منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أيضا ، حيث ان كل عمل ناش عن داعي الأمر المحتمل ، ومن المعلوم أن انبعاث العمل عن الأمر المحتمل انقياد ، وهو حسن عقلا ، فكيف ينطبق عليه عنوان اللعب الّذي هو داع شيطاني المضاد لعنوان الانقياد الّذي هو داع رحماني؟

ومنه يظهر : عدم اللعب في الجمع بين المحتملات أيضا ، بداهة أن الجمع أيضا يكون ناشئا عن داع إلهي ، وهو إطاعة أمره. ولا في تحصيل اليقين بامتثال أمر المولى ، ببيان : أن تحصيل اليقين بالامتثال ان كان بإتيان المأمور به المعلوم تفصيلا انطباقه على المأتي به فلا لعب ، وان كان بالجمع بين المحتملات وترك تعيينه ، فهو لعب في كيفية تحصيله ، وذلك لأن اللعب في اختيار كيفية تحصيل اليقين مع نشوه عن الغرض العقلائي غير متصور ، والأغراض العقلائية كثيرة :

منها : امتداد زمان اشتغاله بالانقياد للمولى الّذي هو من مظاهر العبودية.

ومنها : توقف تحصيل العلم التفصيليّ بالمأمور به على بذل مال ، أو ذل سؤال ، أو تقية ، أو غير ذلك. ويمكن أن يكون «فافهم» إشارة إلى مطالب آخر تظهر للمتأمل بالتأمل ، فتأمل.

__________________

الموجب لسقوط الأمر بالعبادة.

والحاصل : أن اللعب يصدق على فعل كل محتمل ، وهو مانع عن تحقق الامتثال به. ودفع هذه الشبهة منحصر بإنكار صدق اللعب على ما يصدق عليه الانقياد والتحرك عن تحريك المولى. كما أن الكلام في قدح نفس التكرار من حيث هو في حسن الاحتياط ، لا القدح من جهة أخرى مقارنة للتكرار أحيانا متوقفة على القصد ، فان اتصاف المحتملات باللعب منوط بقصده ، ولا يتحقق ذلك مع نشوء فعل تلك المحتملات عن أمر المولى. نعم ان كان الاتصاف بها قهريا اتجه صدق اللعب عليها ، لكنه محل التأمل.

٣٨١

بل (١) يحسن أيضا فيما قامت الحجة (٢) (*) على البراءة من

______________________________________________________

(١) معطوف على «بل يحسن على كل حال» يعني : كما أن الاحتياط يحسن في موارد عدم قيام الحجة على نفي التكليف كالشبهات البدوية الوجوبية أو التحريمية الناشئة عن فقد الدليل على التكليف ، كذلك يحسن في موارد قيام الحجة على عدم التكليف ، كنهوض أمارة معتبرة على جواز شرب التتن ، أو عدم وجوب السورة في الصلاة مع العلم بعدم مانعيتها.

(٢) أي : الحجة غير العلمية ، بقرينة قوله (قده) : «فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته» فان فرض الثبوت واحتماله انما يكون في الحجة غير العلمية. مضافا إلى : أنه لا معنى للاحتياط مع العلم بالواقع.

وبالجملة : والمقصود حسن الاحتياط في موارد قيام الأمارة غير العلمية على عدم التكليف.

__________________

(*) لا فرق في حسن الاحتياط مع الحجة على نفي التكليف بين كون الحجة النافية له أصلا عمليا كالبراءة ودليلا اجتهاديا كالأمارة ، إذ موضوع الاحتياط وهو احتمال ثبوت التكليف واقعا متحقق في كلا الفرضين.

ثم انه ان لم يلزم التكرار من العمل بالاحتياط مع الحجة النافية للتكليف فلا إشكال ، كما إذا قام الدليل على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فان الاحتياط بإتيان السورة فيها لا يتوقف على تكرار الصلاة ، بل يأتي بها مرة واحدة مع السورة وان لزم من الاحتياط تكرار العمل كما إذا قامت الحجة على وجوب صلاة الجمعة ، حيث ان الاحتياط مع رعاية هذه الحجة يتوقف على فعل الصلاة مرتين إحداهما أربع ركعات ، وثانيتهما ركعتان وخطبتان ، فهل يجب عليه تقديم ما يقتضيه الحجة أولا ثم الإتيان بخلافه لإحراز الواقع ، أم يتخير في تقديم أيهما شاء؟ قيل بالأول ، لأن في تقديمه عملا بالوظيفة ، وبعده يحتاط بفعل ما يكون على خلاف ما تقتضيه الحجة

٣٨٢

التكليف لئلا (١) يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة

______________________________________________________

(١) تعليل لحسن الاحتياط في موارد قيام الحجة على عدم التكليف ، وحاصله : أن موضوع الاحتياط وهو احتمال ثبوت الحكم واقعا مع قيام الحجة غير العلمية على عدم التكليف موجود ، لاحتمال خطائها ، كاحتمال وجود الحكم مع خلوّ الواقعة

__________________

كصلاة الظهر في المثال ، فلو قدمها على صلاة الجمعة اندراج في الامتثال الاحتمالي مع التمكن من التفصيليّ ، حيث ان معنى حجية الأمارة إلغاء احتمال الخلاف ، وعدم الاعتناء به ، والتقديم اعتناء به.

