منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

ترك الصلاة المأمور بها ، لأن (١) ما أتى بها وان صحت وتمت ، إلّا أنها (٢) ليست بمأمور بها (٣).

ان قلت (٤) : كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر

______________________________________________________

(١) تعليل لكون استحقاق العقوبة على طبق القاعدة ، وذلك لأن ما أتى به المكلف ليس مأمورا به حتى لا يستحق العقوبة ، إذ المأمور به هو صلاة القصر دون التمام ، أو الجهر دون الإخفات ، أو العكس ، وترك المأمور به والإخلال به لا عن عذر يوجب استحقاق العقوبة ، فينبغي أن لا يكون استحقاقها موردا للإشكال وان كان الدليل وهو الصحيحان المتقدمان دالا على صحتها وعدم لزوم إعادتها. وضمير «بها» راجع إلى الموصول المراد به الصلاة ، وكذا ضمير «انها».

(٢) يعني : إلّا أن الصلاة مع صحتها بالدليل المزبور ليست بمأمور بها بأمرها الأوّلي ، إذ المفروض عدم انطباقه على المأتي به ، فصحته انما هي بالدليل الثانوي.

(٣) قال في الجواهر : «وفاقا للأكثر كما في المدارك وغيرها ، بل المشهور كما في الروض وغيره ، بل في الرياض أن عليه الإجماع في الجملة في ظاهر بعض العبارات ، بل حكى المقدس البغدادي الإجماع عليه صريحا. وربما يؤيده معروفية استثناء هذه المسألة ومسألة الجهر والإخفات من عدم معذورية الجاهل كما يومئ إليه سؤال الرسي والرضي السيد المرتضى عن وجه ذل ... وأجاب المرتضى عنه مقرّا لهما على ما يستفاد من كلامهما من كون الحكم مفروغا عنه ... تارة بأنه يجوز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وان كان الجاهل غير معذور ... وكأنه يريد أن الجاهل هنا أيضا غير معذور بالنسبة للإثم وعدمه وان كان فعله صحيحا للدليل» (١).

(٤) غرضه : أنه كيف يمكن الحكم بصحة العبادة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع عدم استناد الترك إلى المكلف وتمكنه

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ١٤ ، ص ٣٤٣

٤٤١

بها (١)؟ وكيف (٢) يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها (٣) حتى (٤) فيما إذا تمكن مما أمر بها

______________________________________________________

من الإتيان به؟ توضيحه : أن ما أفاده هنا ينحل إلى إشكالين : أحدهما : أنه كيف يصح المأتي به بدون الأمر؟ مع أن الصحة هي انطباق المأمور به عليه ، والمفروض خلو المأتي به عن الأمر ، فيمتنع انطباقه عليه ، مع دلالة الصحيحين المتقدمين على الصحة. أما الصحيح الأول فلقوله عليه‌السلام : «فلا إعادة عليه» حيث ان نفي الإعادة يدل على ملزومه وهي الصحة. وأما الصحيح الثاني ، فلقوله عليه‌السلام : «أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلاته».

ثانيهما : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع القدرة على الإعادة والإتيان بالمأمور به على وجهه؟ كما إذا علم بوظيفته من القصر أو الجهر أو الإخفات في الوقت مع سعته والتمكن من فعله ثانيا ، ومعه لا موجب لاستحقاق العقوبة ، إذ المطلوب في تمام الوقت هو صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها ، والمفروض تمكنه من ذلك مع عدم وجوب الإعادة ، بل مرجوحيتها شرعا بمقتضى قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته ولا يعيد» فترك المأمور به حينئذ مستند إلى الشارع ،ومعه كيف تصح مؤاخذته؟

(١) هذا إشارة إلى الإشكال الأول المتقدم آنفا بقولنا : «أحدهما : أنه كيف يصح المأتي به بدون الأمر ... إلخ» وضميرا «بصحتها ، بها» راجعان إلى الصلاة.

(٢) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني الّذي تقدم تقريبه بقولنا : «ثانيهما : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع القدرة على الإعادة ... إلخ».

(٣) وهي صلاة القصر أو الجهر أو الإخفات.

(٤) يعني : كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مطلقا

٤٤٢

كما هو (١) ظاهر إطلاقاتهم بأن علم (٢) بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات ، وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا؟ ضرورة (٣) أنه لا تقصير هاهنا (٤) يوجب استحقاق العقوبة.

______________________________________________________

حتى في صورة القدرة على إعادته في الوقت مع مرجوحية الإعادة؟ حيث ان ترك المأمور به حينئذ ليس مستندا إلى المكلف حتى يستحق المؤاخذة ، بل هو مستند إلى الشارع كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام في الصحيحين المتقدمين : «فلا إعادة عليه» و «فلا شيء عليه» و «قد تمت صلاته» على التقريب المتقدم.

(١) يعني : كما أن الحكم باستحقاق العقوبة مطلقا ظاهر إطلاقات الفقهاء ، حيث انهم أطلقوا استحقاق من أتم في موضع القصر جاهلا بالحكم للعقوبة ، فان إطلاق كلامهم يشمل صورة ارتفاع الجهل في الوقت والتمكن من الإتيان بالمأمور به الواقعي فيه.

