منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى موضوع الحكم ، لما عرفت من عدم ترتبه على موضوعه الا بعد وجوده بجميع ما له دخل في موضوعيته له شطرا أو شرطا ، فالمراد بالفعلية معنى واحد وهو وجود الحكم بوجود تمام ما له دخل في موضوعه. ولعله إلى بعض ما ذكرنا أشار في مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف ، حيث انه جعل الاضطرار من حدود التكليف وقيوده ، فلا فعلية أي لا وجود للحكم مع الاضطرار ونحوه ، فتأمل جيدا.

هذا كله مضافا إلى أنه لا يجدي مجرد تقسيم الفعلية ثبوتا إلى قسمين في ترتب الأثر من جريان الأصول وعدمه ، مع عدم دليل على خصوص أحدهما إثباتا ، ولذا لا بد من تأسيس أصل يرجع إليه في جميع موارد العلم الإجمالي.

إلّا أن يعول على كلامه في الفوائد من أن الفقيه ان أحرز بملاحظة الأدلة فعلية الحكم حتى بالنسبة إلى بعض الشبهات الموضوعية كالشك في الاستطاعة المالية وبلوغ المال الزكوي للنصاب تنجز بالعلم الإجمالي. وان لم يحرز الفعلية وشك في أنه حكم إنشائي أو بالغ مرتبة البعث والزجر كان المرجع الأصل النافي للتكليف ، لاقتضاء «كل شيء لك حلال» مع قبح الترخيص في المعصية كون المعلوم بالإجمال حكما إنشائيا لا فعليا. لكنه لا يخلو من تأمل.

وقد أورد عليه بعض المدققين في حاشيته بوجوه أخرى :

الأول : أن سنخ الغرض من المأمور به وان كان يختلف قوة وضعفا ، لتفاوت الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام في ذلك ، إلّا أنه لا يصحّح الترخيص ، ضرورة أن الغرض من التكليف في جميع الأوامر والنواهي الصادرة بداعي البعث والزجر واحد وهو جعل الداعي للمكلف إلى الامتثال ، حيث ان محط البحث هو الحكم

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المنشأ بداعي الطلب لا بدواع أخرى.

وبالجملة : فالترخيص وان لم يكن منافيا للغرض من المكلف به ، لعدم فعليته من جميع الجهات ، لكنه مناف للغرض من نفس التكليف ، ضرورة مناقضة الترخيص لإرادة إيجاد الداعي للمكلف إلى الامتثال.

الثاني : أن المفروض وجود المقتضي التام في المكلف به ، وقد انبعث منه حقيقة البعث والزجر ، غاية الأمر أنه لا يجب على المولى إيصاله ، لكن يترتب على وصوله الاتفاقي حكم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، ومع فرض عدم قصور العلم الإجمالي في البيانية يلزم تنجز هذا القسم من الحكم الفعلي به.

وفرض دخل العلم التفصيليّ في تنجزه وقصور الإجمالي شرعا عن تنجيزه خلف ، لأن الكلام في العلم الملحوظ على نحو الطريقية لا الموضوعية ، ولو جعلناه جزء الموضوع لزم دخله في تمامية اقتضاء المقتضي الداعي إلى البعث ، فما لم يعلم تفصيلا لم يتحقق الملاك التام الداعي للجعل ، وهو أيضا خلف.

والحاصل : أنه مع حكمه قدس‌سره كما هو صريح كلامه بعدم الفرق بين أنحاء الوصول لا وجه لعدم تنجيز العلم الإجمالي ، إلا مع فرض دخله في الموضوع وهو خلاف الفرض ، ضرورة أن الكلام في منجزية العلم الإجمالي الطريقي كالتفصيلي لا بما أنه جزء الموضوع ودخيل في الملاك (١).

الثالث : ما أورده على تعدد مراتب الفعلية في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وغيره من عدم ارتفاع التنافي بين الحكمين الفعليين بحمل الواقعي على التعليقي والظاهري على التنجيزي ، وذلك لأن الشدة والضعف في الطبيعة الواحدة

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٥ ، ٣٤ ، ٢٤٠

٢٢

ثم ان الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت (١) أطرافه غير

______________________________________________________

(١) بيان للإطلاق ، وتعريض بما اشتهر من التفصيل في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بين الشبهة المحصورة بوجوبه فيها ، وغير المحصورة بعدم وجوبه فيها ، ويظهر هذا التفصيل من شيخنا الأعظم أيضا ، حيث انه عقد المقام الأول للبحث عن وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين بالنسبة إلى الشبهة المحصورة ، ثم عقد المقام الثاني للشبهة غير المحصورة وقال بعد نقل أدلة ستة على عدم وجوب الاجتناب فيها : «... وقد عرفت أن أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكن المجموع منها لعله يفيد القطع أو الظن بعدم وجوب الاحتياط في الجملة» وحاصل إشكال المصنف على هذا التفصيل هو : أن المعلوم إجمالا ان كان فعليا من جميع الجهات وجب الاحتياط في جميع الأطراف وان كانت غير

__________________

لا يرفعان تماثل فردين من طبيعة واحدة ، ولا تضاد فردين من طبيعتين متقابلتين كما يظهر لمن أمعن النّظر في اجتماع سواد ضعيف مع سواد قوي أو سواد ضعيف مع بياض قوي في موضوع واحد (١).

