منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الغرض الداعي إلى الأمر ، إذ مع عليته التامة لسقوطه لا معنى لتبديل الامتثال ، لانتفاء موضوعه وهو الأمر كما هو واضح.

ومن المعلوم انتفاء كلا الشرطين هنا. أما الأول فلعدم الأمر بصلاة التمام كما هو المفروض حتى يصدق الامتثال على فعلها ويجوز تبديله بامتثال آخر وهو الإتيان بالقصر ، بل التمام غير واجب مسقط لواجب. وأما الثاني فلأن وفاء غير الواجب أعني التمام بمعظم مصلحة الواجب وهو القصر أوجب سقوط أمره ، لتبعية الأمر حدوثا وبقاء لملاكه.

وبالجملة : فإشكال المحقق المتقدم (قده) على المصنف غير وارد ، لما عرفت من أجنبية مسألة تبديل الامتثال عما نحن فيه. نعم لهذا الإشكال مجال بناء على تعلق الأمر بالتمام بأحد الوجوه الآتية لو لم يكن امتثاله علة تامة لسقوط الغرض ، لكن في أصل جواز تبديل الامتثال كلام تعرضنا لشرط منه في مبحث الاجزاء ، هذا.

وأما ما استبعده في آخر كلامه من الالتزام بعدم استحباب إعادة إتمام هنا جماعة فيعلم منه كون التمام مقتضيا لحصول الغرض لا علة تامة له ، ففيه : أن استحباب الإعادة جماعة انما هو لمن صلى الفريضة فرادى ، والمفروض عدم كون التمام فريضة ، ولا إطلاق في نصوص الجماعة حتى يشمل الفريضة ومسقطها ، فالقول بعدم مشروعية إعادتها تماما حتى جماعة قوي جدا. ولا وجه للاستيحاش من ذلك.

وبالجملة : فلا وجه للقول باستحباب الإعادة ولو جماعة ، لإطلاق «لا يعيد» الشامل لنفي الإعادة مطلقا تماما وقصرا وفرادى وجماعة ، والظاهر في مرجوحية الإعادة لو لم نقل بظهوره في نفي المشروعية. فاستبعاد المحقق المذكور لعدم

٤٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

استحباب إعادة التمام جماعة في غاية الغرابة ، بل ينبغي أن يعد استحباب إعادته مستبعدا جدا.

والحاصل : أن المقام أجنبي عن باب تبديل الامتثال ، لما عرفت من اعتبار أمرين فيه كلاهما مفقود هنا. أما الأول فلأن التمام علة تامة لسقوط الغرض ، وليس مقتضيا له ، والمقدار الزائد منه القائم بالقصر الفائت بفعل التمام ليس قابلا للتدارك بالإعادة على ما هو قضية قوله عليه‌السلام : «لا يعيد».

وأما الثاني ، فلأن المفروض كون التمام مسقطا ، لا واجبا متعلقا للأمر حتى يعد فعله امتثالا ، والإتيان به ثانيا تبديلا للامتثال.

فالنتيجة : أنه لا مجال لقياس المقام بمسألة جواز تبديل الامتثال ، لما عرفت من أجنبيته عنها.

الثالث والرابع : ما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من قول المقرر : «وفيه أولا : أن التضاد انما هو بين الأفعال ، وأما التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال فهو أمر موهوم يكاد يلحق بأنياب الأغوال. وثانيا : أن المصلحتين ان كانتا ارتباطيتين فلا وجه للحكم بصحة المأتي به مع فرض عدم حصول المصلحة الأخرى. وان كانتا استقلاليتين لزم تعدد الواجب وتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا ، وهو خلاف الضرورة» (١).

أما الإشكال الأول فلم يتضح لنا مقصوده (مد ظله) منه ، إذ الملاكات بناء على مبنى مشهور العدلية من كونها في المتعلقات هي من خواص الأفعال والآثار الوضعيّة لها ، وكما يمكن وقوع التضاد في الأمور الخارجية ذوات الآثار ، كذلك

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٥٠٧ ، الدراسات ، ج ٣ ، ص ٣١٥

٤٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يمكن في الأحكام الشرعية ، ويكفي شاهدا عليه في الخارجيات ملاحظة بعض المعاجين التي يصفها الأطباء للمرضى ، فربّ معجون واجد لصفة كذائية يوجب استئصال مادة المرض كلية ، ومعجون آخر يرفع المرض إلى مرتبة ، وكل منهما لترتب الفائدة عليه واجدا للمصلحة قطعا ، ولكن باستعمال الثاني يسقط مزاج المريض عن الاستعداد والصلاحية لاستعمال المعجون القائم به الملاك الأتم.

وهذا بعينه جار في الأحكام الشرعية ، والكاشف عن تضاد الملاكات هو الخطابات ، ونصوص الباب تشهد به ، إذ قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد» مع فرض بقاء الوقت وإمكان الإتيان بالوظيفة الأوّلية يدل على عدم المصلحة فيه ، وأنها قد استوفيت ولو بمعظمها لا بتمامها ، فلا بد أن يكون عدم الإعادة مستندا إلى سقوط الأمر ، لتبعيته ثبوتا وسقوطا لملاكه ، والمفروض وقوع أحد الفعلين القائم به أحد الملاكين دون الفعل الآخر القائم به الملاك الآخر الّذي فات باستيفاء ذاك الملاك ، ويجري هذا الكلام في تمام موارد اجزاء غير المأمور به عن المأمور به.

