منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

لاحتمال (١) أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون (٢) هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

لا يقال (٣) : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد

______________________________________________________

لما كان التكليف بالمتعلق معلوما بهذا العلم الإجمالي. وضميرا «أطرافه ، به» راجعان إلى متعلق التكليف.

(١) تعليل لقوله : «لما كان» يعني : لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما عرضه الاضطرار ، فلم يثبت تعلق التكليف به حدوثا أو بقاء حتى تجري فيه قاعدة الاشتغال وضمير «هو» راجع إلى «متعلقه».

(٢) معطوف على قوله : «يكون» يعني : أو لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما اختاره المكلف من الأطراف في رفع اضطراره فيما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.

(٣) هذا إشكال على ما أفاده (قده) بقوله : «وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا» وتأييد لتفصيل شيخنا الأعظم في الاضطرار إلى المعين بين الاضطرار السابق واللاحق ، وتوضيحه : أن الاضطرار يقاس بفقدان بعض الأطراف ، فكما لا إشكال ـ في صورة فقدان بعض الأطراف ـ في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه ، فكذلك لا ينبغي الإشكال في صورة الاضطرار إلى بعض الأطراف في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه ، فيجب الاحتياط في سائر المحتملات خروجا عن عهدة التكليف المعلوم قبل عروض الاضطرار ، فيندرج المقام في كبرى قاعدة الاشتغال لا البراءة ، كما إذا علم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين أو بوجوب تجهيز أحد الميتين عليه ، فأريق ما في أحد الإناءين ، أو افترس السبع أحد الجسدين أو أخذه السيل ، فانه لا ريب في وجوب

٦١

بعضها (١) فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي (٢) أو ارتكابه (٣) خروجا (٤) عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

فانه يقال (٥) : حيث ان فقد

______________________________________________________

الاجتناب عن ثاني الإناءين ، ووجوب تجهيز الميت الآخر. ولو كان الفقدان قبل العلم الإجمالي ـ بأن أريق ما في أحد الإناءين أو فقد أحد الميتين ، ثم علم إجمالا بحرمة شرب هذا الماء الموجود أو ذلك الإناء المفقود ، أو وجوب تجهيز هذا الميت الموجود أو ذاك المفقود ـ لم يلزم الاحتياط بالنسبة إلى باقي الأطراف.

وعليه فحال الاضطرار حال الفقدان في منعه عن تنجيز العلم الإجمالي إذا كان سابقا ، وعدم منعه عنه إذا عرض بعد العلم ، فالحق ما فصّله الشيخ بين الاضطرار اللاحق وغيره.

(١) أي : الفقدان الطاري على العلم الإجمالي لا السابق عليه ولا المقارن له ، وضمير «بعضها» راجع إلى الأطراف.

(٢) في الشبهة التحريمية ، وضمير «رعايته» راجع إلى الاحتياط.

(٣) في الشبهة الوجوبية ، كما إذا علم إجمالا بأن أحد الغريقين ممن يجب إنقاذه والآخر كافر حربي ، فهلك أحدهما قبل الإنقاذ ، فان إنقاذ الآخر واجب ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، والمفروض تنجز هذا الاحتمال بالعلم الإجمالي الحاصل قبل عروض الاضطرار.

(٤) تعليل لقوله : «فيجب الاجتناب ... إلخ» وضمير «عروضه» راجع إلى الاضطرار ، وضمير «عليه» راجع إلى «ما» الموصول المراد به وجوب الاجتناب.

(٥) هذا دفع الإشكال ، ومحصله الفرق بين الاضطرار والفقدان ، حيث ان

٦٢

المكلف به (١) ليس من حدود التكليف به وقيوده كان (٢) التكليف المتعلق به مطلقا (٣) ، فإذا اشتغلت الذّمّة به كان قضيته الاشتغال به يقينا

______________________________________________________

الأول من قيود التكليف شرعا بحيث يكون كل حكم إلزاميّ مقيدا حقيقة بعدم الاضطرار ، فمع طروئه يرتفع الحكم واقعا ، إذ الاضطرار يزاحم الملاك الداعي إلى الحكم ، فان ملاك حرمة أكل مال الغير يؤثر في تشريع الحرمة ان لم يزاحم بمصلحة أهم كحفظ النّفس ، ولذا يجوز أكله في المخمصة بدون رضا مالكه ، فاشتراط التكليف بعدم الاضطرار إلى متعلقه انما هو من اشتراط الملاك بعدم المزاحم له وهذا بخلاف الفقدان ، فان الحكم لم يقيد في الأدلة الشرعية بعدمه ، بل عدم الموضوع يوجب انتفاء الحكم عقلا ، بخلاف الاضطرار ، فان الحكم مقيد بعدمه شرعا ، ولذا لا يجب الاحتياط مع طروئه.

وبالجملة : فمع الفقدان يشك في بقاء التكليف عقلا ، فيجب الاحتياط فيما بقي من الأطراف ، لكون الشك في بقاء الحكم المطلق بعد العلم باشتغال الذّمّة به ، ولكن في الاضطرار يكون الشك في ثبوت التكليف. وعليه فقياس الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي بفقدان بعض الأطراف بعد العلم مع الفارق.

