منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

حيث (١) ينطبق الواجب على المأتي به حينئذ (٢) بتمامه وكماله ، لأن الطبيعي (٣) يصدق على الفرد بمشخصاته (٤).

نعم (٥) لو دار

______________________________________________________

للماهية ان كان واجبا أو جزءا للفرد ان كان مستحبا ، وذلك كالسورة مثلا بالنسبة إلى الصلاة ، إذا فرض دورانها بين جزئيتها للماهية ان كانت واجبة وللفرد ان كانت مستحبة ، فعلى تقدير جزئيتها للماهية فالواجب هو الأكثر ، وعلى تقدير جزئيتها للفرد وكونها من مشخصاته فالواجب هو الأقل ، فالسورة كالاستعاذة حينئذ.

وعليه فالمراد بجزء الماهية ما ينتفي بانتفائه الماهية كالأجزاء الواجبة ، وبجزء الفرد ما ينتفي بانتفائه الفرد كالأجزاء المستحبة وان لم تنتف الماهية ، فالصلاة تصدق مثلا على الواجدة للاستعاذة والفاقدة لها ، لعدم كونها من مقومات الطبيعة ، بخلاف الأجزاء الواجبة ، فان الفاقد لها لا يكون مصداقا للماهية.

(١) تعليل لقوله : «لا سيما» وقد عرفت وجه الخصوصية ، وأنه لا يكون الزائد لغوا على كل حال ، بل هو اما جزء الفرد واما جزء الماهية.

(٢) أي : حين دوران الزائد بين الجزئية للماهية وللفرد.

(٣) تعليل لقوله : «حيث ينطبق».

(٤) فان طبيعي الإنسان يصدق على زيد مع أن له مشخصات فردية ، لكن الصدق باعتبار أنه فرد للحيوان الناطق ، وكذا الصلاة جماعة في المسجد من مشخصات الفرد ويصدق الطبيعي عليه.

(٥) استدراك على قوله : «لأن الطبيعي يصدق» وحاصل الاستدراك : أنه إذا دار أمر المشكوك فيه بين كونه جزءا مطلقا ـ للماهية أو الفرد ـ وبين كونه خارجا وأجنبيا عن العبادة لم ينطبق الطبيعي عليه بتمامه ، إذ المشكوك فيه على تقدير عدم جزئيته خارج عن صميم الفعل العبادي وان لم يكن منافيا له ، وانما هو لغو ،

٢٢١

بين كونه (١) جزءا ومقارنا لما كان (٢) منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا (٣) ، لكنه (٤) غير ضائر ، لانطباقه عليه أيضا (٥) فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا ، غايته لا بتمامه (٦) بل بسائر أجزائه ، هذا.

مضافا (٧) إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس (٨) مما يقطع بخلافه

______________________________________________________

ولكن ينطبق الواجب على المأتي به في الجملة أي على أجزائه المعلومة ، وهو كاف في صحة العبادة.

(١) هذا الضمير والمستتر في «دار» راجعان إلى المشكوك فيه ، ومع احتمال مقارنته لا جزئيته لا وجه لقصد الوجوب به بالخصوص.

(٢) جواب «لو دار» واسم «كان» ضمير راجع إلى الطبيعي.

(٣) لا للماهية ولا للفرد ، وضمير «عليه» راجع إلى الفرد المأتي به.

(٤) أي : لكن عدم الانطباق على المأتي به بتمامه لو لم يكن المشكوك فيه جزءا غير ضائر ، لانطباق الكلي على المأتي به إجمالا.

(٥) أي : كانطباق الكلي على المأتي به في صورة دوران الجزء بين جزئيته للماهية وللفرد.

(٦) أي : لا ينطبق الطبيعي على تمام المأتي به ، بل على ما عدا ذلك الزائد من الأجزاء المعلومة.

(٧) هذا هو الوجه الثالث من وجوه المناقشة في كلام الشيخ الأعظم (قده) وحاصله : القطع بعدم دخل قصد الوجه أصلا لا في نفس الواجب ولا في أجزائه ، وما تقدم في الوجه الأول كان ناظرا إلى عدم الدليل على اعتبار قصد الوجه في خصوص الأجزاء.

(٨) أي : لا في الواجب ولا في أجزائه ، وذلك لما تقدم منه في مباحث القطع

٢٢٢

مع أن (١) الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من (٢) العبادات. مع أنه (٣) لو قيل باعتبار قصد الوجه

______________________________________________________

من أنه ليس منه في الأخبار عين ولا أثر ، وفي مثله مما يغفل عنه غالبا لا بد من التنبيه عليه حتى لا يلزم الإخلال بالغرض ، فراجع ما أفاده في مسألة العلم الإجمالي من مباحث القطع.

(١) هذا هو الوجه الرابع من وجوه الإشكال ، وحاصله : أن ما تقدم في كلام الشيخ الأعظم أخص من المدعى ، إذ المدعى وهو جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين لا يختص بالعبادات التي يعتبر فيها الإتيان بها على وجه قربي ، بل يعم التوصليات ، لاشتمالها أيضا على المصالح ، ومن المعلوم عدم اعتبار قصد الوجه في ترتبها على تلك الواجبات ، فيتوقف استيفاء الغرض فيها على فعل الأكثر مع عدم لزوم قصد الامتثال فيها فضلا عن قصد الوجه ، وحديث قصد الوجه مختص بالعبادات كما لا يخفى.