والحاصل : أن التزاحم والتضاد بين الملاكات أمر واقع فضلا عن كونه ممكنا وليس من الأمور المستبعدة كأنياب الأغوال.

وأما الإشكال الثاني ، فهو انما يرد على من يدعي الارتباطية بين مصلحة صفة الجهر في القراءة وبين مصلحة ذات القراءة ، أو من يلتزم باستقلال الملاكين ، لكن يتعدد الخطاب بكل منهما ولو بالترتب. وأما المصنف (قده) فقد عرفت في توضيح كلامه أنه لا يقول إلّا بوجوب الصلاة الجهرية مثلا ، والإخفاتية غير واجبة وانما هي مسقطة لما هو الواجب ، ومزاحمة لملاك الصلاة الجهرية ومانعية عن استئفاء الغرض القائم بها.

٤٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وقد تحصل : أن ما اختاره المصنف لحل الإشكال سليم عما أورده عليه المحققان الميرزا النائيني والأصفهاني (قدهما) وتلميذهما المحقق (مد ظله) ، ولا محذور في الالتزام به ثبوتا ، وانما الكلام في الدلالة عليه إثباتا ، إذ قد يقال : بأن جملة «لا شيء عليه» الواردة في الفصيحة وكذا «تمت صلاته ولا يعيد» قد وردتا في روايات نسيان بعض الأجزاء كالقراءة ، مثل ما في رواية منصور بن حازم «قد تمت صلاتك إذا كان نسيانا» ونحوها مما ورد في عدم الإعادة في نسيان غير الخمسة ، فانه لم يلتزم في مثلها بعدم كون المأتي به مأمورا به ، بل الوظيفة الفعلية هي الفرد الناقص الفاقد للمنسي الّذي خرج بالنسيان عن الجزئية ، والمفروض أن أخبار المقام قد اشتملت على نفس المضامين الواردة في نسيان بعض الأجزاء ، فاستظهار المسقطية هنا مشكل كما أفاده الشيخ في رد الوجه الثاني ، هذا.

لكن الظاهر أن النقض بأخبار النسيان غير تام ، إذ مثل «لا شيء عليه» ونحوه لا يدل إلّا على عدم وجوب الإعادة ، والاجتزاء بما أتى به ، وأما أنه مأمور به أو مسقط فلا دلالة له على شيء منهما ، وانما استفيد كون الناقص مأمورا به من حديث «لا تعاد» الدال على إطلاق دخل ما في عقد المستثنى من الأجزاء والشرائط ، وتقيد دخل ما في عقد المستثنى منه منهما بحال الذّكر.

وأما في المقام فاستظهار المسقطية انما هو بمعونة تسليمهم لاستحقاق العقوبة الدال على أن المأتي به غير مأمور به ، وأن الحكم بعدم الإعادة انما هو لأجل فوت المصلحة بإتيان الأخرى كما تقدم مفصلا ، وعليه فالمدلول عليه بـ «لا شيء عليه» هو المسقطية لا غير.

وقد ذكروا لحل الإشكال وجوها أخرى :

٤٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأول : ما في رسائل شيخنا الأعظم من قوله : «أما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك .. إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم ... وإما بمعنى معذوريته فيه بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا بخلاف الحكم الواقعي .... وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلم ، فلا يجب عليه القصر لغفلته ... وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلّا أن الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة ، لقبح خطاب العاجز وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الأمر بالإتمام».

ثم رده بقوله : «لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور ، حيث ان الظاهر منهم كما تقدم بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل ، ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان».

والظاهر أن الإيراد على الوجه المذكور متجه ، ولذا يستحق العقوبة بتفويت المصلحة القائمة بما وجب عليه واقعا ، وأنه لا بد من كون المأتي به مسقطا بلا تعلق أمر به. إلّا أن استشهاده بحكم المشهور ببطلان صلاة الجاهل بحرمة الغصب لا يخلو من تأمل ، إذ الحكم بالبطلان لا يساوق وجود النهي الواقعي ، لاحتمال استناد بعضهم إلى الملاك وكفاية المبغوضية الواقعية في البطلان كما صرح به في بعض الكلمات من امتناع التقرب بما هو مبغوض للشارع ، أو اعتبار الإباحة الواقعية في مكان المصلي ، ومع تطرق الاحتمال يمتنع استكشاف وجود النهي الواقعي غير المنجز من الحكم بالبطلان ، هذا.

مضافا إلى : أن ما أفاده الشيخ على تقدير تسليمه مما تقتضيه القاعدة التي

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يمكن رفع اليد عنها بدليل خاص ، والمفروض وجود الفارق بين المقامين ، وهو قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته» الظاهر في تعلق الأمر بالمأتي به وصحته ، ولا دليل على البطلان في مسألة الجهل بحرمة الغصب ، ولذا تندرج في مسألة الاجتماع كما فصل في محله. وطريق حل الإشكال منحصر في ما أفاده في الوجه الثاني الّذي نقحه الماتن ، وقد تقدم.

