منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة غدير
الطبعة: ٦
الصفحات: ٥٩٢

١

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين. أما بعد فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا منتهى الدراية في توضيح الكفاية وقد أجريناه على منوال الجزء الأول ، فجعلنا المتن في أعلى الصفحة ، وتوضيحه بفصل خط أفقي تحته وأشرنا إليه بأرقام : ١ و ٢ و ٣ و ... والتعليق عليه تحتها ورمزناه بعلامة (*) وفي أسفل الصفحة تعليقات المصنف (قده) ورمزناها بعلامة (×) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المؤلف

٢

الفصل الثالث

الإتيان (*) بالمأمور به على وجهه (١) يقتضي الاجزاء في الجملة (٢) بلا

______________________________________________________

الكلام في الاجزاء

(١) سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، ومحصل مرامه (قده) : أنّ الإتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه جزءاً أو شرطاً يوجب الإجزاء وسقوط الأمر ، بمعنى عدم وجوب الإتيان به ثانياً باقتضاء نفس هذا الأمر ، لا إعادة ولا قضاءً ، وذلك لوضوح انطباق متعلقه على المأتي به قهراً الموجب لسقوط الأمر المتعلق به عقلاً ، إذ لو لم يكن إيجاد متعلقه أوّلاً مسقطاً له لكان سائر وجوداته أيضا كذلك ، لاتحاد حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز ، ومع سقوطه لا موجب لإيجاده ثانياً ، للزوم طلب الحاصل المحال.

(٢) يعني ولو بالنسبة إلى أمره لا أمر آخر ، كما إذا أتى بالمأمور به بالأمر الاضطراري ، فانّه مسقط لهذا الأمر بلا إشكال وإن لم يكن مجزياً بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي.

__________________

(*) لا يخفى متانة هذا العنوان المذكور في تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) ودرر الفوائد أيضا ، وأولويته مما في جملة من كتب القوم من : «أنّ الأمر هل يقتضي كون المأمور به مجزياً» كما في عُدّة الشيخ (قده) ، ومن : «أنّ الأمر يقتضي الإجزاء» كما في القوانين ، ومن : «أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه أو لا؟» كما في الفصول. وجه الأولوية أوّلاً : أنّ النزاع ليس في مقام الدلالة والإثبات بل في مرحلة الواقع والثبوت ، ولذا يجري هذا النزاع في جميع الواجبات وإن لم يكن الدليل عليها لفظياً ، بل لُبياً ، فلا وجه لجعل الاجزاء مدلولاً

٣

شبهة (١). وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والإبرام ينبغي تقديم أُمور : أحدها : الظاهر أنّ المراد من وجهه (*) في العنوان هو النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً (٢) وعقلاً (٣) ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة (٤) ،

______________________________________________________

(١) إذ لو لم يكن مجزياً في الجملة أيضا لكان لغواً ، إذ مرجعه حينئذٍ إلى كون الإتيان بمتعلقه كعدمه ، لأنّ المفروض بقاء الأمر على حاله في صورتي الإتيان وعدمه.

(٢) كالأُمور المعتبرة شرعاً في المأمور به من الطهارة ، والاستقبال ، والستر ، وغيرها مما له دخل في الصلاة.

(٣) كالأُمور المترتبة على الأمر من قصد القربة والتمييز ونحوهما بناءً على عدم إمكان أخذها في المأمور به ، فإنّها حينئذٍ معتبرة في كيفية الإطاعة عقلاً بحيث لا يسقط الأمر بدونها. ثم إنّ الوجه يطلق على معانٍ ثلاثة : الأوّل : هذا المعنى المذكور ، والمعنيان الآخران سيأتيان إن شاء الله تعالى.

(٤) هذا بيان للنهج الّذي ينبغي أن يؤتى به عقلاً ، وهذا مبنيّ على مذهبه من خروج قصد القربة عن متعلق الأمر ، كما تقدم في بحث التعبدي والتوصلي. ثم إنّه

__________________

للأمر. وثانياً : أنّ المقتضي للسقوط هو الامتثال المتحقق بإتيان متعلق الأمر بجميع ما اعتبر فيه ، لا نفس الأمر ، لأنّه لا يدل إلّا على مطلوبية المتعلق ، ولا يدل على الاجزاء إلّا بالتوجيه ، وهو أنّ الأمر لكشفه عن مصلحة في متعلقه يدل التزاماً على سقوطه إذا أتى بمتعلقه الّذي تقوم به المصلحة ، لتبعية الأمر لها حدوثاً وبقاءً ، لكن لمّا كانت الدلالة على السقوط لأجل الإتيان بمتعلقه ، فنسبة الاجزاء إليه بلا واسطة أولى من نسبته إلى الأمر معها كما لا يخفى. وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ هذا البحث ليس من الأبحاث اللغوية التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعاً أو غيره ، بل من المباحث العقلية ، كما يظهر من أدلة الطرفين.

(*) هذه الكلمة بعينها مذكورة في بعض الكتب كالعُدة ، والفصول ، وتقريرات شيخنا الأعظم (قده) ، وبما يدل عليها في بعضها الآخر كالقوانين.

٤

لا خصوص الكيفيّة المعتبرة في المأمور به شرعاً (١) ، فإنّه (٢) عليه يكون ـ على وجهه ـ قيداً توضيحياً ، وهو بعيد (٣) ،

______________________________________________________

على هذا المعنى يكون قيد ـ على وجهه ـ احترازياً لا توضيحياً ، ضرورة أنّ عنوان المأمور به حينئذٍ لا يُغني عن القيود المعتبرة عقلاً في مقام الامتثال ، لعدم تعلق الأمر الشرعي بها حتى يصدق عليها عنوان المأمور به ، فلو لم يكن ـ على وجهه ـ لكانت القيود العقلية كقصد القربة غير دخيلة فيما يقتضي الإجزاء ، مع أنّ من المسلّم دخلها فيه ، ضرورة عدم سقوط الأمر التعبدي إلّا بقصد القربة (*).