أقول : أما اشكاله الثاني والثالث فالظاهر متانتهما كما أفاده (قده). وأما الأول فقد يختلج في الذهن عدم خلوه عن الغموض ، وذلك لأن الغرض من كل تكليف إلزاميّ وان كان إيجاد الداعي إلى الامتثال ، لكن هذا الغرض من آثار الملاك الثابت في المكلف به وتوابعه ، وليس له وجود استقلالي ، فان كان ذلك الملاك مهما جدا لم يجز الترخيص ، وإلّا جاز ذلك ، فالمناط في جواز الترخيص وعدمه هو ملاك المكلف به قوة وضعفا ، لا الغرض القائم بنفس التكليف ، ففي فرض عدم الفعلية من جميع الجهات لا مانع من الترخيص ، فتدبر.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ص ٥٤

٢٣

محصورة ، وانما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو : أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعليا لولاه (١) من سائر الجهات.

وبالجملة : لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها

______________________________________________________

محصورة ، وان لم يكن فعليا كذلك لم يجب الاحتياط في شيء منها ، بل تجوز مخالفته القطعية وان كانت الأطراف محصورة ، إذ لا علم حينئذ بحكم فعلي من جميع الجهات حتى تجب موافقته وتحرم مخالفته.

وبالجملة : فلا وجه لإناطة تنجيز العلم الإجمالي بحصر الأطراف وعدم تنجيزه بعدم حصرها ، بل المدار في التنجيز وعدمه على الفعلية التامة وعدمها ، فلا تفاوت بين حصر الأطراف وعدم حصرها. نعم يكون بينهما تفاوت فيما أشار إليه بقوله : «وانما التفاوت» من أن الشبهة غير المحصورة تلازم غالبا جهة مانعة عن فعلية الحكم كالخروج عن الابتلاء ، والاضطرار المانع عن الفعلية ، لكون الرفع فيه واقعيا لا ظاهريا ، فتكون كثرة الأطراف ملازمة لما يمنع الفعلية التامة ، فالتفاوت أيضا من ناحية المعلوم لا من جهة كثرة الأطراف ، فإذا كانت الأطراف الكثيرة مورد الابتلاء ولم يترتب الحرج المنفي شرعا على الاجتناب عن جميعها كان العلم الإجمالي منجزا ، لتعلقه بتكليف فعلي ، وعليه فلا يدور عدم تنجيز العلم الإجمالي مدار عدم انحصار الأطراف. وسيأتي الكلام بنحو أوفى في التنبيه الثالث ، فانتظر.

(١) الضمير راجع إلى الموصول في «ما يمنع» المراد به ما عدا سائر الجهات كالخروج عن الابتلاء ، وضمير «كونه» إلى المعلوم بالإجمال ، و «من سائر» متعلق بـ «فعليا» وتوضيحه : أن الحكم الواقعي في غير المحصورة فعلي من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري ، فهو بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز ،

٢٤

في التنجز وعدمه فيما (١) كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث (٢) المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك (٣) مع (٤) ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل : أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب (٥) تفاوتا في ناحية العلم

______________________________________________________

لكن هذه الفعلية في كل طرف منوطة بعدم ما يمنع عنها بالنسبة إلى ذلك الطرف كخروجه عن مورد الابتلاء ، أو الاضطرار إلى ارتكابه أو نحوهما ، فانه لو لا خروج بعض الأطراف عن الابتلاء مثلا لكان الحكم الواقعي بالنسبة إليه فعليا من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري ، لكن هذا المانع أخرجه عن الفعلية من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري أيضا ، فعدم فعليته حينئذ ليس من جهة واحدة ، بل من جهات عديدة ، ولذا لو تعلق به العلم التفصيليّ لم يتنجز أيضا.

(١) متعلق بـ «تفاوتا» ، و «ما» ظرف لكون المعلوم بالإجمال فعليا.

(٢) ان كان التكليف المعلوم إجمالا هو الوجوب كالأمر المردد بين القصر والتمام في بعض الموارد.

(٣) أي : فعلا فيما كان المعلوم إجمالا هو الحرمة كالنهي المردد بين إناءين علم إجمالا بخمرية أحدهما.

(٤) متعلق بكل من «يبعث ويزجر» وضمير «هو» راجع إلى المعلوم بالإجمال وضمير «عليه» راجع إلى الموصول ، و «من كثرة أطرافه» بيان له ، يعني : مع كثرة أطراف المعلوم بالإجمال.

(٥) بحيث يوجب تنجيز العلم لو كانت الأطراف محصورة وعدمه ان لم تكن كذلك كما عليه المشهور ، بل ادعي عليه الإجماع كما قال الشيخ : «وبالجملة فنقل

٢٥

ولو أوجب (١) تفاوتا فانما هو في ناحية المعلوم في (٢) فعلية البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمها (٣) [وعدمهما] مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز (٤) وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها (٥) بذلك ، وقد عرفت آنفا (٦) أنه لا تفاوت بين التفصيليّ والإجمالي في ذلك ما لم يكن تفاوت في

______________________________________________________

الإجماع مستفيض وهو كاف في المسألة» (*).

