦٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بإمامتهم والإقرار اللساني بها والحضور بالبدن العنصري عند قبورهم ، فالزيارة هي الجزء الأخير لسبب اتصاف المسلم بكونه إماميّا ، وتركها كفقدان سابقيها يوجب الرفض المبعد عن رحمته الواسعة أعاذنا الله تعالى منه ، فالإمامة التي هي من أصول الدين يتوقف التدين بها على زيارتهم عليهم‌السلام ، فلها دخل في تحقق هذا الأصل الأصيل الّذي هو أساس الدين ، فاذن يخرج وجوب الزيارة الّذي قال به جماعة كالفقيه المقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه والمحدث الكبير صاحب الوسائل والعلامة المجلسي وغيرهم قدس الله تعالى أسرارهم عن الأحكام الفرعية التي تكون قاعدتا الضرر والحرج حاكمتين عليها ، ويندرج في الأصول الاعتقادية التي لا مسرح لقاعدتي الضرر والحرج فيها.

وأما النصوص الدالة على الترغيب في زيارته عليه‌السلام ورجحانه في حال الخوف قولا وتقريرا والنهي عن تركها للخوف ، فمنها : ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال : يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين عليه‌السلام لخوف ، فان من تركه رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده ، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والأئمة عليهم‌السلام؟ أما تحب أن تكون ممن ينقلب بالمغفرة لما مضى ويغفر له ذنوب سبعين سنة؟ أما تحب أن تكون ممن يخرج من الدنيا وليس عليه ذنب يتبع به؟ أما تحب أن تكون غدا ممن يصافحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ومنها : ما عن محمد بن مسلم في حديث طويل : «قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام : هل تأتي قبر الحسين عليه‌السلام؟ قلت : نعم على خوف ووجل فقال : ما كان من هذا أشد فالثواب فيه على قدر الخوف ، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ،

__________________

(١) كامل الزيارات ص ١٢٦

٦٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وانصرف بالمغفرة وسلّمت عليه الملائكة ، وزاره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا له ، وانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء ، واتبع رضوان الله» (١).

ومنها : ما رواه يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : جعلت فداك زيارة قبر الحسين عليه‌السلام في حال التقية؟ قال : إذا أتيت الفرات فاغتسل ثم البس أثوابك الطاهرة [ثوبيك الطاهرين خ ل] ثم تمر بإزاء القبر ، وقل : صلى الله عليك يا أبا عبد الله صلى الله عليك يا أبا عبد الله صلى الله عليك يا أبا عبد الله ، فقد تمت زيارتك» (٢).

ومنها : قول الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث طويل لهشام بن سالم لمن قتل عند الحسين عليه الصلاة والسلام من زوّاره : «أول قطرة من دمه يغفر له بها كل خطيئة وتغسل طينته التي خلق منها (٣) الملائكة حتى تخلص كما خلصت الأنبياء المخلصين ، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر» وبعد بيان مناقب ومثوبات كثيرة له قال عليه‌السلام لمن حبس من الزوار : «له بكل يوم يحبس ويغتم فرحة إلى يوم القيامة ، فان ضرب بعد الحبس في إتيانه كان له بكل ضربة حوراء ، وبكل وجع يدخل على بدنه ألف ألف حسنة ، ويمحى بها ألف ألف سيئة ، ويرفع له بها ألف ألف درجة ، ويكون من محدثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يفرغ من الحساب فيصافحه حملة العرش ، ويقال له : سل ما أحببت» الحديث (٤).

وبالجملة : فهذه النصوص توجب الاطمئنان بخروج زيارة الإمام المظلوم مولانا أبي عبد الله سيد الشهداء أرواحنا له الفداء مع خوف الضرر والحرج عن حيّز

__________________

(١) كامل الزيارات ص ١٢٦

(٢) كامل الزيارات ص ٢٧

(٣) وفي البحار ج ١٠١ كتاب المزار ص ٧٩ «طينته التي منها خلق الملائكة»

(٤) راجع كامل الزيارات ص ١٢٤ ، والوسائل ج ١٠ ص ٣٥٦

٦٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قاعدتي الضرر والحرج تخصصا أو تخصيصا.

بل لا يبعد أيضا خروج الضرر والحرج المترتبين على ما جرت به العادة في المآتم الحسينية من اللطم على الخدود وشق الجيوب عن هاتين القاعدتين قال الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث طويل رواه خالد بن سدير : «وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب» (١).

فان لطم الخدود خصوصا عند العرب مستلزم غالبا للمشقة والتألم وتغير اللون بل والضرر ، ومع ذلك حث الإمام عليه‌السلام على ذلك بدون التقييد بعدم الضرر والحرج ، فان التقييد بهما يوجب حمل المطلق على الفرد النادر الّذي يكون بيانه بلفظ المطلق خارجا عن طريقة أبناء المحاورة ومستهجنا عندهم كما لا يخفى.

بل التعدي عن اللطم إلى غيره مما يصنعه الشيعة جيلا بعد جيل ، بل وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية في المواكب العزائية بحيث صار من الشعائر الحسينية من الضرب بالأيدي على الصدور وبالسلاسل على الظهور وغير ذلك كتلطيخ وجوههم ورءوسهم ، بل جميع أبدانهم بالوحل أو التراب والتبن كما هو المرسوم في بعض بلاد الشيعة في أيام عاشوراء (غير بعيد) إذ الظاهر أنه لا خصوصية للطم الخدود ، والمقصود بيان رجحان إظهار الحزن الشديد والتأثر العميق لمصابه صلوات الله عليه وأرواحنا فداه كما يدل عليه جملة من الروايات ، ومن المعلوم اختلاف كيفيات الأعمال المهيجة للشجون والأحزان في مختلف البلاد والأحيان مع كونها بمحضر من العلماء الأعيان ، وعدم إنكارهم لها في شيء من الأزمان ، فلا خصوصية للطم الخدود وشق الجيوب.

__________________

(١) التهذيب ، ج ٨ من الطبعة الحديثة ، ص ٣٢٥

٦٤٠