منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السراية بمعنى الانبساط عدم نجاسة الثوب ، إذ المفروض استهلاك البول في الماء وإناطة نجاسة الملاقي بسراية عين النجس إليه ، ومن المعلوم انعدام النجس عرفا بسبب الاستهلاك في الماء القليل ، فلا وجود له حينئذ حتى يسري إلى الثوب ، فلا بد من الحكم بطهارة الثوب ، مع أن المسلم نجاسته ، فالتسالم على نجاسة ما يلاقي هذا الماء القليل يكشف عن عدم صحة المبنى أعني السراية بمعنى الانبساط.

ففيه : أن الحكم بعدم نجاسة الثوب في المثال المتقدم لو قيل به مبني على عدم منجسية المتنجس وانحصار التنجيس في الأعيان النجسة ، وهو فاسد ، فان المتنجس أيضا منجس ، ومن المعلوم أن الماء القليل المنفعل يسري إلى ملاقيه ، فينجسه ، فبطلان هذا الحكم من هذه الجهة ، لا أنه لازم للسراية بمعنى الانبساط حتى يكون بطلانه كاشفا عن عدم صحة هذا المبنى.

فالعمدة في بطلان السراية بمعنى الانبساط عدم الدليل عليها ، وتسالمهم على طولية أصلي الملاقى وملاقيه ، كما أن هذا التسالم يكشف أيضا عن بطلان التعبد المحض المستلزم لعرضية أصلي الملاقى وملاقيه ، فتأمل جيدا.

المقدمة الثانية : أن منجزية العلم الإجمالي منوطة بتعلقه اما بتكليف فعلي على كل تقدير بمعنى تنجز التكليف المعلوم بالإجمال وفعليته في أي طرف من الأطراف كان ، كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة ، واما بما هو تمام الموضوع للحكم الفعلي كالعلم بخمرية أحد الإناءين ، فيجب ترتيب آثار المعلوم بالإجمال في كل ما يكون مقدمة لتحقق العلم بالامتثال.

وأما إذا لم يكن كذلك بأن تعلق بما هو جزء الموضوع لحكم الشارع

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لم يكن العلم الإجمالي منجزا ، كما إذا علم بأن أحد الجسدين ميت إنسان والآخر جسد حيوان ، فان هذا العلم الإجمالي لا يوجب حكم الشارع بوجوب غسل المس ، لأن حكمه مترتب على مسّ ميت الإنسان ، وهذا العلم قد تعلق بجزء موضوع الحكم وهو كون الممسوس ميتا ، أما جزؤه الآخر ـ وهو كونه إنسانا ـ فلم يعلم حتى يتنجز حكمه ، لاحتمال كون الممسوس جسد الحيوان ، ومعه يجري الأصل النافي مثل أصالة عدم تحقق موجب الغسل أو أصالة البراءة عن وجوبه.

وهذا بحسب الكبرى من المسلمات ، إلّا أنه وقع الكلام في تطبيقها على بعض الموارد ، فمنها مسألة ملاقي بعض الأطراف ، فان موضوع حكم الشارع بالتنجس هو ملاقاة النجس على وجه خاص ، والمفروض عدم إحرازه في ملاقي بعض الأطراف ، فلا وجه للحكم بالنجاسة ، وسيأتي التعرض له.

ومنها : ما إذا علم إجمالا بغصبية إحدى الشجرتين أو إحدى الدارين ، فهل يلزم ترتيب ما للمعلوم بالإجمال من الأحكام التكليفية والوضعيّة على كل واحد من الطرفين أم لا؟ وقد عد المحقق النائيني (قده) هذه المسألة أجنبية عن تلك الكبرى ، وأنه لا بد من ترتيب آثار المغصوب وأحكامه على كل واحدة من الشجرتين والدارين والمنافع والتوابع المتصلة والمنفصلة «لأن وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفس المغصوب ، فان النهي عن التصرف في المغصوب نهي عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيليّ أو الإجمالي» (١).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٢٣.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتب عليه حرمة التصرف تكليفا في الأصل والمنافع والتوابع ، كذلك يترتب عليه الحكم الوضعي وهو ضمان نفس العين ومنافعها المتجددة. والثمرة وان لم تكن موجودة حين وضع اليد على الشجرة حتى يحرم التصرف فيها ، إلّا أن ملاكها قد تم بغصب العين المحرم تكليفا والموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة حين الغصب والمتجددة بعد ذلك ، فبمجرد وجود الثمرة تترتب حرمة التصرف فيها لا محالة ، هذا.

ولا يخفى أن ما أفاده (قده) لا يخلو من تأمل ، لاندراج المقام في تعلق العلم الإجمالي بجزء الموضوع ، فلا يحكم بحرمة التصرف في ثمرة إحدى الشجرتين كما لا يحكم بضمانها ، فان مجرد العلم بكبرى الحكم لا يوجب اشتغال الذّمّة به ما لم تحرز صغراها خارجا ، والمفروض عدم إحراز صغروية الثمرة المتصرف فيها لثمرة الشجرة المغصوبة ، حتى يحكم عليها شرعا بالحرمة والضمان ، لاحتمال كونها من الشجرة المباحة ، كما تقدم في مثال مس أحد الجسدين ، فيجري الأصل الموضوعي ان كان ، وإلّا فأصالة البراءة عن الضمان. كما يجري الأصل النافي بالنسبة إلى الحرمة التكليفية ، لعدم إحراز التصرف العدواني في «ما للغير» الموضوع للحكم بالحرمة ، فالمرجع أصالة البراءة.

