منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

النجس المعلوم بالإجمال ، وأنه (١) تارة يجب الاجتناب عن الملاقى (٢) دون ملاقيه فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها (٣)

______________________________________________________

المقدمة العلمية بخصوص الأطراف دون غيرها كالملاقي لبعضها ـ ظهر : أنه يجب التفصيل ـ في حكم الملاقي لبعض أطراف النجس المعلوم إجمالا ـ بالاجتناب تارة عن الملاقى دون ملاقيه ، وأخرى بالعكس ، وثالثة عن كليهما ، فالصور ثلاث ، وسيأتي بيانها.

(١) عطف تفسيري للحال والضمير للشأن.

(٢) جرى الاصطلاح على تسمية ما يكون منشأ لاحتمال النجاسة بالملاقى ـ بالفتح ـ والآخر بالملاقي ـ بالكسر ـ وإلّا فيصدق على كل واحد من المتلاقيين عنوان الملاقى والملاقي نظرا إلى ما يقتضيه باب المفاعلة من صدق عنواني الفاعل والمفعول على كل من الطرفين باعتبارين. وقوله : «فيما» متعلق بـ «يجب».

(٣) أي : بين الأطراف ، وهذا بيان للصورة الأولى ، وقد عرفت حالها من مطاوي ما تقدم ونزيدها توضيحا ، فنقول : إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين المفروض أحدهما أبيض والآخر أحمر ، ثم علم بملاقاة ثوب للأبيض مثلا وجب الاجتناب عقلا عن خصوص الطرفين دون الثوب الملاقي لأحدهما ، لعدم كون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم إجمالا المردد بين الإناءين. واحتمال نجاسة الملاقي وان كان موجودا ، إلّا أنه على تقدير نجاسته يتوقف وجوب الاجتناب عنه على خطاب آخر غير الخطاب المعلوم بالإجمال ، ولمّا كانت مشكوكة لأنه لاقى محتمل النجاسة ولم يلاق النجس المعلوم ، فتوجه خطاب آخر أعني «اجتنب عن الملاقي للنجس» إلى المكلف غير معلوم ، ومقتضى الأصل الموضوعي أعني استصحاب عدم الملاقاة للنجس أو الأصل الحكمي كاستصحاب الطهارة أو قاعدتها هو عدم وجوب الاجتناب عنه ، لسلامة

١٤١

فانه (١) إذا اجتنب عنه وطرفه (٢) اجتنب عن النجس (٣) في البين قطعا ولو ((٤) لم يجتنب عما يلاقيه ،

______________________________________________________

أصله من التعارض والحكومة ، فان الشك في نجاسته وان كان ناشئا من الشك في نجاسة الملاقي ومسببا عنه ، ومقتضى حكومة الأصل السببي على المسببي عدم جريان الأصل فيه ، إلّا أن سقوط أصل الملاقى بالمعارضة مع أصل طرفه أوجب سلامة الأصل وجريانه في ملاقيه بلا مانع من التعارض والحكومة.

لا يقال : انه يحدث بالملاقاة علم إجمالي آخر طرفاه الملاقي ـ بالكسر ـ وهو الثوب في المثال المذكور وعدل الملاقى ـ بالفتح ـ وهو الإناء الأحمر ، وهو يوجب الاجتناب عن الملاقي أعني الثوب أيضا ، ولا يجري الأصل النافي فيه للتعارض ، كما لا يجري في الأصليين.

فانه يقال : ان هذا العلم الإجمالي وان كان يحدث حينئذ قطعا ، لكنه غير مؤثر في توجيه الخطاب بالملاقي ، لتنجز أحد طرفيه ـ أعني به عدل الملاقى ـ بمنجز سابق وهو العلم الإجمالي الأوّل الدائر بين الأصليين ، فلا أثر للعلم الإجمالي الثاني في تنجزه من جديد ، لعدم تنجز المنجز ثانيا ، هذا مجمل الكلام حول عدم تنجز التكليف بالعلم الإجمالي الثاني بالنسبة إلى الملاقي ، وان شئت التفصيل فلاحظ ما ذكرناه في التعليقة.

(١) هذا تعليل لوجوب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه ، وقد عرفت توضيحه مفصلا ، وضمير «فانه» اما راجع إلى المكلف واما للشأن.

(٢) بالجر معطوف على ضمير «عنه» وضميره وضمير «عنه» راجعان إلى الملاقى.

(٣) أي : النجس المعلوم إجمالا.

(٤) كلمة «لو» وصلية ، يعني : حتى إذا لم يجتنب عن الملاقي ، ولكن

١٤٢

فانه (١) على تقدير نجاسته لنجاسته (٢) كان فردا آخر من النجس قد شك في وجوده كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر (٣).

ومنه (٤) ظهر أنه لا مجال لتوهم

______________________________________________________

اجتنب عن الملاقى وطرفه ، لما عرفت من أن ملاقيه على تقدير نجاسته فرد آخر للنجس ، وليس مما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال حتى يشمله خطابه ويتوقف امتثاله على اجتناب ما يلاقي بعض الأطراف.

(١) تعليل لتحقق امتثال خطاب «اجتنب عن النجس» بمجرد الاجتناب عن الأصليين من دون توقفه على الاجتناب عن الملاقي ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «إلّا أنه على تقدير نجاسته يتوقف وجوب الاجتناب عنه ... إلخ».

