منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هي ما لم تكن أطرافها محدودة مضبوطة غير قابلة للزيادة والنقصان ، والمحصورة ما كانت كذلك ، فلو علم مثلا بحرمة شاة من قطيع غنم محدودة معينة بحيث لو سئل عن الحرام لجعله مرددا بين آحاد تلك القطيع ، فيقول : هذا أو هذا أو ذاك إلى آخرها لكانت الشبهة محصورة سواء قلّت أطراف الشبهة أم كثرت ... وهذا بخلاف ما لو علم بأن ما يرعاه هذا الراعي بعضها موطوءة ولكن لم يكن له إحاطة بجميع ما يرعاه مما هو من أطراف الشبهة ، فليس له حينئذ جعل الحرام مرددا بين آحاد معينة ، بل لو سئل عن حال كل فرد لأجاب بأن هذا اما حرام أو الحرام غيره مما يرعاه هذا الراعي على سبيل الإجمال من غير أن يكون له إحاطة بأطراف الشبهة ، فحينئذ لا يجب عليه الاجتناب عن كل ما يحيط به من الأطراف ... فعمدة المستند لجواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة بناء على هذا التفسير الّذي هو في الحقيقة إبقاء للفظ على حقيقته انما هي سلامة الأصل فيما أحاط به من الأطراف عن المعارض ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين قلة الأطراف وكثرتها ...» (١)

لكنك خبير بما فيه من الخروج عن تفسير مراد الأصحاب ، فان هذا الضابط راجع إلى تحديد الموضوع بلحاظ حكمه من منجزية العلم الإجمالي وعدمها ، مع وضوح أن المقصود بالشبهة المحصورة وما يقابلها من غير المحصورة هو المحصور بلحاظ العدد قلة وكثرة ، وأن نفس عدم الحصر مانع عن تنجيز العلم الإجمالي مع اجتماع سائر الشرائط التي منها إمكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف. وجعل المناط في المحصور الإحاطة والعلم بتمام الأطراف إجمالا اصطلاح جديد فيه ، وإلّا فلا دخل للعلم بالأطراف في كون الشبهة محصورة. وان أريد بها الابتلاء

__________________

(١) حاشية الرسائل المسماة بالفوائد الرضوية ، ص ٩٢

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بها فعدم المنجزية حينئذ يستند إلى فقد شرط آخر لا عدم الحصر.

والحاصل : أن عنوان المحصور وغير المحصور انما هو بلحاظ قلة الأطراف وكثرتها ، ولا دخل للعلم والابتلاء بها فيه أصلا ، فضلا عن دعوى أن هذا التفسير إبقاء اللفظ على معناه الحقيقي ، فلاحظ.

ومنها : ما عن المحقق النائيني (قده) من : «أن ضابط الشبهة غير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك ، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال ، فتارة يعلم بنجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة منها ، فهذا لا يكون من الشبهة غير المحصورة ، لإمكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل ، مع أن نسبة الحبة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف.

وأخرى يعلم بنجاسة إناء من أواني البلد ، فهذا يكون من الشبهة غير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف ، لعدم التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وان كان المكلف متمكنا من آحادها ، فليس العبرة بقلة العدد وكثرته فقط ، إذ رب عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة كالحقة من الحنطة ، كما أنه لا عبرة بعدم التمكن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة ، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لا بد في الشبهة غير المحصورة ـ مما تقدم في الشبهة المحصورة ـ من اجتماع كلا الأمرين ، وهما كثرة العدد وعدم التمكن من جمعه في الاستعمال.

وبهذا تمتاز الشبهة غير المحصورة من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد

١٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من أطرافها ، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع. والتمكن العادي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف في الشبهة غير المحصورة حاصل ، والّذي هو غير حاصل التمكن العادي من جمع الأطراف لكثرتها ، فهي بحسب الكثرة بلغت حدّا لا يمكن عادة الابتلاء بجمعها في الاستعمال بحيث يكون عدم التمكن من ذلك مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر» (١).

وملخص ما يستفاد من هذه العبارة بطولها : أنه يعتبر في الشبهة غير المحصورة أمران : أحدهما كثرة الأطراف ، والآخر عدم التمكن عادة من جمعها في الاستعمال لكثرة الأطراف لا لأمر آخر كالخروج عن الابتلاء ، هذا.