(١) المراد به متعلق المتعلق وهو الموضوع كالإناء في المثال ، أو الغريق في وجوب الإنقاذ.

(٢) جواب «حيث» وضمير «به» راجع إلى المكلف به ، وضمير «قيوده» إلى التكليف.

(٣) أي : غير مقيد شرعا بالفقدان ، و «المتعلق» بكسر اللام ، وضمير «به» راجع إلى المكلف به.

٦٣

الفراغ عنه كذلك (١) ، وهذا (٢) بخلاف الاضطرار إلى تركه (*) ، فانه (٣) من حدود التكليف به وقيوده (٤) ، ولا يكون (٥) الاشتغال به من الأول إلّا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذّمّة بالتكليف به (٦) إلّا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده (٧) ، ولا يكون (٨) [تكون] إلّا

______________________________________________________

(١) أي : يقينا ، وضمائر «عنه ، به» في الموضعين راجعة إلى المكلف به.

(٢) أي : عدم كون فقد الموضوع من شرائط التكليف ... ، وهو بيان لوجه فساد مقايسة الاضطرار الطارئ على العلم بفقدان بعض الأطراف ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «ومحصله الفرق بين الاضطرار والفقدان ... إلخ».

(٣) أي : فان الاضطرار إلى ترك المكلف به من شرائط التكليف بترك المتعلق كشرب الحرام والنجس ، ومن المعلوم عدم بقاء المحدود بعد الحد.

(٤) أي : من قيود التكليف شرعا ، وإلّا فقيدية بقاء الموضوع للحكم عقلا مما لا إشكال فيه ، وضمير «به» راجع إلى «تركه».

(٥) هذه الجملة مفسرة لقوله : «من حدود التكليف».

(٦) أي : بالمكلف به ، وضمير «عروضه» راجع إلى الاضطرار.

(٧) أي : رعاية التكليف فيما بعد الاضطرار ، والمراد بهذا الحد الاضطرار.

(٨) الضمير المستتر فيه راجع إلى ما يستفاد من قوله : «رعايته» يعني :

__________________

(*) الأولى إضافة «أو ارتكابه» إليه ، إذ الاضطرار إلى الترك انما هو في الشبهة الوجوبية دون التحريمية ، فلا بد من عطف «أو ارتكابه» على «تركه» حتى يعم كلّا من الشبهة الوجوبية والتحريمية ، حيث ان الاضطرار في الشبهة التحريمية يكون إلى ارتكاب بعض أطرافها لا إلى تركه.

٦٤

من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل ، فانه دقيق جدا (*).

______________________________________________________

ولا يكون رعاية التكليف ـ بعد طروء الاضطرار ـ بالاحتياط في باقي الأطراف الا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية في عدم اللزوم ، لأن العلم وان حصل أوّلا ، لكنه بعد طروء الاضطرار تبدل بالشك ، فلا يقين بالتكليف الفعلي حتى يجب الاحتياط في أطرافه.

__________________

(*) وقد تحصل : أن المنجز حيث انه غير موجود بقاء لانتفائه بالاضطرار ، فلا مانع من جريان الأصل المرخص في غير المضطر إليه من الأطراف سواء قلنا بعلّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره في المتن ، أم باقتضائه له كما هو ظاهر بعض كلمات الشيخ الأعظم (قده). أما على مسلك العلية فلإناطة التنجيز ببقاء العلم ، فانه وان كان طريقا إلى الواقع ومرآة لمتعلقه ، إلّا أنه موضوع لحكم العقل بالتنجيز ، فالعلم الإجمالي ما دام موجودا يكون محكوما عقلا بالتنجيز وموضوعا لحكمه بوجوب الإطاعة ، ومع ارتفاعه ترتفع منجزيته ووجوب إطاعته أيضا ، لارتفاع موضوعه كما هو مقتضى تبعية كل حكم لموضوعه.

وأما على مسلك الاقتضاء ، فلدوران منجزيته مدار تعارض الأصول الجارية في الأطراف وتساقطها به ، ومن المعلوم أن جريانها فرع تحقق موضوعها وهو الأطراف ، فمع وجودها تجري الأصول وتتساقط بالتعارض بمعنى قصور أدلة اعتبارها عن شمولها لهذا الحال. وأما بعد خروج بعضها عن الابتلاء أو طروء الاضطرار إلى ارتكابه أو فقده ، فلا موضوع لأحد الأصلين ، فيجري الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض ، وعليه يتجه ما أفاده في المتن من قوله : «فلا يجب رعايته فيما بعده».