(١) هذا ثاني معاني الوجه ، وحاصله : أنّه قد يراد بالوجه خصوص النهج المعتبر شرعاً بأن يؤتى بخصوص القيود المعتبرة شرعاً في المأمور به بحيث لا يشمل ما عداها من القيود المعتبرة عقلاً فيه ، لكن لا يمكن إرادة هذا المعنى في المقام ، لورود إشكالين عليه. أحدهما : أنّه يلزم أن يكون قيد ـ على وجهه ـ توضيحياً ، للاستغناء عنه بعد دلالة نفس عنوان المأمور به على الكيفية المعتبرة شرعاً في متعلق الأمر ، والتوضيحية خلاف الأصل في القيود ، ولا يصار إليه إلّا بدليل. ثانيهما : لزوم خروج التعبديات عن حريم النزاع كما سيأتي.

(٢) الضمير للشأن ، وضمير ـ عليه ـ راجع إلى ما ذكر من كون المراد بالوجه خصوص الكيفية المعتبرة شرعاً في المأمور به ، وهو إشارة إلى الإشكال الأوّل ، وقد مرّ بيانه آنفاً.

(٣) لكونه خلاف الأصل في القيود كما تقدم.

__________________

(*) لا يخفى أنّ قيد ـ على وجهه ـ وإن كان احترازياً ، إلّا أنّ قوله : ـ شرعاً ـ مستدرك ، لإغناء عنوان المأمور به عن كل ما له دخل شرعاً في متعلق الأمر. إلّا أن يدّعى ظهور المأمور به في خصوص الأمور الدخيلة فيه قيداً وتقيّداً التي تسمى بالأجزاء ، دون الأمور الدخيلة فيه تقيُّداً فقط التي تسمى بالشرائط ، فيكون ـ على وجهه ـ شاملاً للقيود العقلية والشرعية ، ولا يلزم استدراك قوله : ـ شرعاً ـ ، فلاحظ.

٥

مع (١) أنّه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناءً على المختار (٢) ، كما تقدم (٣) من أنّ قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلاً ، لا من قيود المأمور به شرعاً (٤). ولا الوجه المعتبر (٥) عند بعض

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال الثاني ، وتوضيحه : أنّ إرادة خصوص الكيفية المعتبرة شرعاً من الوجه تستلزم خروج العبادات عن حريم النزاع ، إذ لا إشكال في عدم سقوط أمرها بإتيانها بدون الوجه المعتبر فيها عقلاً ، كقصد القربة بناءً على مذهب المصنف (قده) من كونه من كيفيات الإطاعة عقلاً ، لا من قيود المأمور به شرعاً ، ولا يشمله عنوان المأمور به كما هو واضح ، ولا قيد الوجه كما هو المفروض ، فلا بد من خروج ما يقيّد بهذا القيد العقلي وهي العبادات عن مورد النزاع ، مع أنّه لا إشكال في عدم سقوط أمرها بإتيانها بدون الوجه المعتبر فيها عقلاً ، فإنّ الإتيان بالعبادة بدون قصد القربة ولو مع الإتيان بجميع ما يعتبر فيها شرعا كعدمه. وبالجملة : لا إشكال في دخول العبادات في محل النزاع ، إذ لم يستشكل أحد في أنّ إتيان العبادات على وجهها يُجزي ويُسقط أمرها.

(٢) قيد لخروج العبادات عن حريم النزاع ، يعني : أنّ خروجها عن حريمه مبنيٌّ على المختار من كون قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلاً.

(٣) يعني : في مبحث التعبدي والتوصلي.

(٤) إذ على تقدير كون قصد القربة من قيود المأمور به يكون كالطهارة والاستقبال ونحوهما من الأمور المعتبرة شرعاً في المأمور به ، لا من كيفيات الإطاعة عقلاً ، فلا يرد حينئذٍ إشكال خروج العبادات عن حريم النزاع.

(٥) هذا ثالث معاني الوجه ، وحاصله : أنّ الوجه قد يطلق على الوجوب والاستحباب ، فقصد الوجه حينئذٍ هو قصدهما وصفاً أو غاية ، لكنه بهذا المعنى غير مراد هنا أيضا ، لوجهين : أحدهما : أنّ قصد الوجه غير معتبر عند المشهور ، مع أنّهم عقدوا مبحث الاجزاء بهذا النحو ، ومن المعلوم عدم ملائمته لإنكارهم اعتبار قصد الوجه ، فلا بد من أن يُريدوا بالوجه معنى آخر غير قصد الوجه بهذا المعنى. ثم على فرض اعتباره يختص ذلك بالعبادات ، ولا يعم جميع الواجبات ، فلا بد من عقد البحث بنحو لا يشمل غير

٦

الأصحاب (١) ، فانه (٢) ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره (٣) إلّا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه (٤) لاختصاصه (٥) بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد (٦) من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ،

______________________________________________________

العبادات مع وضوح أعمية البحث منها ، كما لا يخفى. ثانيهما : ما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) من «أنّه بعد تسليم اعتبار قصد الوجه ، والغضِّ عن ذهاب المشهور إلى عدم اعتباره لا وجه لتخصيصه بالذكر دون سائر الشرائط ، لأنّه كغيره من القيود المعتبرة شرعاً ، ولا خصوصية له تقتضي إفراده بالذكر ، فلا بد في العنوان الأعم من التوصليات والتعبديات ـ أي فيما يمكن فيه قصد الوجه وما لا يمكن فيه ـ من أن يراد به معنى يشمل جميع ما يعتبر شرعاً في المأمور به من القيود التي منها قصد الوجه ، والجامع هو ما عرفته من النهج الّذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعاً وعقلاً». وبالجملة : فهذان الوجهان من الإشكال يمنعان عن إرادة هذا المعنى الثالث من معاني الوجه.