(٢) هذا بيان التمكن من فعل المأمور به في الوقت ، وضمير «إعادتها» راجع إلى الصلاة المأمور بها.

(٣) تعليل لقوله : «وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة» وحاصله : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به الواقعي مع عدم تقصيره في الترك؟ حيث ان الترك مستند إلى حكم الشارع باجزاء غير المأمور به وعدم الإعادة ، وضمير «أنه» للشأن.

(٤) أي : في صورة ارتفاع الجهل في الوقت والتمكن من الإتيان بالمأمور به فيه ، فترك المأمور به الواقعي حينئذ ليس مستندا إلى تقصيره حتى يستحق العقاب ، بل تركه مستند إلى حكم الشارع بالاجزاء وعدم الإعادة كما تقدم آنفا.

٤٤٣

وبالجملة : كيف (١) يحكم بالصحّة بدون الأمر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة (٢)؟ لو لا الحكم (٣) شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها (٤).

قلت : انما حكم بالصحّة (٥) لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها (٦)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الإشكال الأول ، كما أن قوله : «وكيف يحكم باستحقاق العقوبة» إشارة إلى الإشكال الثاني ، وقد تقدم تقريب كليهما مفصلا.

(٢) يعني : في الوقت لإدراك المصلحة الوقتية ، ومع ذلك حكم الشارع بسقوط الإعادة.

(٣) قيد للتمكن ، يعني : أن المكلف متمكن من الإعادة ، إلّا أن الشارع عجّزه وسلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالاجزاء والصحة ، ففوت المأمور به ناش عن حكمه بالصحّة ، لا عن تقصير المكلف كما مر.

(٤) أي : بالصلاة ، فتأنيث الضمير باعتبار ما يراد بالموصول لا باعتبار لفظه ، وضمير «سقوطها» راجع إلى الإعادة.

(٥) هذا جواب عن الإشكال الأول وهو اتصاف المأتي به بالصحّة مع عدم الأمر به ، ومحصله : أن الصحة هنا ليست بلحاظ الأمر ، بل بلحاظ ملاكه ، لوفاء المأتي به بعمدة مصلحة المأمور به التي يلزم استيفاؤها ، فلاشتماله على هذا الملاك اللازم الاستيفاء يتصف بالصحّة والاجزاء عن المأمور به بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصلاة التامة مأمورا بها ، لكن لمّا كانت مصلحة صلاة القصر أهم صارت هي الواجبة فعلا ، فصحة صلاة التمام مستندة إلى المصلحة ، لا إلى الأمر الفعلي.

(٦) يعني : أن صلاة التمام في حد ذاتها مع الغض عن القصر ذات مصلحة

٤٤٤

وان كانت (*) دون مصلحة الجهر والقصر (١) ، وانما لم يؤمر (٢) بها لأجل أنه أمر بما (٣) كانت واجدة لتلك المصلحة (٤) على النحو

______________________________________________________

مهمة يلزم استيفاؤها ، لكنها ليست مساوية لمصلحة القصر ، وإلّا كان اللازم هو التخيير بينه وبين التمام كسائر الواجبات التخييرية ، لعدم مزية حينئذ لصلاة القصر توجب الأمر بها تعيينا. وضمير «اشتمالها» راجع إلى الصلاة التامة في موضع القصر ، أو الصلاة جهرا في موضع الإخفات ، أو العكس. وضميرا «نفسها ، ذاتها» راجعان إلى «مصلحة».

(١) إذ لو كانت مساوية لمصلحة الجهر والقصر لكان الحكم هو التخيير بين القصر والتمام ، والجهر والإخفات ، كما عرفت آنفا.

(٢) يعني : أن صلاة التمام ان كانت ذات مصلحة فلم لم يؤمر بها في عرض الأمر بالقصر؟ وقد أجاب عنه بأن عدم الأمر بها انما هو لأجل الاستغناء عنه بسبب أكملية مصلحة القصر ، لاشتماله على مصلحة التمام وزيادة.

(٣) أي : بالصلاة القصرية الواجدة لمصلحة الصلاة التامة على الوجه الأكمل والأتم ، وعلى هذا فلا موجب للأمر بالتمام.

(٤) أي : المصلحة القائمة بصلاة التمام على الوجه الأكمل.

وبالجملة : فحاصل جواب الإشكال هو : أن اتصاف المأتي به ـ كالتمام في موضع القصر ـ بالصحّة انما هو بلحاظ المصلحة الموجودة فيه ، لا بلحاظ الأمر ، وعدم

__________________

(*) الأولى سوق العبارة هكذا : «في حد ذاتها ، لكنها دون مصلحة الجهر والقصر ، ولذا لم يؤمر بها ، بل أمر بها لأكملية مصلحتها» فان قوله : «وان كانت» ظاهر في بيان الفرد الخفي ، ففرده الظاهر هو مساواة المصلحتين ، أو أكملية مصلحة التمام من القصر ، ومن المعلوم عدم إرادتهما في المقام ، وان كان قوله : «وانما لم يؤمر بها ... إلخ» يوضح المقصود.