والحاصل : أن ما تقدم من استتباع ضمان العين لضمان المنافع وان كان متينا في نفسه ، إلّا أنه لا يكفي مجرد ذلك في الحكم بضمان إحدى الشجرتين ، فان موضوع الحكم الشرعي هو التصرف في «ما للغير» والعلم الإجمالي بغصبية إحداهما لا يوجب إلّا لزوم الاجتناب عقلا عنهما دون الحرمة والضمان الشرعيين.

وكيف كان فلنعد إلى مسألة الملاقي ، وقد عرفت ابتناء القولين على السراية

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والتعبد كما في الرسائل.

وأورد عليه المصنف في حاشية الرسائل بمنع ابتناء القولين على المبنيين المذكورين ، قال (قده) : «لا يخفى أن تنجس ملاقي النجس ولو جاء من قبل وجوب الاجتناب عنه بأن كان الخطاب الدال على وجوب الاجتناب عنه دالا على وجوب الاجتناب عن ملاقيه عرفا غير مستلزم للحكم بنجاسة ملاقي أحد الطرفين ، لأن العقل الحاكم في الباب بوجوب الاجتناب انما يحكم به من باب المقدمة العلمية ، وهذا الباب مسند في طرف الملاقي ، فكيف يتعدى حكمه إلى ما ليس فيه ملاكه ومناطه ، فتأمل جيدا».

ومحصله : أن نجاسة الملاقي تتوقف على سراية النجاسة من الملاقى المعلوم النجاسة إليه حتى يكون الملاقي محكوما بحكم ملاقاة ، والمفروض أن الملاقاة كانت لما هو محتمل النجاسة بالاحتمال المنجز ، لكونه مقرونا بالعلم ، ولم تكن ملاقاة لمعلوم النجاسة حتى يحكم بنجاسته ، فلا وجه حينئذ لتسرية الحكم إلى الملاقي ، لما عرفت من أن تمام موضوع حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن الملاقي هو ملاقي النجس أو المتنجس بناء على منجسيته ، وهو لم يحرز بعد حتى يشمله الدليل.

ولكن الظاهر متانة ما أفاده الشيخ (قده) ضرورة أن السراية توجب اتحاد المتلاقيين في الحكم ، وليس الغرض إثبات الحكم الشرعي بنجاسة الملاقي حتى يقال : ان الملاقاة هنا لمحتمل النجاسة لا معلومها فلا يحكم بنجاسته ، بل الغرض إثبات التنجز له كتنجز ملاقاة ، لأن مناط لزوم الاجتناب عقلا عنه ـ وهو المقدمية ـ موجود في كل من المتلاقيين بوزان واحد ، حيث ان الملاقي بناء على السراية

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بعض الملاقى ، فقياس المتلاقيين بناء على السراية على تقسيم ما في أحد الإناءين وصيرورة الأطراف ثلاثة ـ حيث لا شبهة حينئذ في لزوم الاحتراز عن الكل ، فتكون الملازمة حكما بين المتلاقيين كالملازمة بين أبعاض الماء الواحد في وجوب الاحتياط عقلا ، لوجود مناط المقدمية ـ في محله ، بل هو عين التقسيم المزبور ، وليس قياسا فضلا عن أن يكون مع الفارق ، بتوهم «أن وجوب الاحتياط في صورة الانقسام ليس لمجرد الملازمة ، بل لأنه تفريق لما تنجز حكمه ، بخلاف ما نحن فيه ، فانه لا معنى للملازمة بين ما تنجز وما لم يتنجز» وذلك لما تقدم من أن السراية عين الانقسام المزبور الوارد على ما تنجز حكمه ، فلا يلزم الالتزام بالملازمة بين ما تنجز حكمه وما لم يتنجز حتى يكون قياسا.

والحاصل : أن منجزية العلم الإجمالي لا تقتضي أزيد من رعاية المعلوم المنجز في كل واحد من الأطراف في خصوص ما يكون مقدمة للعلم بامتثاله ، كما هو كذلك بناء على السراية بمعنى الانبساط. وأما ما لا يكون مقدمة علمية له كما هو كذلك بناء على التعبد فلا يؤثر فيه العلم الإجمالي ، وقد تقدم في التوضيح ذكر بعض الأمثلة له. فالحق ابتناء المسألة على ما بناها شيخنا الأعظم عليه. ولعل مراد المصنف هو السراية بمعنى الاكتساب ، فان كان كذلك ، فإشكاله على شيخه (قدهما) في محله.