(١) من المتكلمين.

(٢) هذا الضمير وضمير ـ اعتباره ـ راجعان إلى الوجه ، يعني : فإنّ الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب مع عدم اعتباره عند المعظم ... إلخ ، وقوله : ـ فانه ـ إشارة إلى أوّل الوجهين المذكورين.

(٣) هذا الضمير وكذا ضمير ـ اعتباره ـ يرجعان إلى ـ الوجه ـ.

(٤) هذا إشارة إلى ثاني الوجهين المتقدمين آنفاً.

(٥) أي : الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب.

(٦) هذا تفريع على الوجهين المذكورين اللّذين أورد بهما على إرادة الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب في هذا المبحث ، وملخصه : أنّه لا بدّ من إرادة معنى عام من الوجه المذكور في عنوان البحث يشمل الوجه المعتبر عند البعض ، فالمراد ب ـ ما ـ الموصولة هو المعنى العام ، وفاعل ـ يندرج ـ ضمير مستتر يرجع إلى ـ الوجه ـ ، وضمير ـ فيه ـ راجع إلى الموصول المراد به المعنى العام ، يعنى : لا بدّ من إرادة معنى يندرج فيه الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب.

٧

وهو (١) ما ذكرناه كما لا يخفى. ثانيها : الظاهر (٢) أنّ المراد من الاقتضاء هاهنا (٣) الاقتضاء بنحو العلية والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا (٤) نُسِب (*) إلى الإتيان لا إلى الصيغة ان قلت (٥) :

______________________________________________________

(١) راجع إلى ـ ما ـ الموصولة ، يعني : وذلك المعنى الجامع هو ما ذكرناه بقولنا : ـ الظاهر ان المراد من وجهه في العنوان هو النهج .... إلخ ـ ، فراجع.

(٢) وجه الظهور إسناد الاقتضاء إلى الإتيان الّذي هو فعل المكلف ، لا إلى الصيغة ، ومن المعلوم أنّ المناسب للإتيان هو العلّية والتأثير في سقوط الأمر ، لا الكشف والدلالة اللّذان هما من شئون اللفظ ، فالإتيان بالمأمور به علة للسقوط ، لا كاشف وحاكٍ عن سقوطه.

(٣) يعني : في مبحث الاجزاء ، غرضه : أنّ الاقتضاء هنا مغاير للاقتضاء في سائر المباحث ، كاقتضاء الصيغة للفور أو التراخي ، أو للمرة أو التكرار ، أو للنفسية والعينية وغيرها من الأبحاث المتعلقة بها ، فإنّ الاقتضاء هناك بمعنى الكشف والدلالة ، لإسناده إلى اللفظ الّذي شأنه الدلالة والحكاية ، بخلاف الاقتضاء في بحث الاجزاء ، فإنّه لإسناده إلى الإتيان وهو إيجاد متعلق الأمر يكون بمعنى التأثير وعليّته لسقوط الأمر. ومن هنا اتضح أيضا أنّ المسألة المبحوث عنها في المقام عقلية ، لا لفظية حتى يبحث فيها عن مدلول اللفظ وضعاً أو غيره ، فتعم المسألة الطلب الثابت بالدليل غير اللفظي كالإجماع.

(٤) أي : ولكون الاقتضاء بمعنى العلية لا الدلالة أُسند الإجزاء إلى الإتيان دون الصيغة.

(٥) غرضه من هذا الإشكال هو : أنّ حمل الاقتضاء في مبحث الاجزاء على التأثير والعلّية لا يصح بقول مطلق ، بل إنّما يصح بالنسبة إلى خصوص الأمر الأوّلي المتعلّق بالمأتي به ، فيقال : إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي علة لسقوط هذا الأمر

__________________

(*) الأولي التعبير بالإسناد دون النسبة.

٨

هذا (١) إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأمّا بالنسبة إلى أمرٍ آخر ، كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما (٢) على اعتباره (٣) بنحو يفيد الاجزاء ، أو بنحوٍ آخر لا يفيده. قلت : نعم (٤) ، لكنه لا يُنافي كون النزاع

______________________________________________________

وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالأمر الواقعي بالنسبة إلى المأمور به بالأمر الاضطراري فيكون الاقتضاء بمعنى الدلالة ، ضرورة أنّ سقوط الأمر الواقعي المتعلق بالوضوء مثلاً بإتيانه تقية إنّما يكون لدلالة ما يدل على تشريع الوضوء الاضطراري ، فالنزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي يرجع إلى النزاع في دلالة دليلهما على ذلك ، فالاقتضاء فيهما بمعنى الدلالة ، لا العلية.

(١) أي : الاقتضاء إنّما يكون بمعنى العلية بالنسبة إلى الأمر المتعلق بالمأتي به دون أمر آخر ، كما مر في إجزاء المأمور به الاضطراري عن الأمر الواقعي.

(٢) أي : دليل الأمر الاضطراري والظاهري.

(٣) أي : المأمور به ، وحاصله؟ أنّ دليلهما إن دلّ على كون متعلق الأمر الاضطراري أو الظاهري مأموراً به في خصوص حالتي الاضطرار والجهل ، فلا يجزي الإتيان بمتعلقهما في غير هاتين الحالتين عن الأمر الواقعي. وإن دلّ على كون متعلقهما بمنزلة المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي في الوفاء بالغرض ، فلا بدّ من الإجزاء.