٤٤٥

الأكمل والأتم (١). وأما الحكم (٢) باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة ، فانها (٣) بلا فائدة (*) إذ (٤) مع استيفاء تلك المصلحة

______________________________________________________

الأمر به مع اشتماله على المصلحة المهمة انما هو لأجل أهمية مصلحة القصر وأكمليتها من مصلحته ، ومن المعلوم تبعية التشريع لأهمّ المصلحتين.

(١) يعني : أن تلك المصلحة تكون بمثابة من الأهمية تمنع عن الأمر بالتخيير بين القصر والتمام ولو بنحو أفضلية القصر من التمام ، بل أهميتها توجب الأمر بالقصر تعيينا.

(٢) هذا جواب عن الإشكال الثاني وهو : أنه كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك المأمور به مع التمكن من إعادته؟

ومحصل الجواب : أنه لا فائدة في الإعادة ، إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة ، حيث ان المصلحة التامة الكامنة في صلاة القصر قد فاتت بسبب الإتيان بصلاة التمام ، لمكان الضدية بين المصلحتين ، فمصلحة صلاة التمام فوّتت مصلحة صلاة القصر ، ولم يبق شيء منها قابلا للتدارك حتى تجب إعادتها لأجل تداركه. وهذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بسقي البستان أو الزرع بماء النهر مثلا فسقاه بماء البئر ، فان مصلحة السقي بماء النهر قد فاتت بسقيه بماء البئر ، ويمتنع تداركها ، بل سقيه بماء النهر حينئذ مضرّ بالبستان أو الزرع ومفسد له ، فمصلحة نفس السقي في الجملة وان ترتبت على السقي بماء البئر ، إلّا أن كمال المصلحة ـ وهو النموّ الزائد ـ لا يترتب عليه ولا يمكن تداركه بماء النهر.

(٣) الضمير راجع إلى الإعادة ، والأولى أن يقال : «فلأنها بلا فائدة» لأنه في مقام تعليل عدم الإعادة مع التمكن منها حتى لا يستحق العقوبة.

(٤) تعليل لكون الإعادة بلا فائدة ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «ومحصل

__________________

(*) لما كان الكلام مسوقا لبيان وجه استحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة ،

٤٤٦

لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في

______________________________________________________

الجواب : أنه لا فائدة في الإعادة.»

__________________

فلعل الأولى أن يقال : «وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فلتفويته للمصلحة اللازمة الاستيفاء اختيارا بسبب ترك التعلم المؤدي إلى ذلك ، بحيث لا يبقى منها شيء يوجب الإعادة بعد استيفاء مصلحة المأتي به ، فلا فائدة حينئذ في الإعادة».

ولا يخفى أن مقدار التفاوت بين مصلحتي القصر والتمام مهم يلزم استيفاؤه ، ولذا وجب القصر تعيينا ، إذ لو كان غير مهم لوجب كل منهما تخييرا مع أفضلية القصر من باب أفضلية أحد فردي الواجب المخير ، غاية الأمر أنه مع الإتيان بالتمام جهلا لا يمكن تدارك ذلك المقدار المهم من مصلحة القصر ، كما عرفت في مثال سقي البستان بماء البئر ، فعدم الأمر بالإعادة أو القضاء انما هو لأجل عدم إمكان تدارك المقدار الفائت من المصلحة ، لا لأجل عدم كونه بالمقدار اللازم الاستيفاء ، فهذا الوجه المذكور في المتن لا بأس به.

ولا يرد عليه «أن التفاوت ان كان بمقدار يسير ، فهو لا يمنع عن الأمر بكل منهما في عرض الآخر تخييرا ، غايته أن الثاني يكون أفضل. وان كان بمقدار مهم فهذا يوجب الأمر بالإعادة أو القضاء لتدارك المهم اللازم» وذلك لأن مصلحة غير المأمور به كالتمام في موضع القصر تختص بحال الجهل ، ومفوّتة لمصلحة المأمور به في هذا الحال بحيث لا يمكن تدارك المقدار المهم الداعي لتشريع وجوب القصر تعيينا ولو بالإعادة أو القضاء ، ولذا لم يوجبهما الشارع ، فالتفاوت يكون بمقدار مهم ، لكنه يفوت ولا يمكن تداركه ، فلا تخيير بين القصر والإتمام ، لعدم قيامهما بمصلحة واحدة في جميع الحالات توجب جعل الوجوب التخييري بينهما ، بل الأمر بالقصر تعييني ، ولا إعادة ولا قضاء أيضا ، لفوت المصلحة الموجبة لهما.

٤٤٧

المأمور بها (١) ولذا (٢) لو أتى بها في موضع الآخر جهلا مع تمكنه من التعلم فقد قصّر ولو (٣) علم بعده [من التعلم لا يعيد قصرا لو علم بعده] وقد وسع الوقت.