ولا يرد عليه ما في تقريرات بعض أعاظم العصر من «أن عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقق ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما إذا علمنا بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين ، فان المكلف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت» (٢).

وذلك لما صرح به في عبارته المتقدمة من كون عدم التمكن مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر ، ومن المعلوم أن عدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف في مثال الجلوس ونحوه ليس مستندا إلى كثرة الأطراف بل إلى أمر آخر.

كما لا يرد عليه أيضا ما في التقريرات المذكورة من «أن عدم القدرة على المخالفة القطعية غير منضبط في نفسه ، فانه يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال ،

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٣٨

(٢) مصباح الأصول ، ج ٢ ص ٣٧٤

١٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وباختلاف الأشخاص ، وباختلاف قلة الزمان وكثرته ، وغير ذلك من الخصوصيات ، فليس له ضابط ، فكيف يكون ميزانا لكون الشبهة غير محصورة» لأنه بعد وضوح كون الأحكام انحلالية يكون عدم القدرة على المخالفة كسائر الموانع كالعسر والحرج شخصيا ، وكل مكلف يعلم قدرته على المخالفة وعدمها ، فلا يلزم أن يكون ضابط كلي للشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى جميع المكلفين مع اختلاف شئونهم.

نعم يرد عليه ما أورده في التقريرات أيضا بقوله : «وثالثا : ان عدم التمكن من المخالفة القطعية ان أريد به عدم القدرة عليها دفعة ، فكثير من الشبهات المحصورة كذلك ، وان أريد به عدم التمكن منها ولو تدريجا فقلّما تكون شبهة غير محصورة ، إذ كثير من الشبهات التي تعد غير محصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع أطرافها في ضمن سنة أو أكثر أو أقل».

هذا مضافا إلى ما أفاده شيخنا المحقق العراقي من : «أنه ان أريد عدم التمكن من الجمع بينها في زمان قصير ، ففيه : أنه يحتاج إلى تحديده بزمان معين ، ولا معيّن في البين.

ومن أن لازم الضابط المزبور اندراج شبهة الكثير في الكثير في غير المحصور كما في العلم الإجمالي بنجاسة ألف ثوب في ألفين ، مع أنه لا شبهة في لحوقها بالمحصورة كما سيجيء إن شاء الله تعالى (١).

ثم ان هذا الضابط يختص بالشبهات التحريمية غير المحصورة ، ضرورة أن عدم التمكن من الجمع في استعمال الأطراف الموجب للمخالفة القطعية العملية

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٣٣٠

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مختص بها ، إذ في الشبهات الوجوبية يمكن المخالفة القطعية بترك جميع الأطراف.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : عدم سلامة شيء من الضوابط المذكورة للشبهة غير المحصورة من الإشكال.

هذا تمام الكلام في تحديد موضوع الشبهة غير المحصورة.

وأما حكمها ، فهو على ما ذكروه عدم وجوب الامتثال ، لوجوه :

الأول : ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف فيها ، لوهنه وفيه ما تقدم آنفا.

الثاني : دعوى الإجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية فيها كما عن الروض وجامع المقاصد ، بل عن المحقق البهبهاني في حاشية المدارك بعد دعواه صريحا أنه من ضرورة الدين.

وفيه ـ مضافا إلى عدم تعرض القدماء له لكونه من المسائل المستحدثة ، فلا مجال لدعوى الإجماع في مثله ـ أنه على فرض تحققه لا يكون إجماعا تعبديا ، للعلم بمدركيته أو احتمالها ، لصلاحية ما ذكروه من الوجوه للاستناد إليها.

الثالث : كون لزوم الامتثال فيها مستلزما للحرج المنفي شرعا.

وفيه : أن الحرج شخصي ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك من الخصوصيات ، فدليل الحرج لا ينفي الحكم بالنسبة إلى من لا حرج عليه في الامتثال.

وبالجملة : فهذا الدليل أخص من المدعى ، بل أجنبي عنه ، إذ المقصود كون نفس عدم الحصر مانعا عن التكليف لا أمر آخر من حرج أو ضرر أو غيرهما.