(١) أي : ولو أوجب اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه تفاوتا فانما هو ... إلخ.

(٢) بيان لقوله : «ناحية المعلوم» و «مع الحصر» متعلق بـ «فعلية البعث».

(٣) أي : وعدم الفعلية مع عدم الحصر ، يعني : أن الحكم فعلي مع الحصر وغير فعلي مع عدمه.

(٤) متعلق بـ «يختلف» و «ما» في «ما لم يختلف» ظرف له.

(٥) أي : وعدم الفعلية بتفاوت الأطراف كثرة وقلة ، يعني : أن التنجيز غير منوط بقلة الأطراف حتى تكون كثرتها مانعة عنه ، بل المناط في التنجيز وعدمه هو فعلية المعلوم وعدمها ، فكثرتها وقلّتها ان أوجبتا اختلاف المعلوم في الفعلية وعدمها اختلف في التنجيز ، وإلّا فلا كما مر آنفا.

(٦) في قوله : ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين ... إلخ.

__________________

(*) كيف يمكن الركون إلى الإجماع المحصل فضلا عن المنقول في مسألة ذكروا فيها وجوها يحتمل بل يظن استناد المجمعين إليها. نعم لو أفادت تلك الوجوه الوثوق والاطمئنان بصحة فتوى المجمعين فلا بأس بالاعتماد عليها ، لكنه ليس لأجل حجية الإجماع بل لأجل هذا الوثوق.

٢٦

طرف المعلوم (١) أيضا (*) ، تأمل تعرف.

وقد انقدح (٢) أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع

______________________________________________________

(١) من حيث الفعلية التامة وعدمها ، وقوله : «في ذلك» أي : في التنجيز وعدمه.

(مسلك الاقتضاء والإشكال عليه)

(٢) هذا ثاني الأمرين المنقدحين المترتبين على عليّة العلم الإجمالي للتنجيز ، يعني لكل من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين إذا كان المعلوم إلزاما فعليا من جميع الجهات ، وغرضه من هذا الكلام الّذي نبه عليه في بحث العلم الإجمالي كما في الفوائد هو التعريض ببعض كلمات شيخنا الأعظم التي يظهر منها إمكان الترخيص في ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة ، وترك الموافقة القطعية ، فانه بعد أن حكم بلزوم الاجتناب عن كلا المشتبهين بحكم العقل ، قال : «نعم لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز ...» وحاصله : أن للشارع التصرف في مرحلة الامتثال ، بأن يقنع بالموافقة الاحتمالية الحاصلة بترك أحد الطرفين ، والترخيص في ارتكاب الآخر لمصلحة تقتضيه ، فإذن الشارع في ارتكاب الحرام الواقعي لا يقبح مع جعل الحلال الواقعي بدلا عنه إذا كان ما ارتكبه هو المحرم المعلوم بالإجمال ، وتكون مصلحة الترخيص جابرة لمفسدة ارتكاب الحرام الواقعي. وعليه فالامتثال التعبدي الحاصل باجتناب ما جعله

__________________

(*) الظاهر زيادة هذه الكلمة ، إذ المدار في التنجيز وعدمه هو الفعلية التامة وعدمها ، لا تفصيلية العلم وإجماليته ولا كثرة الأطراف وقلتها ، ومن المعلوم ظهور «أيضا» في عدم انحصار مناط التنجيز في فعلية المعلوم فقط بل للعلم دخل فيه أيضا ، وهذا خلاف ما صرح به آنفا.

٢٧

حرمة مخالفتها (*) ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان

______________________________________________________

الشارع بدلا عن الحرام الواقعي مؤمّن من عقوبة المولى ورافع لموضوع حكم العقل بلزوم رعاية التكليف في كل واحد من المشتبهين ، ومن المعلوم أن قناعته بالموافقة الاحتمالية مبنية على كون العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية ، لا علة تامة له ، إذ لو كان علة له لم يتوجه الترخيص في بعض الأطراف ، هذا ما أفاده الشيخ.

وقد أورد عليه المصنف (قدهما) بأنه لا وجه للتفكيك ـ في علية العلم الإجمالي للتنجيز ـ بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين ، بل اما أن يكون علة لكليهما فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية ، أو لا يكون علة لشيء منهما فلا تحرم المخالفة القطعية كما لا تجب الموافقة القطعية ، إذ لو كان المعلوم بالإجمال إلزاما فعليا من جميع الجهات ـ بمعنى كونه بالغا من الأهمية حدّا لا يرضى معه المولى بمخالفته على كل تقدير كما عرفت توضيحه في بيان الفعلي من جميع الجهات ـ حرمت مخالفته ووجبت موافقته قطعا ، وان لم يكن إلزاما بالغا هذا الحد جازت مخالفته القطعية ولم تجب موافقته كذلك ، لفرض توقف فعليته التامة على العلم به تفصيلا ، والمفروض عدم حصوله ، والحكم غير الفعلي الحتمي لا موافقة ولا مخالفة له ولا تشتغل الذّمّة به.