(٢) بيان للموصول في «بما لا بد أن يؤتي به ...» وضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول.

(٣) هذا هو الوجه الخامس من الإشكالات ، وهو إشكال على كلام الشيخ الّذي حكاه المصنف عنه بقوله : «فلم يبق الا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ...» وتوضيحه : أن قصد الوجه الّذي يتوقف عليه حصول الغرض الداعي إلى الأمر لا يخلو إما أن يكون شرطا في حصوله مطلقا حتى مع تعذر الإتيان به من جهة تردد المأمور به بين الأقل والأكثر المانع من تحقق قصد الوجوب ، وإما أن يكون مقيدا بصورة التمكن منه. فعلى الأول يلزم سقوط التكليف من أصله ، لتعذر شرطه الناشئ من الجهل بوجوب كل جزء ، وسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز رأسا حتى بالنسبة إلى الأقل ، لفرض عدم حصول الغرض لا به ولا

٢٢٣

في الامتثال فيها على وجه (١) ينافيه التردد والاحتمال ، فلا وجه (٢) معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلا ولو (٣) بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض ، وللزم (٤) الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله

______________________________________________________

بالأكثر ، فلا عقاب على تركه حتى يجب التخلص منه بفعل الأقل كما أفاده الشيخ.

وعلى الثاني يلزم سقوط قصد الوجه عن الاعتبار ، وعدم توقف حصول الغرض عليه ، ولا بد حينئذ من تحصيل الغرض. والعلم بحصوله منوط بإتيان الأكثر ، فيجب عقلا فعله ، بداهة عدم إحراز تحقق المصلحة والملاك بالأقل ، ولا مؤمّن من تبعة التكليف المعلوم إجمالا ، فيحتاط المكلف بفعل كل ما يحتمل دخله في حصول الغرض ، نظير الشك في المحصّل.

(١) متعلق بـ «قصد الوجه» وضمير «ينافيه» راجع إلى قصد الوجه ، يعني : إذا كان قصد الوجه المعتبر منوطا بتمييز وجه كل جزء من الأجزاء من الوجوب والاستحباب ، فلا محالة لا يتمشى قصده مع احتمال الجزئية وترددها ، لعدم إمكان تمييز الوجه حينئذ حتى يقصد.

(٢) جواب «لو» و «للزوم» متعلق بـ «فلا وجه» وضمير «معه» راجع إلى التردد والاحتمال.

(٣) وصلية ، ووجه عدم حصول الغرض هو توقف حصوله على قصد الوجه الموقوف على التمييز ، ومع عدم قصد الوجه لا يحصل الغرض ، لتوقفه على ما ليس بمقدور للعبد أعني تمييز وجه المشكوك فيه. ووجه عدم مراعاة الأمر المعلوم إجمالا ولو بإتيان الأقل الّذي التزم الشيخ (قده) بفعله تخلصا عن العقاب هو ما أوضحناه بقولنا : «فعلى الأول يلزم سقوط التكليف من أصله ، لتعذر شرطه الناشئ من الجهل بوجوب كل جزء ...»

(٤) معطوف على قوله : «فلا وجه معه» يعني : لو قيل باعتبار قصد الوجه

٢٢٤

ليحصل (١) القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه (٢) مع الأقل بسبب بقاء غرضه ، فافهم (٣) ،

______________________________________________________

على هذا النحو ، فان لم يحصل الغرض سقط العلم الإجمالي عن التأثير حتى بالنسبة إلى الأقل ، فلا يجب الإتيان به أيضا ، وان حصل الغرض لزم الإتيان بالأكثر لتوقف يقين الفراغ بعد العلم بالاشتغال عليه ، إذ مع الاقتصار على الأقل لا يحصل العلم بالفراغ ، لاحتمال بقاء الأمر بسبب احتمال بقاء غرضه ، فلا بد من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بتحقق الغرض.

(١) يعني : أنه بعد فرض إمكان تحصيل الغرض يجب الإتيان بالأكثر ، لكون المقام من صغريات قاعدة الاشتغال ، للشك في الفراغ مع الاقتصار على الأقل ، وضمير «حصوله» راجع إلى «الغرض».

(٢) أي : لاحتمال بقاء الأمر مع الإتيان بالأقل بسبب بقاء غرضه ، وضمير «غرضه» راجع إلى «الأمر».

(٣) لعله إشارة إلى : أن حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الفرض ، إذ المفروض اعتبار قصد الوجه المنوط بمعرفة وجه الأجزاء تفصيلا في العبادة ، ومقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو هو عدم إمكان إحرازه لا بالأقل ولا بالأكثر ، فلا موجب للإتيان بالأكثر أيضا كما لا يخفى.

أو إشارة إلى : أن الشيخ (قده) لم يجزم باعتبار قصد الوجه حتى لا يمكن تحصيل الغرض ، ويوجب ذلك سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقا حتى بالنسبة إلى إتيان الأقل ، بل احتمله ، حيث قال : «فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ... إلخ» ومن الواضح أن الاحتمال لا يوجب شيئا من القطع بعدم حصول الغرض ، ولا القطع بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. وعليه فيبقى المجال لمراعاة التكليف المعلوم بالإجمال ولو بإتيان

٢٢٥

هذا (١) بحسب حكم العقل.