لكن فيه أولا : أن معنى إلغاء احتمال الخلاف ليس إلغاءه مطلقا بنحو يرفع حسن الاحتياط حتى لا يجوز اعتناؤه بنحو الرجاء واحتمال المطلوبية ، بل معناه إلغاؤه في قبال اعتباره بنحو الوظيفة ، كما في اعتبار ما يقتضيه الأمارة ، فاحتمال خلاف الأمارة لا يراعى بنحو الوظيفة ، وأما رعايته بنحو الرجاء وإدراك الواقع فلا بأس بها ، ولا تقتضي حجية الأمارة نفيها.

وثانيا : أن الامتثال الاحتمالي انما يكون فيما إذا كان بانيا على الاكتفاء بأحد المحتملين أو المحتملات ، وأما إذا كان بانيا على الإتيان بالجميع فلا يصدق عليه الإطاعة الاحتمالية ، بل يصدق عليه الاحتياط.

وثالثا : أن العمل بالأمارة غير العلمية إطاعة ظنية ، فلو صدق الإطاعة الظنية على تقديم العمل بمقتضى الأمارة ، فاللازم تقديم العمل بخلاف مقتضاها ، أو تقديم العمل بمقتضاها بانيا على الاحتياط ، لا على الإتيان به من باب حجية الأمارة حتى لا يلزم تقديم الامتثال الظني على الاحتياطي.

وبالجملة : فالحق عدم لزوم العمل ابتداء بمؤدى الأمارة ثم رعاية الواقع ، بل المكلف مخير في تقديم أيهما شاء. نعم الأولى الابتداء بالعمل بما تقتضيه الحجة مراعاة لشأنها ، ثم رعاية الواقع بإتيان خلاف مقتضاها.

٣٨٣

وفوت (١) المصلحة.

وأما البراءة العقلية (٢) فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس

______________________________________________________

عن الدليل على حكمها نفيا وإثباتا ، إذ ملاك حسنه عقلا وهو الانقياد في كلتا الصورتين حاصل ، بداهة احتمال ثبوت الحكم مع قيام الحجة على عدمه ، فلا مانع من الاحتياط بقراءة السورة مثلا في الصلاة مع قيام الدليل غير العلمي على عدم جزئيتها لها ، وترك شرب التتن مع نهوض أمارة معتبرة على عدم حرمته.

والحاصل : أنه يحسن الاحتياط لئلا يقع في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي على فرض ثبوته.

(١) معطوف على «المفسدة» و «من» بيان لـ «ما» وضميرا «مخالفته ، ثبوته» راجعان إلى «التكليف» يعني : لئلا يقع المكلف في المفسدة التي تكون في مخالفة التكليف على تقدير ثبوته ، هذا.

ولكن شيخنا الأعظم (قده) علّل حسن الاحتياط مع قيام الحجة على عدم التكليف بقوله : «لعموم أدلة رجحان الاحتياط ، غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط» ولعل هذا أولى من تعليل المصنف (قده) له بقوله : «لئلا يقع» لأن الاحتياط من طرق إطاعة أحكام الشارع ، وأدلة حسنه ناظرة إلى كونه حافظا للأحكام وان كان حافظا لملاكاتها أيضا ، لكن المطلوب أولا من الاحتياط هو الأول ، حيث ان اللازم علينا مراعاة الأحكام دون ملاكاتها. مع أن كفاية قصد جلب المصلحة أو دفع المفسدة في تحقق الانقياد إلى المولى لا تخلو من بحث.

(اشتراط البراءة بالفحص)

(٢) التي هي قبح العقاب بلا بيان ، فجواز إجرائها في الشبهات الحكمية دون الموضوعية التي سيأتي البحث فيها منوط بتحقق موضوعها أعني عدم البيان على

٣٨٤

عن الظفر بالحجة على التكليف ، لما مرت الإشارة إليه (١) من (٢) عدم استقلال العقل بها الا بعدهما.

______________________________________________________

الحكم ، وإحراز عدم البيان أعني الحجة منوط بالفحص ، وبدونه لا يحكم العقل بقبح المؤاخذة ، إذ لا بد في حكمه به من إحراز موضوعه ، ولا يحرز ذلك إلّا بالفحص الموجب لوصول الحجة المنصوبة من الشارع على الحكم ، أو اليأس من الوصول إليها.

وعليه فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة قبل الفحص ، سواء أكان نفس احتمال التكليف منجزا عند العقلاء ، أم كان احتمال وجود الحجة واقعا ، أم الحجة الواصلة إلى المكلف ـ لو لا تقصير المكلف بترك الفحص ـ موجبا لتوقف العقل عن الحكم بالبراءة وقبح المؤاخذة ، ففي جميع هذه التقادير عدم حكمه بالبراءة انما هو لعدم إحراز موضوعه ، وهو عدم الحجة على الحكم ، فالبراءة العقلية في الشبهات الحكمية لا يتحقق موضوعها ـ أعني عدم البيان ـ إلّا بالفحص ، فالفحص محقق لموضوعها ، لا أنه أمر آخر يقيد الموضوع ، فالتعبير عن الفحص هنا بالشرط مسامحة.

(١) مر ذلك في الدليل الرابع من أدلة البراءة.

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، وضمير «بعدهما» راجع إلى الفحص واليأس ، ووجه عدم حكم العقل بالبراءة قبل الفحص واليأس كما أشرنا إليه آنفا اما منجزية احتمال التكليف عند العقلاء ، وكونه بيانا بحيث لو لم يتفحص حسن العقاب عليه وان لم يكن في الواقع حجة ، لكفاية نفس الاحتمال في حسن المؤاخذة.

