منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٧١

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته على أشرف أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

أما بعد ، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وقد أجريناه على منوال أجزائه الثلاثة المتقدمة ، فجعلنا المتن في أعلى الصفحة وتوضيحه تحته مع الإشارة إليه بالأرقام : ١ و ٢ و ٣ ، وتعاليقنا تحتهما بعلامة (*) وحواشي المصنف برمز (×) متوكلا على ربي عز وجل ، ومتوسلا بولي أمره الإمام الثاني عشر صلى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ما طلعت الشمس وأضاء القمر ، وعجل الله فرجه الشريف.

٣
٤

المقصد السادس

في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً (١) أو عقلا (٢)

وقبل الخوض في ذلك (٣) لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من (٤) الأحكام وان كان خارجاً (٥)

______________________________________________________

(١) سواء أكان تأسيسياً كجعل الحجية لخبر العادل واليد ونحوهما وان لم توجب الوثوق والاطمئنان ، أم إمضائياً كحجية خبر الثقة الموجب للاطمئنان العقلائي.

(٢) كحجية الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة.

(٣) أي : في بيان الأمارات.

(٤) بيان لـ «ما» الموصول ، والمراد ببيان بعض أحكام القطع هو البحث عن أن حجيته ذاتية أو مجعولة ، وأن استحقاق العقوبة يترتب على مخالفته مطلقاً وان كان مخطئاً أو على صورة موافقته للواقع فقط ، وغير ذلك مما سيأتي بيانه.

(٥) وجه الخروج عدم انطباق ضابط المسألة الأصولية ـ وهي ما يقع كبرى لقياس تكون نتيجته حكماً كلياً فرعياً ـ على مباحث القطع ، وذلك لأن العلم بالحكم الشرعي من آثار المسألة الأصولية ولوازمها ، فكيف يكون موضوعاً

٥

من مسائل الفن (*)

______________________________________________________

لها. وبعبارة أخرى : العلم بالحكم معلوم للمسألة الأصولية ونتيجة لها ، فهو متأخر عنها ، فلو فرض كونه موضوعاً لها كان متقدماً عليها ، وهو محال. وعليه فلا يصح أن يقال : «صوم شهر رمضان مثلا معلوم الوجوب ، وكل معلوم الوجوب واجب ، فالصوم واجب» لعدم كون العلم بالوجوب علة للوجوب ولا معلولا له كما هو شأن الكبرى ، فان قولنا : «كل متغير حادث» علة للنتيجة ـ وهي حدوث العالم ـ كعلية قولنا : «كل مقدمة الواجب واجبة» لوجوب الوضوء مثلا الّذي هو نتيجة قياس صغراه «الوضوء مقدمة الواجب» وكبراه «كل مقدمة الواجب واجبة». وكوجوب صلاة الجمعة مثلا الّذي هو نتيجة قياس صغراه «وجوب صلاة الجمعة مما قام عليه خبر العادل أو الثقة» وكبراه «كل ما قام على وجوبه خبر العادل واجب»

وبالجملة : فالقطع بالحكم ـ كوجوب الصوم المتقدم ـ لا يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الكلي الفرعي. وكذلك القطع بالموضوع ، فلا يصح أن يقال : «هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية حرام» ليستنتج منه حرمة الخمر ، ضرورة أن الحرمة تعرض ذات الخمر لا معلوم الخمرية حتى يقع كبرى لقياس الاستنباط.

__________________

(*) قد يقال : ان مسألة التجري من مسائل علم الأصول بتقريب : أن البحث في التجري إذا كان بحثاً عن تعنون الفعل المتجري به بعنوان قبيح ملازم للحرمة بقاعدة الملازمة اندرج في مسائل الفن.

لكن فيه أولا : أن المسألة الأصولية هي نفس الملازمة بين حكم العقل والشرع كمسألة حجية خبر الثقة ، دون البحث عن قبح شيء عقلا ، فانه راجع

٦

وكان أشبه (١) (*)

______________________________________________________

(١) لأنه يبحث في القطع عما يترتب على فعل المقطوع به أو تركه من

__________________

إلى تنقيح صغرى من صغريات قاعدة الملازمة ، فهو كالبحث عن كون راوي الخبر ثقة في الخروج عن المسائل الأصولية.