فانقدح (٤) : أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة (٥) بعد فعل صلاة الإتمام ، ولا (٦) من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات وان كان الوقت باقيا.

______________________________________________________

(١) كصلاة القصر ، فان مصلحة صلاة التمام تفوّت مصلحة القصر.

(٢) يعني : ولعدم بقاء المجال لاستيفاء مصلحة المأمور به ، وعدم فائدة في الإعادة لو أتى بالتمام في موضع القصر جهلا بالحكم ، فقد قصّر وليس عليه الإعادة ، وان علم بالحكم في الوقت وتمكن من الإعادة فيه. وضمير «بها» راجع إلى الصلاة غير المأمور بها كالتمام.

(٣) كلمة «لو» وصلية ، يعني : ولو كان علمه بالحكم في سعة الوقت وإمكان الإعادة فيه ، وضمير «بعده» راجع إلى الإتيان.

(٤) هذه نتيجة ما تقدم من عدم المجال للإعادة لفوت المصلحة ، وعدم بقاء شيء منها يوجب الإعادة. وعليه فلا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد الإتيان بصلاة التمام ، وكذا في الجهر والإخفات ، وان كان الوقت لإتيانها باقيا ، لما مر آنفا من أن مصلحة المأتي به كالتمام تفوّت مصلحة المأمور به كالقصر ، ويسقط أمره أيضا ، وضمير «أنه» للشأن.

(٥) لأن الصحة موافقة الأمر ، والمفروض سقوط الأمر بصلاة القصر بفوات مصلحتها بفعل صلاة التمام.

(٦) يعني : ولا يتمكن من الجهر كذلك أي صحيحة بعد الإتيان بصلاة الإخفات

٤٤٨

ان قلت : على هذا (١) يكون كل منهما (٢) في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا (٣) وما هو السبب لتفويت الواجب كذلك (٤) حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (٥).

قلت (٦):

______________________________________________________

لما مر من فوات المصلحة.

(١) أي : بناء على عدم التمكن من الإعادة ـ لعدم مجال لها ـ يرد هنا إشكال على صحة المأتي به واجزائه عن المأمور به ، تقريب الإشكال : أن ترك المأمور به ـ وهو القصر ـ حرام ، وحيث ان التمام مقدمة لهذا الترك المحرّم ، فتسري الحرمة إليه ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد. وعليه فالصلاة التامة لحرمتها فاسدة ، ومع فسادها كيف تجزئ عن المأمور به؟

(٢) أي : من التمام والإخفات ، والأولى أن يقال : «منها» لرجوعه إلى التمام والجهر والإخفات ، يعني : أن الإتيان بالتمام موضع القصر ـ الّذي هو المأمور به ، والإتيان بالجهر موضع الإخفات ، وبالعكس ـ سبب لفوت الواجب الفعلي ، إلّا أن تكون تثنية الضمير باعتبار الموضعين.

(٣) قيد للواجب ، إذ الواجب الفعلي هو القصر ، حيث ان ملاكه أقوى من ملاك التمام ، وقد مرت الإشارة إلى أن التشريع تابع لأقوى الملاكين.

(٤) أي : الفعلي ، والمراد بـ «ما هو السبب» هو التمام ، حيث انه مقدمة لتفويت القصر الّذي هو الواجب الفعلي ، وقوله : «حرام» خبر «ما» الموصول ، يعني : وما هو السبب لتفويت الواجب الفعلي حرام من باب المقدمة.

(٥) لامتناع التقرب بما هو مبغوض وحرام ، وفساد العبادة بسبب النهي عنها.

(٦) هذا دفع الإشكال ، ومحصله : أن التمام ليس مقدمة لترك الواجب الفعلي

٤٤٩

ليس (١) سببا لذلك ، غايته [غاية الأمر] أنه (٢) يكون مضادا له ، وقد حققنا في محله (٣) أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.

لا يقال : على هذا (٤) فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا في موضع

______________________________________________________

وهو القصر ، بل التمام والقصر ضدّان ، وهما في رتبة واحدة ، فعدم كل منهما يكون أيضا في رتبة وجود الآخر ، لا في طوله حتى يصير عدم أحدهما مقدمة ومن أجزاء علة وجود الآخر ، فلا علّية بينهما ، بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر ، ومع عدم التوقف والعلية لا يكون التمام سببا لفوت المأمور به حتى يتصف لأجل المقدمية بالحرمة ويفسد ، بل هو باق على محبوبيته ، لاشتماله على المصلحة المهمة اللازمة الاستيفاء ، فيقع صحيحا أي واجدا للملاك ومسقطا للواجب الفعلي ، لكونه مفوّتا لملاكه الداعي إلى الأمر به.

(١) أي : ليس كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب الفعلي ، فالمشار إليه في «لذلك» هو التفويت.

(٢) أي : غاية الأمر أن كلّا منهما في موضع الآخر يكون مضادا للواجب الفعلي الفائت ، وضمير «له» راجع إلى الواجب.