واما لكون البيان هو الحجة الواقعية ، ومع الشك في وجودها لا يحكم العقل بالبراءة حتى يحرز عدمها بالفحص ، وأثره حسن المؤاخذة مع وجود الحجة واقعا ولو مع عدم العثور عليها بالفحص.

واما لأن البيان هو الحجة التي يعثر عليها العبد بالفحص ، إذ لا تصل الأحكام

٣٨٥

وأما البراءة النقليّة (١) فقضية إطلاق أدلتها (٢) (*)

______________________________________________________

الشرعية إلى المكلفين بمجيء شخص النبي أو الولي صلوات الله عليهما إلى دورهم لتبليغ الأحكام ، بل وصولها إليهم منحصر بالفحص عنها في مظانها وهي الطوامير الضابطة لها ، أو السؤال عن الحجج الذين أمرنا بالرجوع إليهم في أخذ الحلال والحرام.

وعليه فالعقل لا يحرز موضوع حكمه إلّا بالفحص ، وقبله شاك في الموضوع ، ومن المعلوم أنه لا يحكم مع هذا الشك ، كسائر الموارد. وأثره أن ترتب العقاب عليه منوط بأمرين : أحدهما : وجود الحجة واقعا ، والآخر إمكان العثور عليها بعد الفحص.

وهذا هو الحق دون الأولين ، إذ في أولهما : أن منجزية الاحتمال انما هي لرعاية الواقع ، فهو كسائر الطرق ان أصابت أنجزت الواقع ، وان أخطأت أعذرت المكلف ، ولو كان عليه مؤاخذة فهي على التجري لا على الواقع.

وفي ثانيهما : أنه يقبح المؤاخذة بعد الفحص ، لأنها تنافي العدل ، وقبل الفحص تحسن المؤاخذة ، للتجري.

فالمتحصل : أن البراءة العقلية لا تجري في الشبهات الحكمية سواء أكانت وجوبية أم تحريمية إلّا بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به ، لأن موضوعها وهو عدم الدليل على الحكم لا يحرز إلّا بالفحص عنه الموجب للاطمئنان بعدمه.

(١) وهي المستندة إلى الأدلة الشرعية.

(٢) كأحاديث الرفع والحجب والسعة وغيرها المتقدمة في أصل البراءة ، حيث ان تلك الأدلة لم تقيد بالفحص ، فمقتضى إطلاقها عدم اعتباره في جريانها في الشبهات الحكمية ، كما هو حال البراءة النقليّة في الشبهات الموضوعية.

__________________

(*) لقائل أن يمنع إطلاق أدلتها خصوصا بعد إرادة الحجة من العلم الوارد

٣٨٦

وان كان (١) هو عدم اعتبار الفحص في جريانها ، كما هو (٢) حالها في

______________________________________________________

(١) يعني : وان كانت قضية إطلاق أدلتها عدم اعتبار ... إلخ ، والأولى أن يقال : «وان كانت هي».

(٢) أي : عدم الاعتبار ، وضمائر «حالها ، جريانها ، أدلتها» راجعة إلى البراءة النقليّة ، وظاهر كلامه عدم اشتراط جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية بالفحص ، وذلك لإطلاق حديث الرفع ، حيث ان ما دل على اعتبار الفحص فيها فانما هو بالنسبة إلى الشبهات الحكمية ، ولا مانع من بقاء إطلاقها بالنسبة إلى الموضوعية. وأما البراءة العقلية فظاهر المتن إناطتها بالفحص مطلقا سواء في الشبهات الحكمية والموضوعية ، وذلك لعدم استقلال العقل بالبراءة فيهما

__________________

في تلك الأدلة ، حيث ان المراد بالحجة كما مرّ في البراءة العقلية هو الحجة التي يمكن العثور عليها بالفحص ، فعدم البيان المأخوذ موضوعا للبراءة العقلية هو بعينه موضوع البراءة النقليّة ، فالفحص فيها محقق لموضوعها ، كالفحص في البراءة النقليّة ، فلا نحتاج إلى إتعاب النّفس في إقامة الدليل على وجوب الفحص في البراءة النقليّة ، كما لا يمكن إراحة النّفس بإجراء أصالة عدم الحجة والعمل بأدلة البراءة بدون الفحص ، حيث ان موضوعها ليس مجرد عدم الحجة واقعا حتى يحرز بالأصل ، بل عدم الحجة التي يمكن العثور عليها بالفحص على تقدير وجودها ، وهذا العدم لا يحرز بالأصل ، بل لا بد من الفحص الموجب لليأس عن الظفر به ، وللاطمئنان العقلائي والعلم العادي النظامي بالعدم.

وبالجملة : إطلاق أدلة البراءة موقوف على كون موضوعها مجرد عدم العلم بالواقع الّذي هو حاصل قبل الفحص وبعده ، فالأدلة من حيث اعتبار الفحص مطلقة. لكنه كما عرفت في حيز المنع ، فلا إطلاق لها حتى يتكلف في تقييده بالوجوه التي تشبثوا بها له.

٣٨٧

الشبهات الموضوعية ، إلّا أنه (١) استدل على اعتباره بالإجماع (٢) ،

______________________________________________________

قبل الفحص ، بل يستحق المبادر إلى الارتكاب فيها للّوم والمذمة. هذا ما أفاده من الوجه في حاشية الرسائل وسيأتي تعقيبه في التعليقة ، فلاحظ.