وبالجملة : فمرجع النزاع إلى أنّ دليل المأمور به الاضطراري أو الظاهري هل ينزِّله منزلة المأمور به الواقعي أم لا؟ فالاقتضاء حينئذٍ يكون بمعنى الدلالة لا العلية.

(٤) هذا دفع الإشكال المزبور ، وحاصله : أنّ النزاع في دلالة الدليل على تنزيل المأمور به الاضطراري أو الظاهري لا ينافي كون الاقتضاء فيهما أيضا بمعنى العلية والتأثير.

توضيح وجه عدم المنافاة : أنّ الدليل يتكفل كيفية تشريع المأمور به الاضطراري والظاهري ، وأنّه هل نزَّله منزلة المأمور به الواقعي الأوّلي أم لا؟ فإنْ

٩

فيهما (١) كان (٢) في الاقتضاء بالمعنى المتقدم (٣) ، غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما (٤) إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما (*) هل أنّه (٥) على نحو يستقل العقل بأنّ

______________________________________________________

دلّ على هذا التنزيل كان الإتيان به علة لسقوط الأمر الواقعي الأوّلي ، وإلّا فلا ، فالاقتضاء يكون بمعنى العلية والتأثير على كل حال. نعم يكون التفاوت بين الاضطراري والظاهري وبين المأمور به الواقعي الأوّلي في كون البحث في الأخير كُبرويّاً فقط ، لكون الكلام فيه في الاجزاء لا غير ، بخلاف الأوّلين ، إذ البحث فيهما تارة يقع في الصغرى وهي كونهما مأموراً بهما مطلقاً ولو بعد ارتفاع الاضطرار والجهل ، وعدمه. وأُخرى في الكبرى وهي الإجزاء وعدمه ، وموضوع البحث الأوّل هو دليل الأمر الاضطراري والظاهري ، وموضوع البحث الثاني هو الإتيان بالمأمور به. فالمتحصّل : أنّ الاقتضاء في الجميع بمعنى التأثير والعلية ، لا بمعنى الكشف والدلالة ، حتى في الأوامر الاضطرارية والظاهرية ، لما مرّ آنفاً.

(١) أي : المأمور به الاضطراري والظاهري.

(٢) خبر قوله : ـ كون ـ ، والأولى أن تكون العبارة هكذا : «نعم وإن كان النزاع فيهما في الدلالة لكنه لا يُنافي كون الاقتضاء فيهما بمعنى العلية أيضا».

(٣) وهو التأثير والعلية.

(٤) أي : في اقتضاء إتيان المأمور به الاضطراري والظاهري للإجزاء ، وحاصله :

أنّ سبب الاختلاف في اقتضائهما للإجزاء وعدمه إنّما هو الخلاف في دلالة دليل تشريعهما ، وأنّه هل يدل على تنزيلهما منزلة المأمور به الواقعي أم لا؟ فعلى الأول يجزي ، وعلى الثاني لا يُجزي.

(٥) أي المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري.

__________________

(*) لا يخفى أنّه على تقدير دلالته على تبدل الواقع في صورتي الشك والاضطرار لا مجال للبحث عن إجزاء المأمور به الاضطراري والظاهري عن الأمر الواقعي ، إذ المفروض تبدل الواقع بالجهل والاضطرار ، لكن التبدل في صورة الشك مساوق للتصويب

١٠

الإتيان به (١) موجب للاجزاء ويؤثر فيه ، وعدم (٢) دلالته ، ويكون (٣) النزاع فيه (٤) صُغرويّاً أيضا (٥) ، بخلافه (٦) في الاجزاء بالإضافة إلى أمره (٧) ، فإنّه (٨)

______________________________________________________

(١) أي : بذلك المأمور به.

(٢) معطوف على ـ دلالة دليلهما ـ يعني : أنّ منشأ الاختلاف في اقتضاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري والظاهري للإجزاء وعدمه هو الخلاف في دلالة دليلهما على كون المأمور به بنحو يستقل العقل بكون الإتيان به مجزياً عن الأمر الواقعي ، وعدم دلالة دليلهما على ذلك.

(٣) الأولى تبديل ـ الواو ـ بالفاء ، لترتب هذا النزاع على دلالة دليلهما.

(٤) أي : في المأمور به الاضطراري والظاهري.

(٥) يعني : كما أنّ النزاع كبروي ، وحاصله : أنّ النزاع في المأمور به الاضطراري والظاهري صغروي وكبروي ، فيقال في الأوّل : هل المأمور به الاضطراري مأمور به مطلقاً أم لا؟ وفي الثاني ـ أي النزاع الكبروي ـ يقال : إنّه على تقدير كونه مأموراً به مطلقاً هل يجزي الإتيان به عن الأمر الواقعي حتى لا يجب الإتيان به ثانياً إعادة أو قضاءً أم لا؟ وبالجملة : فالنزاع في الاجزاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي كبروي فقط ، وبالنسبة إلى الأمر الاضطراري والظاهري صغروي وكبروي.

(٦) أي : النزاع في الاجزاء بالإضافة إلى أمر المأمور به الواقعي.

(٧) الضمير راجع إلى المأمور به الواقعي كما مرّ.

(٨) أي : النزاع.

__________________

الّذي لا نقول به ، ولذا بنينا في الأمارات على الطريقية لا السببية ، فمقتضى القاعدة بقاء الواقع على حاله ، وعدم كون الإتيان بالمأمور به الظاهري مجزياً عنه. وأمّا في صورة الاضطرار فالمتبع هو الدليل ، فإن دلّ على كون الاضطرار موجباً لانقلاب الواقع كانقلابه بالسفر مثلاً ، فلا أمر حينئذٍ واقعاً حتى يبحث عن سقوطه بإتيان المأمور به الاضطراري ، وإن لم يدلّ على ذلك كان للبحث عنه مجال ، فلا بد من ملاحظة الأدلة في موارد الاضطرار.