ومما ذكرنا يظهر أن إشكال المحقق النائيني (قده) ـ كما في تقرير بحثه ـ على كلام المصنف في محله ، قال المقرر في مقام التفريع على القول بالسراية : «وقد عرفت أنه كل ما كان للمعلوم بالإجمال من الآثار والأحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف مقدمة للعلم بفراغ الذّمّة عما اشتغلت به ، ولا وجه لما

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ذكره المحقق الخراسانيّ (قده) من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الطرفين وان كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتبة شرعا على نفس النجس .... لأنه على هذا يكون الملاقي طرفا للعلم الإجمالي كالملاقى ، ويسقط عنه الأصل النافي للتكليف بنفس سقوطه عن الملاقى بالبيان المتقدم في منافع الدار وما يلحق بها (١).

ولكن يرد على المحقق النائيني (قده) أن المترتب على الملاقي هو نفس التنجز الثابت للملاقى. وأما الأحكام الشرعية الثابتة للمعلوم بالإجمال ، فلا تترتب على الملاقي ولو على السراية كما هو المفروض ، لعدم العلم بانطباقه على الملاقى حتى يقال بترتبه على ملاقيه ، فالثابت له هو الحكم العقلي أعني التنجز فقط كما في نفس الأطراف.

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور ، فنتعرض لصور الملاقاة وهي ثلاث على ما في المتن.

الصورة الأولى : أن تكون الملاقاة بعد العلم الإجمالي بالنجس بينهما ، ويستدل على وجوب الاجتناب عن الملاقي بوجهين : الأول السراية ، وقد عرفت ضعف المبنى وعدم تماميته ، وأن الحق كون الملاقي موضوعا حادثا للحكم بالنجاسة ووجوب الاجتناب عنه ، وحيث ان الحكم بالنجاسة في نفس الملاقي مشكوك فيه ، فيئول الشك إلى الشك في موضوعية الملاقي لها ، ومع هذا الشك كيف يحكم عليه بالنجاسة؟

الثاني : طرفية الملاقي لعلم إجمالي حادث بوجوب الاجتناب المردد بين

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٢٥

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الملاقي والملاقى والطرف ـ بعد العلم الإجمالي بوجوبه بين الأصليين ـ بحيث يكون مجموع الثلاثة أطراف العلم الثاني ، وهذا العلم الإجمالي الثاني يقتضي كون الملاقي محكوما بما حكم به على الأصليين ، لكون الملاقي من أطرافه كالملاقى وطرفه.

وقد أجيب عنه بوجهين :

الأول : ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) من انحلاله بجريان الأصل النافي السليم عن المعارض في الملاقي ، لتأخره رتبة عن الأصل الجاري في الأصليين ، ضرورة أن نجاسته على تقديرها ناشئة ومسببة عن الملاقى ، وحيث يتساقط الأصلان فيهما وليس هو في رتبتهما كي يسقط أيضا بالمعارضة فيجري بلا مانع ، وبه ينحل العلم الإجمالي الثاني ، لما ثبت في محله من انحلاله بأصل عملي يجري بلا مانع في بعض الأطراف ، هذا.

ولكن نوقش فيه تارة بما في في حقائق سيدنا الأستاذ (قده) من «أنه مبني على القول بأن المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو المعارضة دون العلم الإجمالي المبتني على كون العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية الحاصلة من جريان الأصل في تمام الأطراف ، دون وجوب الموافقة القطعية. وقد عرفت أن التحقيق هو الثاني ، وحينئذ لا مجال لجريان الأصل في بعض الأطراف وان لم يكن له معارض ، لأن إجراءه مخالفة احتمالية» (١) وحاصله : أن جريان الأصل في الأطراف مبني على اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز. وأما بناء على عليته التامة له فلا مجال لجريان الأصل في شيء من أطرافه وان لم يكن له معارض ،

__________________

(١) حقائق الأصول ، ج ٢ ، ص ٣٠٧

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأن إجراءه مخالفة احتمالية ، وهي تنافي وجوب الموافقة القطعية.

وأخرى : بعد فرض مسلك الاقتضاء بأن إطلاق ما أفاده ـ من انحلال العلم الإجمالي الثاني بالأصل النافي الجاري في الملاقي السليم عن المعارض لتأخره رتبة عن الأصل الجاري في الأصليين ، حيث ان نجاسته على تقديرها ناشئة ومسببة عن الملاقى ـ لا يخلو من الإشكال ، وذلك لسقوط أصل الملاقي في بعض الأحيان بالمعارضة أيضا ، كما إذا كان المعلوم إجمالا النجس المردد بين إناءين ، ثم لاقى ثوب أحدهما ، فان أصالة الطهارة في الثوب وان كانت جارية فيه بلا مانع ، لعدم كونها في رتبة الملاقى حتى يعارضها الأصل الجاري فيه ، لكنها في رتبة قاعدة الحل الجارية في الإناءين بعد سقوط أصالتي الطهارة فيهما ، فتعارضها في هذه الرتبة وتسقط كسقوطها في الإناءين أيضا بالتعارض. ولمّا لم يكن أثر لأصالة الحل في الثوب فلا تجري فيه ، كما لا يجري فيه أصل مرخص آخر ، فلا بد من الاجتناب عنه.

والحاصل : أن الأصل الجاري في الملاقي ليس في جميع الموارد سليما من المعارض حتى ينحل به العلم الإجمالي الثاني ، فما أفاده الشيخ الأعظم (قده) في الجواب عن منجزية العلم الإجمالي الموجب للاجتناب عن الملاقي أخص من المدعى ، ولا يجري في جميع الموارد كما لا يخفى.