الثاني : ما أفاده الشيخ الفقيه كاشف الغطاء (قده) من تعلق الأمر الترتبي بالمأتي به ، وأشار إليه الماتن وتقدم كلامه في التوضيح ، ومحصله : أن الجهر في الصلوات الجهرية واجب مطلقا ، والإخفات فيها واجب على تقدير العزم على عصيان خطاب الجهر. وكذا الحال في وجوب الإخفات في الصلوات الإخفاتية. وبه يجمع بين استحقاق العقوبة على تفويت الواجب الأهم بتركه للتعلم ، وصحة المأتي به لصيرورته مأمورا به بالأمر الترتبي. هذا.

وقد أورد عليه بوجوه بعضها يرجع إلى منع الكبرى ، وأكثرها إلى منع الصغرى أما الإشكال الكبروي فهو ما أفاده شيخنا الأعظم من عدم تعقل الترتب في المقامين مما يكون الأمر بأحدهما في عرض الآخر ، وانما يجري ذلك في الأبدال الطولية الاضطرارية. وهذا هو الإشكال العام على تصوير الخطاب الترتبي بين الواجبين المتزاحمين ، لاستلزامه اجتماع أمرين فعليين بالضدين موجبين لطلب الجمع بينهما ، وهو غير معقول. وقد اعتمد عليه المصنف هنا وفي حاشية الرسائل ، ومن المعلوم أن القائل الترتب في فسحة من هذا الإشكال ، وقد تعرضنا في بحث الترتب لجل الإشكالات الواردة عليه مع دفعها.

وأما الإشكال على صغروية المقام المسألة الترتب فمن وجوه :

٤٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أولها : ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) من «أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان خطاب الأهم ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي ، فانه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم ، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ، ولا تصح منه الصلاة التامة ، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب» (١).

وحاصله : أنه يلغو تشريع الأمر الترتبي بمثل قوله عليه‌السلام : «يجب عليك الإخفات في النهارية وان عصيت وجب عليك الجهر» وذلك لأنه ان التفت إلى عصيانه بالجهر بالقراءة فقد صار عالما بوجوب الإخفات عليه ويرتفع ملاك وجوب الجهر حينئذ ، وان لم يلتفت إلى هذا الخطاب الترتبي فلا فائدة فيه ، لعدم تأثيره في إرادة المكلف.

وقد أجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس بأن خطاب المهم ان كان مترتبا على عصيان خطاب الأهم فهو كما ذكره ، وأما ان كان مترتبا على مجرد ترك الأهم لا عصيانه ولا إرادة عصيانه فلا يلزم هذا المحذور ، وعليه فلا بأس بالترتب في المقام ، هذا.

لكن الظاهر متانة كلام الميرزا (قده) حتى لو قلنا بترتب خطاب المهم على مجرد ترك الأهم لا عصيانه ، وذلك لأن الالتفات إلى موضوع الحكم مما لا بد منه في داعوية الأمر ، إذ مع عدم إحراز الموضوع لا يحرز حكمه حتى ينبعث عنه العبد ، ومن المعلوم أنه بمجرد خطاب الشارع له بقوله : «أيها التارك للإخفات أجهر» يصير عالما بوظيفته الأولية ، ومن الواضح عدم صحة الجهر منه حينئذ ، لأنه بالالتفات

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٠٢

٤٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى موضوع وجوب الجهر يرتفع حكمه. وعليه فإشكال الميرزا على مقالة كاشف الغطاء لا يندفع بما أفاده سيدنا الأستاذ كما تقدم في بحث الترتب.

لكن عبارته المنقولة في التوضيح ـ بعد التأمل فيها ـ تدفع هذا الإشكال ، وذلك لأن المناط في امتناع طلب الضدين ، هو استحالة اجتماعهما في الزمان على ما يظهر من بعض الكلمات ، فيكفي في صحة الأمر بالضد مجرد عدم الإتيان بالضد الآخر ، سواء كان تركه بالعصيان أم بالعزم عليه أم بغيرهما ، والعصيان يتوقف على ترك الطبيعة في تمام الوقت المضروب لها ، ولكن العزم عليه يحصل من أول الوقت عزما مستمرا إلى آخره ، وشرط الخطاب المترتب بنظر كاشف الغطاء هو العزم على ترك المأمور به الأولي وان حصل في أول الوقت ، فبمجرد عزمه على المعصية يتوجه إلى المكلف أمر ترتبي.

نعم استحقاق العقوبة على العصيان منوط بترك الامتثال بين الحدّين ، وهو كالشرط المتأخر لموضوعية العزم على الترك العصياني من أول الوقت للخطاب المترتب ، وعليه فالجاهل المقصر الّذي تنجز عليه وجوب الإخفات بمجرد زوال الشمس وعزم على ترك التعلم إلى آخر الوقت يصير موضوعا للخطاب الترتبي : «أخفت وان عزمت على العصيان فأجهر» ومع تمشي قصد القربة منه لاحتماله وجوب الإخفات عليه تصح صلاته. وعليه فإشكال الميرزا غير وارد على كاشف الغطاء.