الرابع : رواية أبي الجارود ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ،

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فقلت له : أخبرني من رأي أنه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وان لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان» (١).

بتقريب : أن الشبهة فيه غير محصورة ، والحكم فيها الحلية وعدم تنجيز العلم الإجمالي.

وفيه : ضعف الرواية سندا ودلالة. أما سندا فلاشتماله على محمد بن سنان الّذي لم تثبت وثاقته.

وأما دلالة ، فلظهورها في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء بقرينة قوله عليه‌السلام : «حرم ما في جميع الأرضين» فتكون الرواية أجنبية عن الشبهة غير المحصورة ، ولو لم يكن هذا المعنى ظاهر الرواية ، فلا أقل من مساواته لمعان أخر :

أحدها : عدم وجوب الاجتناب عن الجبن المعمول في الأمكنة التي لم يعلم بجعل الميتة فيه لأجل جعل الميتة فيه في مكان معين ، وان كان هذا الاحتمال في غاية الوهن والسقوط.

ثانيها : كون الرواية في مقام بيان اعتبار السوق واليد في موارد العلم الإجمالي ، فانهما يمنعان عن انطباق المعلوم بالإجمال على بعض الأطراف الّذي يكون موردا لأحدهما ، لاعتبار يد المسلم وسوقه ما لم يعلم الخلاف ، فعدم وجوب الاجتناب

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، ص ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المحللة ، رواه أحمد ابن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود.

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حينئذ مستند إلى السوق واليد ، لا إلى مانعية عدم انحصار الأطراف عن تنجيز العلم الإجمالي كما هو مورد البحث.

ثالثها : أن الحكم بحلية الجبن في الرواية لعله من جهة دخل العلم في الحكم بالنجاسة كما عن صاحب المدارك ، لا من جهة كثرة الأطراف ومع هذه الاحتمالات تصير الرواية مجملة غير صالحة للاستدلال بها.

الخامس : ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من «عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية. أما عدم حرمة المخالفة القطعية ، فلأن المفروض عدم التمكن العادي منها بسبب كثرة الأطراف.

وأما عدم وجوب الموافقة القطعية ، فلأن وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية ، لأنها هي الأصل في باب العلم الإجمالي ، لأن وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف ، وتعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية كما هو المفروض لم يقع التعارض بين الأصول ، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية» (١).

وملخصه : عدم حرمة المخالفة القطعية ، لعدم القدرة عليها عادة بنفسه ، فيكون عدم حرمتها من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وعدم وجوب الموافقة القطعية أيضا ، لتوقف وجوبها على حرمة المخالفة القطعية والمفروض عدم حرمتها ، لعدم القدرة عليها ، فتجري الأصول في جميع الأطراف بلا تعارض ، لأن المانع عن جريانها وهو المخالفة القطعية العملية مفقود ، والمقتضي له وهو عدم وجوب

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٣٨

١٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الموافقة القطعية للشك في تعلق التكليف بكل واحد منها موجود ، فيكون وجود العلم بالحكم في الشبهة غير المحصورة كعدمه ، فلا تجب موافقته كما لا تحرم مخالفته.

وفيه أولا : أن القدرة المعتبرة في الأحكام وهي القدرة على نفس متعلقاتها حاصلة في المقام ، إذ عدم التمكن فيه ناش من اشتباه متعلق الحكم بين أمور كثيرة لا يقدر المكلف على الجمع بينها لا من نفس متعلقه ، ولذا تجب الإطاعة بالمرتبة المقدورة من مراتبها من التبعيض في الاحتياط أو الإطاعة الظنية أو الاحتمالية إذ الموجب لتنجيز التكليف واستحقاق المؤاخذة على مخالفته هو نفس العلم المنجز ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف سواء كانت محصورة أم غيرها.

وثانيا : أن المخالفة القطعية ليست حراما شرعيا حتى يقال بعدم حرمتها لعدم القدرة عليها كي يلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية أيضا بدعوى الملازمة بينهما ، بل قبح المخالفة القطعية عقلي ، لكونها موجبة لاستحقاق العقوبة.