(٢) أي : لنجاسة الملاقى ، وضميرا «فانه ، نجاسته» راجعان إلى الملاقي ، يعني : أن نجاسته الملاقي ـ على فرض كونه نجسا ـ ناشئة من نجاسة الملاقى ، وقوله : «كان» خبر «فانه».

(٣) يعني : كشيء آخر لا علاقة له بالطرفين ولا بالملاقي ، حيث لا يجب الاجتناب عنه فيما إذا شك في نجاسته بسبب آخر غير ملاقاته ببعض أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا شك ـ بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بالبول مثلا ـ في نجاسة العباء بالدم أو غيره ، فان من الواضح عدم توقف اليقين بامتثال «اجتنب عن النجس» المردد بين الإناءين على اجتناب العباء ، لتعدد الخطاب. هذا كله بناء على أن يكون الاجتناب عن الملاقي للنجس للتعبد وكونه موضوعا آخر. وأما بناء على السراية فسيأتي.

(٤) أي : ومن كون الملاقي لبعض الأطراف على تقدير نجاسته بإصابته للنجس واقعا فردا آخر للنجس لا علاقة له بأطراف المعلوم بالإجمال حتى يتوقف امتثاله

١٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على اجتنابه أيضا ظهر : أنه لا وجه لتوهم اقتضاء نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس لوجوب الاجتناب عن ملاقيه ، بدعوى أن الملاقي من شئون الملاقى.

وغرضه من هذا الكلام الإشارة إلى القول الآخر في المسألة ـ وهو وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المبني على السراية ، وقد عرفت معنى السراية والتعبد ـ قال شيخنا الأعظم : «ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : والرجز فاهجر. ويدل عليه أيضا ما في بعض الاخبار من الاستدلال على حرمة الطعام الّذي مات فيه فأرة بأن الله سبحانه حرم الميتة ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين (*) فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه ....».

ومحصل التوهم : دعوى الملازمة بين المتلاقيين في الحكم. وقد أفيد في وجهه أمران : أحدهما ظهور الآية الشريفة في الملازمة بين وجوب هجر عين النجس والاجتناب عنه وبين وجوب هجر ما يلاقيه ، ولو لا هذا الظهور لم يتجه استدلال السيد أبي المكارم قدس‌سره ـ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ووجوب الاجتناب عنه ـ بالآية الشريفة ، وجه الظهور : لزوم هجر النجس بتمام شئونه وتوابعه ، ومن توابعه ملاقيه ، فيجب هجره أيضا.

ثانيهما : رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «أتاه رجل

__________________

(*) لا يخلو من مسامحة ظاهرة ، فان موضوع حكم الشارع بوجوب هجره هو عين النجس الواقعي المعلوم بالإجمال. وأما أطراف الشبهة فلا حكم للشارع فيها أصلا ، وانما هو حكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف المنجز في كل واحد من الأطراف تحصيلا للعلم بالامتثال كما لا يخفى.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال له الرّجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال عليه‌السلام : انك لم تستخف بالفأرة وانما استخففت بدينك ، ان الله حرم الميتة من كل شيء» (١) وتقريب دلالتها على المدعى ـ أعني به كون نجاسة الملاقي للميتة عين نجاسة الميتة وحرمته عين حرمتها ـ هو : أن الإمام عليه‌السلام علل حرمة أكل السمن الملاقي للميتة بقوله : «ان الله حرم الميتة من كل شيء» فلو لا تمامية الكبرى وتسلمها وهي استلزام تحريم الشيء ووجوب الاجتناب عنه لتحريم ملاقيه ووجوب الاجتناب عنه أيضا لم يكن لهذا التعليل وجه ، ضرورة أن أكل الطعام الملاقي للميتة ليس استخفافا بتحريم الميتة ، بل هو استخفاف بحرمة أكل ملاقي الميتة الثابت بدليل آخر ، فالتعليل بحرمة الميتة لا يتجه إلّا بكون حرمة ملاقي الميتة هي حرمة نفس الميتة.

وقد تحصل : أن مقتضى هذا الوجه ـ أعني السراية واتساع الموضوع هو نجاسة الملاقي. وعليه فلا بد من الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ، لتبعية الملاقي للملاقى كتبعية ولد العالم للعالم وكون إكرامه من شئون إكرامه ، فإكرامه كما هو حقه لا يتحقق إلّا بإكرام ولده ، بل ما نحن فيه أعني السراية أولى من التبعية كما لا يخفى.

إلّا أن كلا هذين الأمرين ممنوع. أما الأول ، فلأن «الرجز» بالضم والكسر بمعنى واحد ، وهو القذر والرجس والنجس ، وقد جاء بمعنى وسوسة الشيطان في قوله تعالى : «ونزعنا عنهم رجز الشيطان» وبمعنى العذاب في قوله : «فلما كشفنا عنهم الرجز» وأيّا ما كان معناه في الآية المستدل بها فهو غير ظاهر في حكم

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث : ٢ ص ١٤٩

١٤٥

أن قضية (١) تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا (٢) ، ضرورة (٣) أن العلم به انما يوجب

______________________________________________________

الملاقي للنجس ، إذ الأمر بالهجر تعلق بعين الرجز لا بما هو أعم من العين والملاقي.