(١) استدراك على قوله : «وان كان هو» والضمير للشأن ، وغرضه : أن إطلاق أدلة البراءة النقليّة وان كان مقتضيا لعدم وجوب الفحص في جريانها في الشبهات الحكمية ، إلّا أنه استدل على وجوب الفحص فيها وعدم جواز الأخذ بإطلاق أدلتها بوجوه : أحدها : الإجماع ، قال الشيخ الأعظم : «الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة».

ثانيها : العقل ، بتقريب : أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف إلزامية بين موارد الشبهات بحيث لو تفحص عنها في الأدلة لظفر بها ، فلا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص عن الأدلة واليأس عن الظفر بها ، فلا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص عن الأدلة واليأس عن الظفر بها ، فالعقل بمقتضى هذا العلم الإجمالي يمنع عن إجراء البراءة قبل الفحص.

(٢) هذا هو الوجه الأول من الوجوه المحتج بها على لزوم الفحص ، وضمير «اعتباره» راجع إلى «الفحص».

__________________

هذا مضافا إلى أن الحديث الشريف بشهادة سائر الفقرات مسوق لبيان معذّرية الجهل بالواقع كمعذّرية الإكراه والاضطرار ونحوهما ، ومن المعلوم أن الجهل الناشئ من عدم الفحص عن خطاب المولى لا يعدّ عذرا عند العقلاء ، حتى ينعقد إطلاق فيه كي يتوسل إلى تقييده بما بعد الفحص ببعض الوجوه.

وإلى : أن استكشاف الإطلاق في مرحلة الإثبات يتوقف على عدم المزاحم لمطابقة الإرادتين الاستعمالية والجدية ، ولا ريب في أن الشارع الأقدس مع كثرة ترغيبه في التعلم والتفقه في الدين وحرصه على استنارة القلوب بمعالم الدين ومعارفه يستبعد منه جدا أن يرخص في التمسك بأصالة البراءة قبل الفحص عن

٣٨٨

وبالعقل (١) ، فانه لا مجال لها بدونه ، حيث (٢) يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث (٣) لو تفحص عنه لظفر به.

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «بتقريب : أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف ... إلخ» وضمير «لها» راجع إلى البراءة ، وضمير «بدونه» إلى الفحص.

(٢) هذا تقريب الاستدلال بحكم العقل ، وقد تقدم بيانه.

(٣) متعلق بـ «بثبوت» غرضه : أن اعتبار الفحص في جواز إجراء أصالة البراءة انما يكون في مورد ترتب ثمرة على الفحص ، وهي الظفر بالحكم على فرض ثبوته واقعا ، ففي هذه الصورة لا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، ويجوز بعده ، لخروج الواقعة حينئذ عن أطراف المعلوم بالإجمال. وأما إذا لم يترتب أثر على الفحص وكان وجوده كعدمه في عدم الكشف عن الواقع ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة لا قبل الفحص ولا بعده ، بل يجب الاحتياط في الواقعة ، لعدم خروجها عن أطراف العلم الإجمالي ، فقوله : «بحيث لو تفحص عنه» تنبيه على أن الفحص المسوغ للرجوع إلى البراءة انما هو فيما إذا ترتبت الثمرة المزبورة عليه ، وإلّا فلا فائدة في الفحص ، لبقاء الشك الموجب للاحتياط وعدم ارتفاعه بالفحص.

__________________

أحكامه ، لاستلزامه لنقض الغرض وسد باب تعلم الأحكام ، وعدم وجوب الاجتهاد والتقليد ، وحينئذ فإذا رخص في مخالفة الواقع أحيانا فلا بد أن يكون ذلك بعد الفحص عن أحكامه لئلا يلزم التنافي بين الأمرين. ولو لم يكن هذا قرينة مانعة عن الإطلاق فلا أقل من صلاحيته له ، وحيث كان الكلام محفوفا بما يصلح للتقييد فاستظهار الإطلاق منه مشكل جدا.

وحديث الحجب أظهر دلالة على هذا المعنى من سائر أخبار البراءة ، إذ

٣٨٩

ولا يخفى (١) أن الإجماع هاهنا (٢) غير حاصل ، ونقله لوهنه

______________________________________________________

(١) غرضه ردّ الوجهين المزبورين ، أما الإجماع ، فبأن المحصّل منه على وجه يكشف عن رأي المعصوم غير حاصل ، إذ ليس المقام من المسائل الشرعية المحضة التي لا يتطرق إليها العقل ، فلا يجوز الاتكال على الإجماع الّذي يحتمل استناد المجمعين كلهم أو جلّهم فيه إلى حكم العقل. والمنقول منه لا حجية فيه ولو مع فرض حجية المحصّل منه الّذي لا سبيل إلى تحصيله في المسائل التي للعقل إليها سبيل.

(٢) أي : في مسألة وجوب الفحص في إجراء البراءة النقليّة في الشبهات الحكمية.

__________________

لا يصح اسناد الحجب إليه تعالى مع تقصير المكلف في الفحص بالمقدار الّذي تطمئن النّفس معه بعدم الحجة على الحكم.

ولو تم الإطلاق كان نافيا لوجوب الفحص في الشبهة الموضوعية ومؤمّنا من المؤاخذة على المخالفة ، إلّا أن ينهض ما يدل على وجوبه أيضا فيها كما سيأتي.