وثالثا : أنه لا ملازمة بين وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين ، فقد تجب الأولى مع الإمكان ، ولا تحرم الثانية لعدم التمكن منها ، كما إذا علم بحرمة الجلوس في أحد مكانين في وقت معين ، فانه مع عدم التمكن من المخالفة القطعية بالجلوس في كليهما في ذلك الوقت تجب الموافقة القطعية بترك الجلوس فيهما.

ورابعا : أن جعل مناط تعارض الأصول مطلقا في جميع الأطراف لزوم المخالفة القطعية العملية مخالف لمبناه (قده) من مانعية المخالفة العملية عن جريان خصوص الأصول غير التنزيلية في أطراف العلم الإجمالي كأصالتي البراءة

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والطهارة.

وأما التنزيلية ، فالمانع من جريانها فيها هو نفس العلم لا المخالفة العملية. وبعبارة أخرى : المانع من جريان الأصول التنزيلية فيها عدم محفوظية رتبة الجعل وهي الشك في الحكم فيها ، فان البناء على بقاء العلم بالحكم على ما هو قضية دليل الاستصحاب ينافي العلم بانتقاضه ، فان هذا العلم رافع للشك الّذي هو موضوع الأصل. والمانع من جريان الأصول غير التنزيلية هو منافاتها لمقام الامتثال الراجع إلى المكلف مع محفوظية رتبة الجعل فيها.

والحاصل : أن تعليل عدم جريان الأصول مطلقا في الأطراف بلزوم المخالفة القطعية العملية لا يلائم ما أفاده في وجه عدم جريان الأصول من التفصيل بين التنزيلية وغيرها.

والحق أن يقال : انه مع فرض العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي وكون الأطراف موردا للابتلاء بمعنى مقدورية كل منها على البدل يكون الحكم منجزا سواء أكانت الشبهة محصورة أم غيرها ، وسواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية. ومجرد إمكان المخالفة القطعية في الشبهة الوجوبية بترك جميع الأطراف دون التحريمية لعدم إمكان المخالفة القطعية بارتكاب الكل فيها ليس بفارق فيما هو المهم أعني تنجيز التكليف في كلتيهما. نعم يوجب ذلك فرقا بينهما من ناحية الامتثال ، حيث انه تجب الموافقة القطعية في الشبهة التحريمية ، لإمكان اجتناب جميع الأطراف ، بخلاف الشبهة الوجوبية ، فان الامتثال القطعي فيها بارتكاب جميعها غير مقدور ، فتصل النوبة إلى الامتثال الاحتياطي الناقص.

ومن جميع ما تقدم يظهر ضعف ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من

١٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن «ما ذكرناه في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية انما يختص بالشبهات التحريمية ، لأنها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها. وأما الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك ، لأنه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف ، وحينئذ لا بد من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية» (١). وذلك لما عرفت من عدم الملازمة بين وجوب الإطاعة وحرمة المعصية القطعيتين ، وعدم الفرق بين الشبهة الوجوبية والتحريمية في تنجز الحكم فيهما.

بقي أمور ينبغي التنبيه عليها.

الأول : أنه إذا شك في كون الشبهة محصورة أو غيرها ، فعلى ما قلنا من تنجيز العلم الإجمالي مطلقا من غير فرق فيه بين الشبهة المحصورة وغيرها لا إشكال في حكمه وهو تنجز الحكم المعلوم إجمالا. وأما على الوجوه المذكورة في ضابط عدم الحصر ، فيختلف الحكم باختلافها ، إذ بناء على مسلك شيخنا الأعظم (قده) لا يتنجز ، فيها الحكم ، للشك في بيانية العلم الإجمالي عند العقلاء وعدم صلاحيته للتنجيز ، فالمرجع في مثله هو البراءة.

وبناء على مسلك المحقق النائيني ـ وهو بلوغ كثرة الأطراف حدّا لا يقدر على الجمع بينها عادة ـ يلحقها حكم المحصور ، فتجب الموافقة القطعية «للعلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف وإمكان الابتلاء به فيجب الجري على ما يقتضيه العلم إلى أن يثبت المانع من كون الشبهة غير محصورة» (٢) ويعضده أن الشك حينئذ في القدرة مع العلم بالخطاب ووجود الملاك ، والعقل يستقل في مثله بلزوم

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٣٨

(٢) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٣٩

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجري على ما يقتضيه العلم وعدم الاعتناء باحتمال العجز.