والحاصل : أن البحث عن الملازمة بين القبح العقلي والحرمة الشرعية داخل في علم الأصول ، وأما البحث عن ثبوت القبح العقلي لفعل بعنوان التجري مثلا وعدمه فهو داخل في المبادي.

وثانياً : ـ بعد الغض عن ذلك ـ أنه أجنبي عن قاعدة الملازمة ، إذ مصبها خصوص الحكم العقلي الواقع في سلسلة علل الأحكام ، لا معلولاتها كالمقام ، فان قبح التجري كقبح المعصية انما هو لأجل كونه تمرداً على المولى ومخالفة لما اعتقده من التكليف ، ومن المعلوم أن هذا القبح واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها.

نعم تندرج مسألة حجية العلم الإجمالي ـ وكونها بنحو الاقتضاء أو العلية أو التفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك بالاقتضاء في الأول والعلية التامة في الثاني ـ في علم الأصول كحجية الأمارات غير العلمية ، لأن مرجع البحث فيه إلى أصل الحجية أو كيفيتها أو كميتها.

وأما البحث عن قيام الأمارات غير العلمية مقام القطع الطريقي وعدمه فهو من المباحث المتعلقة بالأمارات وأجنبي عن أحكام القطع وأبحاثه من غير فرق في ذلك بين تنزيل الأمارة منزلة القطع وبين تنزيل المؤدى بما هو مؤدى الأمارة منزلة الواقع المقطوع به. فالأولى ذكر قيام الأمارات غير العلمية مقام القطع الطريقي في مباحث الأمارات كما لا يخفى.

(*) التعبير بالأشبه لا يخلو من المسامحة بعد وضوح تعدد جهات البحث

٧

بمسائل الكلام ، لشدة (١) مناسبته (٢) مع المقام (٣) ، فاعلم : أن البالغ (٤) (*)

______________________________________________________

استحقاق الثواب والعقاب ، ومن الواضح أن البحث عن ذلك من المسائل الكلامية.

(١) تعليل لقوله : «لا بأس» ووجه المناسبة : اشتراك الأمارات مع القطع في الطريقية ، وفي إحراز الوظيفة من الفعل أو الترك.

(٢) أي : مناسبة بعض ما للقطع من الأحكام.

(٣) أي : بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً.

(٤) وجه العدول عن «المكلف» الموجود في عبارة فرائد الشيخ الأعظم (قده) إلى «البالغ» كما ذكره هنا هو ما صرح به في حاشيته على الرسائل بقوله : «ان من الأقسام من لم يتنجز عليه التكليف كموارد البراءة ، ومن المعلوم أن المكلف الفعلي لا ينقسم إلى الأقسام التي منها الجاهل غير المتنجز عليه التكليف ، لأن القسم عين المقسم مع زيادة قيد».

__________________

في القطع الموجب لكونه مسألة كلامية تارة وأصولية أخرى ، وعليه فالأولى أن يقال : «ان مسألة القطع وان كانت من جهة كلامية ، لكن لما كان فيها جهة أصولية أيضا صح إدراجها في علم الأصول». وما في حاشية بعض المدققين (قده) من بيان وجه الأشبهية بقوله : «حيث ان مرجع البحث إلى حسن معاقبة الشارع على مخالفة المقطوع به صحت دعوى أنها أشبه بمسائل الكلام» غير ظاهر ، حيث ان ما أفاده (قده) بيان لوجه كونه من نفس المسائل الكلامية ، لا لأشبهيته بها ، فتدبر.

(*) المراد به خصوص المجتهد ، كما أنه الظاهر من «المكلف» في عبارة شيخنا الأعظم أيضا ـ خلافاً لما اختاره المصنف في حاشية الرسائل

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح ذلك : أن المصنف (قده) حمل «المكلف» الموجود في عبارة الشيخ الأعظم (قده) على المكلف الفعلي ، وهو لا يشمل جميع الأقسام التي منها الشاك في الحكم الواقعي غير المنجز الّذي تجري فيه البراءة ، ومن المعلوم : أنه لا بد من وجود المقسم ـ وهو المكلف ـ في جميع الأقسام ، لأن كل قسم هو المقسم مع زيادة قيد ، ولما لم يكن الشاك في الحكم مكلفاً فعلياً فقد عدل عن جعل المقسم المكلف إلى جعله البالغ الّذي وضع عليه القلم ، لشمول «البالغ» لجميع الأقسام حتى الشاك.