ثانيها : ما أورده عليه بعض المدققين في حاشيته على المتن في مثال القصر والإتمام بقوله : «وأما الأمر بالإتمام بنحو الترتب على معصية الأمر بالقصر بناء على معقولية الترتب في نفسه كما اخترناه في محله فهو غير صحيح أيضا ، إذ العصيان المنوط به الأمر بالإتمام إما بترك القصر في تمام الوقت أو بامتناع تحصيل الغرض

٤٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

منه ، والمفروض بقاء الوقت ، كما أن المفروض عدم امتناع الملاك إلّا بوجود الإتمام بالتمام حتى يترتب عليه المصلحة التي لا يبقى معها مجال لاستيفاء بقية المصلحة المترتبة على فعل القصر ، فلا أمر بالإتمام مقارنا لفعله المقارن لعصيان الأمر بالقصر بأحد الوجهين.» (١).

وبيانه : أن الخطاب الترتبي بالإتمام في موضع القصر منوط بعصيان الأمر بالقصر أو بالامتناع من تحصيل الغرض القائم به ، أما العصيان فلم يتحقق ما دام الوقت باقيا مع قدرة المكلف على إعادة الصلاة قصرا ، وأما امتناع تحصيل الغرض من صلاة القصر فيتوقف على الإتيان بصلاة التمام والفراغ منها ، لأنه ظرف العجز عن استيفاء ملاك القصر ، إذ قبل الاشتغال بصلاة التمام يكون قادرا على استيفاء مصلحة القصر ، ولا مجال معه للأمر بالتمام ، وانما يمكن فرض الأمر به إذا فرغ من الصلاة التامة حيث لا قدرة له شرعا على صلاة القصر ، ومن المعلوم أنه بعد الإتيان بالتمام لا معنى لأن يقال له : «قصّر وان عصيت فتمم» لأنه قد أتم.

والحاصل : أن شرط الأمر بالتمام ان كان هو معصية الأمر بالقصر ، فلا معصية مع بقاء الوقت. وان كان امتناع استيفاء الغرض من القصر فيتعذر الأمر ، لأن ظرف العجز عن تحصيل ملاك القصر هو بعد إتيان التمام ، فالأمر بالتمام أمر بما هو موجود ، لا بعث لما ليس بموجود ، فلا معنى للأمر الترتبي.

وهذا الإشكال مع دقته في نفسه لا يرد على كاشف الغطاء إذ له أن يختار الشق الأول ويقول : ان موضوع الأمر الترتبي عصيان المأمور به الأولي المطلق ، لا امتناع استيفاء الغرض ، ولكن الموضوع هو العزم على المعصية كما صرح به

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٥

٤٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كاشف الغطاء لا نفس المعصية المنوطة بترك الطبيعة في جميع الوقت ، فبمجرد العزم ولو في ابتداء الوقت الموسع يتوجه الخطاب الترتبي إلى المكلف على ما عرفت في جواب الميرزا (قده).

ثالثها : ما عن المحقق النائيني أيضا من أجنبية المقام عن بحث الترتب ، بتقريب : أنه يعتبر في الترتب عند القائل به أن لا يكون ترك أحد الضدين مساوقا لوجود الضد الآخر ، بل لا بد من فرضه في الضدين اللذين لهما ثالث كالإزالة والصلاة ، لا مثل الحركة والسكون ، فان عصيان الأمر بأحدهما مساوق لوجود الضد الآخر ، فتوجيه الخطاب الّذي يكون باعثا ومحركا بالإمكان للمكلف لغو ، لأنه خطاب بما هو ضروري الوجود وخارج عن قدرة المكلف ، وحيث ان الواجب هو الإخفات في القراءة فبمجرد تركه يتحقق الجهر فيها ، ولا معنى لقول الأمر : «أخفت في القراءة وان عزمت على عصياني فأجهر فيها».

والمناقشة فيه «بأن المأمور به ان كان هو الجهر أو الإخفات في القراءة توجه إشكال لغوية جعل الخطاب الترتبي. وان كان هو القراءة الجهرية والإخفاتية والصلاة قصرا أو إتماما صح الترتب ، وذلك لوجود الضد الثالث بترك الصلاة أو بترك القراءة فيها ، فليس المقام نظير الأمر بالحركة والسكون في امتناع الجعل من المولى الحكيم» غير ظاهرة ، إذ المرجع في تعيين أحد الاحتمالين المذكورين هو نصوص الباب ، ومن المعلوم دلالتها على عدم الضد الثالث ، إذ المخاطب بالجهر والإخفات في القراءة هو خصوص المصلي لا مطلق المكلف أو المصلي التارك للقراءة ، لاحظ مثل «الصلوات التي يجهر فيها انما هي في أوقات مظلمة

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فوجب أن يجهر فيها» (١) الدال على أن متعلق الوجوب الضمني هو الجهر فيها لا وجوب القراءة والجهر بنحو الاستقلال كما في وجوب كل من التسبيحة والطمأنينة في الركوع. وكذا في صحيح زرارة المتقدم «رجل أجهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه» الدال على أن الوظيفة هي الإجهار بالقراءة لا القراءة الجهرية ، حتى يمكن فرض الضد الثالث بترك القراءة رأسا ، لما عرفت من أن الجهر والإخفات وصفان لقراءة المصلي ، وهي لا تخلو منهما ، فلا يتصور لقراءة المصلي ضد ثالث ، بداهة أنها اما جهرية واما إخفاتية كما هو واضح.