١١

لا يكون إلّا كبروياً لو كان هناك (١) نزاع كما نقل عن بعض (٢) ، فافهم (٣) ثالثها : الظاهر أنّ الاجزاء هنا (٤) بمعناه لغة وهو الكفاية ، وإن كان يختلف ما يكفي عنه (٥) ،

______________________________________________________

(١) أي : في الكبرى ، وهذا إشارة إلى عدم كون النزاع في الكبرى مهمّاً بعد استقلال العقل بإجزاء الإتيان بمتعلق كل أمر بالنسبة إلى ذلك الأمر.

(٢) وهو أبو هاشم وعبد الجبار.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ النزاع الصغروي لا يليق بالبحث الأُصولي ، لأنّه راجع إلى الفقه ، واللائق بالأُصول هو البحث الكبروي أعني كون إتيان المأمور به على وجهه مجزياً أولا ، وقد عرفت جريان النزاع الكبروي في إتيان المأمور به الاضطراري والظاهري أيضا. أو إشارة إلى : أنّ النزاع كله في المأمور به بهذين الأمرين صغروي محض ، لأنّ البحث إنّما هو في مفاد دليلهما ، وأنّه هل ينزل المأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري منزلة المأمور به الواقعي أم لا؟ وإلّا فبعد فرض التنزيل المزبور لا إشكال في الاجزاء بناءً على تسلّم الكبرى وهي كون المأمور به على وجهه مجزياً عن أمره وعدم الاعتداد بخلاف أبي هاشم وعبد الجبار في ذلك. وعليه فيكون الاقتضاء بالنسبة إليهما بمعنى الكشف والدلالة ، لا التأثير والعلية ، فيتجه إشكال المستشكل من عدم كون الاقتضاء مطلقاً بمعنى العلية ، فتدبر.

(٤) أي : في بحث الاجزاء. ثم إنّ الغرض من عقد هذا الأمر دفع توهم ، وهو أن يكون المراد بالإجزاء هنا معناه المصطلح عند الفقهاء وهو إسقاط التعبد بالفعل ثانياً إعادة أو قضاء. والمصنف (قده) تبعاً للتقريرات دفع هذا التوهم بما حاصله : أنّه لا وجه لرفع اليد عن معنى الإجزاء لغة وهو الكفاية ، والالتزام بمعناه المصطلح ، ثم الخلاف في المراد منه ، وأنّ المقصود هل هو خصوص الإعادة أم القضاء؟ وذلك لأنّه لا مانع من إرادة معناه اللغوي ، فلا ينبغي الخلاف في معنى الاجزاء.

(٥) يعني : ما يكفي الإتيان عنه ، حاصله : أنّ الاختلاف فيما يجزي عنه الإتيان بالمأمور به ويسقط به لا يوجب اختلافاً في معنى الاجزاء لغة ، فإنّ ما يجزي عنه

١٢

فان (١) الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفى ، فيسقط به (٢) التعبّد به (٣) ثانياً ، وبالأمر (٤) الاضطراري أو الظاهري الجعلي (٥) ، فيسقط به (٦) القضاء ، لا (٧) أنّه يكون هاهنا اصطلاحاً بمعنى (٨) إسقاط التعبد أو القضاء ، فإنّه بعيد جداً (٩).

رابعها (١٠) : الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى ،

______________________________________________________

الإتيان بالمأمور به الواقعي الأوّلي هو التعبد بالفعل ثانياً ، وما يجزي عنه الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري هو الأمر بالقضاء. وبالجملة : اختلاف ما يكفي عنه لا يوجب اختلافاً في نفس معنى الكفاية.

(١) بيان لاختلاف ما عنه الكفاية ، وقد عرفت آنفاً توضيحه.

(٢) أي : بالإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي.

(٣) أي : المأمور به.

(٤) معطوف على قوله : ـ بالأمر الواقعي ـ يعني : وأنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يكفى ، ويترتب على الكفاية سقوط القضاء.

(٥) مقتضى المقابلة تكرار كلمة ـ يكفى ـ بعد ـ الجعلي ـ ، كذكرها بعد ـ الأمر الواقعي ـ.

(٦) يعني : بسبب الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يسقط القضاء.

(٧) هذا معطوف على صدر الكلام ، يعني : أنّ الظاهر كون الاجزاء في هذا البحث هو معناه لغة ، لا أنّ الاجزاء يكون بمعناه الاصطلاحي.

(٨) هذا تفسير الاجزاء الاصطلاحي ، وقد تقدم.

(٩) لعدم قرينة على صرفه عن معناه اللغوي إلى غيره ، فإرادة المعنى الاصطلاحي حينئذٍ بلا موجب ، مع أنّه من لوازم المعنى اللغوي ، فلا داعي إلى إرادته بعد كونه من لوازم اللغوي.

(١٠) الغرض من عقد هذا الأمر الّذي جعله في التقريرات ثالث الأُمور المتقدمة على الخوض في المطلب هو دفع توهمين : أحدهما : أنّ هذا النزاع عين النزاع في مسألة

١٣

فإنّ البحث هاهنا (١) في أنّ الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلاً ، بخلافه (٢) في تلك المسألة ، فإنّه (٣) في تعيين ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بدلالة (٤)

______________________________________________________

المرة والتكرار ، فلا وجه لإفراد كل منهما بالبحث. ثانيهما : أنّ هذا النزاع عين النزاع في مسألة تبعية القضاء للأداء. أمّا التوهم الأول فتقريبه : أنّ الإجزاء مساوق للمرة ، إذ لو لم يدل الأمر على المرة لم يكن الإتيان بالمأمور به مجزياً ، فالإجزاء مساوق للمرة كما أنّ عدم الاجزاء مساوق للتكرار.