__________________

بقوله : «ولا خصوص من بلغ درجة الاجتهاد» ، لما فيه من الضعف كما سيظهر ـ فلا يشمل العامي ، لأن الموضوع وان كان بحسب الظاهر عاماً ، إلّا أن أخصية المحمول قرينة على كونه خاصاً أيضا ، إذ لا يعقل حمل الخاصّ على العام ، ضرورة عدم اتحاده مع الموضوع المصحح لحمله عليه كقولنا : «الحيوان إنسان» فانه يمتنع أن يكون الإنسان بخصوصيته متحداً مع الحيوان مع بقائه على عمومه. وهذا نظير ما دل على وجوب الحج على المكلف المستطيع ، فانه لا شك في لزوم تقييد المكلف مطلقاً ـ سواء كان المقيد عقلياً أم نقلياً ـ بخصوص المستطيع وان كان هو أعم منه ومن غيره. وعليه ، فالمكلف وان كان بإطلاقه شاملا للمجتهد وغيره ، إلّا أن انقسامه إلى القاطع بالحكم والظان به والشاك فيه يقيده بخصوص المجتهد ، لتوقف تشخيص الظن المعتبر عن غيره وتنقيح مجاري الأصول للشاك على الاجتهاد ، لعدم حصول الشرائط لغير المجتهد ، فلا محالة يختص المكلف في المقام بالمجتهد. وحجية القطع بالحكم على المكلف مطلقاً وان لم يكن مجتهداً لا توجب إرادة مطلق المكلف وان كان عامياً ، وذلك

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأن المكلف المنقسم إلى مجموع الأقسام أعني القاطع والظان والشاك ليس إلّا المجتهد كما هو واضح.

والحاصل : أن المكلف الناظر إلى الأدلة الّذي يحصل له العلم بالحكم أو الظن به أو الشك فيه ليس إلّا المجتهد.

ومما ذكرنا يظهر ضعف دعوى «أعمية المكلف من المجتهد والعامي ، غاية الأمر أن المجتهد نائب عن العامي في استنباط الأحكام ، لا أن عجزه يوجب اختصاص المكلف بالمجتهد» وذلك لأن المجتهد حين مراجعة الأدلة واستنباط الأحكام الكلية منها لا يرى نفسه نائباً عن الغير في استنباطها ، بل هو غافل عن النيابة غالباً فلا يقصدها مع أنها متقومة بالقصد ، بل يكون رجوع الجاهل إليه أمراً فطرياً ارتكازياً من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، لا من باب رجوع المنوب عنه إلى النائب ، إذ الاجتهاد واجب كفائي ، فالمجتهد المستنبط للحكم يأتي بواجبة الكفائي ، كسائر الواجبات الكفائية التي يأتي بها هو وغيره من المكلفين عن أنفسهم لا عن غيرهم نيابة ، فلا ربط لباب النيابة بالمقام أصلا.

كما يظهر غموض دعوى الأعمية أيضا ببيان آخر وهو : «أن المجتهد ينقح مجرى الأصل بحسب وظيفته ، فان وظيفة المجتهد هي وظيفة الإمام عليه‌السلام وهي بيان الأحكام المجعولة لموضوعاتها في الشريعة المقدسة بنحو القضايا الحقيقية ...» وذلك لأن القيود المذكورة للمكلف قرينة على اختصاصه بالمجتهد. وأما أن بيان الأحكام بنحو العموم وظيفة العالم كوظيفة الإمام عليه‌السلام ، فهو أجنبي عما نحن فيه ، ولا يقتضي عموم المكلف لغير المجتهد ،

١٠

الّذي وضع عليه القلم إذا التفت (١)

______________________________________________________

(١) هذا القيد لإخراج الغافل ، بداهة عدم كونه موضوعاً لشيء من هذه الأحكام ، وذلك لأن المقصود من بيان الأقسام المذكورة من القاطع والظان والشاك هو تعيين الوظيفة فعلا أو تركاً بمستند عقلي أو شرعي ، وليس هذا شأن الغافل ، إذ الاستناد متقوم بالالتفات كما هو واضح. ثم ان المراد بالالتفات هو الالتفات الإجمالي (*) في مقابل الغفلة ، والمعنى : أنه إذا خطر بباله أن للفعل الكذائي حكماً من الأحكام في مقابل من يكون غافلا عنه بالمرة ، فاما أن يحصل له بعد المراجعة إلى الأدلة العلم بذلك الحكم أو الظن به أو استقرار الشك فيه.