وثالثة : بأن اسناد عدم المعلول إلى وجود المانع فرع تمامية المقتضي كإسناد عدم احتراق الحطب إلى الرطوبة مع وجود النار ، وأما مع عدم تمامية المقتضي فلا يصح اسناده إلى وجود المانع ، بل لا بد من اسناده إلى عدم المقتضي ، لتقدمه رتبة على المانع ، والانحلال معناه أنه لولاه لكان العلم الإجمالي مقتضيا للتنجيز ، كاقتضاء

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النار للإحراق لو لا المانع كالرطوبة ، والمفروض أن العلم الإجمالي الحادث بعد العلم بالملاقاة غير مقتض للتنجيز في حد نفسه ، لعدم إمكان تنجز المتنجز ، كما سيظهر ، فعدم تنجيز هذا العلم الإجمالي الثاني مستند إلى عدم المقتضي له ، لا إلى وجود المانع ، فلا تصل النوبة إلى إسقاطه عن الاعتبار بالمانع وهو جريان الأصل النافي في بعض الأطراف (١).

هذا كله مضافا إلى أن في كلام الشيخ الأعظم مسامحة أخرى ، فان العلم الإجمالي الّذي تعرض له بقوله : «ان قلت» مبني على السراية ، بشهادة تنظيره بتقسيم ما في أحد الإناءين وصيرورة الأطراف ثلاثة وأنه يجب الاجتناب عن الجميع.

وجوابه المتقدم بيانه مبني على القول بالتعبد ، فيعود النزاع مبنائيا. إلّا أن يكون المقصود منع القول بالسراية بنفس هذا الجواب.

الوجه الثاني : ما أفاده المصنف من عدم العلم بفرد آخر من النجس في البين وذلك لاستحالة تنجز المنجز ، فان التكليف قد تنجز في طرف الملاقى بالعلم الأول ، ولا يمكن تنجزه ثانيا بالعلم الثاني ، فلا يبقى إلّا الشك في حدوث التكليف في الملاقي ، وهو موضوع للأصل النافي. وهكذا حكم المصنف في الصورة الثانية ، فحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى فيها ، لعدم العلم بفرد آخر من النجس.

وقد أورد عليه ـ كما عن شيخنا المحقق العراقي قدس‌سره ـ بأن التفاوت بين الصور الثلاث مبني على كون العلم الإجمالي بحدوثه موجبا لتنجز المعلوم إلى الأبد ، وهو ممنوع ، كيف لا يمنع؟ ولازمه في صورة ارتفاع العلم بسبب طروء

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٥٩

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الشك الساري على المعلوم أو حصول العلم بخلافه بقاء التنجز ، وهو مما يقطع بخلافه ، وهذا ظاهر في العلم التفصيليّ بالوجدان فكيف بالإجمالي منه.

والتحقيق : أن العلم وان كان طريقا إلى متعلقه ، لكنه موضوع لحكم العقل بتنجز المتعلق ، فلبقائه دخل في بقاء حكمه كما يحدث التنجز بحدوثه ، وعلى هذا فلا أثر لسبق أحد العلمين في إسقاط العلم المتأخر حدوثه عن الأثر ، بل التنجز يستند إليهما عند تحقق اللاحق ، فالعلم السابق من حين حدوثه يستقل في تنجيز حكم متعلقه الدائر بين الأصليين ويجب الاجتناب عنهما مقدمة ، فإذا حدث العلم الثاني بين الملاقي والطرف كان منجزا بالنسبة إلى الطرف أيضا ، غاية الأمر أن حدوث التنجز كان مستندا إلى العلم الأول ، وبعد حدوث الثاني يستند بقاؤه إلى العلمين ويصير اللاحق جزء العلة بعد أن كان الأول هو العلة المنحصرة فيه قبل حدوث الثاني.

وهكذا الكلام في الصورة الثانية ، فيجب فيها الاجتناب عن الملاقى أيضا ، ففي الصورتين يجب الاجتناب عن الجميع ، وتكون الحال كما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث حيث يجب الاجتناب عن الكل. وعليه فتأخر العلم بوجوب الاجتناب عن الملاقي عن العلم بوجوب الاجتناب عن الملاقى لا يخرج الملاقي عن حكم المعلوم بالإجمال ، هذا.

وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في المستمسك «بأن إناطة التنجيز بالعلم حدوثا وبقاء غاية ما تقتضيه أن التنجز في حال حدوث العلم الثاني مستند إلى وجود العلم في ذلك الآن ، لكن هذا المقدار لا يوجب إلحاق الفرض بما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث ، إذ في هذا الفرض لمّا كان أحد العلمين سابقا والآخر لاحقا كان السابق موجبا لانحلال اللاحق به ، وسقوطه عن التأثير ، بخلاف فرض

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اقتران العلمين ، فانه يمتنع أن ينحل أحدهما بالآخر ، لأنه ترجيح بلا مرجح ، فان انحلال أحد العلمين بالعلم الآخر بحيث يسقط العلم المنحل عن التأثير ليس حقيقيا ، بل هو حكمي ....» (١).