والمتحصل : أن تأثير العلم الإجمالي في كل من الموافقة والمخالفة على حد سواء ، والمدار على المعلوم. فما أفاده شيخنا الأعظم من إمكان عدم وجوب الموافقة القطعية بناء على جعل البدل لا يخلو من مناقشة (**).

__________________

(*) الأولى أن يقال : «مع حرمة المخالفة القطعية» وقد تقدم نظيره.

(**) هذا ما التزم به شيخنا الأعظم هنا ، وصريحه عدم جواز الترخيص في بعض الأطراف إلّا مع جعل وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر بدلا ظاهريا

٢٨

فعليا لوجبت موافقته قطعا ، وإلّا (١) لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (٢).

______________________________________________________

(١) أي : وان لم يكن التكليف فعليا لم يحرم مخالفته القطعية.

(٢) أي : كعدم وجوب موافقته القطعية ، فقوله : «كذلك» أي قطعيا.

__________________

عن الحرام الواقعي ، لأن رفع اليد عن الواقع ولو على بعض التقادير بعد العلم به من دون جعل بدل قبيح عند العقل ، فلو ورد ما يدل على الاذن في بعض الأطراف تخييرا فلا بد أن يستكشف منه جعل البدل ، هذا.

ولكن لسان الشيخ وهو تلميذه المحقق الآشتياني (قدهما) نقل عن شيخه الأستاذ أنه اختار في مجلس درسه الشريف جواز ترخيص الشارع في بعض الأطراف من دون جعل بدل ، بل نسب إليه التزامه به في بحث الانسداد عند إبطال الاحتياط الكلي وإثبات التبعيض فيه. ونبه صاحب الأوثق على كلام الشيخ في الانسداد أيضا.

وكيف كان ، فقد قرر المحقق الآشتياني كلام شيخه بما حاصله : «أن اذن الشارع في مخالفة الاحتياط الكلي الّذي قد يتفق معه فوت الواقع لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة جابرة لمفسدة الوقوع في خلاف الواقع فيما يقع فيه. وأما لزوم جعل البدل فلا ، إذ يحكم العقل بلزوم الاحتياط الجزئي بعد ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية ، وليس على الشارع تعيين الطريق لامتثال الأحكام الشرعية ، إذ الحاكم في كيفية الإطاعة هو العقل الحاكم بأصل وجوب الطاعة أيضا ، وانما على الشارع الإمضاء ان لم ير المصلحة في النهي عن بعض الكيفيات أو الاذن في مخالفته.

لا يقال : مع استقلال العقل بكون طريق الإطاعة الاحتياط الكلي كيف يجوز للشارع النهي عنه ، إذ لازمه اما التناقض في كلام الشارع واما عدم حجية حكم العقل.

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فانه يقال : ان حكم العقل بأصل الإطاعة تنجيزي غير قابل لتصرف الشارع ، وأما حكمه في كيفيتها فهو معلق على عدم تعيين مرتبة خاصة منها لمصلحة يراها ، وبعد اذنه بكيفية خاصة يحكم العقل بمتابعتها من دون إيجاب جعل البدل على الشارع أصلا» (١).

هذا حاصل ما حكاه المحقق الآشتياني عن مجلس درس أستاذه الأعظم.

والظاهر أن كلامه المذكور في التوضيح مع الغض عن المناقشة المبنائية التي أوردها المصنف عليه ، لا يخلو من شيء ، وأن ما حكاه المحقق الآشتياني من إمكان الترخيص في بعض الأطراف بدون كون الطرف الآخر مصداقا جعليا للمأمور به أو المنهي عنه أسد وأمتن ، لأنه ان أريد بجعل البدل تنجيز الحكم المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر ، ففيه : أنه لا حاجة إليه ، بل جعله لغو ، بل ممتنع ، لتنجيزه بالعلم الإجمالي وعدم ارتفاعه بجعل الترخيص في الطرف الآخر ، فجعل البدل لأجل التنجيز يوجب تنجز المنجز ، وهو محال ، لكونه تحصيلا للحاصل.

وان أريد بجعل البدل تنزيل الطرف غير المرخص فيه منزلة الواقع المعلوم إجمالا في الآثار الشرعية ، ففيه : أن لازمه ترتب أحكام المعلوم بالإجمال عليه كما هو شأن سائر التنزيلات الشرعية نظير «الطواف بالبيت صلاة» فإذا كان المعلوم بالإجمال خمرا مثلا وشرب الطرف المجعول بدلا عنه لزم ترتيب أحكام الخمر من الحرمة والحد وعدم جواز شهادته والائتمام به وغير ذلك من أحكام شرب الخمر عليه. وهذا كما ترى مما لم يلتزم به أحد ، ولذا صرح شيخنا الأعظم في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة بعد جملة من الكلام بعدم ترتيب الآثار الشرعية

__________________

(١) بحر الفوائد ، ج ٢ ، ص ٨٨ و ٨٩

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المترتبة على ذلك الحرام عليه ، حيث قال : «فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حد الخمر على المرتكب بل يجري أصالة عدم موجب الحد ووجوبه».