__________________

حيث ان هنا مقامين مترتبين :

أحدهما : استنباط الحكم علماً أو ظناً من الأدلة أو تعيين وظيفة الشاك التي يقتضيها الأصل العملي.

ثانيهما : بيان ذلك الحكم المستنبط أو الوظيفة العملية لغيره ، وكلامنا فعلا في المقام الأول ، ومن المعلوم أنه وظيفة المجتهد فقط.

وبعبارة أوضح : استنباط الأحكام من أدلتها وظيفة المجتهد. وأما الأحكام المستخرجة منها فهي لكونها أحكام الله تعالى لموضوعاتها مشتركة بين الكل ، ولذا يجب تبليغها إلى العباد ، فشك كل شاك بين الاثنتين والثلاث مثلا وان كان موضوعاً لوجوب البناء على الأكثر ، إلّا أن استنباط هذا الوجوب مختص بالمجتهد. وكما إذا قيل : «يجب بيع مال الموكل أو المولى عليه بالقيمة السوقية» فان أمر تشخيص هذه القيمة بيد أهل الخبرة ، ولا فرق في الغير الّذي يرجع إليه بين المجتهد كما إذا كان الرجوع في الحكم الشرعي ، وبين غيره كأهل الخبرة بالقيم والأسعار كما إذا كان الرجوع فيهما لا في نفس الحكم الشرعي.

(*) ومنه يظهر غموض ما أفاده سيدنا الأستاذ قدس‌سره في مجلس

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الدرس من «أن المراد بالالتفات هو التفصيليّ الحاصل من النّظر إلى الأدلة ، دون الإجمالي الملازم للتكليف الدال عليه لفظ المكلف ، إذ الغافل يقبح تكليفه ، فلا وجه لجعل المكلف أعم من المجتهد» وذلك لأن الالتفات شرط تنجز التكليف لا أصله ، لما ثبت في محله من اختلاف كيفية دخل الشرائط من البلوغ والعقل والقدرة والعلم في التكليف. وعليه فالمراد «بالمكلف» في كلام الشيخ أيضا هو البالغ العاقل ، لأنه الّذي وضع عليه قلم التكليف ، لا خصوص من تنجز عليه. فعدول المصنف عما في الرسائل من «المكلف» إلى قوله : «البالغ» ان كان لأجل دخل الالتفات في نفس التكليف الموجب لتوضيحية قوله : «إذا التفت» التي هي خلاف الأصل في القيود ففيه ما مر آنفاً من أن الالتفات شرط تنجز التكليف لا نفسه. وان كان عدوله إليه لوجه آخر فلا بدّ من النّظر فيه.

وعليه فالغافل مكلف أيضا ، غايته أنه معذور في مخالفة التكليف ، لعدم تنجزه عليه. ويشهد لذلك وجوب قضاء الصوم والصلاة عليه مع فوتهما غفلة عن وجوبهما حتى خرج الوقت وان قلنا بكون القضاء بفرض جديد ، ضرورة توقف صدق الفوت على ترك الواجب في وقته ، فلو كان الالتفات كالبلوغ والعقل شرطاً في أصل التكليف لم يكن وجه لوجوب القضاء عليه ، إذ لا واجب حينئذ واقعاً حتى يصدق الفوت على تركه عن غفلة ، فيتعين إرادة الالتفات الإجمالي هنا المقابل للغفلة ، لا التفصيليّ الّذي يترتب على مراجعة الأدلة. فالنتيجة : أن «المكلف» لا يدل على دخل الالتفات في نفس التكليف ، ولو كان المراد الالتفات التفصيليّ ، فلا وجه لأن يقال : «اما أن يحصل له القطع ...» بل لا بد أن

١٢

إلى حكم فعلي (١) (*) واقعي (٢)

______________________________________________________

(١) وهو البالغ مرتبة البعث والزجر ، والتقييد به لإخراج غيره من الاقتضائي والإنشائي ، لعدم ترتب أثر على القطع بهما كما سيأتي.