وكذا الحال في روايات القصر والإتمام ، حيث ان الموضوع ليس هو الصلاة تماما أو قصرا ، بل هو إتمام الصلاة أو تقصيرها كقوله عليه‌السلام في معتبرة زرارة : «من قدم التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة ، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير» (٢) وقوله عليه‌السلام في معتبرة معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة ، قال : بريد ذاهبا وبريد جائيا» (٣) ونحوهما غيرهما ، وظهورها في أن متعلق الحكم هو القصر والإتمام في الصلاة لا الصلاة قصرا أو إتماما حتى يدعى الضد الثالث بترك الصلاة رأسا مما لا ينكر.

رابعها : ما في تقرير بعض أعاظم العصر (٤) «من أن لازم تعلق الأمر الترتبي

__________________

(١) الوسائل ج ٤ ، ص ٧٦٣ باب ٢٥ من أبواب القراءة الحديث : ١ وغيره من روايات الباب وباب ٢٢ و ٢٦

(٢) الوسائل ج ٥ ، ص ٥٢٦ الحديث : ١

(٣) المصدر ، ص ٤٩٤ الباب ٢ ، الحديث : ٢

(٤) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٥٠٨

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالمقام هو الالتزام بمحذور تعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا ، لأنه ترك واجبين كما في سائر موارد ترك الواجبين المتزاحمين كالصلاة والإزالة ، ولكنه باطل لقيام الضرورة والإجماع على استحقاق مؤاخذة واحدة على عصيان خطاب الأهم ، فكبرى الأمر الترتبي لا تنطبق على المقام».

لكنه لا يخلو من غموض ، إذ محذور تعدد العقاب انما يتجه في مثل ترك الإزالة والصلاة مما كان لكل من الواجبين ملاك أجنبي عن ملاك الآخر ، فانه لتفويته غرضين ملزمين يستحق مؤاخذتين ، ولا بد من التخلص عنه بما قرر في بحث الترتب.

وأما في المقام فلم يلزم تفويت مصلحتين مستقلتين حتى يتعدد العقوبة كما قد يقال في استحقاقهما على ترك الصلاة المفروضة المنذور إتيانها في المسجد مثلا ، لأنه فوّت مصلحة الصلاة والوفاء بالنذر ، وانما الفائت هو الملاك الأتم القائم بالصلاة الإخفاتية مثلا ، والعقاب على عصيانه لا على ترك الأمر بالجهر ، فان مصلحته ليست أجنبية عن مصلحة الإخفات ، بل هي مرتبة منه ومندكّة فيه. وعليه فلا وجه لدعوى تعدد العقاب عند كون الغرض القائم بالمترتب بالنسبة إلى ما يقوم بالمترتب عليه من مقولة التشكيك ومندرجين تحت حقيقة واحدة هي مثل معراج المؤمن.

خامسها : ما في التقرير المذكور أيضا من «أن ذلك مناف للروايات الكثيرة الدالة على أن الواجب على المكلف في كل يوم وليلة خمس صلوات ، إذ يلزم على القول بالترتب كون الواجب على من أتم صلاته وهو مسافر ثمان صلوات ، وكذا على من أجهر في صلاته موضع الإخفات وبالعكس».

وهذا كسابقه لا يخلو من شيء ، فان دلالة الروايات الكثيرة على وجوب

٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

خمس صلوات في اليوم والليلة فقط وان كانت مسلمة كما يظهر من مراجعة ما ورد في أعداد الفرائض وغيرها ، إلّا أنها مسوقة لبيان ما شرعه الله تعالى أولا على كل مكلف ، وليست ناظرة إلى حصر الفرائض في العدد المذكور حتى مع طروء بعض الحالات والعناوين كي تكون منافية لوجوب الإتمام في موضع القصر ، والإخفات في موضع الجهر وبالعكس. ولو سلم إطلاق هذه الروايات لفظيا أو مقاميا حتى بالنسبة إلى هذا العنوان ، فالتنافي المزبور وان كان ثابتا ، إلّا أن شأنه شأن كل تناف آخر بين المطلق ومقيدة ، إذ للقائل بالترتب دعوى انحصار تصحيح المأتي به بتعلق الأمر الترتبي به ، فلا بد أن يكون قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد» بضميمة توقف عبادية العمل على الأمر حتى يقصده المكلف دالا على هذا الخطاب الترتبي ، ويكون الحاصل : وجوب خمس صلوات إلّا بالنسبة إلى الجاهل المقصر في الموارد الثلاثة ، فان الواجب عليه أزيد ، وهو المأمور به الأولي وعدله. وليس هذا التقييد خلافا لضرورة أو دليل قطعي حتى يمنع منه.

هذا تمام الكلام حول ما أفاده الشيخ الكبير لإثبات تعلق الأمر الترتبي بالمأتي به ، وقد عرفت أن عمدة الإشكال عليه هي لغوية الخطاب ، وإلّا فسائر الإيرادات قابلة للدفع.