(١) أي : في مبحث الاجزاء ، وهذا دفع للتوهم المزبور ، وحاصله : أنّ جهة البحث في مسألتي الاجزاء والمرة والتكرار مختلفة ، فإنّ البحث في تلك المسألة كأنّه في تعيين المأمور به بحسب دلالة الصيغة عليه ، فالبحث هناك لفظي ، وفي هذه المسألة في أنّه هل يجوز الاكتفاء به أم لا؟ فالبحث في مسألة الإجزاء عقلي ، حيث إنّ الحاكم بالإجزاء هو العقل ، فبعد الفراغ عن تشخيص المأمور به وتعيينه بدلالة الصيغة على كونه مطلوباً مرة أو مراراً يقع النزاع في أنّ الإتيان بما دلّت الصيغة على كونه مأموراً به ، ومطلوباً مرة أو مرات هل يجزي عقلاً أم لا؟ وإن شئت فقل : إنّ النزاع في مسألة المرة والتكرار صغروي ، لرجوعه إلى تعيين المأمور به ، وفي مسألة الإجزاء كبروي لرجوعه إلى أنّ الإتيان به مجز أولا ، فيكون الفرق بين المسألتين من وجهين : أحدهما : كون النزاع في تلك المسألة لفظياً ، وهنا عقلياً كما مر آنفاً. والآخر : كون البحث هناك صغروياً وهنا كبروياً كما عرفت أيضا.

(٢) يعني : بخلاف البحث في تلك المسألة ، وهي مسألة المرة والتكرار.

(٣) يعني : فإنّ البحث فيها في تعيين المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصيغة ، وكان الأولى ذكر كلمة ـ هناك ـ أو ـ فيها ـ بعد قوله : ـ فانه ـ كما لا يخفى ، وقوله :

في تعيين ـ خبر ـ فإنه ـ.

(٤) معطوف على قوله : ـ بنفسها ـ يعني : أنّ النزاع هناك في دلالة الصيغة

١٤

أُخرى ، نعم (١) كان التكرار عملاً موافقاً لعدم الاجزاء ، لكنه (٢) لا بملاكه. وهكذا الفرق بينها (٣) وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، فإنّ (٤) البحث في تلك

______________________________________________________

بنفسها ، أو بقرينة عامة ، أو خاصة ، فعلى التقديرين يكون محط النزاع الصيغة ، لا غيرها ، ولذا جعلوه من مباحث الصيغة ، ومن هنا يظهر ضعف احتمال عطفه على ـ دلالة الصيغة ـ كما لا يخفى.

(١) استدراك على الفرق المذكور بين المسألتين ، يعني : وإن كان بين المسألتين فرق كما مر ، إلّا أنّ بينهما جهة مشتركة وهي كون عدم الإجزاء موافقاً للتكرار عملاً وإن لم يكن موافقا له ملاكاً ، فإنّ ملاك التكرار هو كون كل واحد من وجودات الطبيعة الواقعة في حيِّز الأمر مأموراً به ، بخلاف عدم الإجزاء ، فإنّ ملاكه عدم سقوط الغرض الداعي إلى الأمر. فالمتحصل : أنّه لا وجه لدعوى : أنّ القول بالمرة مساوق للإجزاء ، والقول بالتكرار مساوق لعدمه ، هذا. وأمّا التوهم الثاني وهو كون النزاع في هذه المسألة عين النزاع في مسألة تبعية القضاء للأداء ، فتقريبه : أن دلالة الأمر على وجوب القضاء في خارج الوقت مساوقة لعدم الاجزاء ، إذ مع فرض الإجزاء وسقوط الأمر لا وجه لوجوب قضائه ، ودلالته على عدم وجوب القضاء مساوقة للإجزاء.

(٢) يعني : لكن التكرار لا يكون بملاك عدم الاجزاء ، لما تقدم آنفاً.

(٣) يعني : بين مسألة الاجزاء وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، وغرضه : أنّه كما يكون الفرق بين مسألتي الإجزاء والمرة والتكرار ممّا لا يكاد يخفى ، كذلك الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، فقوله : ـ وهكذا الفرق بينها ـ إشارة إلى التوهم الثاني الّذي تقدم توضيحه بقولنا : فتقريبه أنّ دلالة الأمر على وجوب القضاء.

(٤) هذا إشارة إلى دفع التوهم المزبور ببيان الفرق بين المسألتين ، وتوضيحه : أنّ النزاع في تلك المسألة لفظي ، لكون البحث فيها في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها ، وفي هذه المسألة عقلي ، لكون الحاكم بالإجزاء بعد انطباق المأمور به على

١٥

المسألة (١) في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها (٢) ، بخلاف هذه المسألة ، فإنّه (٣) كما عرفت في أنّ الإتيان بالمأمور به يجزي عقلاً عن إتيانه ثانياً أداءً أو قضاءً ، أو لا يجزي ، فلا عُلقة بين المسألة (٤) والمسألتين (٥) أصلا (*). إذا عرفت هذه الأُمور ، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين : الأول (٦) : أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر

______________________________________________________

المأتي به هو العقل ، فلا عُلقة بين المسألتين أصلا (**).

(١) أي : مسألة تبعية القضاء للأداء.

(٢) أي : عدم الدلالة.

(٣) أي : البحث ، ووجه كونه عقلياً هو : أنّ الحاكم بصحة إضافة الإجزاء إلى الإتيان هو العقل ، ولم يُضف إلى الدلالة حتى يكون البحث لفظيّاً.

(٤) يعني : مسألة الاجزاء.

(٥) يعني : ومسألتي المرة والتكرار ، وتبعية القضاء للأداء.