ومحصل مرامه قدس‌سره : أن اسناد التنجيز في المقام إلى أسبق العلمين وإيجابه لسقوط المتأخر عن التأثير وانحلاله به ليس بلا مرجح بل معه ، وهو سبق أحدهما على الآخر ، وهذا بخلاف فرض اقتران العلمين ، فانه يمتنع انحلال أحدهما بالآخر ، لأن تساوي أقدامهما مانع عن الترجيح ، فيكون ترجيحا بلا مرجح. والانحلال في صورة السبق عقلائي بمعنى عدم اعتناء العقلاء باللاحق وعدم كونه حجة على مؤداه ، بل الحجة عليه هو السابق.

أقول : ينبغي النّظر في ما هي حقيقة التنجز ، ولما ذا امتنع تنجز ما تنجز سابقا حتى جعل ذلك من المسلمات ، فقيل : «المنجز لا ينجز ثانيا» كي يظهر حال بعض ما ورد من كلمات الأعلام في المقام ، فنقول وبه نستعين : ان مبنى الإشكال المتقدم مقايسة تأثير العلم وسائر الحجج في التنجيز بالعلل التكوينية ، والظاهر أنها مع الفارق ، وتوضيحه : أنه لا ريب في استقلال العلة التامة في التأثير ، وأنه بحدوث العلة الثانية يحصل الاشتراك فيه ، ويصير كل منهما جزء العلة بعد أن كانت الأولى تمام العلة ـ ، فيستند سخونة الماء حدوثا إلى النار التي أوقدت تحته في الساعة الأولى ، ويستند إليها وإلى النار التي أوقدت بجنبه في الساعة الثانية ، فكل من النارين تؤثر في بقاء سخونة الماء بعد أن كانت الأولى مستقلة في التأثير حدوثا ، كاستناد الأثر إليهما حدوثا فيما إذا أوقدتا معا من أول الأمر. وهذا كلام

__________________

(١) المستمسك ، ج ١ ، ص ٢٥٥ ، ونحوه كلامه في الحقائق ج ٢ ، ص ٣١٠

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

متين ، فان العلة تؤثر في المعلول في كل آن ، ولا يكفي حدوثها في بقاء الأثر إلى الأبد ، وهذا الحديث جار في كل ما يكون مطلقا وجوده مؤثرا في المعلول.

لكن الظاهر أن التنجز ليس كذلك ، حيث انه عبارة عن انكشاف الحكم للمكلف ووصوله إليه الموجب لانقطاع عذره الجهلي ، وحكم العقل باستحقاق العبد للمؤاخذة على المخالفة ، وهذا المعنى في نفسه غير قابل للتعدد ، فان العقل انما يحكم باستحقاق العقوبة على عصيان التكليف الواصل بالعلم أو بحجة أخرى ، ومن المعلوم أن قيام صرف الوجود من الحجة موضوع لهذا الحكم العقلي ، إذ التكليف الواحد بوصوله إلى المكلف له إطاعة واحدة ومعصية كذلك ، ويترتب على عصيانه استحقاق العقاب ، وهذا الأثر باق ما دامت الحجة الأولى باقية غير مرتفعة بالشك الساري أو العلم بالخطإ ، ولا أثر لقيام الحجة الثانية على نفس الحكم في تنجيزه ، لوضوح عدم قابلية التنجز الّذي هو وصول الحكم الشرعي إلى المكلف بحيث تصح المؤاخذة على مخالفته للتعدد والتكرر ، فهو من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وعليه فالمنجز الأول باق على تنجيزه إلّا أن ينكشف خلافه أو يزول بالشك الساري.

وعلى هذا فإذا علم إجمالا بوجوب الاجتناب عن النجس المردد بين الأصليين فقد تنجز الوجوب فيهما ، والعلم الإجمالي الثاني الحاصل بعد الملاقاة ـ في الصورة الأولى ـ لا تؤثر شيئا ، لأنه حصل بعد قيام صرف الوجود من الحجة على وجوب الاجتناب المردد بين الملاقى وصاحبه ، وشرط منجزية العلم الإجمالي عدم سبق المنجز إلى بعض الأطراف ، وإمكان منجزيته على كل تقدير من تقادير احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الأطراف ، والعلم الإجمالي الثاني لا يمكن أن ينجز

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على أي تقدير ، إذ لو كان النجس المعلوم بالإجمال هو الملاقى ، فقد تنجز وجوب الاجتناب عنه ، وقد تقدم أن التنجز غير قابل للتكرر. ولو كان هو طرف الملاقى فقد تنجز أيضا ، فلا مجال لتنجزه ثانيا.

وعليه فاستحالة تنجز المنجز انما هي لأجل عدم الموضوع له ، لما تقدم من أن موضوع حكم العقل وهو صرف وجود الحجة ، وقد قامت أوّلا حسب الفرض وانكشف بها الواقع وترتب عليه حكم العقل باستحقاق العقوبة ، فلا ينكشف ثانيا بوجود حجة أخرى ، لعدم تحمل حكم واحد لانكشافين يستتبع كل منهما استحقاق المؤاخذة على المخالفة ، ولذا يكون العلم الثاني ترددا صوريا غير موجب لحدوث التكليف ، ومن المعلوم أن المنجز هو العلم الإجمالي بالحكم الفعلي على كل تقدير ، دون غيره.