وبناء على الإجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة يجب مراعاة العلم الإجمالي ، لأن المتيقن خروجه عن وجوب الجري على طبقه هو الشبهة غير المحصورة ، فما لم يحرز ذلك وجب العمل على ما يقتضيه العلم من تنجز التكليف. وكذا بناء على كون المانع عن وجوب الموافقة القطعية العسر والحرج ، لوجوب الجري على مقتضى العلم حتى يحرز المانع.

الثاني : أنه بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة هل يلحق بها شبهة الكثير في الكثير ، فلا يجب الاجتناب عنها ، أم يلحق بالمحصورة فيجب الاجتناب عنها؟ فإذا اشتبه مائة غنم مغصوبة في ألف مثلا ، فهل يتنجز حرمة التصرف في تمام الأطراف ، لأن نسبة الواحد إلى العشرة توجب كون الشبهة محصورة ، أم لا تتنجز ، لأن كثرة الأطراف وهي الألف توجب كونها غير محصورة؟ الظاهر اختلاف الحكم باختلاف المسالك في عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، فعلى مسلك شيخنا الأعظم (قده) تلحق بالشبهة المحصورة ، لأن احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف لمّا كان من قبيل تردد الواحد في العشرة لم يكن موهوما عند العقلاء ، بل كان مما يعتنون به.

وعلى مسلك المحقق النائيني (قده) لا تلحق بالشبهة المحصورة ، فلا تحرم المخالفة القطعية ، لعدم التمكن منها ، كما لا يجب ما يتفرع عليها من الموافقة القطعية.

وبالجملة : فلا يكون العلم الإجمالي في شبهة الكثير في الكثير منجزا. لكن علله في أجود التقريرات بقوله : «نعم في مثل الفرض ـ أي كون المائة في الألف ـ

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا يكون الشبهة كالعدم ، إذ المفروض عدم استهلاك المعلوم بالإجمال فيه حتى يكون تألفا بنظر العقلاء ، فيجري فيه حكم الشبهة البدوية» (١).

وفيه أولا : أن التعبير بالاستهلاك في المقام غير مناسب ، لأنه انعدام المستهلك في المستهلك فيه عرفا الموجب لانتفاء موضوع الحكم ، بل المقام من باب الاشتباه بين الأفراد المحصورة.

وثانيا : أن لازمه انتفاء الحكم رأسا في الشبهة غير المحصورة بانتفاء موضوعه بالاستهلاك. وعليه فاللازم تعليل عدم تنجز الحكم فيها بعدم الموضوع المستلزم لعدم الحكم رأسا ، لا تعليل عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم حرمة المخالفة القطعية لعدم التمكن منها ، فتدبر.

وعلى مسلك من ادعى الإجماع على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة يجب الاجتناب في الشبهة التي شك في كونها غير محصورة ، لأن مورد الإجماع وهو غير المحصورة غير محرز ، فلم يثبت مانع عن تنجيز العلم الإجمالي.

وكذا الحال على مسلك من استدل بدليل نفي الحرج على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، وذلك لعدم إحراز المانع عن تنجيزه وهو الحرج في المقام أعني شبهة الكثير في الكثير.

وأما رواية الجبن فقد عرفت عدم صحة الاستدلال بها سندا ودلالة.

وكيف كان ، فمقتضى ما تقدم من عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين الشبهة المحصورة وغيرها تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة التي شك في كونها غير

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٢٧٨

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

محصورة.

الثالث : أنه بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة كما نسب إلى المشهور هل يفرض العلم كالعدم؟ فيكون كل واحد من الأطراف محكوما بحكم الشك البدوي ، فيجري فيه الأصل العملي الّذي يقتضيه ضابطه ، أم يجعل الشك في كل واحد منها بمنزلة لعدم كما يظهر من العروة ، حيث قال في اشتباه المضاف في غير المحصور : «ويجعل المضاف المشتبه بحكم العدم فلا يجري عليه حكم الشبهة البدوية أيضا» (١) ومقتضى ذلك ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء بالمشتبه بالمضاف في العدد غير المحصور ، إذ المفروض جعل الشك في المضاف كعدمه ، وكون المشتبه به محكوما بالإطلاق ، فيرتفع به الحدث والخبث.