وأما النقل (*) فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض

______________________________________________________

الأقل تخلصا عن تبعة مخالفة الأمر المعلوم إجمالا كما أفاده الشيخ (قده) فلا يرد عليه خامس الإشكالات.

(١) يعني : ما تقدم من الاحتياط بلزوم إتيان الأكثر كان راجعا إلى إثبات أحد جزأي المدعى وهو جريان قاعدة الاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وعدم جريان البراءة العقلية فيهما. وأما إثبات جزئه الآخر وهو جريان البراءة النقليّة فيهما ، فمحصله : أن البراءة الشرعية تجري في جزئية ما شك في جزئيته ، لشمول حديث الرفع لها ، فترتفع به ، ويتعين الواجب في الأقل.

وينبغي قبل توضيح المتن التعرض لملخص ما أفاده الشيخ الأعظم في المقام ، فان كلمات المصنف لا تخلو من تعريض به كما سيظهر ، قال (قده) : «وأما الدليل النقلي فهو الأخبار الدالة على البراءة الواضحة سندا ودلالة ، ولذا عول عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط بناء على وجوب مراعاة العلم الإجمالي ....»

وتوضيح ما أفاده : جريان حديث الرفع والحجب ونحوهما في وجوب الجزء المشكوك وجوبه ، وأن وجوب الأكثر مما حجب علمه فهو موضوع عن

__________________

(*) لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنه ينافيه رفع الجزئية المجهولة ، وانما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرد ثبوته واقعا.

وبالجملة : الشك في الجزئية أو الشرطية وان كان جامعا بين الموردين ، إلّا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية ، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالإيجاب ، فافهم.

٢٢٦

برفع جزئية ما شك في جزئيته ، فبمثله يرتفع الإجمال والتردد

______________________________________________________

العباد ، ولا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقل ، للعلم بوجوبه المردد بين النفسيّ والغيري. والمنع من جريان البراءة في الوجوب الغيري يعني في وجوب الأكثر ـ ودعوى اختصاص دليلها بالوجوب النفسيّ المشكوك كما التزم به شريف العلماء على ما حكي ـ لا وجه له ، بعد عدم الفرق بين الوجوبين النفسيّ والغيري المقدمي في كون كل منهما منشأ لاستحقاق العقاب على تركه ، أما استحقاقه على ترك الواجب النفسيّ فواضح ، وأما على الغيري فلا أقل من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسيّ.

وعليه فالمقتضي للبراءة الشرعية موجود ، وهو كون المرفوع مجعولا شرعيا مجهولا وفي رفعه منة ، والمانع مفقود ، فان المانع إما هو العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، واما هو معارضة الأصل مع أصالة عدم وجوب الأقل ، أما الأول فلارتفاعه ، لأن هذه الأخبار حاكمة عليه وموجبة لانحلاله ، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر المشكوك لو كان هو الواجب واقعا ، ومعه لا يحكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف الإلزامي في الأكثر من باب المقدمة العلمية.

وأما الثاني فلعدم كون الأقل موردا للأصل ، للعلم بوجوبه تفصيلا.

ثم تعرض الشيخ الأعظم لكلام صاحب الفصول الّذي منع من جريان البراءة في التكليف وحكم بجريانها في الحكم الوضعي ، قال : «والتحقيق التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئية والشرطية» وناقش الشيخ فيه بوجوه ، قال في جملتها : «ومنع كون الجزئية أمرا مجعولا شرعيا غير الحكم التكليفي ، وهو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء» هذا توضيح كلام الشيخ.

٢٢٧

عما (١) تردد أمره بين الأقل والأكثر

______________________________________________________

والمصنف أورد على هذه الكلمات وجهين من الإشكال تعرض لأحدهما في المتن كما ستقف عليه ، وللآخر في حاشية الرسائل ونتعرض له في التعليقة إن شاء الله تعالى (*).

وأما توضيح المتن فهو : أن أركان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطيين مجتمعة ، إذ المشكوك فيه هو جزئية مثل السورة للصلاة ، والجزئية مجعولة بتبع الجعل الشرعي لمنشإ انتزاعها ، وهذا المقدار من الدخل كاف في صحة جريان البراءة ، لعدم الدليل على اختصاص مجراها بما هو مجعول بالأصالة والاستقلال بل يشتمل المجعول الانتزاعي والتبعي أيضا ، مع كون هذا الرفع مساوقا للامتنان.

ولكن المصنف عدل عن جريان الأصل في التكليف ـ كما في كلام الشيخ ـ إلى جريانه في الوضع وهو الجزئية ، وقد يقال في وجهه : ان أصالة عدم وجوب الأكثر معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، ولازمه القطع بالمخالفة للمعلوم بالإجمال. وأما العلم بوجوب الأقل تفصيلا اما نفسيا واما غيريا فهو غير مفيد في الانحلال بنظر المصنف ، إذ المجدي هو العلم بالوجوب على كل تقدير ، ولا علم بهذا الوجوب كما عرفت مفصلا في تقريب منع انحلال العلم الإجمالي.

وهذا الإشكال غير جار في إجراء الأصل في الجزئية المشكوكة ، لأن أصالة عدم الكلية ـ أي عدم وجوب الأقل ـ لا أثر لها ، فان وجوب الإتيان بالأقل ليس من أحكام كليته حتى يرتفع بالأصل ، للعلم بلزوم الإتيان به سواء كان هو تمام الواجب أم بعضه.