الثالث من وجوه حل الإشكال ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) في المصباح والحاشية (١) ، واختاره شيخنا المحقق العراقي أيضا ، من تعلق الأمر بهما بنحو تعدد المطلوب ، ومحصل تقريبه : أن طبيعي الصلاة مشتمل على مرتبة من المصلحة اللزومية ، ويكون لخصوصية القصرية مصلحة ملزمة زائدة على مصلحة الطبيعي ،

__________________

(١) مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة ، ص ٣١٧ ، حاشية الرسائل ص ١٢٦ ، نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٤٨٤

٤٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

واجتماع كلتا المصلحتين في هذا الفرد أوجب تأكد طلبه ، لا اجتماع أمرين فيه ، بل ينبعث من المصلحتين فيها إرادة أكيدة وينبعث منها إيجاب أكيد ، فإذا أتى المكلف بالطبيعة في ضمن فرد آخر فقد أحرز المصلحة المقتضية لتعلق الطلب بصرف الطبيعة ، لوفاء المأتي به بمصلحة الجامع المتحقق في ضمنه وان فاتت به المصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية القصرية ، للمضادة بين المصلحتين ولو من جهة حدّيهما القائمين بالخصوصيات المفردة للطبيعة.

وبه يجمع بين صحة المأتي به واستحقاق العقوبة على ترك الواجب ، أما صحته فلمطلوبيته بما أنه فرد للجامع الّذي تعلق الأمر به ، وأما الاستحقاق فلتفويت المصلحة الملزمة الزائدة القائمة بخصوصية القصر.

ومثّل له الفقيه الهمداني بما لو اقتضى الإفطار في شهر رمضان وجوب عتق رقبة من حيث هي ، ولكن كان في عتق المؤمنة مزية مقتضية لأرجحية عتقها من عتق غيرها كفارة عن الإفطار ، فهذه المزية قد لا تنتهي إلى مرتبة اللازم وقد تنتهي إليها ، فإذا أعتق المكلف رقبة غير مؤمنة فقد أتى بما اقتضته كفارة الإفطار ، ولكن فوّت على نفسه المزية التي وجب عليه رعايتها مهما أمكن ، فيستحق المؤاخذة عليه ، ولا يمكنه تداركها بعد ارتفاع الطلب المتعلق بنفس الطبيعة ولو مع بقاء وقتها.

وتوهم اقتضاء البيان المتقدم للاجتزاء بالفاقد حتى للعالم بوجوب خصوص القصر ، مندفع بأنه كذلك لو لا اختصاص فردية الفاقد بحال الجهل بالأمر بالخصوصية ، وإلّا فينحصر الفرد في حال العلم بخصوص الواجد ، ولا يعقل تحقق المصلحة ولو بمرتبة منها في الفاقد ، هذا.

٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني (قده) بما لفظه : «أن الإرادة المنبعثة عن المصلحتين في القصر وان كانت واحدة ، والإيجاب المنبعث عنها كذلك ، إلّا أن الطبيعي المنطبق على الإتمام لا بد من أن يكون مأمورا به بأمر آخر ، بداهة أن وجوب الحصة المتخصصة بالقصر غير الحصة المتخصصة بالإتمام ، فلا تسري المطلوبية والبعث منها إليها. ومن الواضح أيضا أن الأمر بالإتمام ليس أمرا بها بما هي إتمام ، إذ لا خصوصية لحدها كحد القصر ، بل الأمر إليها من حيث الأمر بطبيعي الصلاة المنطبقة على الإتمام وعلى القصر ، فيلزم سريان الأمر إلى القصر أيضا كالإتمام ، فيلزم توجه بعثين نحو القصر أحدهما بجامعها والآخر بما هي خاص ، ولا يعقل مع تعدد البعث حقيقة تأكده ، إذ لا اشتداد في الاعتباريات. بل فرض إرادة أخرى مغايرة لإرادة الحصة المتغايرة مع الجامع توجب عدم تأكد الإرادة ، إذ الإرادة بعد الإرادة لا توجب التأكد ، بل توجب اجتماع المثلين كما لا يخفى.

هذا إذا كان الأمر بالجامع والأمر بالقصر بنحو التعيين. وأما بنحو التخيير فغير معقول في نفسه ، لأن التخيير بين الكلي وفرده غير معقول ، لأول الأمر إلى التخيير بين الشيء ونفسه» (١).

ومحصله : أن وجوب كل من الجامع والخصوصية إما أن يكون بنحو الوجوب التعييني أو التخييري ، ولا يخلو شيء منهما عن محذور ، أما الأول ـ كما هو ظاهر كلام القائل بتعدد المطلوب ـ فيترتب عليه محذور اجتماع المثلين المستحيل ، وذلك لأن الأمر بالقصر وان لم يسر إلى خصوصية التمام ، إلّا أن البعث الاعتباري نحو الجامع بين القصر والتمام يسري إلى حصة القصر كسرايته إلى

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٤

٤٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حصة التمام ، لاتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده ، وبسرايته إلى القصر يلزم اجتماع المثلين المستحيل.