هذا كله مضافا إلى ما أورده على جعل البدل شيخنا المحقق العراقي (قده) من إشكالين :

أحدهما : لزوم الدور ، والآخر إشكال مثبتية الأصل النافي الجاري في بعض الأطراف .. أما الدور فتقريبه ـ على ما في تقريرات (١) بحثه الشريف ـ هو : أن شمول دليل الأصل النافي للتكليف في هذا الطرف متوقف على كون الطرف الآخر بدلا عن الحرام الواقعي المعلوم ، لاشتغال الذّمّة به قطعا ، وجعل البدلية منوط بإطلاق دليل الأصل وشموله لمورد العلم الإجمالي ، وهذا هو الدور.

وأما إشكال المثبتية ، فمحصل تقريبه على ما في التقريرات المذكورة أيضا هو : أن الأصول المرخصة إذا فرض جريانها في بعض الأطراف بلا معارض لا تثبت كون المعلوم إجمالا هو المشتبه الآخر ، إذ ليست الأصول العملية النافية كالأمارات النافية للتكليف في طرف في الدلالة الالتزامية على تعين المعلوم إجمالا في الطرف الآخر ، وكونه مصداقا جعليا له في مقام تفريغ الذّمّة ، لأن غاية ما تقتضيه الأصول النافية انما هي الترخيص في ارتكاب ما تجري فيه من دون دلالتها التزاما على كون المعلوم إجمالا هو الطرف الآخر ، وان كان لازم البناء على الحلية في طرف مع العلم الإجمالي بحرمة أحدهما كون الحرام في الطرف الآخر ، لكن اعتبار هذا اللازم مبني على حجية الأصل المثبت ، وقد عرفت إجمالا عدم دلالة الأصل على ذلك.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣١٤

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والظاهر أن هذا الإشكال مقتبس مما أجاب به الشيخ الأعظم عن استكشاف جعل البدل من مثل قوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال ، حيث قال (قده) : «قلت : الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلية محتمل التحريم والرخصة فيه لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل. ولو سلم فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك ، وليس الأمر بالبناء في كون أحد المشتبهين هو الخل أمرا بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدلية عين ولا أثر».

وكيف كان ، فاستكشاف جعل البدل من ترخيص الشارع في بعض الأطراف كما في تقريرات المحقق النائيني (قده) غير ظاهر ، بل قد عرفت عدم الحاجة إليه أصلا كما أن ما في تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من «أن الاذن في ارتكاب بعض الأطراف بدون ذلك مستلزم للاكتفاء بمشكوك المؤمّنية بعد القطع بالاشتغال» لا يخلو أيضا عن غموض ، هذا.

وقد التزم بعض المدققين بامتناع جعل البدل ، لأنه لا يخرج من أحد تصويرين لا يخلو شيء منهما عن المحذور ، قال قدس‌سره : «وأما جعل البدل ، فتارة بمعنى اشتمال غير الواجب الواقعي في حال الجهل على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعي ، فالمأتي به اما هو الواقع أو ما يتدارك به مصلحة الواقع ، ولاشتمال غير الواجب الواقعي على مصلحة يتدارك مصلحة الواقع يخير العقل بين إتيانه وإتيان الواقع ، وليس ترك الواقع مع فعل ما يستوفي به الغرض منه قبيحا عقلا. ولا منافاة بين العلم الإجمالي بوجوب تعييني واحد واقعا

٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والعلم بوجوبين تخييريين شرعا وعقلا بنحو الواجبين المتزاحمين ظاهرا ، فلم يسقط الوجوب الواقعي عن الفعلية ليكون خلفا أو يكون الترخيص التخييري منافيا ، بل يسقط بحكم العقل عن التعيينية ، لثبوت البدل له ، ومثله لا ينافيه الترخيص إلى بدل.

وأخرى بمعنى قناعة الشارع في مقام إطاعة أحكامه ، واقتصاره على الموافقة الاحتمالية ، لما في تحصيل الموافقة القطعية من المفسدة المنافية لما تعلق به غرض الشارع من التسهيل على المكلف.

لكنك قد عرفت أن حرمة المخالفة القطعية لبقاء عقاب الواقع ، ولولاه لم يكن وجه لحرمة المخالفة القطعية ، مع أن عقاب الواقع على حاله وارتفاعه على تقدير المصادفة متنافيان ، بداهة أن ضم غير الواقع إلى الواقع لا يوجب ترتب العقاب على مخالفة الواقع. وقد مر نظيره مرارا في مسألة دليل الانسداد. وليس إيجاب الموافقة القطعية مولويا لمصلحة حتى إذا كان تحصيلها ذا مفسدة غالبة يسقط خصوص وجوب الموافقة القطعية ، بل ليس هناك على أي حال غرض مولوي ، ولا لزوم شرعي ، بل ولا عقلي ، فلا محالة لا بد من وقوع المزاحمة بين مفسدة الموافقة القطعية والمصلحة المنبعث منها الحكم الواقعي ، ومع مغلوبية المصلحة وسقوطها عن التأثير لا تكليف فعلي حتى يحرم مخالفته القطعية.