(١) المراد بالموصول هو الواجب كالصلاة ، والضمير البارز في «يعينه» راجع إليه ، والمستتر فيه إلى «عموم مثل حديث الرفع».

__________________

(*) قال في حاشية الرسائل : «يمكن أن يقال : ان وجوب واحد من الأقل

٢٢٨

ويعيّنه (١) في الأول.

لا يقال (٢) : ان جزئية السورة المجهولة [المنسية] مثلا ليست

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «يرتفع» والأولى كونه بلفظ «ويتعين» أو «ويعين» بصيغة المجهول ، أو تبديل «فبمثله يرتفع» بـ «فمثله يرفع» إلّا أن يكون معطوفا على «قاض» يعني : أن عموم مثل حديث الرفع قاض ويعيّن الواجب في الأقل ، والأمر سهل بعد وضوح المطلب ، والمراد بـ «الأول» هو الأقل.

(٢) هذا إشكال على جريان البراءة الشرعية في وجوب الأكثر المشكوك فيه بالتقريب الّذي ذكره المصنف من جريانها في الوضع وهو الجزئية ، وهذا ناظر إلى ما تقدم نقله من كلام الشيخ الأعظم في جواب صاحب الفصول (قدهما) وتوضيح الإشكال : أن البراءة انما تجري فيما إذا كان المجهول شرعيا ، لأن مجرى البراءة على ما قرر في محله لا بد وأن يكون مما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين ، والمفروض أن الجزئية ليست أثرا شرعيا كحرمة شرب التتن ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ولا مما يترتب عليها أثر شرعي ، كالشك في سببية الالتزام النفسانيّ

__________________

والأكثر نفسيا مما لم يحجب علمه عنّا ولسنا في سعة منه كما هو قضية العلم به بحكم العقل أيضا حسب الفرض ، وهذا ينافي الحكم على الأكثر على التعيين بأنه موضوع عنّا ونحن في سعته ، فان نفي الوضع والسعة عما علم إجمالا وجوبه مع العلم تفصيلا بوجوب أحد طرفيه يستدعي نفيهما عنه ولو كان هو الطرف الآخر ، فلا بد اما من الحكم بعدم شمول هذه الأخبار لمثل المقام مما علم إجمالا وجوب شيء إجمالا ، واما من الحكم بأن الأكثر ليس مما حجب علمه ، فانه يعلم وجوب الإتيان به بحكم العقل مقدمة للعلم بإتيان ما لسنا في سعته ....» (١).

والظاهر أن هذه المناقشة غير متجهة على كلام الشيخ (قده) لتوقفها على

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٥٣

٢٢٩

بمجعولة وليس لها أثر مجعول ، والمرفوع (١) بحديث الرفع انما

______________________________________________________

المجرد عن اللفظ ـ في باب النذر ـ لوجوب الوفاء ، فان أصالة البراءة تجري في السببية التي ليست بنفسها حكما شرعيا ، ولكن يترتب عليه وجوب الوفاء ، فينتفي هو بجريان الأصل في السبب وهو الالتزام النفسانيّ. وعليه فلا مجال لجريان البراءة في الجزئية ، بل لا بد من إجرائها في التكليف مثل وجوب الجزء المشكوك فيه أو وجوب الأكثر.

ودعوى : أن الجزئية مما يترتب عليه أثر شرعي وهو وجوب الإعادة ـ على تقدير كون الواجب الواقعي هو الأكثر ـ فالبراءة تجري في الجزئية بلحاظ أثرها وهو وجوب الإعادة ، مدفوعة أوّلا : بأن وجوب الإعادة أثر لبقاء الأمر الأول أي الأمر بالأكثر ، لا جزئية السورة ، لأن الأمر بنفسه ـ ما لم يمتثل ـ يقتضي الإعادة عقلا ، دون الجزئية ، فالإعادة أثر لبقاء الأمر الأول ، لا أثر للجزئية.

وثانيا : بأن وجوب الإعادة لا يرتفع بمثل حديث الرفع ، لكونه عقليا من باب وجوب الإطاعة عقلا.

وبالجملة : فلا مجال للبراءة في جزئية المشكوك فيه ، لعدم كونها أثرا شرعيا ولا مما له أثر شرعي.

(١) الواو للحال ، يعني : والحال أنه يعتبر أن يكون المرفوع بحديث الرفع

__________________

الالتزام بأمرين أحدهما علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وثانيهما كاشفية العلم بالجامع عن الخصوصية القائمة بكل واحد من الأطراف.

وكلاهما ممنوع ، أما الأول فلأن المنسوب إلى الشيخ (قده) مبنى الاقتضاء لا العلية ، وان استظهر بعض مشايخنا المحققين من مجموع كلماته القول بالعلية ، إلّا أن لازم جريان الأصل المرخّص في بعض الأطراف هو تعليقية حكم العقل بالقطع بالموافقة ، ومع شمول حديث الرفع والحجب للأكثر المشكوك وجوبه

٢٣٠

هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب (١) الإعادة انما (٢) هو أثر بقاء

______________________________________________________

حكما أو موضوعا لحكم شرعي ، فالمراد بـ «بنفسه» الحكم ، وب «أثره» الموضوع للحكم.