وأما الثاني فلضعف الرواية سندا ودلالة.

أما الأول فبعمرو بن شمر ، حيث ان النجاشي ضعفه بقوله : «ضعيف جدا» ولأجله لا يعتد بتوثيق أرباب كامل الزيارات وتفسير القمي والمستدرك ، وغاية المعارضة هي صيرورة الرّجل مجهولا.

وأما الثاني ، فبأن ظاهرها الملازمة بين حرمة الشيء سواء كان نجسا أم طاهرا وبين حرمة ملاقيه ، لأن الميتة المحرمة لا تختص بالنجسة وهي ميتة الحيوان الّذي له نفس سائلة ، وليس هذا هو المدعى الّذي استدل عليه بهذه الرواية ، بل المدعى هو الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه ، فالاستدلال بها على المطلوب منوط باختصاص الحرام بما إذا كان نجسا ، وأما إذا كان طاهرا كميتة الحيوان الّذي ليس له دم سائل فلا يكون ملاقيه حراما وواجب الاجتناب ، وهذا خارج عن طريق الاستدلال بالرواية.

وعليه ، فبعد قصور الدليل عن إثبات نجاسة الملاقي بناء على القول بالسراية تعين الالتزام بمذهب المشهور من كون نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه لأجل التعبد الخاصّ ، لا لتبعيته للملاقى.

(١) أي : أن مقتضى مثل «والرجز فاهجر» هو الاجتناب عن النجس المعلوم إجمالا بين الطرفين وعن الملاقي لأحدهما ، فضمير «عنه» راجع إلى الملاقي.

(٢) يعني : كما يجب الاجتناب عن الملاقى.

(٣) تعليل لقوله : «لا مجال» وحاصله : منع الاقتضاء المزبور ، لما عرفت من بطلان مبنى السراية بقولنا : «إلّا أن كلا هذين الأمرين ممنوع ...» وعليه

١٤٦

تنجز الاجتناب عنه (١) لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر (٢) لم يعلم حدوثه وان احتمل.

وأخرى (٣) يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو علم إجمالا

______________________________________________________

فينحصر الوجه في وجوب الاجتناب عن المتنجس بالملاقاة بالتعبد الشرعي ، وحيث ان الملاقاة للنجس مشكوكة في المقام ، فيشك في حدوث فرد آخر للنجس ، ومقتضى الأصل عدمه ، فلا موضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي.

(١) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى النجس.

(٢) وهو الملاقي ، و «لم يعلم» صفة لـ «فرد آخر» يعني : لم يعلم بعلم إجمالي منجز ، وإلّا فكون الملاقي موردا لعلم إجمالي آخر حادث بينه وبين طرف الملاقى غير قابل للإنكار ، لكنه لا أثر له بعد تنجيز العلم الإجمالي عدم سبق تنجز التكليف إلى بعض الأطراف بمنجز شرعي أو عقلي. وضمير «حدوثه» راجع إلى «فرد» وضمير «احتمل» إلى حدوثه.

وقد تحصل مما أفاده المصنف في الصورة الأولى وهي الاجتناب عن الملاقى : أن الملاقي على تقدير تنجسه بالملاقاة موضوع آخر لخطاب وجوب الاجتناب ، ومخالفة هذا الخطاب وموافقته أجنبيتان عن إطاعة خطاب الملاقى وعصيانه كما عرفت مفصلا.

(٣) عطف على قوله : «تارة» وإشارة إلى الصورة الثانية وهي وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، واقتصر المصنف في الفوائد على ذكر المورد الثاني المذكور هنا ولم يتعرض للمورد الأول ، ولمّا كان حكمه بلزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى مستبعدا في بادئ النّظر ، إذا الملاقى هو المنشأ لاحتمال

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه ، فالحكم به في الملاقي دون الملاقي كأنه من قبيل زيادة الفرع على الأصل ، كان اللازم بيان مقصود المصنف (قده) كما هو حقه حتى يظهر حال بعض الإشكالات التي توجهت عليه ، وقد ذكر (قده) لهذه الصورة الثانية موردين ، واعتمدنا في بيان مرامه في المورد الثاني منهما على كلماته الشريفة في الفوائد ، فنقول وبه نستعين :

المورد الأول مما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ما أفاده بقوله : «فيما لو علم نجاسته» وتوضيحه : أنه إذا علمنا ظهرا بنجاسة الثوب أو الإناء الأحمر مثلا ، ثم حصل لنا العلم عصرا بنجاسة الإناء الأبيض أو الأحمر صبحا وملاقاة الثوب للإناء الأبيض وجب الاجتناب عن الملاقي وهو الثوب والإناء الأحمر مقدمة لامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم بالعلم الإجمالي الأول الحادث بينهما ظهرا ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقى أعني الإناء الأبيض ، لأن وجوب الاجتناب عنه ان كان لأجل العلم الإجمالي الثاني الحادث عصرا بينه وبين الإناء الأحمر ، فهو غير منجز بعد تنجيز العلم الإجمالي الأول الحادث ظهرا. وان كان لأجل ملاقاة الثوب له فهو غير مؤثر ، لأن الثوب على تقدير نجاسته فرد آخر غير معلوم الحدوث ، فلا وجه لوجوب الاجتناب عن ملاقاة.