وبهذا البيان يتضح متانة كلام الماتن وتماميته ، والمناقشة في الإشكال المحكي عن شيخنا المحقق العراقي (قده).

ومع الغض عما ذكرناه فما أجاب به سيدنا الأستاذ (قده) بظاهره لا يخلو عن تأمل ، إذ مع تسليم «إناطة التنجيز في كل آن بالعلم في ذلك الآن وعدم استناده إلى العلم في الآن قبله ، لعدم كفاية حدوث العلم في التنجز إلى الأبد» يمكن دعوى أن إسقاط العقلاء للعلم المتأخر عن التأثير يكون من باب الخطأ في مقام التطبيق ، كمسامحتهم في تطبيق الكر على ما دون المقدار الشرعي بقليل ، إذ لو بني على كون المنجز ـ وهو العلم ـ كسائر العلل في إمكان تشريك المقتضي اللاحق في التأثير بقاء مع المقتضي السابق كان اسناد الأثر إلى أسبق المقتضيين بالخصوص ـ في تمام الأحوال التي منها حال مقارنة المقتضي المتأخر في الوجود للسابق منهما ـ بضرب من العناية بحيث

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لو التفتوا إليه لرفعوا اليد عن سيرتهم ، ومن المعلوم أن مثل هذه السيرة لا عبرة بها ، فان إمكان تأثير العلة الثانية عقلا فيما أثّرت فيه العلة الأولى كاف في الردع عن هذا البناء العقلائي ، فان حال العلم في تنجيز معلومه حينئذ كحال الوجود بالنسبة إلى الماهية ، حيث ان تحصلها في كل آن انما هو بإفاضة الوجود عليها من مفيضه جل وعلى في ذلك الآن ، لا آن قبله ولا بعده.

وعلى هذا فإذا حصل العلم الثاني ـ بعد الملاقاة ـ بوجود النجس بين الملاقي والملاقى وطرفه كان اسناد التنجيز إلى العلم الإجمالي الأول فقط ترجيحا بلا مرجح ، لعدم كون الأسبقية مرجحة عقلا بعد عدم القصور في تأثير العلم اللاحق أيضا حسب الفرض ، ولمّا كان تأثير كل واحد من العلمين مستلزما لتوارد علتين مستقلتين على معلول واحد ـ وهو تنجز التكليف في عدل الملاقى ـ فلا مناص من تشريك كل منهما في التأثير واسناد التنجيز إليهما معا بقاء بعد أن استقل السابق منهما فيه حدوثا.

والحاصل : أن التخلص من الإشكال منوط بالالتزام بعدم قابلية الحكم المنجز للتنجز مرة أخرى على ما أوضحناه. فلو التزمنا بصلاحية كل واحد من العلمين للتنجيز لم تكن دعوى الانحلال العقلائي مجدية فيه ، فلاحظ وتدبر.

وما قيل من : «أن التنجزات اللاحقة مستندة إلى المنجز الأول ، ولذا لو خرج بعض الأطراف عن الابتلاء بقي التكليف على تنجزه في سائر الأطراف» قد عرفت المناقشة فيه ، إذ بعد تسليم صلاحية المنجزات اللاحقة للتأثير لا وجه لاستناد التنجز إلى خصوص أسبق العلمين ، الا مع عدم قابلية المعلوم للتنجيز ثانيا على ما تقدم.

وقد تحصل : أن الحكم في الصورة الأولى وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

دون ملاقيه كما أفاده المصنف خال عن الإشكال.

الصورة الثانية : وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، وقد ذكر المصنف لها موردين :

الأول : العلم بنجاسة الملاقي والطرف ثم الالتفات إلى أن الملاقي لو كان نجسا فانما هو لملاقاته مع شيء ثالث علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الطرف ، وقد حكم المصنف فيه بلزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، وعمدة الإشكالات المتوجهة على تفصيل المصنف ناظرة إلى هذه الصورة وان اشتركت الصورة الثالثة معها في بعضها أيضا.

فمنها : ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) ومحصله : ابتناء هذا التفصيل على كون حدوث العلم الإجمالي بما أنه صفة قائمة بالنفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وان تبدلت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، لأنه عليه يكون المدار على حال حدوث العلم لا المعلوم. لكن الإنصاف فساد المبنى ، حيث ان المدار في تأثير العلم انما هو على المنكشف والمعلوم لا الكاشف. وفي جميع الصور المفروضة يكون رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي والطرف وان تقدم زمان العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والطرف على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والطرف ، لأن التكليف في الملاقي انما جاء من قبل التكليف في الملاقى ، وحيث ان هذا التقدم والتأخر واقعي ، فلا أثر لزمان حصول العلمين تقدم العلم بالمتأخر منهما ، أو تقارن حصول العلمين بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالعلم الآخر (١).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٢٧ و ٢٨

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنها : ما في التقريرات أيضا من إباء الذوق المستقيم عن الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي مع أن التكليف فيه آت من قبله.