(٢) وهو الحكم الشرعي الكلي المجعول للأشياء بعناوينها الأولية كالماء والحنطة ونحوهما ، أو الثانوية كالضرر والحرج وغيرهما ، وذلك الحكم اما تكليفي كالوجوب والحرمة ، واما وضعي كالملكية والصحة ونحوهما.

__________________

يقال : «الملتفت إلى الحكم الشرعي اما قاطع واما ظان واما شاك» وذلك لأن ظاهر «يحصل» ترتب حصول القطع أو الشك على الالتفات ، فلا بدّ أن يكون المراد بالالتفات الإجمالي منه حتى يصح أن يقال : «اما يحصل له ... إلخ».

ولا يرد على ما أفاده (قده) من إرادة الالتفات التفصيليّ ما قد يتوهم من «منافاة الالتفات التفصيليّ للشك الّذي جعل من أقسام الالتفات» وذلك لأن المراد بالتفصيلي ليس هو العلم التفصيليّ حتى ينافي الشك الّذي جعل من أقسامه ، بل ما يترتب على النّظر إلى الأدلة ، ومن المعلوم أن المترتب عليه اما علم واما ظن واما شك مستقر تجري فيه الأصول العملية ، بخلاف الالتفات الإجمالي ، فانه في معرض الزوال ، لتبدله بأحد هذه الأقسام الثلاثة ، وهو منجز ، ولذا لا يجري فيه الأصل قبل الفحص عن الأدلة. وقد ظهر مما ذكرنا : أن قيد الالتفات احترازي ، لما مر من انقسام المكلف إلى الغافل والملتفت.

(*) لا وجه للتقييد بالفعلي المراد به ما وجد موضوعه خارجاً كوجود الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، حيث ان وجوبه حينئذ فعلي بوجود موضوعه ، وذلك لأن الحكم الّذي يراد استنباطه أعم من الحكم الموجود موضوعه في الخارج حين الاستنباط ، ضرورة أن المجتهد يستنبط هذا الحكم وحكم ما لم يوجد

١٣

أو ظاهري (١) (*)

______________________________________________________

(١) كمفاد الأصول الشرعية. وبالجملة : ما أفاده المصنف هنا مبني على أمرين :

الأول : أن مؤدى الطريق والأصل العملي يكون حكماً شرعياً مقطوعاً به كالحكم الشرعي الّذي يتعلق به القطع الوجداني.

الثاني : تعميم الحكم في المقام للواقعي والظاهري ، لعدم اختصاص أحكام القطع من وجوب المتابعة وحرمة المخالفة وغيرهما بما إذا تعلق بالحكم الواقعي.

__________________

موضوعه خارجاً على نهج واحد ، كما إذا استنبط وجوب الزكاة على من ملك أربعين شاة وان لم يكن أحد مالكاً لها فعلاً ، وهذا الحكم مع عدم كونه فعلياً مورد ابتلاء المجتهد في مقام الفتوى ، فالحكم الّذي يلتفت إليه المجتهد أعم من الفعلي والإنشائي.

وان أراد المصنف (قده) بالإنشائي ما ينشأ بداعي الامتحان ونحوه دون البعث والزجر فهو خارج موضوعاً عن الحكم ، وتسميته به مجاز.

فالمتحصل : أن الحكم بقسميه المزبورين داخل في محل البحث ، والتقييد بالفعلي ان أريد به إخراج الإنشائي بمعنى جعل الحكم على موضوعه المقدر وجوده كما هو شأن القضية الحقيقية فهو غير سديد. وان أريد به إخراج الحكم المنشأ بداع آخر غير داعي البعث والزجر فهو خارج موضوعاً عن الحكم ، ولا حاجة في إخراجه إلى التقييد بالفعلي.