وبالجملة : فهنا علم إجمالي سابق منجز وهو الحاصل بين الملاقي ـ الثوب ـ وبين الإناء الأحمر ، وعلم إجمالي لا حق غير منجز وهو الحاصل بين الملاقي ـ الإناء الأبيض ـ وبين الإناء الأحمر ، فيصير الملاقى مشكوك النجاسة بالشك البدوي ، فتجري فيه أصالة الطهارة أو غيرها بلا مانع ، إذ المانع وهو العلم بتكليف فعلي على كل تقدير مفقود ، لأن التكليف المعلوم لو كان هو المردد بين الملاقي وبين الإناء الأحمر فلا علاقة له بالملاقى ، وان كان هو المردد بين الملاقى

١٤٨

نجاسته (١) أو نجاسة شيء آخر ، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم (٢) بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء (٣) أيضا (٤) ، فان (٥) حال (*) الملاقى

______________________________________________________

وبين الإناء الأحمر فهو غير مؤثر فيه ، لعدم تنجيزه ، كما لم يؤثر في الملاقي في الصورة الأولى.

وقد يشكل حكمه (قده) بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقى بما حاصله : أن العلم مرآة لمتعلقه وكاشف عنه ، فالعبرة بتقدم زمان المنكشف وتأخره ، لا بتقدم زمان حصول العلم ، وحيث ان نجاسة الملاقى متقدمة زمانا فلا بد من رعاية العلم الثاني لا العلم الأول الدائر بين الملاقي والطرف. لكن يندفع بأن العلم موضوع لحكم العقل بالتنجيز وان كان طريقا إلى متعلقه ، لاحظ تفصيل المناقشة في التعليقة.

(١) الضمير راجع إلى الموصول في «عما لاقاه» المراد به الملاقي ، وضمير «دونه» راجع إلى الملاقى.

(٢) هذا هو العلم الإجمالي الثاني الّذي حدث عصرا في المثال السابق بين الإناء الأبيض والأحمر فاقدا لشرائط التنجيز.

(٣) المراد به عدل الملاقى وهو الإناء الأحمر في المثال المتقدم ، وفرضنا أن الملاقى هو الإناء الأبيض والملاقي هو الثوب.

(٤) يعني : كما حصل العلم الإجمالي أوّلا بين الملاقي وطرفه أي الإناء الأحمر.

(٥) تعليل لقوله : «يجب الاجتناب عما لاقاه دونه» والوجه في كون الملاقى في هذه الصورة كالملاقي في الصورة السابقة في عدم وجوب الاجتناب عنه ما تقدم من تنجز وجوب الاجتناب عن طرفه وهو الإناء الأحمر بالعلم الإجمالي الأول الحادث ظهرا بينه وبين الملاقي أعني الثوب ، فيكون العلم الثاني الحادث عصرا

__________________

(*) وان لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه الا من قبل ملاقاته.

١٤٩

في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي (١) ، وأنه (٢) فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا ، لا إجمالا ولا تفصيلا (٣).

وكذا (٤) لو علم بالملاقاة ، ثم حدث العلم الإجمالي ، ولكن

______________________________________________________

بين الملاقى أي الأبيض وطرفه أي الأحمر فاقدا لصفة التنجيز بالنسبة إليهما ، فلا يجب الاجتناب عنهما بلحاظ هذا العلم ، وانما يجب الاجتناب عن الإناء الأحمر باعتبار كونه طرفا للعلم الإجمالي الأول المنجز.

(١) أي : العلم الإجمالي المنجز.

(٢) معطوف على عدم ، وضميره وضمير «كونه» راجعان إلى الملاقى.

(٣) أما تفصيلا فواضح ، وأما إجمالا فلما عرفت من عدم كون الملاقى طرفا لعلم إجمالي منجز.

(٤) يعني : يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، وهو إشارة إلى المورد الثاني من الصورة الثانية ، وهي ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى وهو حصول العلم بالملاقاة ثم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ، وخروج الملاقى عن محل الابتلاء وصيرورته مبتلى به ثانيا ، توضيحه : أنه إذا علمنا ـ في فرض المثال السابق ـ بنجاسة الثوب أو الإناء الأبيض ثم بملاقاة الثوب للإناء الأبيض في الساعة الأولى وخرج الإناء البيض الملاقى عن محل الابتلاء ثم علمنا في الساعة الثانية بنجاسة الثوب الملاقي أو الإناء الأحمر ، ثم صار الإناء الأبيض مبتلى به ثانيا وجب الاجتناب عن الثوب الملاقي والإناء الأحمر دون الإناء الأبيض الملاقى.