ودعوى التأكد المصرح به في عبارة المحقق الهمداني غير مسموعة ، إذ لا تأكد ولا اشتداد في الاعتباريات ، وانما هو تعدد الأمر الاعتباري حقيقة ، لانبعاث الأمر بالجامع عن إرادة متعلقة به وشوق إليه ، بلا دخل لشيء من الخصوصيات ، وانبعاث الأمر بالحصة عن إرادة مضافة إليها ، ومع تعدد المراد يختلف الإرادة المتعلقة بكل منهما ، والإرادة بعد الإرادة غير قابل للتأكد ، بل اللازم هو اجتماع المثلين المحال.

وأما الثاني ، فغير معقول أيضا ، إذ إنشاء الوجوب التخييري بين الجامع والحصة معناه التخيير بين الكلي وفرده ، وحيث ان الكلي متحد وجودا مع مصداقه الخارجي ، فيلزم التخيير بين الشيء ونفسه ، وهو باطل بالضرورة. وعليه فالالتزام يوجب كل من الفردين بنحو تعدد المطلوب مبتلى بهذا المحذور العقلي.

لكن الظاهر سلامة ما استصوبه شيخنا العراقي وفاقا للفقيه الهمداني (قدهما) في حل الإشكال من محذور اجتماع المثلين المستحيل ، لتوقفه ـ كاجتماع الضدين ـ على وحدة الموضوع المنوطة بالالتزام بأمرين : أحدهما كون متعلقات التكاليف الشرعية هي الوجودات الخارجية للطبائع. والآخر سراية الأمر بالجامع اللابشرط إلى الحصص والأفراد. وكلاهما ممنوع كما يظهر من ملاحظة موضعين من تقريرات المحقق العراقي : أحدهما مسألة تعلق الأحكام بالطبائع أو الافراد ، وثانيهما سراية الأمر بعنوان إلى أفراده ومصاديقه ، وهما البحث السابع والثامن من الأوامر.

٤٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولا بأس بالإشارة إلى مختاره في المبحثين ، ففي الأول ذهب إلى أن متعلق الأوامر والنواهي ليس هو الوجود الخارجي ، لأنه ظرف سقوط الحكم لا ثبوته ، ولا الطبيعة الحالة في الذهن أي الكلي العقلي ، ولا الطبيعة من حيث هي ، ضرورة قيام الملاكات بما في الخارج ، بل مركب المصلحة هو الطبيعي بمعنى ثالث ، وهو لحاظه بما هو خارجي بحيث لا يلتفت إلى مغايرته للخارج واثنينيته معه ، ولا يرى في هذا اللحاظ التصوري إلّا كون الطبيعة عين الخارج ومتحدة معه. واستشهد على ذلك باخبار الجاهل المركب القاطع بخلاف ما هو الواقع ، قال المقرر «فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية ، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه ، لا بمنشإ انتزاعها وهو المعنون الخارجي لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور ...» (١).

وفي الثاني اختار عدم السراية ووقوف الطلب على نفس الطبيعي ، لأن الطلب لكونه معلولا للمصلحة لا يتعلق إلّا بما تقوم به ، فمع قيامها بصرف الطبيعي وعدم سرايتها إلى حدود الفرية والحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى تلك الحدود ، إذ لازمه عدم تبعية الحكم للملاك.

وبعد وضوح هذين المبنيين نقول : بناء على مسلك تعدد المطلوب تعلق أمر بالجامع بين القصر والتمام وآخر بخصوص القصر ، وهما في مرحلة الوجود العنواني مختلفان ، لتباين الصور الذهنية ، والمفروض أيضا عدم سراية الأمر بالجامع إلى خصوصيات الأفراد ، فإحدى المصلحتين قائمة بصرف الوجود من الطبيعة

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ١ ص ٣٨٠ و ٣٨٦

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اللابشرط بالنسبة إلى القصر والتمام ، والأخرى قائمة بالقصر ، وكما لا يسري الأمر من القصر إلى الجامع كما هو واضح ، كذلك لا يسري من الجامع إلى خصوصية القصر ، إذ المفروض عدم دخل خصوصية الحصة والفرد فيه ، لقيام الملاك بنفس الطبيعي وصرف الوجود منه ، فلو سرى إلى ما هو محدود بحد القصر لزم أعمية الحكم من الغرض ، وهو ضروري البطلان ، لتبعية الحكم سعة وضيقا لملاكه ، فمطلوبية القصر ـ لأجل مصداقيته للجامع ـ مقدمية ، ولا يقدح في مطلوبيته النفسيّة انضمام جهة أخرى وهي مطلوبيته المقدمية إليها لتحقق الطبيعة ، لاعتبار وحدة الموضوع في استحالة اجتماع المثلين.

نعم إذا كان متعلق الحكم الوجود الخارجي ، وسرى الطلب من الجامع اللابشرط إلى الخصوصية ، أو قلنا باتحاد الصور الذهنية ، توجه المحذور. لكن قد عرفت أن الطلب كسائر الصفات النفسانيّة من الإرادة والكراهة يستحيل تعلقه بما في الخارج ، بل بالصورة الموجودة في أفق النّفس لئلا يلزم خارجية الإرادة أو نفسانية الخارج. وعليه فلا مانع من قيام الملاك الأتم بصلاة القصر والملاك التام بالجامع ، ويكون المأتي به مصداق المأمور به.