ومنها : أنه يلزم انفكاك المسبب عن سببه ، مع أن الملازمة واقعية ، توضيحه : أن مقتضى عدم منجزية العلم الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقى عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي وجريان أصالة الطهارة فيه والتعبد بطهارته ظاهرا ، ومقتضاه التعبد بالطهارة الظاهرية في الملاقي أيضا ، لئلا يلزم انفكاك المسبب عن سببه ، فان نجاسة الملاقي مسببة عن نجاسة ملاقاة واقعا ، فلو حكم الشارع بطهارته ظاهرا لعدم كونه طرفا لعلم إجمالي منجز فلا بد من الحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا أيضا ، قضية للتلازم بينهما حكما ، وهذا لا يجتمع مع ما فرض من وجوب الاجتناب عنه عقلا من باب المقدمة العلمية. ومقتضى طهارة الملاقي عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقى ، لدوران النجس المعلوم إجمالا بينه وبين ما هو في عرضه ، فيتساقط الأصلان فهما بالمعارضة. وعليه فلازم الحكم بطرفية الملاقي للعلم الإجمالي هذا المحذور المحال ، بخلاف ما إذا انحصر الطرف في الملاقى وما هو في عرضه.

وأجيب عن الأول بأن العلم وان كان طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه ، إلّا أنه انما يكون كذلك بالنسبة إلى خصوص الآثار الشرعية المترتبة على متعلقه ، كما لو علمنا بنجاسة هذا الإناء من قبل يومين ، فان مقتضاه الحكم بنجاسة ملاقيه من زمان الملاقاة لا من زمان العلم ، لكونه نجاسته حكما واقعيا لا دخل فيه لعلم المكلف وجهله به ، دون الأثر العقلي المترتب على نفس العلم وهو التنجيز الّذي يترتب عليه استحقاق العقوبة ، فان موضوع التنجز هو قيام الحجة الذاتيّة أو الجعلية على الوظيفة الفعلية ،

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإذا كان التنجيز من آثار العلم بالنجاسة لا من آثار وجودها الواقعي ، فالعلم الحاصل أولا بين الملاقي وعدل الملاقى يقتضي التنجز بلا مانع منه. ومجرد كون المعلوم بالعلم اللاحق سابقا زمانا أو رتبة لا يوجب سقوط العلم الأول عن التأثير بعد أن كان التنجيز من آثار العلم المتقدم زمانا على الآخر ، لا من آثار المتقدم رتبة وان تأخر وجوده ، ودوران التكليف بين الملاقى والطرف واقعا لا يمنع من تأثير العلم الأول الحاصل بين الملاقي والطرف ، لعدم العلم به ، كما لا معنى لتأثير العلم الثاني في زمان قبل حصوله بالنسبة إلى الآثار العقلية حتى يمنع من تأثير العلم السابق ، هذا.

وما في التقريرات المزبورة من «انحلال العلم السابق باللاحق ، لكون معلومه متقدما بالزمان أو بالرتبة على معلوم أسبق العلمين» لم يظهر له وجه ، إذ الانحلال في موارده اما حقيقي واما حكمي واما تعبدي. ولا مسرح لدعوى الانحلال الحقيقي فانه بعد حصول العلم الثاني لم يرتفع الترديد الحاصل أولا بين الملاقي والطرف بل هو باق بحاله ، وهو يمنع عن تنجز التكليف في الطرف بالعلم الثاني ، لامتناع تنجز المنجز. ولا مجال لدعوى القطع بعدم التكليف في الملاقي. نعم يتبدل المعلوم فيه من الأصالة إلى التبعية ، وهذا لا يقدح في تأثير أسبق العلمين.

كما لا مجال لدعوى الانحلال التعبدي المنوط بقيام أمارة شرعية على التكليف في بعض الأطراف كالبينة القائمة على أن الخمر المردد بين الإناءين انما هو في الإناء الشرقي مثلا ، إذ المتحقق ثانيا هو العلم الإجمالي لا الحجة التعبدية.

وأما الانحلال الحكمي أي عدم كون العلم الأول منجزا بعد حدوث العلم الثاني فهو يتم في مثل حصول العلم يوم الجمعة بإصابة النجس بأحد الإناءين

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأبيض والأحمر ثم العلم يوم السبت بوقوع القذر في الإناء الأصفر أو الأبيض يوم الأربعاء ، فان العلم السابق ينحل باللاحق ، إذ يكشف هذا عن عدم كون السابق منهما علما بتكليف فعلي على كل تقدير ، وهذا بخلاف المقام ، فان التكليف قد تنجز في طرف الملاقى أولا ، ويستحيل تأثير العلم الثاني فيه مرة أخرى ، فان المنجز لا يتنجز ، فكيف ينحل العلم الأول به حكما؟

بل في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) أن مانعية العلم الثاني عن تنجيز العلم الأول بقاء مستلزمة للدور ، قال : «لأن مانعيته فرع كونه علما بحكم فعلي على أي تقدير وغير منجز بمنجز سابق ، وكونه كذلك فرع سقوط العلم الأول عن التأثير بقاء .... إلخ» (١).