والوجه في ذلك : أما وجوب الاجتناب عن الثوب والإناء الأحمر فلتنجيز العلم

١٥٠

كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء

______________________________________________________

الإجمالي الثاني الحاصل في الساعة الثانية بين نجاسته ونجاسة الإناء الأحمر ، فيكون الاجتناب عن كل منهما مقدمة علمية لامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» المردد بينهما. وأما عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ أي الإناء الأبيض ـ فلعدم توجه تكليف إليه ، لعدم كونه طرفا لعلم إجمالي منجز. أما بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأول الّذي كان بينه وبين الثوب فلخروجه عن محل الابتلاء ، وقد عرفت في التنبيه الثاني أن الخروج عن محل الابتلاء مانع عن فعلية التكليف ، وأن من شروط تنجيز العلم الإجمالي الابتلاء بجميع الأطراف ، وأما بالنسبة إلى العلم الإجمالي الثاني الحاصل في الساعة الثانية بين ملاقيه ـ أعني الثوب ـ وبين الإناء الأحمر فهو وان كان منجزا ، لكنه ـ أي الملاقى ـ ليس طرفا له.

وأما بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأول ـ بعد صيرورته مبتلى به ثانيا ـ فلان تنجيز العلم الإجمالي الثاني يكون مانعا عن تنجزه ، لما عرفت سابقا من أن المنجز لا يتنجز ثانيا ، ولا يحدث بضمه ـ بعد الابتلاء به ثانيا ـ إلى الأحمر فرد آخر من المشتبه يكون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثال علم إجمالي منجز ، لاحتمال أن يكون النجس الواقعي هو الإناء الأحمر ، فلا يعلم حدوث خطاب بـ «اجتنب عن النجس» مردد بينه وبين الإناء الأحمر حتى يكون الاجتناب عنه مقدمة علمية لامتثاله.

فالمتحصل : أن العلم الإجمالي في هذا المورد الثاني من الصورة الثانية غير منجّز بالنسبة إلى الملاقى ، كما كان كذلك في المورد الأول منها ، وكالملاقي في الصورة الأولى.

فان قلت : العلم الإجمالي بوجوب النجس بين الملاقى والطرف قد حصل حسب الفرض ، وهو يقتضي تنجز وجوب الاجتناب عنهما فعلا بشرط الابتلاء بهما ،

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

فإذا حصل الشرط ودخل الملاقى في مورد الابتلاء فقد أثر العلم أثره ، وإلّا لزم انفكاك العلة التامة ـ وهو العلم الإجمالي بوجود النجس ـ عن معلولها وهو التنجيز ، أو عدم كون العلم بوجود النجس المبتلى به علة ، وهو خلف.

قلت : التكليف بوجوب الاجتناب عن النجس الواقعي المردد بين الملاقي ـ الثوب ـ وطرفه قبل الابتلاء بالملاقى ـ وهو الإناء الأبيض ـ منجز يجب الاجتناب عن طرفيه من باب المقدمة العلمية ، وبعد الابتلاء بالملاقى لم يعلم حدوث تكليف آخر بالاجتناب عن الملاقى أو الطرف حتى يتنجز بحصول شرط التنجيز وهو الابتلاء ، لفرض قصور هذا العلم عن التأثير بعد تنجز حكم الطرف بالعلم الأول ، فلا مقتضي لتنجيز العلم الثاني الحاصل بين الملاقى المبتلى به وطرفه فضلا عن أن يكون علة تامة له حتى يجب الاجتناب عن الملاقى من باب المقدمة العلمية.

ان قلت : سلمنا عدم كون الملاقى طرفا لعلم إجمالي منجز كما تقدم ، إلّا أنه بعد الابتلاء به يجب الاجتناب عنه من جهة اقتضاء نفس العلم الإجمالي الأول المردد بين الملاقي والطرف لتنجزه ، وذلك لأن الملاقي فرع له في النجاسة ، والمنظور إليه بالأصالة هو الملاقى بعد الابتلاء به ، ولا يصح قصر النّظر على التابع والفرع وترك المتبوع والأصل ، وعليه فالملاقى لا يحتاج في تنجز حكمه إلى علم الإجمالي منجز يقع هو طرفا له ، بل يكفي في تنجزه تنجز الخطاب في الملاقي ، وإلّا لزم زيادة الفرع على الأصل في الحكم.

قلت : وقع الخلط بين التبعية في الوجود الخارجي والوجود العلمي التنجزي بيانه : أن نجاسة الملاقي ـ على تقديرها واقعا ـ تابعة في الوجود الخارجي لنجاسة الملاقى ، وهذا مسلم لا ريب فيه ، إلّا أن المفروض ـ بناء على التعبد ـ اختصاص الملاقي بخطاب آخر غير خطاب الملاقى ، وتنجز خطابه ليس متفرعا على تنجز

١٥٢

في حال حدوثه (١) وصار مبتلى به بعده.

وثالثة (٢) يجب الاجتناب

______________________________________________________

خطاب الملاقى ، فالعلم الإجمالي الأول الحادث بين الملاقي والطرف نجز التكليف بينهما ولم ينجزه في الملاقى ، لخروجه عن محل الابتلاء ، وبعد الابتلاء به لم يقم عليه منجز كما عرفت مفصلا. ولو كانت التبعية في التنجز ثابتة للزم الحكم بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقي قبل الابتلاء بالملاقى لفرض تبعية حكم الملاقي المنجز لحكم ملاقاة ، مع أنه لا يلتزم به كما هو واضح ، فان الملاقي لازم الاجتناب. هذا بيان مقصود المصنف على ضوء ما أفاده في الفوائد بتوضيح منا.