ومنه تعرف أن الاذن في ترك الموافقة القطعية لا يفيد اشتمال غير الواقع على مصلحة بدلية ، إلّا إذا رجع إلى الأمر بإتيان الفرد الآخر ، وإلّا فمجرد الترخيص يكشف عن مغلوبية المصلحة الداعية إلى الإيجاب الواقعي ، فيزول

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العلم الإجمالي بالوجوب الفعلي» (١).

ومحصل اشكاله على التصوير الأول لجعل البدل هو : أن الطرف الفاقد للملاك لا معنى لتدارك الواقع به ، إذ ليس الترخيص في ترك الموافقة القطعية موجبا لاشتمال غير الواقع على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، فلازمه الاذن في مخالفة الواقع المنجز.

وعلى التصوير الثاني أمران : أحدهما : استلزام الاذن لارتفاع عقاب الواقع ، والمفروض بقاؤه على حاله ، وهما متنافيان.

والآخر : أن الترخيص في بعض الأطراف مستلزم لجواز المخالفة القطعية ، إذ ليس في وجوب الموافقة مصلحة زائدة على ما في نفس الحكم الواقعي ، والاذن في تركها لا بد أن يستند إلى مصلحة التسهيل الغالبة على مصلحة الواقع ، فيسقط الحكم المترتب عليها عن الفعلية ، ومعه يجوز مخالفته القطعية أيضا ، إذ القبيح هو مخالفة الحكم الفعلي لا غيره. ومن المعلوم أن القائل بجعل البدل لا يمكنه الالتزام بسقوط الواقع عن الفعلية حتى يجوز مخالفته القطعية ، وهذا اللازم الباطل أعني سقوط الواقع عن الفعلية يكشف عن بطلان جعل البدل.

ولكن الظاهر عدم خلو كلامه زيد في علو مقامه عن الإشكال. أما الوجه الأول ، فيرد عليه أوّلا : أن تنظير المقام بالخبرين المتعارضين أولى من قياسه بالواجبين المتزاحمين ، إذ المقصود أن البدل والمبدل واجبان تخييريان ظاهرا ، وهذا يناسب تنظيره بما له الحجية الظاهرية ، حيث ان المجعول الواقعي واحد ، والآخر لا جعل

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٤٥

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

له ، ولكن حكم الشارع بالتخيير الظاهري بينهما انقيادا ، وهذا بخلاف التخيير بين المتزاحمين ، حيث انه فيهما واقعي لاشتمال كل منهما على الملاك.

وثانيا : أنه مع العلم بكون الحكم الواقعي تعيينيّا لا يمكن إنشاء وجوبين تخييريين ظاهريين ، لعدم انحفاظ رتبة الجعل ، لاعتبار احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي ، ومع العلم بالمخالفة لا موضوع لجعل الحكم الظاهري.

وعليه فأصل ما قرره لجعل البدل لا يسلم من الإشكال. وأما إيراده عليه بعدم قيام غير الواقع مقام الواقع ، فسيأتي.

وأما المناقشة فيه ـ بأن وفاء مصلحة البدل بتمام مصلحة المبدل حال الجهل يستلزم عدم صحة جعل الوجوب التعييني للمبدل مطلقا ، ولغوية جعله ، إذ مقتضى التعيينية عدم استيفاء الملاك بشيء آخر ، بل اللازم كون التخيير واقعيا كما في خصال الكفارة ، لوفاء كل واحدة منها بغرض الشارع القائم بالأخرى ـ فيمكن الجواب عنها : بأنه بناء على صحة جعل البدل يستكشف تقيد تعيينية الواجب الواقعي بحال العلم بها ، فإذا كانت المصلحة قائمة بالجمعة مثلا صح أن يقال : يتخير المكلف بين الظهر والجمعة إذا لم يعلم بوجوبها تعيينا ، ولا إشكال في صحة جعل العلم بمرتبة موضوعا للحكم بمرتبة أخرى ، وهذا تخيير ظاهري في طول الوجوب الواقعي ، فتدبر.

وأما الوجه الثاني وهو قناعة الشارع بالموافقة الاحتمالية ، فما وجّهه عليه من المحذور يمكن الجواب عنه نقضا بما اختاره (قده) في قاعدتي الفراغ والتجاوز من أن مفادهما الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. وحلا أولا بعدم اقتضاء الترخيص في بعض الأطراف لسقوط الحكم الواقعي عن الفعلية حتى تجوز مخالفته القطعية ،

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذ لو كان المقام نظير باب الاجتماع في كون الحركة الشخصية مأمورا بها ومنهيا عنها توجه حديث الكسر والانكسار بين مصلحة الصلاة ومفسدة الغصب ورعاية أقوى الملاكين بناء على كونه من باب التزاحم لا التعارض ، ولكن مصلحة التسهيل هنا غير مزاحمة لمفسدة الخمر الواقعي المعلوم بالإجمال ، لتعدد الرتبة ، إذ الأولى قائمة بنفس الترخيص نظير المصلحة في نفس سلوك الطريق الخاصّ غير المؤدي إلى الواقع ، لا في ذي الطريق حتى تتحقق المنافاة للملاك الواقعي ويصير مغلوبا بها ، ضرورة أن التمانع بين الحكم الواقعي والظاهري اما أن يكون في المبدأ واما في المنتهى كما اختاره في الجمع بينهما ، ومع قيام الأول بالمجعول والثاني بنفس الجعل يتعدد الموضوع ويرتفع التنافي نعم الحلية في مورد الاضطرار إلى الخمر ليست ظاهرية لكون الاضطرار من قيود الواقع.