وكيف كان فالمصنف هنا كما في الرسائل جعل إطلاق أدلة البراءة الشرعية لما قبل الفحص مفروغا عنه ، ولذا تشبث لإبداء المانع عنه ببعض الوجوه الخمسة التي ذكرها الشيخ الأعظم (قده). لكنه في حاشية الرسائل أناط جريان البراءة في كل من الشبهتين بالفحص ، وقال : «ولا إطلاق للنقل الدال على البراءة فيها ، لقوة احتمال سوقه مساق حكم العقل ، ولا ينافيه كونه في مقام المنة ، فانها بملاحظة عدم إيجاب الاحتياط ، مع أنه كان بمكان من الإمكان كما حققناه ...» (١).

وقد عرفت أن الأقرب هو ما ذكره في الحاشية لا ما في المتن.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٧١

٣٩٠

بلا طائل ، فان تحصيله (١) في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «غير حاصل» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «إذ ليس المقام من المسائل الشرعية المحضة ... إلخ» وضمائر «نقله ، لوهنه ، تحصيله» راجعة إلى الإجماع ، وقوله : «ونقله» معطوف على «الإجماع» وكان الأنسب ذكر هذا التعليل متصلا بقوله : «غير حاصل».

__________________

ثم ان الشيخ (قده) ذكر وجوها خمسة لتقييد الإطلاق بما بعد الفحص ، وهي الإجماع القطعي ، والأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم ، وما دل على مؤاخذة الجهال ، وحكم العقل بعدم معذورية الجاهل المقصر القادر على الاستعلام ، والعلم الإجمالي الحاصل لكل مكلف قبل الأخذ في استعلام المسائل.

ثم اعتمد على حكم العقل ، وقال : «فالأولى ما ذكر في الوجه الرابع من أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا ، ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب المشتبه غير مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر. مع أن في الوجه الأول وهو الإجماع القطعي كفاية».

أقول : أما الإجماع ، فيرده ما في المتن من احتمال مدركيته وان سلم تحققه.

وأما العقل فان الاستدلال به متين جدا بناء على ما قلنا من وحدة موضوعي البراءتين ، حيث ان إحراز موضوعهما وهو عدم الحجة والبيان حتى يجوز التمسك بهما منوط بالفحص ، فعدم معذورية الجاهل القادر على الاستعلام انما هو لعدم إحراز موضوع البراءة ، فإطلاق أدلة الترخيص لما قبل الفحص كما قيل غير سديد كما مر بعد وحدة موضوعي البراءتين وكون الفحص محققا للموضوع في كلتيهما.

ولو سلم الإطلاق فتقييده بحكم العقل ـ كما تقدم في عبارة الشيخ ـ لا يخلو من محذور الدور ، لوضوح أن هم العقل في أمثال المقام مما يحتمل فيه الحكم

٣٩١

صعب (١) لو لم يكن (٢) عادة بمستحيل ، لقوة (٣) احتمال أن يكون

______________________________________________________

(١) خبر «فان» ووجه صعوبة تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم ما عرفته من عدم كون المسألة من المسائل الشرعية المحضة.

(٢) يعني : لو لم يكن تحصيل الإجماع الكاشف عادة بمستحيل ، إذ لا طريق إلى استكشافه بعد قوة احتمال كون مستند المجمعين جلهم بل كلهم هو حكم العقل بتنجيز العلم الإجمالي المزبور.

وأما العقل ، فبأن الكلام هنا في الشبهة البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي ، ففرض العلم الإجمالي هنا أجنبي عما نحن فيه ، وذلك إما لانحلاله بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال بالعلم التفصيليّ اللاحق ، وإما لعدم تنجيزه ، لعدم الابتلاء ببعض الأطراف ولو لغفلة المجتهد حين الاستنباط لحكم المسألة عن موارد الشبهات التي يكون بينها علم الإجمالي بالتكليف ، إذ وجوب الفحص مختص بصورة وجود العلم الإجمالي المنجز ولا يجري في الشبهات البدوية ، فهذا الدليل أخص من المدعى.

(٣) تعليل لصعوبة تحصيل الإجماع أو استحالته ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «إذ ليس المقام من المسائل ... إلخ».

__________________

الإلزامي ليس إلّا تحصيل المؤمّن من عتاب المولى ومؤاخذته ، ومثله حكم تعليقي منوط بعدم تأمين الشارع ، ومن المعلوم أن إطلاق حديث الرفع لما قبل الفحص وترخيصه في المخالفة الاحتمالية موجب للعذر والأمن من العقوبة ، ورافع لموضوع حكمه بلزوم الفحص ، وتقييد الإطلاق منوط بما يصلح للتقييد في حد نفسه ، وإلّا لزم الدور ، لتوقف اعتبار المقيد على عدم الإطلاق ، وتوقف نفي الإطلاق على اعتبار المقيد.

ولا محيص عما ذكرناه إلّا بجعل الحكم العقلي هنا كالقرينة المتصلة الحافة

٣٩٢

المستند للجل لو لا الكل هو ما ذكر من حكم العقل (١) ، وأن (٢) الكلام

______________________________________________________

(١) الناشئ عن العلم الإجمالي المذكور.

(٢) معطوف على «أن الإجماع» وإشارة إلى الجواب عن الوجه الثاني ، وهو الدليل العقلي ، وقد عرفت توضيح الجواب بقولنا : «وأما العقل فبأن الكلام» كما عرفت جواب الوجه الأول وهو الإجماع بقولنا : «أما الإجماع فبأن المحصل منه ... إلخ».