ولعل وجهه عدم اعتناء العقلاء باحتمال إضافة كل واحد من الأطراف ، وبناؤهم على عدمها ، لكثرة أطراف الشبهة ، فإذا كان احتمال الإضافة كعدمه عومل مع محتمل المضاف معاملة المطلق ، فان ثبت بناء العقلاء على ذلك واعتباره شرعا ولو بعدم الردع كان ذلك أمارة على إطلاق محتمل الإضافة ، ومعه لا يجري استصحاب الحدث والخبث إذا استعمل في رفعهما.

لكنه يشكل ذلك أولا : بعدم ثبوت بناء العقلاء عليه.

وثانيا : بعدم الدليل على اعتباره ، واحتمال كون الغلبة دليلا عليه مدفوع بعدم ثبوتها أولا مع الاختلاف في حكم الشبهة غير المحصورة. وبعدم اعتبارها على فرض تحققها ثانيا ، لأن غايتها افادتها الظن ، وهو لا يغني من الحق شيئا.

__________________

(١) العروة الوثقى ، المسألة ٢ من مسائل فصل الماء المشكوك.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعليه فمقتضى استصحاب الحدث والخبث عدم ارتفاعهما باستعمال مشكوك الإضافة والإطلاق ، بل لو لم يجر الاستصحاب ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم إحراز الطهارة مطلقا المنوط بإحراز إطلاق الماء المستعمل في رفع الحدث والخبث.

والحاصل : أنه لا بد من علاج الشك ، ومجرد عدم تنجيز العلم الإجمالي ليس علاجا له مع بقائه وجدانا.

وعليه فيعامل مع كل واحد من الأطراف معاملة الشبهة البدوية سواء قلنا بضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد منها كما عليه شيخنا الأعظم (قده) في عدم تنجيز العلم في الشبهة غير المحصورة ، أم بما أفاده المحقق النائيني (قده) من كون ملاك عدم التنجيز فيها عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة كذلك. إذ غرضهما عدم تنجيز العلم وفرض وجوده كعدمه ، وهو لا يرفع الشك عن كل واحد من الأطراف وجدانا ، ولا الحكم الثابت له في نفسه مع الغض عن العلم الإجمالي ، فيجري فيه الأصل المجعول له من البراءة أو الاشتغال.

١٣٤

الرابع : أنه (١) انما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف

______________________________________________________

(٤ ـ ملاقي بعض أطراف الشبهة المقرونة)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة التي تنجز فيها التكليف سواء كانت محصورة أم غيرها وان اشتهر في الألسنة والكتب جعل العنوان ملاقي الشبهة المحصورة كما في الرسائل وغيره ، قال في العروة : «ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة» إلّا أن هذا الاشتهار مبني على مذاق القوم الذين جعلوا مدار تنجيز العلم الإجمالي على حصر الأطراف ، دون المصنف الّذي جعل مداره على فعلية التكليف كما عرفت في التنبيه الثالث ، فعلى هذا المسلك يتعين جعل العنوان : ملاقي بعض أطراف الشبهة التي تنجز فيها التكليف محصورة كانت أم غيرها.

وكيف كان فلنشرع في المقصود ، فنقول : قال شيخنا الأعظم في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة : «ان الثابت في كل من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب ، لأنه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، أما سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحرام فلا يترتب عليها .... إلى أن قال : وهل يحكم بتنجس ملاقيه وجهان ، بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي انما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس .... أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به الا الاجتناب عن العين ....» فعلى الأول يجب الاجتناب ، وعلى الثاني لا يجب ، وسيأتي معنى السراية والتعبد ، واختار الشيخ عدم وجوبه.

وأما المصنف فقد صرح في حاشية الرسائل بعدم لزوم الاجتناب عن ملاقي بعض الأطراف مطلقا حتى على القول بالسراية ، وقد تعرضنا له في التعليقة.