وفي كفاية حدوث العلم الإجمالي آناً ما للتنجيز أبدا حتى تتعارض الأصول

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وتتساقط والساقط لا يعود في الطرف الموجود ولو مع انعدام غيره من الأطراف ، وعدمها ، لكون التعارض متقوما بوجود الأصل المعارض المنوط ذلك بتحقق الموضوع في كل آن ، تأمل. ومع اعتبار بقاء العلم فهل المرتفع بالاضطرار هنا هو نفس العلم الإجمالي أم المعلوم مع بقاء العلم؟ تأمل آخر ، ولعل هذا صار منشأ لاضطراب نظر المصنف واختلاف آرائه في المسألة ، فانه في المتن والفوائد اختار عدم التنجيز مطلقا ، وفي الهامش عدل عنه إلى ما أفاده الشيخ (قده) من التنجيز في الاضطرار إلى المعين إذا طرأ بعد العلم الإجمالي. ويمكن أن يكون عدم تعرضه لبيان شيء في حاشية الرسائل حول تفصيلي الشيخ دليلا على تقريره واختياره لهما وان ناقش في حكم الشيخ ـ بوجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه في الاضطرار إلى غير المعين لكونه بدلا عن الحرام الواقعي ـ بأنه انما يصح في الاضطرار غير البالغ حد الإلجاء ، وإلّا فالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية انما هو بحكم العقل لا الشرع حتى يكون أمره بيده.

وكيف كان ، فالتحقيق منجزية العلم الإجمالي في الاضطرار إلى المعين إذا كان متأخرا عن العلم ، اما لقاعدة الاشتغال كما يستفاد من رسائل شيخنا الأعظم ، فالعلم ساقط ذاتا وباق أثرا ، واما لدوران المعلوم بين المحدود بالاضطرار والمطلق كما في الهامش ، واما لمنجزية العلم الإجمالي في التدريجيات كما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) حيث قال : «للعلم الإجمالي التدريجي بالتكليف في الطرف المضطر إليه قبل طروء الاضطرار أو في الطرف الآخر بقاء حال طروه ، وهو كاف في المنجزية ...».

هذا ما أفاده هنا وأحال بيانه إلى ما ذكره (قده) في بحث الانحلال ، ولا بد

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لفهم مقصوده من بيان كلامه هناك ، فنقول : قال مقرر بحثه الشريف في توضيح العلم الإجمالي التدريجي ما لفظه : «ان العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الطرفين تبعا لانحلال التكليف المعلوم بحسب الآنات إلى تكليف متعددة ينحل إلى علوم متعددة بعضها دفعي كالعلم بالتكليف المردد بين الطرفين في كل من آنات الأزمنة كالصبح والزوال في المثال المتقدم ، وهو ما لو علم إجمالا أول الصبح بنجاسة أحد الكأسين ، ثم علم تفصيلا في أول الزوال بنجاسة أحدهما المعين. وبعضها تدريجي وهو العلم بحدوث التكليف في طرف في الصبح أو بقائه في الطرف الآخر في الزوال مثلا ، والّذي يسقط عن التأثير حين وجود العلم التفصيليّ انما هو العلم الإجمالي الدفعي. وأما الثاني وهو العلم الإجمالي التدريجي فيبقى على تأثيره بعد عدم صلاحية العلم التفصيليّ اللاحق للتأثير في تنجيز المعلوم السابق عن نفسه ، حيث يحكم العقل في مثله بالاشتغال بالمردد بينهما ... وبمثل هذا البيان نقول بلزوم مراعاة العلم الإجمالي في صورة الاضطرار الطاري بعد العلم ، وكذا تلف بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء بعد العلم ... إلخ» (١).

أقول : لعل هذا أمتن الوجوه في لزوم الاحتياط في الباقي ، إذ المفروض وجود العلم الإجمالي التدريجي قبل الاضطرار أو الفقدان أو الخروج عن الابتلاء ، ومن المعلوم أنه يوجب تنجز التكليف بالنسبة إلى جميع الأطراف. وعروض الاضطرار ونحوه لا يرفع أثر العلم الإجمالي وهو التنجيز بالنسبة إلى ما بقي من الأطراف. نعم الانحلال إلى تكاليف متعددة لا يخلو من المسامحة ، إذ الانحلال إليها منوط بتعدد الموضوع كما إذا تعلق الحكم بطبيعة ذات أفراد كالخمر ، فان

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٥٤

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحكم حينئذ ينحل إلى أحكام عديدة بتعدد أفراد تلك الطبيعة. وليس المقام كذلك ، ضرورة أن الحكم المعلوم إجمالا تعلق بفرد معين واقعا مجهول عندنا ، لتردده بين شيئين أو أشياء ، وليس كليا ذا أفراد حتى يقتضي كل فرد منها لاشتماله على الملاك حكما على حدة ، فشرط الانحلال إلى أحكام عديدة مفقود هنا.

لكن المقصود بالانحلال في المقام انحلال العلم الإجمالي إلى علوم إجمالية تدريجية بحسب تدريجية الزمان محكومة عقلا بالتنجيز. وهذا لا بأس به بناء على حجية العلم الإجمالي في التدريجيات.

وأما كلام الشيخ ، فقد تقدم بيانه في التوضيح وسيأتي أيضا.