__________________

بالكلام المانعة من انعقاد إطلاق أدلة البراءة الشرعية رأسا ، والموجبة لاختصاصها بما بعد الفحص من أول الأمر.

وقد يدعى تقييد الإطلاق للجمع بين أخبار التوقف والبراءة بما في تقرير بعض أعاظم العصر ، وحاصله : «أن النسبة بين الطائفتين وان كانت تباينية ، لدلالة إطلاق أخبار البراءة على الترخيص قبل الفحص وبعده ، وأخبار التوقف على وجوب التوقف مطلقا ، إلّا أن النسبة تنقلب إلى العموم والخصوص المطلق ، وذلك لأن مورد جملة من أخبار التوقف هي الشبهة قبل الفحص ، كقوله عليه‌السلام في المقبولة : «فأرجه حتى تلقى إمامك» الآمرة بالتفحص عن الحكم الّذي يتحقق في زمان الحضور بالتشرف لديه عليه‌السلام والسؤال منه ، وهذا المضمون يقيد إطلاق أخبار البراءة وتختص بما بعد الفحص ، وبعد هذا التخصيص تنقلب النسبة التباينية بين أخبار البراءة والتوقف إلى العموم المطلق فتختص أخبار التوقف بما قبل الفحص ، والبراءة بما بعده ، وهذا هو الحال في جميع المتعارضين ، لعدم ملاحظة النسبة بينهما في أنفسهما ، بل بعد ورود التخصيص في أحدهما أو كليهما من الخارج» (١).

ولكنه لا يخلو من شيء ، وذلك أما أولا فلأنه لا تعارض بين حديث الرفع

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩٤

٣٩٣

في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز (١) ، اما (٢) لانحلال

______________________________________________________

(١) إذ لو كان هناك علم إجمالي منجز كان أجنبيا عن الشبهات البدوية التي هي محل البحث ، واندرج في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

(٢) غرضه : أن عدم العلم الإجمالي الموجب لتنجز الحكم يستند إلى أحد وجهين ، وهما : انحلاله بالعلم التفصيليّ بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، وعدم الابتلاء إلّا بالشبهات التي لا يعلم بالتكليف بينها ، ولو كان عدم الابتلاء لأجل الغفلة وعدم الالتفات إلى تلك الشبهات ، كما إذا استنبط المجتهد حكم شرب التتن مثلا ، فانه حين استنباط حكم هذه المسألة غافل عن سائر الشبهات ، فهي لأجل الغفلة خارجة عن مورد ابتلائه من حيث الاستنباط ، ولذا لا يكون العلم الإجمالي بالتكاليف بينها منجزا.

__________________

وأخبار التوقف حتى يعامل معهما معاملة التعارض التبايني ، والتقييد مع فرض انفصال المقيد ، وذلك لحكومة إطلاق «رفع ما لا يعلمون» على الأمر بالتوقف حكومة شارحة لدليل المحكوم ، حيث ان مثل حديث الرفع يتعرض لما لا يمكن أن يتعرض له ما دل على وجوب التوقف. بيانه : أن حديث الرفع يرفع الشبهة التي هي موضوع وجوب التوقف قبل الفحص ، ويسوغ الاقتحام في المشتبه ، ضرورة أن كل دليل يثبت الحكم لموضوعه على تقدير وجوده ، ولا يدل على وجود هذا التقدير وعدمه ، والدليل الحاكم يثبت أو ينفي هذا التقدير.

وعليه فارتفاع الشبهة ولو بورود حكم ظاهري هدم لذلك التقدير ، كما صرح هو دام ظله به بقوله : «لأن أدلة الترخيص تخرجه عن عنوان المشتبه وتدرجه في معلوم الحلية» (١) ومع هذا كيف يجري على هاتين الطائفتين أحكام التعارض؟

وأما ثانيا : فبأن التقييد يتوقف على مسانخة الحكمين الواردين في دليلي المطلق والمقيد ، والمفروض في المقام أن مفاد حديث الرفع ترخيص مولوي ، والأمر

__________________

(١) المصدر ، ص ٢٩٩

٣٩٤

العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، أو لعدم (١) الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من (٢) موارد الشبهات

______________________________________________________

(١) معطوف على «لانحلال» وهو إشارة إلى ثاني وجهي عدم تنجيز العلم الإجمالي ، كما أن قوله : «اما لانحلال العلم» إشارة إلى أول وجهي عدم تنجيزه.

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، وضمير «بينها» راجع إلى «ما» الموصول باعتبار معناه وهو موارد الشبهات ، يعني : أو لعدم الابتلاء الا بموارد الشبهات التي لا يكون بينها علم بالتكليف.

__________________

بالوقوف كما بينه في موضعه إرشاد إلى عدم الوقوع في الهلكة ، فكيف يقيد به إطلاق حديث الرفع؟ وذيل موثقة سماعة «يرجئه حتى يلقى من يخبره» وان كان أمرا مولويا قابلا لتقييد إطلاق حديث الرفع ، لكنه ينافي ما بعده من قوله عليه‌السلام : «فهو في سعة حتى يلقاه» (١).

هذا لو أريد بأدلة الوقوف خصوص ما يشتمل على هذه المادة. وكذا الحال ان أريد بها ما يدل على الاحتياط مطابقة ، فانه دام ظله التزم بكون الأمر فيها للاستحباب لشمولها للشبهة الموضوعية وإبائها عن التخصيص ، إذ لا تنافي بين ما يدل على استحباب الاحتياط قبل الفحص وبين ما يدل على جوازه.