ثم ان شيخنا الأعظم (قده) تعرض لهذه الصورة وحكم فيها أيضا بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى ، ولكنه لم يفرض دخول الملاقى في محل الابتلاء كما فرضه المصنف ، قال (قده) : «ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ، لأن أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر لعدم جريان الأصل في المفقود».

والوجه في عدم جريان الأصل فيه حتى يعارض أصل الطرف ويسلم أصل الملاقي عن المعارضة هو : أن الخارج عن محل الابتلاء كما لا يكون متعلقا للحكم الواقعي كما عرفت في التنبيه الثاني ، كذلك لا يكون موردا للأصل العملي ، ضرورة عدم ترتب ثمرة عملية على جريانه فيه ، فلا يجري حتى تصل النوبة إلى المعارضة ، هذا.

(١) أي : حدوث العلم الإجمالي ، وضمير «بعده» راجع إلى حدوثه ، واسم «صار» ضمير راجع إلى الملاقي.

(٢) هذا إشارة إلى الصورة الثالثة التي حكم (قده) فيها بوجوب الاجتناب

١٥٣

عنهما (١) فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة (٢) أنه حينئذ (٣) نعلم إجمالا اما بنجاسة الملاقى والملاقي أو بنجاسة

______________________________________________________

عن المتلاقيين والطرف ، وهو فيما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي بوجود النجس بين الملاقى وطرفه ، كما إذا علم أولا بملاقاة ثوب للإناء الأبيض ، ثم علم إجمالا بإصابة النجس ـ قبل الملاقاة ـ بأحد الإناءين الأبيض والأحمر ، فيجب الاجتناب عن الجميع ، للعلم بتعلق خطاب الاجتناب اما عن الملاقي والملاقى وهما الثوب والإناء الأبيض ، واما عن الإناء الأحمر الّذي هو طرف الملاقى ، فيجب الاجتناب عن كل واحد من الثلاثة مقدمة لحصول العلم بموافقة خطاب «اجتنب عن النجس أو المتنجس» المفروض تنجزه بهذا العلم الإجمالي.

فالمقام نظير العلم الإجمالي بإصابة النجس بإناء كبير أو بإناءين صغيرين في كونه موجبا لوجوب الاجتناب عن الثلاثة. وعليه فتقدم العلم بالملاقاة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى وطرفه يجعل المتلاقيين معا طرفا من أطراف العلم الإجمالي والمفروض عدم وجود المانع من منجزية هذا العلم ، لعدم تنجز التكليف قبله بمنجز آخر في بعض الأطراف حتى لا يؤثر هذا العلم الّذي له أطراف ثلاثة في التنجيز. وهذا بخلاف الصورتين المتقدمتين ، فانه قد سبق التنجز إلى الملاقى والطرف في الصورة الأولى ، وإلى الملاقي والطرف في الصورة الثانية.

وبالجملة : فالعلم الإجمالي هنا بالنسبة إلى الجميع من المتلاقيين والطرف منجز بلا إشكال.

(١) أي : عن الملاقى والملاقي.

(٢) تعليل لوجوب الاجتناب عن المتلاقيين وطرف الملاقى ، وقد عرفته.

(٣) يعني : حين حدوث العلم بالملاقاة الحاصل قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

١٥٤

شيء آخر كما لا يخفى ، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد (١) أو الاثنان (٢) (*)

______________________________________________________

(١) كالإناء الأحمر في المثال ، وضمير «وهو» راجع إلى «النجس».

(٢) وهما المتلاقيان ، كالثوب والإناء الأبيض في المثال المذكور.

__________________

(*) وتفصيل الكلام في المقام منوط بذكر مقدمتين :

الأولى : أنه يعتبر في جريان الأصل في ما يلاقي بعض أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي أمور :

الأول : عدم جريان الأصول في أطرافها حتى يجري الأصل في الملاقي بلا مانع من تعارض أو حكومة ، فلو فرض جريانها فيها ـ كما إذا قلنا ان المانع عن جريانها في أطراف العلم الإجمالي هو العلم بالمخالفة العملية ، ولم يلزم ذلك في مورد كجريان الاستصحاب في معلومي النجاسة فيما إذا علم إجمالا بطهارة أحدهما ، حيث ان استصحاب نجاستهما لا يوجب العلم بالمخالفة العملية ـ جرت الأصول في الأطراف ، وخرج هذا الفرض عن حكم مسألة الملاقاة ، ضرورة أن ما يلاقي مستصحب النجاسة محكوم بالنجاسة بلا كلام كالملاقي لمعلومها ، لحكومة استصحاب نجاسة الملاقى عليه.

والحاصل : أن النزاع في حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة مختص بما إذا لم تجر الأصول في أطرافها ، فلو جرت فيها خرج ما يلاقي بعضها عن حريم هذا البحث.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا منافاة بين فعلية الحكم وجريان الأصول في الأطراف كما عرفت في استصحاب النجاسة في معلومي النجاسة مع العلم الإجمالي بطهارة أحدهما ، فلا ملازمة بين فعلية الحكم وتساقط الأصول مطلقا كما قيل بها.