(*) ويرد على تعميم الحكم للواقعي والظاهري :

أولا : أنه مبني على الحكم الظاهري ، وهو محل تأمل ، بل المصنف أنكره في موارد الطرق والأمارات كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثانياً : ـ مضافاً إلى عدم صحة جعل الطرق والأصول في عرض القطع وعدم صيرورتهما مثله مندرجين في القطع بالحكم ، لوضوح كونهما في طوله لا في عرضه ، كبداهة تأخر الأصول رتبة عن الطرق ـ أنه يهدم أساس التقسيم ، حيث ان القطع بالوظيفة الفعلية موجود في جميع موارد الطرق والأصول العقلية والنقليّة ، فالمكلف حينئذ عالم دائماً بوظيفته الفعلية ، ولا يبقى معه مجال للتقسيم أصلاً ، إذ لا بد في صحته من وجود المقسم في جميع الأقسام ، فلو أريد من الحكم خصوص الواقعي كان التقسيم سليماً عن الإشكال ، بخلاف ما لو أريد به ما هو أعم من الواقعي والظاهري ، فانه لا يصح أن يقال : «المكلف الملتفت اما عالم بالحكم الظاهري واما غير عالم به» ضرورة أنه عالم بوظيفته الفعلية دائماً ولا يتصور الشك فيها أصلاً ، فينهدم أساس التقسيم الثنائي الّذي صنعه المصنف قدس‌سره.

ومما ذكرنا ظهر عدم تصور الجهل بالوظيفة الفعلية أصلا.

وثالثاً : أنه لا يلزم ـ بناء على تقسيم الشيخ (قده) ـ تداخل الأقسام كما ادعاه المصنف (قده) وذلك لأن مراده بالظن هو الظن المعتبر ، لتصريحه بذلك في أول البراءة ، وأن حكم غير المعتبر منه حكم الشك ، كما أن مراده بالظن هو النوعيّ منه كما هو صريح كلامه في غير موضع من كتابه.

وعليه فالطريق المعتبر ـ وان لم يفد الظن الشخصي ـ داخل في الظن ، فلا يدخل الظن في الشك ولا العكس.

فغرض الشيخ (قده) من التقسيم : أن الملتفت إلى الحكم الشرعي اما يحصل له القطع الوجداني به أو التعبدي ، واما لا يحصل له شيء منهما ، ومرجعه على

١٥

متعلق به (١) أو بمقلديه (٢) (*)

______________________________________________________

(١) كأكثر الأحكام المشتركة بينه وبين مقلديه.

(٢) خاصة ، كأحكام الدماء الثلاثة.

__________________

الأخير الأصول المقررة للشاك مطلقاً سواء حصل له الظن أم الشك ، فهذا التقسيم يكون بحسب حالات المكلف ، وهو أولى من تقسيم المصنف ، لمحفوظية ما بين الأدلة من الطولية في تقسيم الشيخ دونه وان كان تقسيمه الثلاثي أمتن من الثنائي.

(*) يعني : أن الأحكام التي يستنبطها المجتهد لا تختص به بل تعم مقلديه ، توضيحه : أن عناوين موضوعات الأدلة والأصول لا تنطبق الا على المجتهد ، فانه الّذي جاءه النبأ أو جاءه الحديثان المتعارضان ، وهو الّذي أيقن بالحكم الكلي وشك في بقائه ، وهكذا ، إلّا أن محذوره عدم ارتباط حكم المقلد بالمجتهد ، لأن من له تصديق عملي ونقض عملي أو إبقاء عملي في جملة من الموارد هو المقلد كأحكام الدماء الثلاثة ، فالمعنون بعنوان الموضوع ـ وهو المجتهد ـ ليس له تصديق عملي ليخاطب به ، ومن له تصديق عملي ـ وهو المقلد ـ لا ينطبق عليه العنوان ليتوجه إليه التكليف.

وبالجملة : فاختصاص المكلف بالمجتهد ـ كما هو مقتضى المتن ـ يوجب محذور خروج أدلة الأحكام التي لا يبتلي بها المجتهد ويختص الابتلاء بها بالمقلد عن دائرة الأدلة التي يستنبط منها المجتهد الأحكام الفقهية.

وقد دفع هذا المحذور بعض المدققين من المحشين (قده) بما أفاده هنا وفي مباحث الاجتهاد والتقليد من : «أن أدلة الإفتاء والاستفتاء توجب تنزيل المجتهد منزلة المقلد ، فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجيء الخبر إلى مقلده ،

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ويقينه وشكه بمنزلة يقين مقلده وشكه ، فالمجتهد هو المخاطب عنواناً والمقلد هو المخاطب لباً ، وإلّا لكان تجويز الإفتاء والاستفتاء لغواً».