وأما بيان المصنف في الهامش فمحصله : أن المناط في وجوب الاحتياط هو بقاء العلم دون المعلوم ، وتنجيز العلم يدور مدار العلم حدوثا وبقاء ، ولا يكفى حدوثه فقط في بقاء صفة التنجيز له إلى الأبد ، وفي المقام لمّا حصل العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي واجدا لشرائط التنجيز كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف لازم المراعاة عقلا ، وبعد طروء الاضطرار إلى المعين وان لم يبق المعلوم فعليا على أي تقدير ، لإمكان كون المتعلق هو المضطر إليه ، إلّا أن بقاء المعلوم على صفة الفعلية والتنجز على أي تقدير غير معتبر في بقاء تنجز التكليف بالعلم ، بل المعتبر في بقاء تنجزه به بقاء نفس العلم على صفة التنجيز ، وعدم تبدل الصورة العلمية بالشك الساري إليه ، وهو بعد حصول الاضطرار إلى المعين باق على حاله ، فيكون منجزا ويجب متابعته. ولا يعتبر مساواة الأطراف في الطول والقصر ، كما يشهد له حكمهم بوجوب صلاة الظهر على من علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين عليه قبل صلاة العصر في يوم الجمعة ، ولم يأت بالجمعة في وقتها ، إذ لا ريب في وجوب

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإتيان بالظهر عليه حينئذ ، مع أنه من دوران التكليف بين المحدود بساعة مثلا ان كان متعلقه صلاة الجمعة وغير المحدود ان كان متعلقه الظهر لامتداد وقتها. ولأجل بقاء العلم بحاله يحكم بلزوم رعاية التكليف في نظائر المقام كالخروج عن الابتلاء أو التلف.

وبالجملة : فالمعتبر في وجوب الاحتياط بقاء تنجيز العلم ، ولا يقدح في بقائه كون المعلوم محتمل الارتفاع ، هذا.

لكن يشكل ما أفاده (قده) في كل من المتن ـ الموافق لما في فوائده ـ والهامش.

أما كون الاضطرار من حدود التكليف وقيوده فهو وان كان كذلك ، إلّا أن المفروض تأخره عن التكليف والعلم به ، فالعلم حين حصوله تعلق بالتكليف المطلق المردد بين طرفين أو أطراف ، وبالاضطرار إلى طرف معين يشك في تحقق ما يقيد التكليف الواقعي المطلق ، لاحتمال كون المضطر إليه هو المباح لا الحرام حتى ترتفع حرمته بالاضطرار ، ولا مناص في مثله من الالتزام بالاحتياط الّذي يقتضيه الاشتغال اليقيني بالتكليف ، فليس الشك في ثبوت التكليف كي يتوجه مرجعية أصالة البراءة فيه ، وانما هو في سقوطه بعد ثبوته في الذّمّة. والاضطرار انما يفيد الحكم الواقعي من زمان عروضه ولا يسري إلى زمان العلم به المفروض تقدمه على الاضطرار ، ولذا يجب عليه الاجتناب فعلا عن الحرام وان علم بطروء الاضطرار إليه بعد حين.

وبالجملة : لا يحكم بارتفاع الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي بشيء من العناوين الثانوية الرافعة له من الضرر والحرج وغيرهما إلّا بعد تحقق ذلك العنوان الثانوي ووروده على نفس موضوع الحكم الأوّلي.

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكلامه في الفرق بين الفقد والاضطرار في المتن وفي الفوائد بقوله : «ان طروّ الفقد على بعض الأطراف انما يوجب الشك في سقوط خصوص ما تنجز عليه فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه تحصيلا للقطع بالفراغ قضية للقطع بالاشتغال ...» غير ظاهر ، ضرورة إناطة فعلية التكليف بوجود موضوعه كإناطتها بعدم الاضطرار إليه ، ومع احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المفقود لا يبقى علم بتكليف فعلي على أي تقدير ، كما لا يبقى في صورة ارتكاب بعض الأطراف للاضطرار ، فلا يجب رعاية التكليف في الطرف الآخر من باب المقدمة العلمية استنادا إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة ، وحينئذ يرتفع المانع عن جريان الأصل النافي في ما بقي من الأطراف. والقطع بالاشتغال انما يقتضي القطع الوجداني بالفراغ ما لم يتصرف الشارع في ناحية الامتثال بجعل البدل أو الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. وعليه فالتحديد في كل من الفقد والاضطرار موجود وان كان الحاكم به في الأول هو العقل ، لتقوم كل حكم بوجود موضوعه ، وفي الثاني هو الشرع لمزاحمته لأصل الملاك الداعي إلى التشريع.

إلّا أن يقال : ان فقدان الموضوع ينفي القدرة ، فالشك فيه شك في القدرة ، والعقل فيه يحكم بالاشتغال ، فالفرق المزبور بين الفقد والاضطرار في محله ، فتدبر.