(١) هذا تقريب توهم ترتب الأثر على جريان الحديث في الجزئية ، وقد عرفته بقولنا : «ودعوى أن الجزئية مما يترتب عليه أثر شرعي .... إلخ».

(٢) هذا إشارة إلى الجواب الأول عن الدعوى المذكورة المتقدم بقولنا : «مدفوعة أولا بأن وجوب الإعادة .... إلخ».

__________________

يحصل الأمن من المؤاخذة على تقدير تعلق التكليف به واقعا ، فيعود النزاع مبنائيا.

وأما الثاني ، فلأن المعلوم بالإجمال هو الجامع بين الأطراف ، ولا علم بتعلق التكليف بكل واحد منها بالخصوص ، وإلّا كان معلوما بالتفصيل لا بالإجمال ، وهذا خلف كما هو واضح. وغاية ما يقتضيه العلم بالجامع عقلا هو رعاية احتمال التكليف في كل منها من باب المقدمة العلمية ودفع الضرر المحتمل ، ومن المعلوم حصول التأمين الشرعي بشمول مثل حديث الحجب لبعض الأطراف ، وحيث ان الأقل ليس مجرى للأصل ، فيجري في وجوب الأكثر المشكوك فيه بلا مانع. نعم يلزم القطع بالمخالفة للمعلوم بالإجمال لو التزم بشمول دليل الأصل لتمام الأطراف ، لكنه أجنبي عن مقالة من يدعي اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، هذا.

مضافا إلى : أن العلم بالجامع لو اقتضى الاشتغال والمنع عن جريان البراءة لم يفرق فيه بين إجرائها في جزئية المشكوك فيه كما في المتن وبين إجرائها في وجوب الأكثر كما في الرسائل ، لاستلزامه لفوات المعلوم بالإجمال في كلتا الصورتين على تقدير تعلقه بالأكثر. ومناقضة الإرادة الفعلية على كل تقدير لعدم الإرادة كذلك على تقدير تعلق الأمر بالأكثر واضحة ، وقد تقدم منه أن الحكم الفعلي من

٢٣١

الأمر بعد العلم [التذكر]. مع (١) أنه عقلي ، وليس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلا.

______________________________________________________

(١) أي : مع أن وجوب الإعادة ، وهذا إشارة إلى الجواب الثاني عن تلك الدعوى ، المذكور بقولنا : «وثانيا بأن وجوب الإعادة لا يرتفع ... إلخ» وضمير «ليس» راجع إلى وجوب الإعادة.

__________________

جميع الجهات لا بد من موافقته قطعا ، ولا مجال لجعل الترخيص في بعض الأطراف للمناقضة ، ومن المعلوم منافاة الترخيص سواء كان بلسان نفي الوجوب أم بلسان نفي الجزئية للعلم بمطلوبية الجامع على كل تقدير. ولعله لذا عدل (قده) في الهامش إلى عدم جريان البراءة النقليّة فيما هو مورد حكم العقل بلزوم الإطاعة ، فلاحظه.

والحاصل : أن مقتضى تنجز الحكم الفعلي من جميع الجهات لزوم امتثاله عقلا ، وعدم جواز جريان شيء من البراءتين العقلية والنقليّة فيه.

وكلامه في عدوله عن مسلك الشيخ (قده) من جريان البراءة في التكليف وهو وجوب الأكثر إلى إجرائه في الوضع أعني الجزئية غير ظاهر الوجه ، فانه في «لا يقال» التزم بمجعولية الجزئية تبعا لجعل منشأ انتزاعها ، وهذا رجوع إلى كلام الشيخ من إجراء أصالة عدم وجوب الأكثر ، فلا جدوى في إجرائها في الوضع أوّلا ثم تصحيح ذلك بإجرائها في التكليف ثانيا ، إذ لا وجود للوضع المفروض كونه انتزاعيا وراء وجود منشئه وهو التكليف.

نعم تخلص من إشكال عدم بقاء الوضع بعد ارتفاع التكليف بالأصل في حاشية الرسائل بجعل الحكم التكليفي سببا للوضعي ، ومن المعلوم تحقق الاثنينية وجودا بين كل سبب ومسببه ، فلا مانع حينئذ من كون المرفوع في وعاء التشريع هو المسبب فقط وعدم التعرض لسببه ، قال (قده) في جواب توهم الملازمة بين

٢٣٢

لأنه يقال (١) : ان الجزئية وان كانت غير مجعولة بنفسها ، الا

______________________________________________________

(١) هذا دفع الإشكال وإيراد على كلام الشيخ الأعظم ، ومحصله : أن الجزئية وان لم تكن مجعولة لكونها أمرا انتزاعيا ، إلّا أن منشأ انتزاعها وهو الأمر مجعول شرعي ، وهذا يكفي في جريان البراءة فيها ، إذ المهم كون مجرى الأصل مما تناله يد التشريع وضعا ورفعا ولو بالواسطة سواء كان مجعولا بالاستقلال كالأحكام التكليفية المستقلة كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أم بالتبع كالأحكام الوضعيّة نظير الجزئية والشرطية ونحوهما ، فمجرد تبعية الوضع للتكليف لا يمنع من شمول الحديث له ، لإمكان رفعه برفع منشأ الانتزاع وهو تعلق الأمر النفسيّ بالأكثر. وضمائر «بنفسها ، أنها ، انتزاعها» راجعة إلى الجزئية.