(٣) أي : في مبحث الضد ، حيث ان الضد كالسواد وعدم ضده كعدم البياض متلازمان ، وليس بينهما توقف وعلية أصلا. وعليه فلا يكون فوت الواجب الفعلي كالقصر مستندا إلى فعل التمام ، بل هو مستند إلى تقصيره في ترك الفحص والتعلم ، فصلاة التمام تقع محبوبة ، لكونها واجدة للمصلحة التامة في حد ذاتها ، وليست مقدمة لترك القصر حتى تصير مبغوضة غير صالحة للمقربية والاجزاء.

(٤) أي : بناء على اشتمال المأتي به ـ كالتمام في موضع القصر الّذي هو الواجب

٤٥٠

القصر والجهر (١) مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وان عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر (٢).

فانه يقال (٣) : لا بأس بالقول

______________________________________________________

الفعلي ، وكذا كل من الجهر والإخفات في موضع الآخر ـ على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في ذاته موجبة لفوت مصلحة الواجب يلزم الحكم بصحة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضا مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب ، حيث ان المقام من صغريات التزاحم ، ومن المعلوم الحكم بصحة أحد المتزاحمين في حالتي العلم والجهل ، لوجود الملاك فيهما في كلتا الحالتين ، ولذا يحكمون بصحة صلاة تارك إنقاذ الغريق مع قدرته على إنقاذه ، سواء علم بالغرق أم لا. فليكن ما نحن فيه كذلك ، بأن يحكم بصحة التمام ممن علم بوجوب القصر ، وتركه عمدا وصلى تماما ، مع أنه لم يفت أحد بذلك. وربما يكشف هذا عن عدم كون المقام من باب التزاحم ، وعدم اشتمال المأتي به على المصلحة اللازمة الاستيفاء في جميع الحالات.

(١) هذا من اللف والنشر المرتب ، وضميرا «بوجوبهما ، موضعهما» راجعان إلى القصر والجهر.

(٢) لأنهما واجبان فعلا ، فتركهما عمدا يوجب استحقاق العقوبة.

(٣) هذا دفع الإشكال ، ومحصله : أنه لو كان لدليل اشتمال المأتي به كالتمام في موضع القصر على المصلحة إطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحة التمام واجزائه عن القصر مطلقا ، كما نقول بصحة صلاة تارك إنقاذ الغريق ولو عمدا ، حيث ان إطلاق دليل وجوب الصلاة يدل على مطلوبيتها المطلقة التابعة لوجود مصلحتها مطلقا حتى في حال التزاحم كإنقاذ الغريق.

٤٥١

به (١) لو دل دليل على أنها (٢) تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم ، لا (٣) احتمال اختصاص أن يكون (٤) كذلك في صورة الجهل ،

______________________________________________________

لكن الأمر ليس كذلك ، فان إطلاق دليل وجوب صلاة التمام قيّد بدليل وجوب القصر في السفر ، ولم يدل دليل على كون التمام ذا مصلحة في السفر إلّا في حال الجهل ، بل دليل تقييده بالقصر يدل على عدم المصلحة في التمام مطلقا. نعم دليل اجزائه عن القصر يدل إنّا على وجود المصلحة في التمام في خصوص حال الجهل بوجوب القصر في السفر ، ومع عدم إحراز المصلحة أو إحراز عدمها في التمام في غير حال الجهل كيف يصح الحكم بالصحّة والاجزاء عن القصر في حال العلم بوجوبه؟

وبالجملة : لا دليل في مقام الإثبات على كون التمام ذا مصلحة في غير حال الجهل.

(١) أي : بكون صلاته صحيحة مع العلم بوجوب القصر والجهر.

(٢) أي : الصلاة غير المأمور بها واجدة للمصلحة ولو مع العلم بعدم الأمر بها.

(٣) تعليل لما يفهم من قوله : «لو دل دليل» من أنه لو لم يدل دليل على اشتمال غير المأمور به على المصلحة ولو مع العلم بالمأمور به الواقعي كالقصر لا يمكن الالتزام بالصحّة ، لاحتمال اختصاص اشتماله على المصلحة بحال الجهل بوجوب القصر ، لقرب دعوى دخل الحالات من الجهل وغيره في المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، ومع هذا الاحتمال لا دليل على اشتماله على المصلحة حتى يجزئ عن المأمور به ، فقاعدة الاشتغال تقتضي لزوم الإعادة وعدم الاكتفاء بالتمام ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «وفيه بأس لو لم يدل دليل على ذلك ، لاحتمال ... إلخ».

(٤) يعني : أن يكون المأتي به كذلك أي مشتملا على المصلحة المهمة في صورة الجهل بالمأمور به الواقعي لا مطلقا حتى في صورة العلم به.

٤٥٢

ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها (١) باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به كما لا يخفى.

وقد صار بعض الفحول (٢) بصدد بيان إمكان كون

______________________________________________________

(١) أي : في الصلاة المأتي بها بدلا عن المأمور به الواقعي ، ولا بعد في اختلاف حال المصلحة باختلاف حال المكلف من حيث علمه بوجوب شيء كالقصر والجهل به ، فان لحالات المكلف كالسفر والحضر وغيرهما من الشرائط الخاصة كالشرائط العامة من البلوغ والعقل وغيرهما دخلا في المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

فالمتحصل : أن المأتي به من التمام موضع القصر أو الجهر موضع الإخفات أو العكس لا يشتمل على المصلحة التامة حتى يجزئ عن المأمور به الواقعي إلّا في صورة الجهل بالواجب الواقعي الفعلي.