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثاني : اختصاص الملاقاة ببعض الأطراف ، فالملاقي لجميعها أو لأكثر من عدد المعلوم بالإجمال ـ كملاقاته لثلاثة من أربعة مع كون المعلوم اثنين ـ واجب الاجتناب ، لكونه معلوم النجاسة تفصيلا ، وهو خارج عن حيّز هذا البحث ، كخروج الملاقي المتعدد بمقدار عدد الملاقى عن حريمه ، وقد أشرنا إلى هذا الأمر في التعليقة على قول المصنف : «ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس».

الثالث : أنهم لمّا بنوا نزاع وجوب الاجتناب عن الملاقي وعدمه على الخلاف في وجه نجاسة ملاقي النجس ، وأنه هل هو التعبد أم السراية ، فعلى الأول لا يجب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي ، وعلى الثاني يجب ذلك ، فلا بأس بالتعرض إجمالا للخلاف المزبور حتى تظهر حقيقة الحال.

فنقول : لا إشكال نصا وفتوى بل وضرورة في نجاسة ملاقي النجس ولزوم الاجتناب عنه ، وانما الخلاف في وجه نجاسته وأنه هل هو التعبد المحض بمعنى كون نجاسة الملاقي مجعولا شرعيا بالاستقلال في قبال جعل النجاسة للملاقى وفي عرضه ، نظير تشريع النجاسة للخنزير والكافر؟ أم السراية يعني سراية النجاسة من الملاقى إلى الملاقي ، وهي اما بنحو الاكتساب بمعنى كون نجاسة الملاقي ناشئة ومسببة عن نجاسة الملاقى كتسبب حرارة الماء عن حرارة النار ، وعليه فتكون نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقى لا في عرضها. واما بنحو الانبساط بمعنى اتساع دائرة النجاسة وصيرورة نجاسة الملاقي من مراتب نجاسة الملاقى ، بل هي عينها كانقسام النجس إلى قسمين ، فلا تكون نجاسة الملاقي فردا آخر في عرض نجاسة الملاقي كما في التعبد المحض وهي الصورة الأولى ، ولا ناشئة عن الملاقى وفي طول نجاسته كما هو مقتضى المعنى الأول من السراية ، وانما هي

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بعض النجاسة التي اتسعت دائرتها.

هذا ما قيل أو يمكن أن يقال من الوجوه المحتملة ثبوتا لنجاسة ملاقي النجس ، فالكلام يقع في مقامين : الأول فيما يترتب على الوجوه المزبورة من الثمرة ، والثاني فيما يمكن استظهاره في مقام الإثبات من الأدلة.

أما المقام الأول ، فمحصله : أنه بناء على التعبد المحض لا ينبغي الإشكال في عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي ، للشك في تشريع النجاسة له ، والقطع بعدم انطباق المعلوم إجمالا عليه ، إذ المفروض أنه على تقدير ملاقاته للنجس يكون فردا آخر للنجس غير المعلوم إجمالا ، وحيث ان نجاسة الملاقى غير معلومة ، فلا محالة تكون فردية ملاقيه للنجس أيضا غير معلومة ، فالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى والطرف ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير ، وانما يكون فعليا على تقدير ملاقاته للنجس المعلوم بالإجمال ، ضرورة أن طرف الملاقى ان كان هو المعلوم بالإجمال فقد تنجز بالعلم الإجمالي الأول ، ولا معنى لتنجز المنجز ثانيا كما سيظهر وجهه ، كما أن حكم ملاقي النجس من حيث اعتبار التعدد وعدمه في التطهير تابع لدليله ولا يشمله دليل نفس النجس ، إذ المفروض كون نجاسته أجنبية عن نجاسة الملاقى.

وكذا الحال بناء على السراية بمعنى الاكتساب ، لأنه يشك في ملاقاته للنجس التي تكون سببا لنجاسته ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي حينئذ.

نعم بناء على السراية بمعنى الانبساط واتساع دائرة النجاسة يجب الاجتناب عن الملاقي ، لأنه في عرض الملاقى طرف للعلم الإجمالي ، فتكون الأطراف ثلاثة ، وهي المتلاقيان وطرف الملاقى ، ولا طولية حينئذ بين الملاقي والملاقى

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حتى يقال : ان أصل الملاقي يجري في طول أصل الملاقى من دون مانع من التعارض ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقي لسلامة أصله النافي لوجوب الاجتناب عنه عن المعارض. بل يكون الملاقي في عرض الملاقى وطرفه ، فيكون الأصل الجاري فيه في عرض الأصل الجاري في الملاقى وطرفه ، فتتساقط الأصول الجارية في الأطراف الثلاثة ، فيكون الكل محكوما بلزوم الاجتناب.

وبالجملة : ففي صورة التعبد ، وكذا بناء على السراية بمعنى الاكتساب لا يجب الاجتناب عن الملاقي ، لجريان الأصل المرخص فيه بلا مانع ، لكونه في طول الملاقى لا في عرضه حتى يسقط بالتعارض ، وأما بناء على السراية بمعنى الانبساط فنفس دليل النجس كما يقتضي الاجتناب عن النجس ، كذلك يقتضي وجوبه عن ملاقيه أيضا ، لأنه عينه عنوانا ، نظير دليل حرمة الربيبة على زوج أمها المدخول بها ، فان نفس دليل حرمة الربيبة يدل على حرمة بناتها وان نزلن أيضا عليه ، لصدق الربيبة عليهن كصدقها على بنت الزوجة بلا واسطة ، هذا.