وأما ما أفاده في الهامش من دوران التكليف بين المحدود والمطلق فهو جار بعينه في فقدان بعض الأطراف ، إذ كل علم إجمالي بالتكليف تتولد منه علوم إجمالية دفعية وتدريجية ، والزائل بالفقد والاضطرار ونحوهما انما هو العلم الإجمالي العرضي الدفعي ، وأما التدريجي فهو باق بحاله وهو المقتضي للتنجيز.

والحاصل : أن وجه التفرقة المزبورة بين الاضطرار والفقدان غير ظاهر. إلّا أن

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يوجه كلامه بما ذكره سيدنا الأستاذ (قده) بقوله : «فان شرطية عدم الاضطرار راجعة إلى شرطية عدم المزاحم للمصلحة المقتضية للحكم ... وشرطية وجود الموضوع راجعة إلى شرطية عدم المانع من اشتغال ذمة المكلف ، فان الإناء المفقود مما لا قصور في مفسدته ولا في تعلق الكراهة بشربه ، إلّا أن العلم بكراهته لا يصلح أن يكون موجبا لاشتغال الذّمّة به ، فيمتنع أن يكون وجوده شرطا للتكليف الّذي هو في الحقيقة شرط نفس الإرادة والكراهة ذاتا كما في القدرة ، أو عرضا كما في عدم الاضطرار ، فوجود الموضوع والابتلاء به نظير وجود الحجة على التكليف ليس شرطا للتكليف وان كان شرطا للاشتغال في نظر العقل ...» (١).

أقول : هذا البيان غاية ما يقال في توجيه العبارة ولو تم لسلم كلام المصنف في الفرق بين الفقدان والاضطرار مما تقدم من الإشكال ، ضرورة أنه على هذا التوجيه لا يكون وجود الموضوع شرطا للتكليف كشرطية عدم الاضطرار له ، بل يكون شرطا لاشتغال الذّمّة الّذي هو متأخر عن التكليف ، فلا يعقل أن يكون شرطا له. إلّا أن الشأن في تماميته في نفسه ، فان فرض تعلق الإرادة والكراهة بالمفقود أمر غير ظاهر ، ضرورة أن مناطات الأحكام من المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات المستتبعة للإرادة والكراهة انما تقوم بوجود الموضوعات لا بمفاهيمها ، فان المعدوم لا يتعلق به إرادة ولا كراهة. نعم يكفي في تشريع الأحكام بإنشائها لموضوعاتها المقدر وجودها بنحو القضية الحقيقية العلم باشتمال تلك الموضوعات على الملاكات.

هذا مضافا إلى أن مقتضى قياس وجود الموضوع بقيام الحجة على الحكم هو تمامية التكليف مع عدم اشتغال الذّمّة به في صورة الفقدان ، كتماميته مع عدم قيام

__________________

(١) حقائق الأصول ، ج ٢ ، ص ٣٠٠

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحجة عليه ، وعدم اشتغال الذّمّة به. لكنه لا يخلو من شيء ، فان التكليف هو الّذي يترتب على الوصول إليه إمكان الداعوية والزاجرية ، ولولاه لم يتجاوز الحكم عن مرتبة الإنشاء ، ومن المعلوم أن الدعوة إلى المعدوم والزجر عنه كالزجر عن شرب الخمر المعدوم أمر غير معقول ، وهذا بلا فرق بين الآراء في حقيقة الحكم من كونه الإرادة والكراهة المبرزتين أو البعث والزجر الاعتباريين أو الطلب الإنشائي أو إنشاء النسبة أو غير ذلك ، فان الإنشاء بداعي جعل الداعي لا يتمشى من الآمر الحكيم مع انعدام الموضوع وفقدانه.

وعليه فالحق أنه مع التلف لا مقتضي لتشريع الحكم ، إذ الموضوع لقيام الملاك به المستتبع للإرادة والكراهة مقتض له ، فيناط به الحكم إناطة المعلول بعلته ، فالتلف مانع عن تشريع الحكم بمعنى إعدام المقتضي له ، لا أنه مانع عن اشتغال الذّمّة به مع وجود المقتضي لتشريعه ، لأن الاشتغال به متأخر عن تشريعه ، فقياس وجود الموضوع بوجود الحجة على التكليف مع الفارق ، حيث ان الحجة توجب تنجز المجعول وإحراز اشتغال الذّمّة به بعد الفراغ عن تشريعه من دون دخل للحجة في تشريعه. بخلاف وجود الموضوع ، فانه دخيل في ذلك دخل العلة في المعلول. كما أن الفرق بين وجود الموضوع والاضطرار هو أن الأول كما عرفت مقتض لملاك الحكم والثاني رافع له.

وقد تحصل : أن الحق منجزية العلم الإجمالي في الاضطرار إلى المعين المتأخر عن العلم.

وأما الاضطرار إلى أحدهما المخير ، فقد عرفت التزام الشيخ الأعظم (قده) فيه بالاحتياط بالنسبة إلى غير المضطر إليه ، وهذا هو الصحيح ، فان تعلق الاضطرار

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالحرام غير محرز ، مع أن إحراز تعلقه بالحرام مما لا بد منه بمقتضى كلمة «إليه» في قوله عليه‌السلام : «رفع ما اضطروا إليه» إلّا أن هذا لا يلتئم مع مبنى التوسط في التكليف الّذي يراد به ثبوت التكليف الواقعي على تقدير ، وعدم ثبوته على تقدير آخر بتقييد إطلاقه وتخصيصه بحال دون حال. ولو كان كذلك لجرى الأصل النافي السليم عن المعارض في الطرف الآخر.