(٢) وهو فقيه عصره في كشف الغطاء ، قال في مقدمات الكتاب ما هذا لفظه :«وتعلق الأمر بالمتضادين ابتداء غير ممكن ، للزوم التكليف بالمحال. ولو تضيقا معا بالعارض تخير مع المساواة ، وقدم الراجح مع الترجيح بحقية المخلوق أو شدة الطلب ، ويرجع الأول إلى الثاني ، لأن انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذّمّة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي مانع لأن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل ، كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد» (١).

وتوضيح الترتب الّذي أفاده كاشف الغطاء (قده) هو : أن المأتي به كصلاة

__________________

(١) كشف الغطاء ، المبحث الثامن عشر من المقدمة ، ص ٢٥

٤٥٣

المأتي به (١) في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب. وقد حققنا (٢) في مبحث الضد امتناع الأمر بالضدين مطلقا ولو بنحو الترتب بما

______________________________________________________

التمام يتعلق به الأمر بشرط العزم على عصيان الأمر بالقصر بنحو الشرط المتأخر فالأمر بصلاة القصر مطلق ، والأمر بضدها وهو صلاة التمام مشروط بالعزم على عصيان أمر القصر ، فالعزم على عصيانه يوجب أمرين : أحدهما استحقاق العقوبة ، لتركه المأمور به اختيارا بترك الفحص والتعلم ، والآخر تعلق الأمر بصلاة التمام ، لتحقق موضوعه ، ولا مانع من تعلق الأمر بالضدين بنحو الترتب. وعليه فيكون التمام مأمورا به.

(١) وهو التمام في موضع القصر ، أو الجهر في موضع الإخفات ، أو الإخفات في موضع الجهر.

(٢) هذا رد الترتب المزبور ، وحاصله : أن الترتب مستلزم لطلب الجمع بين الضدين ، وهو محال ، ضرورة أن خطاب القصر فعلي لا يتوقف على شيء ، وخطاب التمام بالعزم على العصيان أيضا يصير فعليا ، ففي ظرف العزم على العصيان يجتمع الطلبان بالضدين في آن واحد ، وهو ممتنع (*).

وشيخنا الأعظم (قده) أورد على هذا الترتب أيضا بعدم تعلقه هنا وفي مسألة الضد ، فراجع الفرائد.

وهذا الإشكال وغيره من الإشكالات التي أوردوها على الترتب قد اندفع في محله ، فراجع مبحث الضد من هذا الشرح.

__________________

(*) وقد يجاب عن الترتب الّذي ذكره كاشف الغطاء (قده) بأن المقام ليس من صغريات الترتب المعروف وأجنبي عنها ، حيث ان مورده الضدان اللذان يكون كل منهما واجدا للملاك في عرض الآخر ، لا أن يكون ملاك أحدهما منوطا بعصيان خطاب الآخر كالمقام ، فان ملاك صلاة التمام منوط بعصيان خطاب صلاة القصر ،

٤٥٤

لا مزيد عليه فلا نعيد (*).

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وليست ذات ملاك في عرض صلاة القصر.

لكن الأولى في رد الترتب أن يقال : ان مورد الترتب المصطلح هو الضدان المشتملان على الملاك والمتعلقان للطلب ، غاية الأمر أن التزاحم في مقام الامتثال أوجب سقوط أحدهما المعين أو غير المعين عن الفعلية ، والقائلون بالترتب التزموا بفعلية الطلب في كليهما بنحو الترتب. وليس المقام كذلك ، لما تقدم من أن صلاة التمام ليست مأمورا بها وان كانت واجدة للملاك المهم المفوّت لمصلحة المأمور به.

والحاصل : أن مورد الترتب هو التزاحم المأموري لا الآمري ، وفي المقام التزاحم الآمري مفقود ، إذ لا أمر إلّا بأحد الضدين وهو القصر. وكذا التزاحم المأموري ، لأنه متفرع على تعلق الأمر بكلا الضدين مع عدم قدرة العبد على امتثال أمر كليهما ، والمفروض عدم الأمر إلّا بأحدهما وهو القصر.

(*) وقد تحصل من كلام المصنف في حل الإشكال : أن المأتي به لاشتماله على المصلحة الوافية بمعظم مصلحة المأمور به الفائت مسقط له من دون أن يكون متعلقا للأمر ، إذ لا يدل النص على أزيد من عدم وجوب الإعادة ، وهو لازم أعم لكون التمام في موضع القصر مأمورا به أو مسقطا له بلا تعلق أمر به ، لعدم الملازمة بين صحة الشيء وتماميته وبين كونه مأمورا به كما مر سابقا ، فاستحقاق العقاب انما هو على ترك القصر الواجب في كلتا حالتي العلم والجهل ، وعدم الإعادة يكون لسقوط الواجب بغيره.