وأما المقام الثاني ، فمحصله : أن الظاهر من التعبيرات الواردة في النص والفتوى نظير «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» و «ينفعل» و «ينجسه» ونظائرها هو كون النجس سببا لنجاسة ملاقيه ، حيث ان التنجيس أسند إلى نفس النجس ، وظهور الإسناد في السببية لا ينكر ، نظير اسناد حرارة الماء إلى النار.

وهذا المعنى ـ أي كون النجس سببا لنجاسة ملاقيه ـ هو السراية بمعنى الاكتساب الّذي عبر به شيخنا المحقق العراقي (قده) ، لكن لا يراد بهذه السببية السببية التكوينية ، إذ النجاسة حكم شرعي ، وليست أمرا تكوينيا حتى تنشأ عن أمر تكويني كحركة المفتاح الناشئة عن حركة اليد. ولا السببية التشريعية ، إذ

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لازمها عدم مجعولية النجاسة ، حيث ان المعلول من رشحات العلة ، مع أنها كسائر الأحكام الشرعية من الأفعال الاختيارية للشارع ومجعولاته.

مضافا إلى ما ثبت في محله من امتناع جعل السببية ، بل المراد بالسببية هنا جعل الشارع النجاسة لشيء عند ملاقاته للنجس.

ومع ما ذكرنا من المراد بالسببية ، فالتعبير بها هنا كما في تقرير بحث المحقق العراقي (قده) (١) لا يخلو من مسامحة ، فالأولى التعبير بالموضوع دون السبب ، ولذا كان المراد بالسبب في قولنا : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» و «الاستطاعة سبب لوجوب الحج» و «البيع سبب للملكية» ونحو ذلك موضوعية هذه الأمور للوجوب والملكية ، بمعنى أن الشارع عند تحقق هذه الأمور ينشئ الحكم التكليفي أو الوضعي.

ففي المقام يراد من سببية النجس لنجاسة ملاقيه أن ملاقي النجس موضوع لحكم الشارع بنجاسته ، فالملاقاة محقّقة لملاقي النجس الّذي هو موضوع الحكم ، لا واسطة ثبوتية أي علة لتشريع الحكم للموضوع ، ضرورة أن علته هي الملاك القائم بالموضوع الداعي إلى جعل الحكم له ولا واسطة عروضية وهي المصححة لإسناد الحكم إلى ذي الواسطة مجازا كعروض الحركة لجالس السفينة بواسطة حركة السفينة ، حيث ان اسناد الحركة إلى ذي الواسطة وهو الجالس مجازي ، وإلى نفس الواسطة وهي السفينة حقيقي ، فان الوساطة بهذا المعنى لا تنطبق على الملاقاة التي هي الواسطة العروضية على الفرض ، إذ لازمه كون اسناد النجاسة إلى نفس الملاقاة حقيقيا وإلى ذي الواسطة وهو الملاقي مجازيا ، وهذا خلف ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٥٥

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذ المقصود إثبات النجاسة لنفس الملاقي دون الملاقاة. مضافا إلى أنه لا معنى لنجاسة الملاقاة.

ولا واسطة إثباتية محضة ، وهي ما يوجب التصديق بثبوت الحكم للموضوع من دون دخل له في تشريع الحكم ، وذلك لأن الملاقاة كما مر آنفا مقومة للموضوع وهو عنوان الملاقي للنجس الّذي هو متأخر رتبة عن الملاقاة ، والحكم متأخر رتبة عن الموضوع ، فالحكم متأخر عن الملاقاة برتبتين ، فلو كانت الملاقاة واسطة في الإثبات كانت متأخرة عن الحكم ، وهو دور أو خلف.

ومما ذكرنا يظهر غموض ما في حاشية بعض المدققين (قده) (١) على المتن من جعل الملاقاة واسطة ثبوتية وعروضية وإثباتية ، فلاحظ كلامه رفع الله تعالى مقامه.

وكيف كان ، فالحق ما تقدم من أن الّذي يمكن استظهاره من النص والفتوى هو سببية النجس لنجاسة ملاقيه بالمعنى المتقدم من السببية. ولا منشأ لاستظهار الوجهين الآخرين ـ وهما التعبد المحض والسراية بمعنى الانبساط ـ منهما ، فلا وجه للمصير إليهما ، مضافا إلى أنهما يوجبان عرضية نجاسة الملاقى وملاقيه ، ووحدة رتبة الأصلين الجاريين فيهما الموجبة لتساقطهما ، مع أنه خلاف ما بنوا عليه من طولية أصليهما الموجبة لحكومة أصل الملاقى على أصل ملاقيه.

وأما ما قيل في وجه عدم تمامية السراية بمعنى الانبساط من استلزامه عدم انفعال ما يلاقي الماء القليل المتنجس بالنجاسة المستهلكة فيه ، بتقريب : أنه إذا وقعت قطرة بول مثلا في الماء القليل ، ثم لاقى الماء ثوب ، فانه يلزم بناء على

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٥٨

١٦٠