والحاصل : أن دعوى استلزام القناعة في مقام الامتثال لغلبة مصلحة التسهيل على ملاك الحكم الواقعي عهدتها على مدعيها ، لعدم مصادمة مناط الحكم الظاهري للواقعي ، وإلّا لاختل الجمع بينهما من ناحية الملاك ، وهذا مناف لما اختاره في الجمع بينهما.

وثانيا : بعد تسليم المزاحمة بينهما ، بأن اللازم رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية ، لا سقوط أصل الحكم الواقعي عن الفعلية حتى تجوز مخالفته القطعية ، إذ الضرورات تتقدر بقدرها ، فلا بد من رفع اليد عن المقدار المبتلى بمزاحمة مصلحة التسهيل وهو الاحتياط التام ، ولا وجه لارتفاع فعلية الحكم رأسا ، إذ القائل بجعل البدل يدعي أن الشارع بملاحظة ملاك الترخيص يأذن في مخالفة الواقع مع تداركه بالاجتناب عن الطرف الآخر ، يعني إبقاء الواقع بنفسه أو بما يتدارك

٣٦

ومنه (١) ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا اما (٢) من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه ،

______________________________________________________

(١) يعني : ومما ذكرنا من أن المناط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي هو فعلية التكليف المعلوم بالإجمال فعلية تامة أي من جميع الجهات لا كون الأطراف محصورة ظهر .. ، وغرضه : الإشارة إلى بعض الجهات المانعة عن فعلية التكليف الموجبة لعدم وجوب الموافقة القطعية وعدم حرمة المخالفة كذلك مع العلم بالحكم إجمالا ، وقد ذكر في العبارة ثلاثا من الجهات المانعة.

(٢) هذا إشارة إلى الجهة الأولى ، وهي عدم الابتلاء ، فان الابتلاء بجميع الأطراف شرط في فعلية التكليف كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فلو علم إجمالا بنجاسة إناء مردد بين إنائه وإناء من لا يبتلي به عادة كأحد ملوك الدنيا ، أو علم بحرمة

__________________

به لئلا يبتلي المكلف بمخالفة المعلوم بالإجمال بالمرة ، ولا مانع من تنزيل غير الواقع منزلة الواقع إذا كان فيه مصلحة يتدارك بها مفسدة الخمر الواقعي. نعم الترخيص في ترك الواقع لا إلى بدل ـ لكونه ملقيا في مخالفة الواقع بدون تداركه بشيء ـ غير معقول ، وأما مع فرض تداركه ، فلا مانع منه.

هذا ما يتعلق بكلام المحقق الأصفهاني (قده) في تعليقته الأنيقة.

وقد اتضح من مجموع ما تقدم أنه لا وجه للالتزام بجعل البدل أصلا ، فلاحظ وتأمل.

ومنه يظهر الإشكال في كلام القائل بجريان الأصل تخييرا في بعض الأطراف وان التزم به بعض الأعاظم (قده) في الدرر ، إذ مع كون المعلوم حكما تعيينيا لا ينحفظ معه رتبة جعل الحكم الظاهري. وليس الإشكال فيه ما أفيد من عدم الدليل عليه لا من ناحية الكاشف ولا المنكشف ، فانه قد ناقش فيه شيخنا المحقق العراقي ، فراجع التقريرات.

٣٧

أو (١) من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا ، أو (٢) من

______________________________________________________

امرأة معينة في بلده عليه بالرضاع ونحوه ، أو امرأة أخرى في أقصى بلاد الدنيا مع عدم ابتلائه بها عادة ، لم يكن هذا العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف ما هو خارج عن مورد الابتلاء ، وسيأتي تفصيله في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.

(١) معطوف على «اما من جهة» وإشارة إلى الجهة الثانية وهي الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا ، كما إذا كان في أحد الإناءين المشتبهين ماء وفي الآخر ماء الرمان واضطر إلى شرب ماء الرمان للتداوي مثلا ، أو مردّدا كالاضطرار إلى شرب ماء أحد الإناءين المشتبهين لرفع العطش الحاصل بشرب أي واحد منهما ، فان الاضطرار بأي نحو كان مانع عن فعلية وجوب الاجتناب ، وسيأتي تفصيل ذلك في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات

(٢) معطوف أيضا علي «اما من جهة» وإشارة إلى الجهة الثالثة ، المعبر عنها بالعلم الإجمالي في التدريجيات وهي عدم العلم بتحقق موضوع التكليف فعلا وان علم تحققه إجمالا في هذا الشهر مثلا وعلم تعلق التكليف به أيضا ، فان العلم بتحقق الموضوع فعلا شرط في فعلية التكليف وتنجزه ، بيان ذلك أنه لا ريب في أنه إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات ـ التي منها العلم الإجمالي بتحقق موضوعه ـ كان التكليف منجزا ، ووجبت موافقته وحرمت مخالفته القطعيتان كما مر غير مرة سواء أكانت أطراف الشبهة دفعية ـ أي موجودة في زمان واحد ـ كالخمر المردد بين الإناءين اللذين يتمكن المكلف من ارتكاب أيهما شاء ، أم تدريجية أي موجودة شيئا فشيئا في أزمنة متعددة ، فان التدرج في وجود الأطراف