والظاهر أنه (قده) اقتبسه من كلمات شيخنا الأعظم في الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي ذكرها لحل الإشكال ، قال (قده) : «الثاني منع تعلق الأمر بالمأتي به ، والتزام أن غير الواجب مسقط عن الواجب ، فان قيام ما اعتقد وجوبه

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقام الواجب الواقعي غير ممتنع ... إلخ» لكنه قدس‌سره ناقش فيه من جهة قصور مقام الإثبات ، وذلك لزعمه أن قوله عليه‌السلام : «تمت صلاته» ظاهر في كون المأتي به مأمورا به في حقه. ثم أمر في آخر كلامه بالتأمل.

وكلامه وان لم يتضمن التفصيل الّذي تعرض له المصنف في المتن من النقض والإبرام ، إلّا أن المتأمل في عبارته يظهر له أن مرجع كلام المصنف هنا وفي حاشية الرسائل هو ذلك لا غيره ، وهو (قده) وان لم يبين مراده كما هو حقه ، إلّا أن تلميذه المحقق الميرزا الآشتياني (قده) أوضح مرامه ببيان واف ودفع كثيرا من الإشكالات عنه ، وبمراجعته (١) يظهر وحدة المسلك الّذي اختاره المصنف مع ما ارتضاه شيخه الأستاذ في حل الإشكال ، ولذا أجاب المصنف في الحاشية ـ عن إيراد الشيخ على الوجه الثاني ـ بقوله : «انما يرده ذلك لو كانت ملازمة بين الصحة والتمامية والمأمور بهية ، وقد عرفت بما ذكرناه في حل الإشكال عدمها ، وأنه يمكن الصحة لأجل الاشتمال على المصلحة» (٢).

ومما ذكرنا ظهر : أن دعوى مغايرة كلامي الشيخ والمصنف (قدهما) لبّا ، وعدّهما وجهين كما في بعض الكلمات ليست على ما ينبغي.

ويمكن أن يستشهد في مقام الإثبات على ما اختاره المصنف في دفع الإشكال بالنسبة إلى خصوص الإتمام للمسافر في موضع القصر بالأخبار ، بتقريب : أنه يستفاد منها أن القصر شرّع تسهيلا على العباد ، بمعنى أن مصلحة التمام والصوم في السفر باقية على حالها ولم تتغير بتشريع القصر ، وجعل الله تعالى قصر الصلاة

__________________

(١) بحر الفوائد ج ٢ ، ص ٢١٢

(٢) حاشية الرسائل ، ص ١٧١

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإفطار الصوم للمسافر هدية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمته كرامة كما في بعض الروايات مثل ما رواه في الخصال بسنده عن السكوني عن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «ان الله أهدى إليّ وإلى أمتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم ، كرامة من الله لنا ، قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : الإفطار في السفر والتقصير في الصلاة ، فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله عزوجل هديته» (١)

أو رحمة وامتنانا كما في بعضها الآخر ، مثل ما عن العلل والعيون عن الفضل ابن شاذان عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «وانما قصرت الصلاة في السفر ، لأن الصلاة المفروضة أولا انما هي عشر ركعات ، والسبع انما زيدت فيها بعد ، فخفّف الله عنه تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلا يشتغل عما لا بد له منه من معيشته ، رحمة من الله وتعظيما عليه ، إلّا صلاة المغرب ، فانها لم تقصر ، لأنها صلاة مقصورة في الأصل» (٢).

أو صدقة كما في مرسل ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «سمعته يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله عزوجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟» (٣).

وعليه فإذا أتى المسافر بالصلاة تماما أو صام فقد أدرك المصلحة الواقعية ، لانحفاظها كما في سائر موارد الأحكام الترخيصية ، فان مصلحة التسهيل مما يتدارك بها الواقع. ولا منافاة بين كون القصر والإفطار رخصة وبين كونهما عزيمة ، لأن الرخصة انما هي في جعلهما هدية للعباد ، ومعنى العزيمة أن قبول الهدية واجب كما يشعر به بعض تعبيرات النصوص ، لأن في بعضها «ان الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه

__________________

(١) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٥٤٠ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ١١

(٢) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٥٤٠ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ١٢

(٣) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٥٤٠ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٧

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كما يحب أن يؤخذ بعزائمه».

فتحصل إلى هنا أمور : الأول : انحفاظ مصلحة صلاة التمام والصوم في السفر وعدم انتفائها بوجوب القصر والإفطار في السفر.

الثاني : معنى الرخصة والعزيمة وعدم التنافي بينهما.

الثالث : حرمة رد الهدية.

لا يقال : ان انحفاظ مصلحة الواقع يستلزم صحة العمل حتى من العالم بالحكم مع أنكم لا تلتزمون به.