ولعل ما اختاره من الجمع هنا كان مع الغض عما التزم به في أول البراءة من حمل أوامر التوقف على الإرشاد.

ومما ذكرنا ظهر غموض ما أفاده الشيخ الأعظم في ذيل دلالة العقل على تقييد إطلاق أدلة البراءة بقوله : «والنقل الدال على البراءة في الشبهة الحكمية معارض بما تقدم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة ، كما في

__________________

(١) الوسائل ، ج : ١٨ ، ص ٧٧ ، الحديث : ٥

٣٩٥

ولو (١) لعدم الالتفات إليها.

______________________________________________________

(١) كلمة «لو» وصلية متعلقة بعدم الابتلاء ، يعني : ولو كان عدم الابتلاء لأجل عدم الالتفات إلى سائر موارد الشبهات ، وضمير «إليها» راجع إلى موارد الشبهات ، ولا يخفى أن الشيخ (قده) تعرض لهذا الدليل العقلي أيضا بقوله : «الخامس حصول العلم الإجمالي لكل أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصح التمسك بأصل البراءة ، لما تقدم من أن مجراه الشك في أصل التكليف لا في المكلف به مع العلم بالتكليف» وصريح كلامه كون المقام من الشك في المكلف به لا في التكليف ، ولذا لا تجري فيه البراءة. وقد عرفت أن بحثنا في الشبهات البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي.

__________________

صحيحة عبد الرحمن المتقدمة ، وما دل على وجوب التوقف ، بناء على الجمع بينها وبين أدلة البراءة بحملها على صورة التمكن من إزالة الشبهة» لعدم كون الأمر بالوقوف والاحتياط مولويا كما حقق في محله كي يجمع بينها وبين أخبار البراءة.

هذا كله في الشبهة الحكمية.

وأما الشبهة الموضوعية فبناء على المختار من عدم إطلاق أدلة البراءة الشرعية كالعقلية يتعين الفحص ، لفرض أن الترخيص في مخالفة الواقع موقوف على اليأس من استعلام الوظيفة بوجه من الوجوه. وهذا ما اختاره المصنف في حاشية الرسائل ، وهو متين.

إلّا أنه يمكن دعوى إجراء الأصل الشرعي في الشبهة الموضوعية قبل الفحص اعتمادا على جملة من النصوص : منها ذيل رواية مسعدة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة» بملاحظة ورودها في الشبهة الموضوعية وحصر رافع الحلية في العلم الحاصل اتفاقا وقيام البينة.

ومنها : قوله عليه‌السلام في معتبرة السكوني في السؤال عن حكم السفرة

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المطروحة : «هم في سعة حتى يعلموا» والسؤال انما هو للحاجة إلى معرفة الوظيفة الفعلية مع عدم أمارة في موردها على التذكية والحلية من سوق المسلم ويده ، وانما سأل عن حكمها لاحتمال كونها سفرة مجوسي ، فالشبهة موضوعية محضة ، وجوابه عليه‌السلام ظاهر في نفي اعتبار الفحص. ولو كان التفتيش والسؤال عن حالها معتبرا لتعرض له عليه‌السلام في الجواب خصوصا مع كون المورد مما تجري فيه أصالة عدم التذكية.

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ومثله رواية عبد الله بن سليمان عنه عليه‌السلام أيضا : «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» وظهورهما ـ خصوصا الثاني منهما ـ في عدم لزوم الفحص والسؤال عن حكم الموضوع المشتبه مما لا ينكر.

ومنها : ما ورد في عدم التفتيش والسؤال عن حال المرأة التي زوجت نفسها ، مع كون المحتمل مهما عند الشارع ، ومن موارد انقلاب الأصل فيها إلى الاحتياط ، وهو رواية عمر بن حنظلة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام اني تزوجت امرأة فسألت عنها ، فقيل فيها ، فقال : وأنت لم سألت أيضا؟ ليس عليكم التفتيش» (١) فان الجملة الأخيرة صريحة في مرجوحية السؤال والتفتيش عن حال المرأة من حيث كونها خليّة أو ذات بعل مع إمكان الفحص عن الواقع واستكشافه.

نعم ورد الاحتياط في بعض فروع النكاح ويقتصر على مورده ، ويقيد به إطلاق الروايات المتقدمة أو عمومها ، كما هو الحال في الجمع الموضوعي

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٤ ، ص ٢٢٧ ، باب ٢٥ من أبواب عقد النكاح الحديث : ١

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بين كل مطلق ومقيد.

والأدلة المتقدمة وان كان مورد أكثرها الشبهة التحريمية ، إلّا أن الأمر كذلك في الشبهة الوجوبية الموضوعية أخذا بعموم «والأشياء كلها على هذا» الوارد في رواية مسعدة لبيان الضابط الكلي لكل شبهة موضوعية ، والأمثلة المذكورة قبلها وان كانت من الشبهة التحريمية ، لكنها لا تصلح لتقييد الذيل وان أمكن تقييد صدر الرواية بها ، وقد سبق الكلام حول هذه الأمثلة في أدلة البراءة فراجع.