أقول : لا ريب في أن جميع الأحكام الفقهية من الطهارة إلى الدّيات مورد ابتلاء المجتهد من حيث الاستنباط واستخراجها من أدلتها وان لم يكن بعضها محل ابتلائه من حيث العمل كأحكام الدماء الثلاثة ، فان وظيفته من حيث انه مجتهد استخراج الأحكام المجعولة لموضوعاتها على نحو القضية الحقيقية سواء كانت متعلقة بعمل نفسه أم مقلده ، فيقول : «ان الحائض ذات العادة العددية مثلا إذا رأت الدم بعد أيام العادة ولم يتجاوز العشرة وشك في كون الزائد حيضاً ، فلتبن علي حيضيته» أو «كل من شك في حلية شيء أو طهارته فليبن علي حليته أو طهارته».

وعلى هذا ، فالأدلة متوجهة إلى المجتهد من حيث كونه ناظراً فيها ومستنبطاً للأحكام منها سواء كانت الأحكام المستخرجة منها متعلقة بعمل نفسه أم غيره ، ومعه لا حاجة إلى دعوى تنزيل المجتهد منزلة المقلد.

مضافاً إلى كونها خلاف الظاهر ، حيث ان أدلة الإفتاء والاستفتاء ظاهرة في حجية فتوى المجتهد على غيره تعبداً أو إرشاداً إلى ما هو المرتكز عند العقلاء من رجوع الجاهل بكل فن إلى العالم به ، فانها مساوقة لقوله تعالى : «فاسألوا أهل الذّكر» ونظائره.

والحاصل : أن ظاهر أدلة الإفتاء هو بيان الأحكام وتبليغها إلى العباد ، وتنزيل المفتي منزلة المستفتي أجنبي عن ظاهرها ، ولا ينتقل الذهن العرفي العاري عن الأوهام إليه. وكذا ظاهر أدلة الاستفتاء ، فان ظهورها في حجية الفتوى ولزوم الأخذ بها مما لا مساغ لإنكاره ، ومع هذا الظهور لا يلزم اللغوية حتى

١٧

فاما أن يحصل له القطع أولا ، وعلى الثاني (١)

______________________________________________________

(١) وهو ما إذا لم يحصل له القطع بالحكم مطلقاً لا الواقعي ولا الظاهري ، يعني : أنه على الثاني لا بد من رجوع البالغ المذكور إلى ما يستقل به العقل من اتباع الظن ان ثبتت حجيته من باب الحكومة ـ أي : حكم العقل بحجيته ، لا من باب الكشف أي : كشفه عن حكم الشارع بحجيته ، إذ بناء على الكشف يكون الظن من الأمارات الشرعية لا العقلية ، فيندرج في القسم الأول وهو حصول القطع له بالحكم الظاهري ـ فانه إذا انقطعت يد المكلف عن حكم الشارع ووصلت النوبة إلى حكم العقل كان المكلف قاطعاً بحكمه ، لكنه حكم ظاهري مقطوع به لا واقعي. وان لم تثبت حجيته من باب الحكومة أيضا ، فلا بد من انتهائه إلى الأصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير ، هذا.

وقد عدل المصنف (قده) في المتن عما صنعه الشيخ الأعظم (قده) من تقسيم المكلف الملتفت بحسب حالاته إلى ثلاثة أقسام : القاطع بالحكم والظان به والشاك فيه ، وجعله قسمين : أحدهما : من يحصل له القطع بالحكم ، ثانيهما : من لا يحصل له القطع به. وتوضيح ما أفاده في هذين القسمين : أن البالغ الّذي وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعي سواء كان واقعياً أم ظاهرياً ، فاما أن يحصل له القطع بذلك الحكم أولا ، فان حصل له القطع به وجب عليه عقلا متابعة قطعه ، ويدخل الحكم المستفاد من الأمارات والأصول الشرعية في الحكم الّذي يقطع به. وان لم يحصل له القطع به ، فان ثبت اعتبار الظن عقلا ـ كما إذا تمت مقدمات الانسداد على الحكومة ـ تعين العمل بظنه ، وان لم يثبت اعتباره كذلك ، فينتهي إلى الأصول العقلية من البراءة وأخويها

__________________

تلجئونا دلالة الاقتضاء إلى الالتزام بالتنزيل المزبور ، فالأولى إسقاط «متعلق به أو بمقلديه» حتى لا يقع أحد في حيص وبيص.