٣٨

جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر كأيام حيض

______________________________________________________

لا يمنع عن فعلية التكليف وتنجزه ، إذ كما يصح تعلقه بأمر حاصل ويكون منجزا كذلك يصح تعلقه بأمر مستقبل كما هو الحال في الواجب المعلق ، ومثل له المصنف في فوائده بما إذا علم المكلف وجوب فعل خاص عليه بالنذر أو الحلف في يوم معين وتردد ذلك اليوم بين يومين ، كما إذا علم أنه نذر صوم يوم معين وشك في أن ذلك اليوم هو يوم الخميس أو الجمعة ، فانه بمجرد انعقاد النذر أو حصول المعلق عليه ـ فيما إذا كان النذر معلقا على شيء كصحة مريض أو قدوم مسافر ـ يصير وجوب الوفاء بالنذر حكما فعليا يجب الخروج عن عهدته بتكرار الفعل المنذور ، فيجب عليه صوم كلا اليومين الخميس والجمعة ، فلو توقف الامتثال في طرفه على إيجاد مقدمات قبل حلول زمان الإطاعة وجب تحصيلها ، لأن وجوب الوفاء غير معلق على شرط غير حاصل ، بل هو منجز فعلا ، ومجرد عدم حضور زمان الامتثال حين العلم الإجمالي لا يمنع من فعلية وجوب الصوم المنذور وتنجز خطابه ، ويشهد له صحة إيجاب الحج على المستطيع قبل الموسم ، ووجوب تهيئة المقدمات الموجبة للكون في المواقف المشرفة في أيام ذي الحجة ، وكذا وجوب الغسل على الجنب لصوم الغد ، وهكذا.

وأما إذا لم يكن التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات ، لأجل عدم العلم بتحقق موضوعه فعلا لم يكن منجزا ، فلا يجب موافقته بل جازت مخالفته القطعية ، كما إذا كانت المرأة مستمرة الدم من أول الشهر إلى آخره وعلمت بأنها في إحدى ثلاثة أيام من الشهر حائض ، فانه لا يجب عليها وعلى زوجها ترتيب أحكام الحيض في شيء من أيام الشهر ، إذ لا تكليف ما لم تصر الزوجة حائضا ، وليس قبل الحيض إلزام فعلي حتى يجب رعايته بترتيب الأحكام المختصة به في أيام الشهر ، فلها إجراء الأصل الموضوعي أعني استصحاب الطهر من أول الشهر إلى أن يبقى

٣٩

المستحاضة مثلا لما (١) وجب موافقته ، بل جاز مخالفته (٢) ، وأنه (٣) لو علم فعليته ـ ولو كان (٤) بين أطراف تدريجية ـ لكان منجزا

______________________________________________________

ثلاثة أيام منه ، ثم ترجع في الثلاثة الأخيرة إلى أصالة البراءة عن الأحكام الإلزامية للحائض. ولا مجال لاستصحاب عدم الحيض فيها ، إذ مع انقضاء زمان يسير من هذه الثلاثة الأخيرة تعلم المرأة بانتقاض الطهر في تمام الشهر اما في هذه الثلاثة واما فيما انقضى من الأيام ، فلا مجال للاستصحاب ، فترجع حينئذ إلى الأصل المحكوم وهو أصالة الإباحة ، هكذا علله المصنف في حاشية الرسائل.

وعليه ، فلهذه المرأة ترتيب جميع الأحكام التكليفية والوضعيّة ، فيجوز لها دخول المسجد كما يجوز لزوجها مباشرتها وطلاقها ، لأن موضوع حرمة دخول المسجد ووجوب الاعتزال وفساد الطلاق هو الحائض ، والمفروض عدم إحرازه في شيء من أيام الشهر ، وحيث انه لم يحرز الموضوع لم يكن الحكم المترتب عليه فعليا ، فلا يجب موافقته ولا يحرم مخالفته. ولا يخفى أن شيخنا الأعظم عقد التنبيه السادس لبيان حكم العلم الإجمالي في الأطراف التدريجية ، ولما كان كلام المصنف مخالفا له من حيث المبنى تعرضنا له في التعليقة (*).

(١) جواب «لو لم يعلم» وضمائر «موافقته ، مخالفته ، فعليته» راجعة إلى التكليف.

(٢) كما عرفت في مثال المرأة المستمرة الدم.

(٣) معطوف على «أنه لو لم يعلم» والضمير للشأن ، ويمكن إرجاعه إلى التكليف.

(٤) بأن يكون وجود بعض الأطراف مترتبا زمانا على وجود الآخر ، كعلمه

__________________

(*) لا يخفى أنه (قده) ذكر أمثلة ثلاثة وحكم بالاحتياط في اثنين منها وهما العلم الإجمالي بوقوع معاملة ربوية في اليوم أو الشهر ، وبنذر ترك الوطء

٤٠