لكن لا يخفى أنه وان لم يلزم الاستحالة العقلية بمناط اجتماع المثلين ، إلّا أنه يمتنع الالتزام بالأمر بنحو تعدد المطلوب بمناط اللغوية المانعة للجعل الثاني ، وذلك لأن المفروض مطلوبية الجامع بنحو صرف الوجود ، وهو الداعي للجاهل بوجوب القصر إلى فعل الصلاة تماما. وحيث ان حقيقة الأمر هي الإنشاء بداعي جعل الداعي ، وبدون ترتب الداعي عليه أصلا يلغو صدوره من الشارع ، فالأمر بالقصر بالنسبة إلى الجاهل لعدم ترتب احداث الداعي عليه لغو ، ومن المعلوم قبح

٤٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

صدور اللغو من الحكيم. وعليه فلا وجه للالتزام بتعدد الأمر بنحو تعدد المطلوب في حق الجاهل ، يتعلق أحدهما بالطبيعة والآخر بالقصر.

الرابع : ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) ومحصله : أن الواجب على عامة المكلفين أولا وبالذات هو القدر المشترك بين الجهر والإخفات ، يعني أن جزء الصلاة هو نفس القراءة من دون مدخلية لخصوص الجهر والإخفات فيها ، فجزء الصلاة هو الجامع بين الجهر والإخفات ووجوب خصوص أحدهما في موارد وجوبهما يكون وجوبا نفسيا استقلاليا ، غايته أنه يكون ظرف هذين الواجبين الصلاة ، فحال الصلاة بالنسبة إلى الجهر والإخفات حينئذ حال الظرف بالنسبة إلى مظروفه ، وبعد تعلق العلم بهذا الوجوب النفسيّ تنقلب النفسيّة إلى الغيرية والقيدية ، ولا مانع من اقتضاء العلم للانقلاب المزبور.

وعلى هذا التقريب يرتفع الإشكال من البين ، لأن العقاب يكون على ترك الواجب النفسيّ وهو الجهر أو الإخفات. وأما صحة الصلاة الفاقدة لوصف الجهر أو الإخفات فالانطباق المأمور به على المأتي به ، حيث ان المأمور به في حال الجهل بوجوب الجهر أو القراءة هو القدر المشترك بين الجهر والإخفات ، وقد أتى به بالفرض. والتزم الميرزا بهذا الوجه في مسألة الجهل بالجهر والإخفات ، لكن قال بجريانه في مسألة الإتمام في موضع القصر أيضا (١).

وأنت خبير بعدم إمكان المساعدة عليه. أما أولا فلأن دعوى كون وجوب الجهر والإخفات نفسيا تأويل في دليلهما بلا موجب ، إذ الظاهر منه كسائر أدلة الاجزاء والشرائط هو الإرشاد إلى الجزئية والشرطية لا النفسيّة ، وادعاء الوجوب النفسيّ منوط بقرينة صارفة مفقودة. وقرينية استحقاق العقوبة مع صحة المأتي به على

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٠٣

٤٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ذلك ممنوعة كما سيتضح.

وأما ثانيا ، فلأنه يلزم لغوية تشريع الوجوب النفسيّ ، إذ الغرض من التكليف احداث الداعي إلى امتثاله وبعث المكلف وتحريكه نحوه ، ومن الواضح أن الدعوة والتحريك فرع تنجز التكليف المترتب على وصوله إلى العبد ، والمفروض أنه بالعلم الموجب لوصوله إليه ينقلب من النفسيّة إلى الغيرية ، فلا يكون هذا التكليف النفسيّ في آن من الآنات محركا للعبد وباعثا له حتى يتمكن من امتثاله ، بل لا يقدر عليه في شيء من الأزمنة ، فيلزم لغوية تشريع مثل هذا الوجوب.

والحاصل : أن التكليف لا بد في محركيته من وصوله إلى المكلف اما بنفسه واما بطريقه ، فالتكليف الّذي لا يمكن وصوله إلى العبد ـ لانقلابه بسبب وصوله إليه ـ يلغو تشريعه كما لا يخفى.

وأما ثالثا : فلأن لازم الانقلاب المزبور اختصاص الوجوب النفسيّ بالجهل ، إذ لازم عدم بقاء الوجوب النفسيّ عند العلم به تقيد الوجوب بالجهل ، وهو بمكان من الغرابة ، بل مستحيل ، وذلك لأن موضوعية الجهل للوجوب النفسيّ تقتضي تقدمه عليه كتقدم كل موضوع على حكمه ، كما أن عروض الجهل للوجوب كعروض العلم له يقتضي تأخره عنه كتأخر كل عروض عن معروضه. وعليه فالجهل متقدم على الوجوب ومتأخر عنه ، وهذا ممتنع.

وأما رابعا : فلأن العلم حين حدوثه هل يكون متعلقا بالوجوب النفسيّ أم الغيري؟ فعلى الأول يلزم أن لا يكون العلم بحدوثه موجبا للانقلاب ، بل الموجب له وجود العلم بقاء لا حدوثا ، وهذا خلاف ظاهر كلامه ، لظهوره في انقلاب النفسيّة إلى الغيرية بحدوث العلم لا بقائه.

٤٨٠