١٨

لا بد من انتهائه (١) إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن لو حصل له

______________________________________________________

كما لا يخفى. ثم ان الحصر في هذين القسمين عقلي ، لدورانه بين النفي والإثبات ضرورة أنه بعد تعميم الحكم للواقعي والظاهري لا يخرج البالغ الملتفت إلى الحكم الشرعي عن القاطع وغيره.

نعم بناء على اختصاص الحكم بالواقعي كما هو ظاهر كلام الشيخ الأعظم (قده) ـ حيث جعله مورداً للقطع والظن والشك ـ تعين كون التقسيم ثلاثياً ، وذلك لأن الحكم الواقعي هو الّذي يصلح لتعلق الشك به. وأما الحكم الظاهري فلا يتعلق به الا القطع ، ولا معنى لتعلق غير القطع به ، وحينئذ فالملتفت اما أن يحصل له القطع بالحكم الواقعي أو الظن به أو الشك فيه.

ثم بين المصنف وجه العدول عن تثليث الأقسام إلى تثنيتها بقوله : «وانما عممنا» وأنه ان كان ولا بد من تثليثها فاللازم تثليث آخر غير تثليث الشيخ (قده) ، وسيأتي توضيحه.

(١) هذا الضمير وضمير «له» راجعان إلى «البالغ» وضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول في «ما استقل» وقوله : «من اتباع» بيان للموصول ، وفاعل «حصل» ضمير راجع إلى الظن ، والواو في قوله : «وقد تمت» للحال ، يعني : أن انتهاء البالغ المذكور إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن مشروط بثلاثة أمور : أحدها : حصول الظن له. ثانيها : تمامية مقدمات انسداد باب العلم والعلمي. ثالثها : كون تماميتها على نحو يحكم العقل باعتبار الظن ، لا أن يكشف عن حكم الشارع باعتباره كما أشرنا إليه وسيأتي تفصيله في محله إن شاء الله تعالى ، فإذا انتفى أحد هذه الأمور لم ينته إلى الظن كما أشار إليه بقوله : «وإلّا فالرجوع».

١٩

وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وإلّا (١) فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

وانما عممنا (٢) متعلق القطع ، لعدم اختصاص أحكامه (٣) بما إذا كان متعلقاً بالاحكام الواقعية ، وخصصنا (٤) بالفعلي ، لاختصاصها (٥)

______________________________________________________

(١) يعني : وان لم يحصل له الظن ، أو حصل ولم تتم مقدمات الانسداد ، أو تمت لكن على نحو الكشف دون الحكومة ، فلا بد للبالغ المذكور من الرجوع ... إلخ.

(٢) شروع في بيان وجه العدول عن تقسيم الشيخ الأعظم (قده) لحالات المكلف إلى القطع والظن والشك إلى ما في المتن ، وهي أمور : أولها وثانيها راجعان إلى بيان وجه العدول عن التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ، وثالثها إلى وجه العدول عن تثليث الشيخ إلى تثليث آخر.

أما الوجه الأول المشار إليه بقوله : «وانما عممنا» فحاصله : أنه لا وجه لتخصيص متعلق القطع بالحكم الواقعي ، بل لا بد من تعميمه للواقعي والظاهري ، فالحكم الظاهري الثابت في موارد الأمارات والأصول الشرعية يندرج في الحكم المقطوع به ، وعليه فيكون العلم والطرق والأصول في رتبة واحدة.

(٣) أي : أحكام القطع.

(٤) أي : وخصصنا الحكم بالفعلي ، وهذا هو الوجه الثاني من وجوه العدول عن التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ، توضيحه : أنه لا بد من تخصيص الحكم بالفعلي ، لأن القطع بغيره ـ سواء كان اقتضائياً أم إنشائياً ـ لا يترتب عليه أثر فضلا عن الظن به أو الشك فيه.

(٥) أي : لاختصاص أحكام القطع بما إذا تعلق بالحكم الفعلي فقط.

٢٠