فانه يقال : انه كذلك لو لا انطباق عنوان مبغوض على المأتي به ، والمفروض انطباق عنوان رد الهدية والصدقة عليه في صورة العلم بالحكم ، ولا يمكن اتحاد العبادة مع العنوان المبغوض. وهذا بخلاف صورة الجهل ، فان رد الهدية لا يصدق عليه ، لعدم العلم بكون القصر هدية حتى يردها ، فيصح العمل لواجديته لمصلحة الواقع ، ويعصي ، فيعاقب على ترك قبول الهدية بترك مقدمته أعني التعلم ، فلا يكون وجوب التعلم نفسيا.

والحاصل : أن الجاهل لا يعلم بوجود هدية للمولى حتى يقبلها ، كما أن الجاهل بالهدية وهي القصر ـ إذا أتى بها فلا يعد قابضا للهدية ، نظير قيام التعظيم لزيد ، فانه لا يتصف بالتعظيم له إلّا إذا علم بمجيء زيد ، وأما لو قام جاهلا بمجيئه لم يعد تعظيما لزيد.

والظاهر أن هذا الوجه يكفي لإثبات ما أفاده المصنف في القصر والإتمام وأما في الجهر والإخفات فمجرد إمكان وجود المصلحة كاف في الالتزام بما أفاده بعد تسالمهم على الصحة الكاشفة إنّا عن وجودها.

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فقد أورد على ما في المتن بوجوه :

الأول : ما أفاده شيخ مشايخنا المحقق الميرزا النائيني (قده) ، ومحصله : «أن المصلحة القصوى ان كانت هي الغرض الداعي إلى الجعل فلا وجه لسقوطها بما يكون فاقدا لتلك المرتبة العليا خصوصا مع إمكان تداركها كما إذا كان الوقت واسعا له ، ودعوى عدم القدرة على استيفائها حينئذ باستيفاء المصلحة الأخرى ممنوعة ، لقدرة المكلف على إتيان القصر في الوقت بعد الإتيان بالتمام ، ولا يعتبر في استئفاء المصالح والأغراض إلّا مجرد التمكن من فعل متعلقاتها ، وهو حاصل بالوجدان ، إلّا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف ، وهذا خلف ، إذ لازمه خلو صلاة القصر عن الملاك حال الجهل المستلزم لعدم استحقاق العقاب على مخالفته. وان لم تكن تلك الخصوصية دخيلة في مصلحة الواجب فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام ، غايته كون القصر أفضل الفردين ، ولا وجه لاستحقاق العقاب» (١).

ويمكن الخدشة فيه بما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من أن الغرض وان كان هو المصلحة القصوى القائمة بفعل الصلاة القصرية مطلقا حتى في حال الجهل بوجوبها ، لكنه فات بإتيان التمام المشتمل على جملة مهمة من المصلحة مفوّتة للمقدار الزائد القائم بالقصر مخرجة له عن قابلية الاستيفاء والتدارك ، لمكان تضاد المصلحتين ، ويسقط الأمر بالقصر ، لاستيفاء المهم من الملاك.

ومفوتية صلاة التمام للمقدار الزائد من المصلحة القائم بالقصر بحيث يخرجه عن قابلية الاستيفاء أمر ممكن ، كسقي البستان بالماء المالح الموجب لعدم قابلية

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ١٠٢

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سقيه بالماء الحلو ، مع استئفاء مقدار مهم من مصلحة السقي بالماء المالح. وهذا الأمر الممكن قد دل النص على وقوعه ، فيؤخذ بظاهره من عدم الإعادة. فلا مجال لإشكال الميرزا على صاحب الكفاية (قدهما) من لزوم استئفاء المصلحة الزائدة القائمة بالقصر مع فرض القدرة على الإتيان به في الوقت ، لما عرفت من أن عدم التمكن من الاستيفاء ليس لأجل عجز المكلف حتى يقال بقدرته عليه ، بل الوجه فيه عدم قابلية الملاك الأتم للاستيفاء بعد الإتيان بالتمام كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : «ولا يعيد».

الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من : «أن امتناع استئفاء بقية المصلحة انما هو بسبب حصول المصلحة القائمة بالإتمام بمجرد فعله ، مع أن مقتضى ما سلكه (قده) من إمكان تبديل الامتثال بالامتثال ـ لعدم كون الفعل علة تامة لحصول الغرض فله تبديل الامتثال بامتثال أو في بالغرض ـ وجوب التبديل تحصيلا للغرض اللازم المراعى على الفرض ، فكيف يجتمع مع هذا المسلك مع امتناع الاستيفاء بمجرد وجود الفعل المقتضي لحصول الغرض ... إلخ» (١).

لكن الظاهر عدم التنافي بين جواز تبديل الامتثال بامتثال أو في بالغرض وبين امتناع استئفاء الملاك الأتم القائم بالقصر مثلا ، وأجنبية المقام عن ذلك الباب ، لأنه يعتبر في جواز تبديل الامتثال أمران : أحدهما : أن يكون هناك أمر حتى يصدق على إيجاد متعلقه أولا وثانيا عنوان الامتثال كي يعد الإيجاد الثاني بدلا عن الامتثال الأول ويصح تبديل الامتثال به.

وثانيهما : إمكان الامتثال ثانيا ، بأن لا يكون الإتيان الأول علة تامة لسقوط

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٦

٤٦٠