وتوضيح ما أفاده المصنف قبل بيان صور الملاقاة : أنه إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وجب الاجتناب عن كل منهما مقدمة لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الواقعي بينهما ، ولا يحكم على شيء من الطرفين بخصوصه بالنجاسة لا واقعا ولا ظاهرا. أما عدم الحكم عليه واقعا فلعدم إحراز نجاسته بالخصوص ، لفرض الجهل بكون النجس الواقعي هذا أو ذاك. وأما عدم الحكم عليه ظاهرا ، فلعدم ثبوت النجاسة فيه بخصوصه بأمارة أو أصل عملي حسب الفرض ، وانما وجب الاجتناب عن كل من الطرفين عقلا ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وهو احتمال منجز ، لكونه مقرونا بالعلم ، وهذا هو المراد من إعطاء المشتبهين حكم النجس ، وإلّا فلو حكمنا على كل واحد من الطرفين بالنجاسة لم يبق معنى للاشتباه.

وعليه فمقتضى العلم الإجمالي بالنجس بين الأطراف هو ترتيب خصوص وجوب الاجتناب على كل من الطرفين بحكم العقل ، تحصيلا للعلم بالامتثال ، ولا سبيل للحكم على شيء منهما بالنجاسة شرعا ، كما لا سبيل لترتيب سائر الآثار الشرعية المتعلقة بالحرام أو النجس عليه ، لعدم إحراز أن هذا بالخصوص

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أو ذاك هو المعلوم بالإجمال ، ولذا لا يوجب ارتكاب أحد أطراف الخمر المعلوم إجمالا حدّا وان استحق العقوبة ، اما لتحقق المعصية لو كان ما ارتكبه خمرا ، واما للتجري لو لم يكن خمرا ، إلّا أن موضوع حكم الحاكم الشرعي بإقامة الحد هو شرب المكلف للخمر ، ومن المعلوم عدم إحرازه بشرب أحد الكأسين ، فلا يقام عليه الحد.

وعليه فإذا لم يحكم شرعا على شيء من الإناءين المشتبهين بالنجاسة ، فعدم الحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقي أحدهما أوضح ، هذا.

إلّا أن في المسألة قولا بوجوب الاجتناب عما يلاقي أحدهما ، فلا بد من ذكر مبنى القولين ، فنقول : لا ريب بمقتضى النص والإجماع بل الضرورة في نجاسة ملاقي الأعيان النجسة مع الرطوبة الموجبة للتأثر والسراية ، وحرمة استعماله في الأكل والشرب ونحوهما ، إلّا أنه وقع الكلام في وجه ذلك وأنه للسراية أو للتعبد ، إذ فيه احتمالان :

الأول : أن ما دل على وجوب الاجتناب عن النجس كقوله تعالى : «والرجز فاهجر» بنفسه يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، لأجل سراية النجاسة من الملاقى إلى الملاقي واتساع دائرة النجس بالملاقاة كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس بغيره وامتزاجه به ، فيكون وجوب هجر النجس دالا بالمطابقة على وجوب هجر ملاقيه ، فيكون وجوب هجر الملاقي من شئون وجوب هجر عين النجس ، ويتوقف امتثاله على الاجتناب عن نفسه وعن ملاقيه ، فارتكاب الملاقي عصيان لخطاب نفس النجس. ويستدل على هذا الاحتمال بالآية المتقدمة وبرواية جابر ، وسيأتي بيانهما.

الثاني : أن نجاسة الملاقي للنجس تكون لمحض التعبد الشرعي ، ووجوب

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجتناب عنه انما يكون بجعل مستقل في عرض دليل وجوب الاجتناب عن نفس النجس ، ولا يتكفل الأمر بهجر الرجز لحكم ملاقيه لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما فالملاقي والملاقى موضوعان مستقلان ، ولكل منهما إطاعة ومعصية تخصه ، وانما يكون الملاقاة واسطة ثبوتية لحدوث فرد آخر تعبدي من النجاسة أجنبي عن نجاسة الأصل ، نظير وساطة الغليان لحدوث نجاسة العصير ، ووساطة التغير لانفعال الماء ، فلو لم يثبت هذا التعبد الشرعي بالنسبة إلى الملاقي لم يكن وجه لوجوب الاجتناب عنه ، لعدم الدليل عليه بعدم قصور دليل وجوب هجر النجس عن شموله له.