وقد نسب المحقق النائيني التوسط في التكليف إلى شيخنا الأعظم (قدهما) والعبارة التي يمكن أن يستظهر منها ذلك هي قوله : «فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلقا بالواقع على ما هو عليه ، وحاصله ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الّذي رخص الشارع في امتثاله منه وهو ترك باقي المحتملات».

إلّا أن الظاهر أن غرض الشيخ من التوسط في التكليف هنا هو التوسط في التنجز أي في التكليف المنجز ، لا التوسط في أصل التكليف ، لأنه (قده) تعرض لهذا الكلام في جواب إشكال أورده على مختاره من لزوم رعاية التكليف في باقي الأطراف في الاضطرار إلى غير المعين ، ولو كان مقصوده ما اصطلح عليه المتأخرون من التوسط في أصل التكليف لكان منافيا لما اختاره من منجزية العلم الإجمالي في الاضطرار إلى غير المعين ، لعدم كون الترخيص في المقدمة الوجودية حتى يستكشف منه عدم إرادة الحرام الواقعي ، وانما هو ترخيص في مقدمة العلم بالامتثال واكتفاء بالإطاعة الاحتمالية ، وهذا يلائم التوسط في التنجز دون التوسط في أصل التكليف.

وكيف كان ، فالقول بالتنجيز هنا مبني على الالتزام بالتوسط في التنجز ، يعني

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وصول التكليف الواقعي إلى مرتبة التنجز على تقدير وعدم وصوله إلى تلك المرتبة على تقدير آخر مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته على كلا التقديرين ، حيث ان الاضطرار لا يزاحم حرمة المتنجس واقعا ، بشهادة أنه مع العلم به تفصيلا يجب دفع الاضطرار بالمباح ، والّذي يوقعه في دفع الاضطرار بالمتنجس هو الجهل به دون الاضطرار ، ومن المعلوم عدم المزاحمة بين الجهل والحكم الواقعي ، فالجزء الأخير للعلة التامة في ارتكاب المتنجس هو الجهل الموجب للعذر في مخالفة الإلزام المجهول ، فوجوب الاجتناب عنه غير منجز ، لا أنه غير مجعول ، هذا.

وأما استدلال المصنف على مدعاه من عدم وجوب الاحتياط عن غير المضطر إليه في غير المعين مطلقا بمنافاة الترخيص التخييري للإلزام التعييني وسقوط الحرمة التعيينية بالمضادة ، فيتوجه عليه عدم التنافي بينهما ، إذ ليس الترخيص التخييري المدعى شرعيا واقعيا كما في خصال الكفارة ، ولا ظاهريا كما في التخيير بين الخبرين المتعارضين ، إذ الاضطرار الرافع للتكليف انما هو فيما إذا تعلق بعين ما تعلق به التكليف ، وهو في مفروض البحث تعلق بعنوان أحد الإناءين لا بخصوص ما هو واجد للمناط والمفسدة ، فلا ترخيص من قبل الشارع ، وانما هو بحكم العقل بعد العجز عن تمييز المتنجس المحرّم ارتكابه عن الطاهر ، لأهمية وجوب حفظ النّفس من حرمة شرب المتنجس ، ومن الواضح أن مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب الشرعي حتى يثبت لأجلها التخيير الشرعي. واللابدية التي يحكم بها العقل انما هي بمعنى معذورية المضطر في ارتكاب ما اضطر إليه إذا صادف الحرام الواقعي ، ولا ريب في عدم منافاتها للحرمة الفعلية المنجزة. ومع عدم سقوطها بالمضادة تتعين الموافقة الاحتمالية بالاحتياط بالنسبة إلى غير ما اضطر إليه ، لا الترخيص الّذي

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قد يتفق معه تفويت الغرض الملزم. هذا.

ومنه يظهر أن إشكال سيدنا الأستاذ (قده) في حقائقه على الشيخ «بأن الاضطرار إلى واحد غير معين من الأمرين اضطرار إلى كل منهما تخييرا ، ولا فرق بين الاضطرار التعييني والتخييري في رفع فعلية التكليف» (١) لا يخلو من غموض ، لأن الجزء الأخير لعلة ارتكاب النجس ليس هو الاضطرار ، بل هو الجهل كما عرفت ، فلا مجعول شرعي في المقام.

وقد يستدل أيضا على عدم التنجيز بما في حاشية بعض المدققين «من أن المعذورية في ارتكاب أحدهما ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية ، فان ضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا على الواقع» (٢). وفيه : أنه لا ينهض حجة على القائل باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية مثل الشيخ الأعظم ، وانما يجدي القائل بالعلية كما هو مبناه قدس‌سره ، فلاحظ.