إلّا أنه يرفع اليد عن هذا الإطلاق فيما إذا أحرز أهمية المحتمل ، أو توقف امتثال الكبريات الشرعية غالبا على الفحص عن الموضوع ، مثل الفحص عن اشتمال المال الزكوي على النصاب ، وبلوغ المال حدّ الاستطاعة ، وما يفضل عن مئونة سنته من أرباح المكاسب ونحوها ، إذ لو قصّر في الفحص واعتمد على أصالة براءة ذمته عن تلك الأحكام المترتبة على موضوعاتها لزم إهمالها ، ولا يرضى الشارع به قطعا. ولكنها موارد خاصة تتوقف على إحراز الملازمة بين المخالفة وعدم التفتيش عن حال الموضوع ، أو أهمية الملاك الداعي لتشريع الحكم الكلي وعدم رضاه بتفويته ، ولا سبيل لدعوى التلازم المذكور في جميع الشبهات الموضوعية الوجوبية كالتحريمية حتى يجب الفحص فيها ، إذ التخلف عن الواقع قد يتفق أحيانا في مثل الخمر المحتمل مع عدم التزامهم بوجوب الفحص فيه.

والاستدلال بخبر زيد الصائغ في زكاة النقدين الآمرة بسبك الفضة المغشوشة بالصفر لأجل تعيين مقدار الفضة الخالصة ثم إخراج زكاتها أجنبي عن الشبهة البدوية التي لا علم بأصل التكليف فيها ، لظهورها في العلم إجمالا ببلوغها النصاب

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والشك في مقداره.

والمتحصل : أن المرجع في جميع الشبهات الموضوعية هو أصالة البراءة إلّا مع إحراز اهتمام الشارع بالمورد كما في الدماء والأموال والأعراض ، أو توقف الامتثال غالبا على الفحص عن الموضوع كما في مثال الاستطاعة لئلا يلزم تأخير الحج عن عامها.

نعم قد يشكل على مرجعية أصالة البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية بعدم جريانها ، للقصور في المقتضي ، فان البيان الموضوع عدمه للأصل هو بيان الحكم الكلي مثل حرمة شرب الخمر ، لا حرمة مصاديق الطبيعة الموجودة في الخارج ، فانه ليس من وظيفته حتى يرتفع بقاعدة القبح ، مع وضوح أن مدلول القاعدة نفي المؤاخذة عما يكون بيانه وظيفة المولى وهو الحكم الكلي ، وحينئذ لا مؤمّن على ارتكاب الموضوع المشتبه على تقدير كونه فردا للحرام.

وهذا الإشكال قد اعتمد عليه بعض المحققين (قده) في رسالة اللباس المشكوك.

ولكنك خبير بأن وظيفة الشارع في مقام التشريع وان لم تكن بيان أحكام المصاديق الخارجية ، إذ عليه بيان الكبريات ، لكن الأحكام الشرعية حيث كانت من القضايا الحقيقية فلا محالة يتعلق بكل واحد من أفراد الطبيعة المحرمة حكم مستقل عن أحكام سائر الافراد وله إطاعة ومعصية تخصه. ومن المعلوم أن تنجز كل حكم يتوقف على وصوله وإحراز موضوعه ، إذ مع الشك في الموضوع يشك في توجه التكليف المتعلق به أيضا ، وبيان الحكم الجزئي وان كان خارجا عن عهدة الشارع ، لكن المصحح للعقوبة هو التنجز المتقوم بإحراز كل من الحكم وموضوعه ، وليس العلم بحرمة طبيعة الخمر شرعا مع فرض الانحلال ، وكون

٣٩٩

فالأولى (١) (*) الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (٢) والأخبار على وجوب التفقه والتعلم (٣) والمؤاخذة (٤) على ترك

______________________________________________________

(١) هذا ثالث الوجوه التي استدل بها على وجوب الفحص.

(٢) كقوله تعالى : «ولو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين» الآية وغيرها.

(٣) كالنبوي «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا ان الله يحب بغاة العلم» وقوله عليه‌السلام : «أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال» الحديث وغيرهما ، وقد جعل الشيخ الآيات والروايات المشار إليها ثاني الوجوه الخمسة الدالة على وجوب الفحص.

(٤) معطوف على «وجوب التفقه» هذا ثالث تلك الوجوه الخمسة في الرسائل ، وتقريب الاستدلال بما دل على وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه : أنه لو كان إجراء البراءة قبل الفحص جائزا وكانت المؤاخذة على خصوص الواجبات والمحرمات المعلومة لم يكن وجه لوجوب التعلم واستحقاق المؤاخذة على تركه ،

__________________

نفيها من السلب المحصل منجزا لحرمة كلي الخمر بالنسبة إلى هذا المائع المشكوك فيه ، إذ لا أثر لحرمة الطبيعة بالنسبة لما شك في فرديته لها ، بل لا بد في ترتبه من إحراز فردية شيء لها بعلم أو علمي أو أصل محرز. نعم بناء على كون المجعول الشرعي على نحو القضية المعدولة يتجه الإشكال ، لكنه مجرد فرض ، وقد تعرضنا لهذا المطلب تبعا للماتن في ثاني تنبيهات البراءة ، فلاحظ.

(*) قد عرفت في التعليقة السابقة كفاية حكم العقل بلزوم الفحص في البراءة النقليّة كلزومه في البراءة العقلية بعد وضوح كون الموضوع في كلتا البراءتين واحدا وهو عدم الحجة ، فلا بد من إحراز هذا العدم في جريانهما ، ولا يحرز ذلك إلّا بالفحص.

٤٠٠