(٦) محصل ما أفاده (قده) في الموضع الأوّل هو : أنّ الإتيان بالمأمور به مجزٍ عن أمره سواءٌ أكان أمره واقعياً أم ظاهرياً ، وأمّا كونه مجزياً عن أمر آخر ، كأن يكون الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري مسقطاً للأمر الواقعي ، فسيجيء الكلام فيه في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى ، فالمبحوث عنه في الموضع الأوّل هو كون الإتيان بالمأمور به مجزياً عن أمر نفسه ، لا أمر آخر.

__________________

(*) وتوهم عدم الفرق بين هذه المسألة وبين المسألتين إنّما هو بلحاظ إسقاط التعبد به ثانياً وعدمه بالنسبة إلى المرة والتكرار ، وبلحاظ إسقاط القضاء وعدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء ، وإلّا فعدم الملاءمة بين هذه المسألة وبين المسألتين في غاية الوضوح.

(**) مضافاً إلى إمكان اختلافهما موضوعاً ، حيث إنّ موضوع وجوب القضاء هو الفوت في الوقت ، وموضوع الاجزاء هو الإتيان بالمأمور به في وقته ، فتدبر.

١٦

الواقعي ، بل بالأمر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزي عن التعبد به ثانياً ، لاستقلال العقل (١) بأنّه لا مجال ـ مع موافقة الأمر بإتيان (٢) المأمور به على وجهه ـ لاقتضائه (٣) التعبد به (٤) ثانياً. نعم (٥) لا يبعد أن يقال : بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانياً بدلاً عن التعبد به أوّلاً ، لا منضماً إليه (٦) ،

______________________________________________________

(١) هذا وجه الاجزاء بالنسبة إلى أمر نفس المأمور به ، لا أمر غيره ، وحاصله :

أنّه بعد صدق الامتثال المتحقق بإتيان المأمور به على وجهه لا يبقى مجال لاقتضاء أمره للتعبد به ثانياً ، ضرورة أنّ المأتي به لمّا كان واجداً لجميع ما يعتبر في المأمور به فلا محالة يسقط به الغرض الداعي إلى الأمر ، وبسقوطه يسقط الأمر أيضا ، لترتبه على الغرض ، كما تقدم سابقاً.

(٢) متعلق بقوله : ـ موافقة ـ.

(٣) متعلق بقوله : ـ لا مجال ـ والضمير راجع إلى ـ الأمر ـ.

(٤) أي : المأمور به.

(٥) هذا استدراك من عدم المجال للتعبد به ثانياً ، ومحصله : ما أشار إليه في المسألة المتقدمة من أنّ الإتيان بالمأمور به إن كان علة تامة لحصول الغرض ، فلا إشكال في كونه مسقطاً للأمر ، ولا مجال حينئذٍ للتعبّد بذلك الأمر ثانياً. وإن لم يكن علة تامة لحصوله ، فلا مانع من التعبد بالأمر ثانياً من باب تبديل الامتثال ، وإيجاد فرد آخر من أفراد الطبيعة بدلاً عن الفرد الأول الّذي يكون أيضا وافياً بالغرض على تقدير الاكتفاء به ، كالمثال المعروف وهو ما إذا أمر المولى عبده بإحضار الماء ليتوضأ به أو ليشربه ، فأتاه العبد بالماء الصالح لهما ، فإنّه يجوز للعبد ما لم يحصل الوضوء أو الشرب تبديل الامتثال ، والإتيان بفرد آخر من أفراد الماء بدلاً عن الفرد الأوّل.

(٦) أي : إلى التعبد به أوّلا ، بحيث يكون التعبد بالمأمور به ثانياً بدلاً عن التعبد به أوّلا في مسقطيته للأمر ، لا منضماً إلى التعبد به أوّلاً حتى يلزم تعدد التعبد

١٧

كما أشرنا إليه (١) في المسألة السابقة (٢) ، وذلك (٣) فيما عُلم أنّ مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض (٤) وإن (*) كان (٥) وافياً به لو اكتفي به ، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ ، فإنّ (٦) الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعدُ ، ولذا (٧) لو أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً ،

______________________________________________________

إذ المفروض مطلوبية صرف الوجود ، وعدم تعلق الأمر بمجموع الفردين كما في الأفراد الدفعيّة.

(١) أي : إلى هذا الاستدراك.

(٢) وهي مسألة المرة والتكرار.

(٣) المشار إليه هو نفي البُعد عن جواز تبديل الامتثال ، وحاصله : أنّ مورد هذا الجواز إنّما هو صورة العلم بعدم كون الامتثال علة تامة لحصول الغرض مع وفائه بالغرض لو اكتفي بالامتثال الأوّل.

(٤) إذ لو كان علة تامة لحصوله للزم اجتماع علتين على معلول واحد ، وهو محال ، للزوم تحصيل الحاصل ، وسيتضح ذلك عند شرح قول المصنف فيما سيأتي إن شاء الله تعالى : ـ نعم فيما كان الإتيان علة تامة ـ.

(٥) يعني : وإن كان الامتثال الأوّل مع الاكتفاء به وافياً بالغرض ، إذ المفروض أنّ الماء في مثال المتن قابل لأن يستوفي المولى غرضه كرفع العطش ونحوه منه.

(٦) تعليل لقوله : ـ نعم لا يبعد ان يقال ـ وحاصله : أنّ وجه جواز تبديل الامتثال هو بقاء الأمر بحقيقته وهي الطلب الموجود في نفس المولى ، وملاكه وهو رفع العطش مثلاً الّذي هو داعٍ للأمر بإحضار الماء ، ولا يسقطان بمجرد إحضار الماء ، بل بشربه أو غيره من الأغراض الداعية إلى الطلب ، فما لم يتحقق الشرب الرافع للعطش أو غيره لم يسقط الأمر بحقيقته وملاكه.