بقي الكلام في صورة توسط الاضطرار بين سبب التكليف والعلم به ، كحصول الملاقاة في الساعة الأولى والاضطرار في الساعة الثانية والعلم الإجمالي في الساعة الثالثة ، ولا بأس بالتعرض لها تتميما للفائدة ، فنقول : الحق فيها عدم منجزية العلم الإجمالي ، وهو مختار سيدنا الأستاذ الشاهرودي وفاقا لشيخه المحقق النائيني (قدهما) في دورته الأخيرة وخلافا لمختاره في الدورة الأولى. أما على القول بالعلية فلعدم العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير بعد انعدام أحد الطرفين قبل حدوث

__________________

(١) حقائق الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٩٧

(٢) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٤٩

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العلم وكون الباقي مما يشك في تعلق التكليف به.

وأما على القول بالاقتضاء ، فلجريان الأصل النافي في الطرف الموجود بلا معارض له حسب الفرض. ولا ينافي هذا كون العبرة بتقدم المعلوم لا العلم المفروض تأخره ، ولذا لو لاقى شيء نجسا وبعد زمان حصل العلم بنجاسة الملاقى ترتب عليه وجوب الاجتناب عما لاقاه من زمان الملاقاة لا من زمان العلم بالنجاسة فالمناط في ترتب الحكم زمان المعلوم لا زمان العلم وذلك لما عرفت من أن العلم طريق إلى متعلقه وموضوع لحكم العقل بالتنجيز. والعلم الإجمالي اللاحق علم بالموضوع وهو إصابة النجس لأحد الإناءين ، لا علم بالتكليف الفعلي ، لانعدام أحدهما بالاضطرار ، والباقي مما يشك في تعلق التكليف به ، ومقتضى الأصل عدمه.

٧٦

الثاني (١) : أنه لما كان (*) النهي عن الشيء انما هو

______________________________________________________

(٢ ـ شرطية الابتلاء بتمام الأطراف)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان شرط من شرائط فعلية الحكم ، وهو كون المكلف به موردا لابتلاء المكلف بمعنى كونه مقدورا عاديا له ، وقد تعرض في هذا التنبيه لجهتين : إحداهما في اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف وثانيتهما في حكم الشك في الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره. وسيأتي الكلام فيهما.

وقد تعرض شيخنا الأعظم لاعتبار هذا الأمر في خصوص التكاليف التحريمية وهو أول من اعتبر هذا الشرط ـ كما في شرح المحقق الآشتياني وغيره ـ مضافا إلى الشرائط العامة الأربعة في كل تكليف. قال (قده) في ثالث تنبيهات الشبهة المحصورة ما لفظه : «وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين انما هو مع تنجز التكليف بالحرام الواقعي على كل تقدير ... وكذا ـ يعني لا يجب الاجتناب عن الآخر ـ

__________________

(*) كما أنه إذا كان فعل الشيء الّذي كان متعلقا لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد وأن لا يكون له داع إليه لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلا كما لا يخفى.

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لو كان ارتكاب الواحد المعين ممكنا عقلا ، لكن المكلف أجنبي عنه ، وغير مبتلى به بحسب حاله ...» ويظهر من المتن أيضا اختصاص شرطية الابتلاء بالتكاليف التحريمية.

وينبغي قبل توضيح المتن بيان أمر ، وهو : أنه لا ريب في اعتبار القدرة العقلية على جميع أطراف العلم الإجمالي في منجزيته واستحقاق العقوبة على مخالفته سواء كان دخلها بحكم العقل كما ينسب إلى المحقق الثاني (قده) أم باقتضاء نفس الخطاب كما عن غيره ، فلو كان فعل بعض الأطراف غير مقدور للمكلف كان التكليف فيه ساقطا لا محالة ، لقبح التكليف بغير المقدور ، وهو في سائر الأطراف مشكوك الحدوث فيجري فيها الأصل النافي بلا معارض. وهذا واضح. وانما المقصود هنا بيان أن المعتبر في توجه الخطاب إلى المكلف هو الإمكان العادي ، إذ مع عدم إمكان الابتلاء عادة بجميع الأطراف على البدل لا يصح توجيه النهي إليه ، لما سيتضح ، فدخول الأطراف في محل الابتلاء يراد منه القدرة العادية على ارتكاب أي واحد منها شاء في قبال اعتبار القدرة العقلية. لكن يستفاد من كلام الشيخ بعد ذكر بعض الأمثلة : «مع عدم استحالة ابتلاء المكلف بذلك كله عقلا ولا عادة إلّا أنه بعيد الاتفاق ...» أن الابتلاء أضيق دائرة من القدرة العادية ، فهي القدرة العرفية ، فلاحظ الرسائل.

إذا عرفت هذا فنقول في توضيح المتن : أن غرض الشارع الأقدس من النهي عن فعل انما هو احداث المانع في نفس المكلف عن ارتكاب متعلق النهي الواصل إليه ، بحيث يستند ترك المنهي عنه إلى النهي ، وهذا يتحقق في موردين :

أحدهما : أن لا يكون للمكلف داع إلى الترك أصلا ، وانما حدث الداعي له إلى الترك بزجر الشارع ونهيه.