__________________

رفع الأحكام التكليفية والوضعيّة : «قلت : مجرد تبعيتها لها في الرفع والوضع لا يقتضي اتحاد رفعها مع رفعها ووضعها مع وضعها ، بداهة أن السببية والمسببية تقتضيان الاثنينية لا الاتحاد والعينية».

وفيه : أن الإشكال المزبور لا يندفع بما أفاده (قده) سواء أكانت الجزئية منتزعة عن الأمر أم مسببة عنه ، ضرورة أنه على الأول لا وجود للجزئية حتى تنفي بالأصل ، وانما الوجود لمنشإ انتزاعها ، إذ الأمر الانتزاعي اعتبار يعتبره المعتبر من وجود شيء ، فلا وجود له حتى ينفي بأصل البراءة. وعلى الثاني وان كان لكل من السبب والمسبب وجود على حدة ، إلّا أنه لمّا كان المسبب رشحا وأثرا له فلا يعقل بقاء السبب التام بعد انتفاء مسببه ، بل ارتفاعه يكشف عن انتفاء سببه لعدم انفكاك المعلول عن علته التامة ، كعدم تعقل عدم تأثير العلة التامة في معلولها.

فالنتيجة : امتناع نفي الجزئية مع بقاء الأمر سواء كانت الجزئية مسببة عن الأمر أم منتزعة عنه.

٢٣٣

أنها مجعولة بمنشإ انتزاعها ، وهذا (١) كاف في صحة رفعها.

لا يقال (٢) : انما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه وهو الأمر الأول (٣) ، ولا دليل (٤) آخر على أمر آخر (٥) بالخالي عنه (٦).

______________________________________________________

(١) أي : الجعل التبعي للجزئية كاف في صحة جريان البراءة فيها ، وضمير «رفعها» راجع إلى الجزئية.

(٢) هذا إشكال على كون الرفع بلحاظ الأمر الّذي هو منشأ انتزاع الجزئية مثل قوله تعالى : «أقيموا الصلاة» المشكوك تعلقه بالسورة مثلا.

توضيح هذا الإشكال هو : أنه بعد جريان أصالة البراءة في الأمر بالأكثر الّذي هو منشأ انتزاع الجزئية لا يبقى أمر يتعلق بالأقل ، والمفروض عدم دليل آخر يدل على كون الواجب هو الأقل ، وأصالة البراءة أيضا لا تثبته إلّا على القول بحجية الأصول المثبتة ، فلا وجه حينئذ لما أفيد قبيل هذا من «أن عموم حديث الرفع يرفع الإجمال والتردد عن الواجب المردد بين الأقل والأكثر ويعينه في الأقل» وذلك لبداهة ارتفاع الأمر بأصل البراءة ، ولا أمر آخر يدل على كون الواجب هو الأقل الخالي عما شك في جزئيته.

فالنتيجة : أن البراءة الشرعية لا تجري حتى يثبت أن الواجب هو الأقل وينحل به العلم الإجمالي بل يجب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر.

(٣) وهو الأمر المتعلق بالأكثر المفروض ارتفاعه بحديث الرفع.

(٤) أي : والحال أنه لا دليل آخر على تعلق طلب آخر بالأقل.

(٥) يعني : غير الأمر الأول المتعلق بالأكثر المرتفع بحديث الرفع.

(٦) أي : عما شك في جزئيته ، والمراد بالخالي عن المشكوك هو الأقل.

٢٣٤

لأنه يقال : نعم (١) وان كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه (٢) ،

______________________________________________________

(١) أي : وان لم يكن دليل آخر على وجوب الأقل بعد نفي الأكثر بالبراءة ، إلّا أنه يمكن إثبات وجوب الأقل بطريق آخر سيأتي بيانه ، وهذا جواب الإشكال ومحصله : أن الوجه في ثبوت الأمر بالأقل ليس هو البراءة الشرعية حتى يقال : ان الأصل لا يثبت اللوازم ، بل الوجه في ذلك هو الجمع بين أدلة الأجزاء ، ووجوب وبين أدلة البراءة الشرعية ، حيث ان وجوب الأقل معلوم بنفس أدلة الأجزاء ، ووجوب الأكثر منفي بالبراءة الشرعية ، فيكون مثل حديث الرفع بمنزلة الاستثناء وتقييد إطلاقها لحالتي العلم والجهل بجزئية الأجزاء ، فإذا فرض جزئية السورة مثلا للصلاة واقعا كان مثل حديث الرفع نافيا لجزئيتها في حال الجهل بها ، فكأن الشارع قال : «يجب في الصلاة التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهد مطلقا علم بها المكلف أم لا ، وتجب السورة إذا علم بجزئيتها» وهذا التحديد نشأ من حكومة حديث الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط حكومة ظاهرية موجبة لاختصاص الجزئية بحال العلم بها على نحو لا يلزم التصويب كما مر في بحث أصل البراءة. كما أن إطلاق دليل الجزئية لحالتي التذكر والنسيان يتقيد بفقرة «رفع النسيان» بصورة التذكر.

وبالجملة : فوجوب الأقل مستند إلى أدلة الأجزاء لا إلى حديث الرفع حتى يتوهم أن إثبات ذلك به يتوقف على القول بالأصل المثبت ، والحديث ينفى خصوص الوجوب الضمني المتعلق بما شك في جزئيته ، ولا ينفي تمام الوجوب على تقدير ثبوته للأكثر.