(٧) يعني : ولأجل عدم سقوط الأمر حقيقة وملاكاً يجب على العبد الإتيان

__________________

(*) الأولى تبديل الواو بكلمة ـ لكن ـ ولا يخفى وجهه.

١٨

كما (١) إذا لم يأت به أوّلاً ، ضرورة (٢) بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه (٣) ، وإلّا (٤)

______________________________________________________

بالماء ثانياً لو اطلع على خروج الماء الأول عن قابليته للوفاء بغرض المولى وهو رفع العطش ، فقوله : ـ ولذا ـ من شواهد عدم كون الامتثال الأول علة تامة لسقوط الأمر والغرض (*).

(١) يعني : أنّ وجوب الإتيان الثاني ثابت لوجود الأمر ، كثبوته فيما إذا لم يأتِ بالفرد الأوّل الّذي خرج عن قابليته للوفاء بغرض المولى.

(٢) تعليل لوجوب الإتيان ثانياً ، وهو واضح مما تقدم آنفاً.

(٣) أي : إلى الطلب.

(٤) أي : وإن لم يجب إتيانه ثانياً مع بقاء الغرض ، لما أوجب الغرضُ حدوثَ الأمر ، توضيحه : أنّ بقاء الغرض مع فرض سقوط الطلب يكشف عن عدم عليّته لحدوث الأمر ، وهذا خلف.

__________________

(*) قد عرفت في مسألة المرة والتكرار : أنّ الامتثال علة تامة لسقوط الأمر ، لأنّ الامتثال إن كان دائراً مدار انطباق الطبيعي المأمور به على المأتي به ، فالمفروض حصوله ، فيسقط الأمر ، ولا يعقل عوده برفع اليد عن المأتي به بمعنى تنزيله منزلة المعدوم ، لعدم انقلاب الشيء عن النحو الّذي وقع عليه ، نعم يعقل ذلك بمعنى إعدامه في الموضوع كإراقة الماء في مثال الأمر بإحضاره ، لكنه مفقود في الشرعيات ، إذ لا معنى لإعدام المتعلّق كالصلاة مثلا بعد تحققها على وجهها. وإن كان دائراً مدار حصول الغرض وهو الفائدة المترتبة على فعل العبد الباعثة على الأمر به ، كتمكن المولى من الشرب مثلا المترتب على إحضار الماء ، فلا ريب أيضا في تحققه ، سواء لوحظ حيثية تعليلية أم تقييدية كما هو واضح. ودعوى : كون المراد بالغرض هو الفائدة المترتبة على فعل المولى كرفع العطش القائم بشربه ، والمفروض عدم حصوله بعد ، ولذا يجوز تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر من الماء غير مسموعة ، لأنّ الأمر الحقيقي بشيء حاكٍ عن الإرادة المترتبة على العلم بما في ذلك الشيء من الفائدة التي يعبّر عنها تارة بالداعي ، وأُخرى

١٩

لما أوجب حدوثه (١) ، فحينئذٍ (٢) يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ، كما

______________________________________________________

(١) أي : الأمر.

(٢) يعني : فحين بقاء الطلب والغرض يكون للعبد الإتيان بفرد آخر ، كما كان له الإتيان بهذا الفرد قبل الإتيان بالفرد الأول.

__________________

بالغرض ، إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما يتعلق به ، فلا يحكي إلّا عن المصلحة القائمة به ، دون المصالح والفوائد المترتبة على فعل آخر غير متعلقه ، كرفع العطش القائم بشرب المولى ، فلا يعقل أن يكون مثل رفع العطش حيثية تعليلية للأمر بإحضار الماء ، بل لا ينبعث الأمر به إلّا عن الفائدة القائمة بنفس الإحضار ، وهو تمكن المولى من الشرب مثلاً المفروض حصوله. كما لا يعقل أن يكون حيثية تقييدية له أيضا بحيث يتعلق به الطلب ، لخروجه عن حيِّز قدرة العبد الموجب لامتناع انبساط الطلب عليه ، لإناطة التكليف بالقدرة على متعلقه بشراشره من أجزائه وشرائطه. فالمتحصل : أنّ الأمر يسقط بإتيان متعلقه قطعاً من غير فرق في ذلك بين دوران الامتثال مدار موافقة المأتي به للمأمور به ، وبين دورانه مدار حصول الغرض. وأما ما يقال : في توجيه جواز تبديل الامتثال من جعل الفائدة المترتبة على فعل الغير كرفع عطش المولى المترتب على شربه عنواناً مشيراً إلى حصة خاصة من إحضار الماء ملازمة لشربه فراراً عن محذور التكليف بغير المقدور الّذي يلزم في صورة كونه جهة تقييدية ، ففيه أولا : أنّ تخصيص المتعلق ـ أعني الإحضار ـ بما يلازم شرب المولى مع عدم دخله في الحكم يكون تخصيصاً بلا مخصص ، وترجيحاً بلا مرجح ، لفرض تساوى جميع حصص طبيعة إحضار الماء في الحكم ، كما هو مقتضى مشيرية العنوان ، وإلّا كان خصوص الإحضار المقيد بالشرب محطَّ الطلب ، ومصبَّ البعث ، فيعود محذور الجهة التقييدية. وثانياً : أنّه لو سلمنا ذلك ، فهو مجرد احتمال لا يساعده في مقام الإثبات دليل ، حيث إنّ كون شيءٍ بهذا النحو مأموراً به محتاج إلى نهوض دليل خاص عليه ، وهو مفقود بالفرض. وثالثاً : أنّه أجنبي عن تبديل الامتثال ، ضرورة توقف عنوان التبديل على إيجاد متعلق الأمر

٢٠