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : أن يكون له داع إلى الترك ، ولكن تتأكد إرادة تركه للمنهي عنه بواسطة النهي ، إذ لو لا الزجر الشرعي ربما كانت وسوسة النّفس تحمل المكلف على المخالفة وتوجد فيه حبّ الارتكاب له ، إلّا أنه بعد العلم بخطاب الشارع وبما يترتب على مخالفته من استحقاق العقوبة يقوى داعيه إلى الترك ، فيجتنب عن الحرام ، أو يقصد القربة بالترك ، ولو لا نهي الشارع لما تمكن من قصد القربة ، لتوقفه على وصول الخطاب المولوي إليه.

ومن المعلوم أن داعوية النهي للترك تتوقف على إمكان تعلق إرادة العبد بكل من الفعل والترك بحيث يمكنه عادة اختيار أيهما شاء ، ومع خروج متعلق النهي ـ كالخمر ـ عن معرضية الابتلاء به لا يتمكن عادة من الارتكاب ، ومع عدم التمكن منه كذلك لا تنقدح الإرادة في نفسه ، ومع عدم انقداحها يكون نهي الشارع عن مبغوضه لغوا ، لوضوح أن ترك الحرام يستند حينئذ إلى عدم المقتضي ـ وهو الإرادة ـ لعدم وجود المتعلق حتى يتمكن من إرادة ارتكابه ، لا إلى وجود المانع وهو زجر الشارع ونهيه ، وقد تقرر أن عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع ، بل إلى عدم مقتضية ، لتقدمه الطبعي على المانع. وعليه فالنهي عن فعل متروك بنفسه ـ مثل شرب الخمر الموجود في إناء الملك مع عدم قدرته عليه عادة ـ لغو ، لعدم ترتب فائدته وهي احداث الداعي النفسانيّ إلى الترك عليه ، واللغو لا يصدر من الحكيم ، لمنافاته للحكمة ، بل يكون من طلب الحاصل المحال في نفسه.

وبهذا يظهر وجه إناطة تنجيز العلم الإجمالي بكون تمام الأطراف مورد الابتلاء ، ضرورة أنه يتوقف عليه حصول العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف موجبا لصحة توجيه الخطاب إلى المكلف ، ومع خروج بعضها عن الابتلاء لا يحصل العلم

٧٩

لأجل أن يصير داعيا للمكلف (١) نحو تركه لو لم يكن له داع آخر (٢) ، ولا يكاد يكون (٣) ذلك الا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ،

______________________________________________________

كذلك ، لاحتمال انطباق الحرام على الخارج عن الابتلاء المانع عن جريان الأصل فيه ، لعدم ترتب أثر عملي عليه ، فيجري فيما بقي من الأطراف بلا معارض.

ولا يخفى أن الملاك في اعتبار الابتلاء اما هو استهجان الخطاب عرفا بغير مورد الابتلاء كما في تعبير الشيخ الأعظم ، وقد عرفته ، واما هو اللغوية كما في المتن وتستفاد أيضا من كلام الشيخ الآتي نقله ، واما هو طلب الحاصل كما فيه أيضا.

والفرق بينها واضح ، فان استهجان الخطاب مناف للحكمة ، وفيه قبح عرفي لا يبلغ حدّ الامتناع العقلي. وأما لغوية الخطاب فهو أمر ممكن ذاتا ، لكنه مستحيل عقلا على الحكيم لمنافاته للحكمة أيضا. وأما طلب الحاصل فهو ممتنع عقلا ذاتا سواء كان من الحكيم أم من العاقل ، وليست استحالته بالوجوه والاعتبارات.

(١) هذا إشارة إلى أول الموردين المتقدمين ، يعني : أن النهي يوجب أرجحية ترك متعلقه من فعله ، لما يترتب على فعله من المؤاخذة ، فيحدث بالنهي الداعي العقلي إلى تركه ان لم يكن له داع آخر.

(٢) يعني : غير النهي ، كعدم الرغبة النفسيّة والميل الطبعي إلى المنهي عنه. وهذا إشارة إلى ثاني الموردين المتقدمين ، يعني : وان كان له داع آخر إلى الترك كان النهي مؤكّدا له ومصحّحا لنية التقريب بالترك ان أراد قربيته.

(٣) أي : ولا يكاد يكون النهي داعيا الا ... ، وهذا شروع في الجهة الأولى من الجهتين اللتين عقد لهما هذا التنبيه ، وهي بيان أصل اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف في منجزية العلم الإجمالي ، وحاصله : أن الشيء إذا كان بنفسه متروكا بحيث لا يبتلي به المكلف عادة حتى يحصل له داع إلى فعله فلا وجه للنهي عنه ، لعدم صلاحيته لإيجاد الداعي إلى الترك ، فيكون النهي لغوا ، واللغو مناف للحكمة

٨٠