وتوضيحه : أن العلم الإجمالي المتقدم مقتض للتنجيز ، والمانع منه اما هو وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف بوجوده الواقعي قبل تعلق العلم به ، وهو باطل ، لما عرفت من أن الآثار العقلية تترتب على العلم ، إذ هو الصالح للاحتجاج وقطع العذر. فالعلم الإجمالي الأول لا مانع من تنجيزه ، فيؤثر. واما هو وجوب الاجتناب عنهما بوجوده العلمي أي بعد حدوث العلم الإجمالي الثاني ، وهذا أيضا غير مانع عنه ، فان المتأخر من العلمين معدوم حين حدوث المتقدم منهما ، والمعدوم ليس محض لا يتقرب منه المانعية ، فلا بد أن تكون المانعية بحسب وجوده البقائي موجبة لانحلال العلم الأول ، ولكنه باطل أيضا ، وذلك لأن المانعية تتوقف على كون العلم الثاني علما بحكم فعلي على كل تقدير ، ولم يتنجز بعض الأطراف بمنجز سابق. وكونه كذلك يتوقف على عدم منجزية العلم الأول للتكليف بين

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٦٠

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الملاقي والطرف ، وعدم منجزيته يتوقف على تأثير العلم المتأخر ، وهذا هو الدور الصريح.

أقول : بناء على تسليم اقتضاء العلم الأول للتنجيز فالأمر كما أفاده قدس‌سره من اقتضاء المانعية بقاء للدور. إلّا أن الظاهر من تقريرات المحقق النائيني (قده) عدم اقتضاء العلم السابق للتأثير إذا لحقه علم آخر يكون معلومه متقدما عليه زمانا أو رتبة ، وان كان هذا الكلام في نفسه متهافتا مع دعواه انحلال العلم السابق باللاحق ، لاقتضاء الانحلال تمامية اقتضاء العلم في التأثير لو لا المانع ، وقد سبق مثل هذا التسامح في التعبير من الشيخ كما نبهنا عليه.

وكيف كان فالظاهر أن دعوى المحقق النائيني (قده) عدم اقتضاء العلم السابق للتأثير إذا لحقه علم آخر لا تخلو من شيء ، لما عرفت من عدم القصور في كاشفية أسبق العلمين ، وكون المعلوم به حكما إلزاميا أو موضوعا له ، غاية الأمر أن المنكشف بالعلم اللاحق سابق زمانا أو رتبة على الأول ، إلّا أنه غير موجب لسقوط السابق عن اقتضاء التأثير مع عدم تنجز الحكم قبله ، فلا بد أن يكون تأثير اللاحق في مرحلة المنع بقاء ، وإلّا استلزم الدور كما عرفت. وبهذا اندفع إشكال المحقق النائيني على المصنف ، ومحصله كون التنجيز والتعذير من آثار العلم لا المعلوم.

ويجاب عن الثاني أيضا بأن الّذي يأباه الذوق الفقهي المستقيم انما هو التفكيك في حكمين لموضوعين يتبع أحدهما الآخر ثبوتا ، ولكنك تعرف أن لزوم رعاية التكليف في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي المنجز انما هو حكم عقلي من باب المقدمة العلمية ، ونجاسة الملاقي على تقديرها وان كانت تابعة في الوجود

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الخارجي لنجاسة الملاقى ، إلّا أن التكليف بالاجتناب عن الملاقي قد تنجز بالعلم الأول بين الملاقي والطرف ، وبسبب تأثيره سقط العلم الثاني عن قابلية التأثير ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقى ، وحيث انه بناء على التعبد يختص كل من المتلاقيين بجعل شرعي مستقل ، فتنجز الخطاب في أحدهما ـ وهو الملاقي ـ بسبب العلم الأول لا يوجب تنجزه في الآخر وهو الملاقى.

وأجاب المحقق الأصفهاني عن الثالث بما لفظه : «بأنا نلتزم بانفكاك المسبب عن سببه بلحاظ بعض الآثار ، لمكان الموجب له ، فان التعبد بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ انما يصح بتبع التعبد بعدمه في الملاقى ـ بالفتح ـ إذا لم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي ... إلى أن قال : ومقتضى التعبد بطهارة الملاقى ـ بالفتح ـ بعد تنجز التكليف في الملاقي بالكسر وطرفه ليس إلّا ترتيب أثر الطاهر بما هو طاهر على الملاقي بالكسر ، لا رفع وجوب الاجتناب العقلي التابع للعلم الإجمالي الّذي لا مانع منه عند تأثيره ، فيجب الاجتناب عقلا عن الملاقي بالكسر وعن طرفه وان كان لا يعامل معه معاملة النجس من حيث ملاقاة شيء معه فضلا عن طرفه ، فان خروج الملاقي بالكسر عن وجوب الاجتناب لا يمنع بقاء احتمال التكليف المنجز في الآخر على خلافه ، فتدبر جيدا فانه حقيق به» (١).

أقول : الظاهر أن هذا الجواب في غاية المتانة بناء على علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره وفاقا لشيخه الأستاذ قدس‌سرهما ، إذ على هذا المسلك يكون العلم موجبا للتفكيك بين طهارة المتلاقيين ظاهرا مع فرض الملازمة بينهما فيها ، أو حكومة أصالة الطهارة في الملاقي على أصل الطهارة في

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٦١

١٨٠