(٢) هذا الضمير وضمير «ارتفاعه» راجعان إلى الأمر الانتزاعي ، وهذا كارتفاع جزئية السورة بارتفاع منشأ انتزاعه وهو الأمر الضمني المتعلق بها ، و «الناظر» صفة لـ «حديث الرفع» وإشارة إلى الحكومة التي أشرنا إليها بقولنا : «وهذا

٢٣٥

إلّا أن نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء إليها نسبة (١) الاستثناء ، وهو (٢) معها يكون دالا [دالة] على جزئيتها إلّا مع الجهل بها [نسيانها] كما لا يخفى ، فتدبر جيدا (*).

______________________________________________________

التحديد نشأ من حكومة حديث الرفع ... إلخ» وضمير «إليها» راجع إلى «الأدلة»

(١) خبر «أن نسبة» فكأنه قيل : «السورة مثلا واجبة في الصلاة إلّا مع الجهل بجزئيتها» وهذا الاستثناء مفاد حديث الرفع ، فبعد انضمامه إلى أدلة الأجزاء يستفاد وجوب الأقل وعدم جزئية مشكوك الجزئية وان كان جزءا واقعا.

(٢) يعني : وحديث الرفع مع أدلة الأجزاء يكون دالا على جزئية الأجزاء إلّا مع الجهل بجزئيتها ، وهذا محصل الجمع بين أدلة الأجزاء وحديث الرفع الّذي جعل كالاستثناء بالنسبة إليها ، وضمير «هو» راجع إلى «حديث الرفع» وضمير «معها» إلى «الأدلة» وضمير «جزئيتها» إلى «الأجزاء» وضمير «بها» إلى «جزئيتها».

__________________

(*) قد يقال : انه بناء على المنع من جريان البراءة العقلية لا دليل على كون الواجب الفعلي هو الأقل ولو ظاهرا حتى يكون الإتيان به مفرّغا جعليا عما ثبت في العهدة بالعلم الإجمالي ، والوجه فيه توقفه على حجية الأصول المثبتة كي يقتضي نفي وجوب الأكثر كون الواجب هو الأقل ، لأن رفع المشكوك لا يثبت كون الأقل مطلقا غير مقيد بالمشكوك ، لمغايرة الماهية اللابشرط القسمي للماهية بشرط شيء ، وإثبات أحد الضدين بنفي الآخر من أظهر الأصول المثبتة.

وقد تفصي منه بوجوه نذكر بعضها ، فمنها : ما التزم به المصنف من أن الدليل على وجوب الأقل هو الجمع بين أدلة الأجزاء المعلومة وحديث الرفع ، وقد

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عرفت توضيحه مع تأييده.

ولكن ناقش فيه جمع من الأعاظم بما محصله : أنه لا شك في تأخر الرفع الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، لتأخر الظاهري عن موضوعه أعني به الشك الّذي هو متأخر عن متعلقه وهو الحكم الواقعي ، لكونه من عوارضه ، فالواقع متقدم على ما يقتضيه الأصل العملي من الرفع الظاهري برتبتين ، ولا ريب في استحالة تحقق المعيّة في الرتبة بين أمرين يتقدم أحدهما على الآخر ، لامتناع اجتماع المتقابلين وان أمكن اجتماعهما زمانا كما يوجد المعلول بوجود علته التامة ويجتمعان زمانا ، لا رتبة ، لتقدم العلة رتبة على المعلول كما هو واضح. وبناء على هذا يستحيل أن يكون نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء ، إذ الاستثناء كسائر أنحاء التقييد يقتضي اتحاد المطلق والمقيد رتبة ، ومع طولية كل حكم ظاهري للحكم الواقعي يمتنع التقييد ، إلّا بأن يكون مفاد حديث الرفع واقعا في رتبة الواقع أو بالعكس ، فتنقلب النسبة حينئذ من التقدم والتأخر إلى المعية والاتحاد الرتبي ، وهذا مما لا يلتزم به أحد.

«وتوهم أن الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ، إلّا أن الحكم الواقعي ولو بنتيجة الإطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري ، وبذلك يمكن تعلق الرفع في تلك المرتبة بفعلية الحكم الواقعي ، مدفوع بأنه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي كيف يمكن توهم كون الحكم الواقعي ولو بنتيجة الإطلاق في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته ، فان مرجع طولية الحكم الظاهري بعد أن كان إلى أخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي في مرتبة الشك بنفسه ، وهل هو إلّا دعوى أن المعروض في مرتبة

٢٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عارضه ..» (١).

وهذا الإشكال لا يخلو من قوة ، ولذا قد يوجه المتن بما يسلم معه منه ، فقال العلامة المشكيني (قده) بعد توضيح كلام المصنف ما لفظه : «هذا ملخص ما أفاده في درسه في الدورة الأخيرة ، ومنه يظهر وجود مسامحة في العبارة ، وأن نظر حديث الرفع وكونه بمنزلة الاستثناء انما هو بالنسبة إلى الدليل المجمل لا بالنسبة إلى أدلة الأجزاء المعلومة كما فرضه في العبارة. وظني أن العبارة ناظرة إلى النسخة القديمة ، إذ هي صحيحة بناء على فرض النسيان كما لا يخفى ، وقد غفل عن تصحيح هذه العبارة عند تصحيح الأول ...».

أقول : بعد المراجعة إلى النسخ المطبوعة المختلفة لم نظفر على المتن المشتمل على كلمة «المنسية ، بعد التذكر ، إلّا مع نسيانها» بدل «المجهولة ، بعد العلم الا مع الجهل بها» إلّا في المطبوعة أخيرا مع حواشي العلامة المشكيني (قده). وإلّا فالمطبوعة في بغداد في أخريات حياة المؤلف طاب ثراه خالية من «المنسية ...» وكذا المطبوعة مع حواشي العلامة القوچاني وغيرهما من النسخ. ونحن عولنا عليها وجعلنا الأصل موافقا لها و «المنسية» بدلا.

وهذا هو الأصح ، إذ يشهد لكون الصادر من قلم المؤلف «المجهولة» أن الكلام فعلا في الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء الخارجية فيما إذا لم يقم دليل على جزئية بعض الأجزاء ، وأن المقتضي لجريان أصل البراءة لنفيها ظاهرا موجود أم لا ، وأما التمسك بحديث الرفع لصحة العبادة الفاقدة للجزء المنسي لعدم جزئيته حال النسيان فهو غير مبحوث عنه فعلا ، وانما عقد المصنف ثاني التنبيهات لحكم

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٩٢

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نسيان الجزء وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فان أريد من ضم حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء المعلومة تصحيح العبادة المجردة عن الجزء المنسي فلا ريب في صحته ، لحكومة حديث رفع النسيان عليها ، وأنه اما مقيّد لإطلاقها ، واما مبيّن لإجمالها إذا كانت مجملة ، وقد تعرض المصنف لهذا في حاشية الرسائل في بعض تعاليق حديث الرفع ، قال : «فيكون ـ أي حديث الرفع ـ أيضا حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، ويكون مع دليلهما بمنزلة دليل واحد مقيد لإطلاق دليل وجوب المركب أو المشروط لو كان له إطلاق ، وإلّا فمبين لإجماله .... إلخ» (١).

وان أريد من ضمه إليها إثبات وجوب الأقل وجواز الاكتفاء به في مقام الامتثال وتفريغ الذّمّة ، فيمكن أن يقال : ان أصالة البراءة وان لم تكن في مرتبة إنشاء الحكم الواقعي وفعليته ، لكنها في مرتبة تنجزه وعدمه كالاحتياط الّذي هو منجز له ، فالبراءة نقيض الاحتياط رافعة لتنجزه ، وحينئذ يصح أن يكون رفع الحكم المجهول في حكم الاستثناء بالنسبة إلى سائر أدلة أجزاء المركب ، فيستثنى الجزء المشكوك من تنجز أجزاء المركب ، فلو كان جزءا واقعا لم يكن منجزا ، فالاستثناء بهذه المئونة يصح أن يرد على مشكوك الجزئية ، ويقال : أجزاء الصلاة واجبة ومنجزة إلّا السورة ، فانها على تقدير وجوبها غير منجزة ، وتكون حكومة البراءة عليها كسائر الأصول حكومة ظاهرية لا ينافيها جزئية السورة واقعا. نظير استصحاب الطهارة الحاكم ظاهرا على ما يدل على اشتراط مثل الصلاة بالطهارة.

وهذا بخلاف رفع الاضطرار والنسيان وأخواتهما ، فان حكومتها على أدلة الأحكام

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١١٨

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأولية حكومة واقعية.

ولو كان المحذور مجرد تعدد الرتبة ـ كما تقدم في عبارة تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) ـ لتوجه أيضا على جعل الاحتياط منجزا للواقع ، إذ هو موصل للحكم غير الواصل بعنوانه إلى المكلف ، ولو لم يكن الواقع ولو بنتيجة الإطلاق محفوظا حال الجهل به ، لم يتصور بيانية الاحتياط له.

ومنها : ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) من : أن إشكال مثبتية الأصل منوط بكون الإطلاق أمرا وجوديا كما ينسب إلى جملة من المحققين ، حيث ان الإطلاق حينئذ كالتقييد يكون أمرا وجوديا ، والتقابل بينهما تقابل التضاد ، فإثبات الإطلاق بنفي دخل المشكوك يكون من إثبات أحد الضدين بنفي الآخر ، وهو من أقوى الأصول المثبتة ، لكن الحق كون الإطلاق أمرا عدميا ، وهو عدم لحاظ شيء قيدا أو جزءا ، وحينئذ تجري البراءة عن تقيد الأجزاء المعلومة بالمشكوك ويثبت إطلاقها أي عدم تقيدها به ، وعليه فالإطلاق هنا عين مفاد البراءة لا أنه لازم لجريانها في الأكثر كي يتوجه عليه محذور الإثبات.

وأورد عليه بعض المحققين بما لفظه : «ان الإطلاق بمعنى اللابشرطية معنى ، وعدم تقيد الماهية بخصوصية معنى آخر ، فان اللابشرطية ملاحظة الماهية بحيث لا تكون مقترنة بخصوصية ولا مقترنة بعدمها ، فعدم الاقتران بالخصوصية لازم أعم للماهية اللابشرط والماهية بشرط لا ، لا أنه عين لحاظ الماهية لا بشرط. نعم بعد الفراغ عن عدم اقتران الماهية بعدم الخصوصية ينحصر الأمر قهرا في الماهية اللابشرط ، وهذا غير العينية» (١)

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٧٥.

٢٤٠