هذا في ملاقي النجس المعلوم تفصيلا أو ما بحكمه. وأما ملاقي بعض أطراف النجس المعلوم بالإجمال ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ولاقى إناء ثالث أحدهما فيلزم الاجتناب عنه بناء على السراية دون التعبد ، توضيحه : أن خطاب «اجتنب عن النجس» الدائر بين الطرفين قد تنجز بالعلم الإجمالي ، والاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، وهي لا تتحقق إلّا بالاجتناب عن الأصليين والملاقي لأحدهما ، لوحدة المتلاقيين حكما ، حيث ان الملاقاة بمنزلة تقسيم ما في أحد المشتبهين وجعله في إناءين ، فتتسع دائرة الملاقي ، فالملاقى والملاقي معا طرف واحد للعلم الإجمالي ، والإناء الآخر طرف آخر له ، فيجب الاجتناب عن مجموع الثلاثة ، إذ القائل بالسراية يدعي دلالة نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس على الاجتناب عنه وعن ملاقيه بوزان واحد ، لفرض أنهما بمنزلة نجس واحد انقسم إلى قسمين ، فلو كان الملاقى هو النجس الواقعي توقف العلم بهجره على الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، كما يتوقف العلم بامتثال خطاب «اجتنب عن النجس» على الاجتناب عن طرف الملاقى أيضا ، بداهة أن الفراغ اليقيني عن وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم المردد لا يحصل إلّا بذلك ، هذا كله بناء على السراية.

١٣٨

مما (١) يتوقف على اجتنابه (٢) أو ارتكابه (٣) حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين (*) في البين ، دون غيرها (٤)

______________________________________________________

وأما بناء على التعبد فلا يجب الاجتناب عن الملاقي ، للشك في حدوث فرد جديد من النجس بالملاقاة لأحد المشتبهين ، فيرجع فيه إلى الأصل النافي للتكليف. والاحتياط في الأصليين لا يوجب الاجتناب عن الملاقي أيضا ، لأن الاحتياط فيهما يكون من باب المقدمة العلمية ، ومن المعلوم أن ما يكون مقدمة للعلم بالفراغ عن خطاب «اجتنب عن النجس» انما هو الاحتياط في نفس الأطراف التي يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على بعضها ، دون غيرها مما لا يحتمل انطباق المعلوم عليه وان كان محكوما بحكم بعض الأطراف واقعا ، لكون ذلك البعض علة لنجاسة ملاقيه ، لكن الملاقي على هذا التقدير فرد آخر ليس ارتكابه مخالفة لخطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم إجمالا ، بل مخالفة لخطاب «اجتنب عن ملاقي النجس» الّذي هو مشكوك الوجود. هذا توضيح مبنى القولين ، وبه ظهر ما أفاده المصنف في الصورة الأولى.

(١) بيان للأطراف ، وضميرا «اجتنابه ، ارتكابه» راجعان إلى الموصول في «مما» وافراد الضمير باعتبار لفظ الموصول.

(٢) هذا في الشبهة التحريمية كوجوب الاجتناب عن إناءين يعلم بخمرية أحدهما.

(٣) هذا في الشبهة الوجوبية ، لتوقف العلم بفراغ الذّمّة على الإتيان بكلا الطرفين كالظهر والجمعة دون غيرهما مما ليس طرفا للمعلوم بالإجمال.

(٤) أي : غير الأطراف التي يتوقف فراغ الذّمّة على اجتنابها أو ارتكابها ،

__________________

(*) الأولى تبديله بـ «المعلوم» لكونه صفة للواجب أو للحرام ، وليس صفة لكليهما معا حتى يصح تثنيته ، لأن العطف بـ «أو» قاطع للشركة وموجب لوحدة الموصوف ، فلا بد من افراد الصفة أيضا. نعم يصح التوصيف بالتثنية كما

١٣٩

وان كان حاله حال بعضها (١) في كونه محكوما بحكم (٢) واقعا.

ومنه (٣) ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد (*) أطراف

______________________________________________________

وذلك كالملاقي لبعض الأطراف بناء على التعبد ، إذ مع عدم احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على ما لاقى بعض الأطراف لا موجب للاحتياط فيه ، ضرورة أنه على تقدير نجاسته واقعا فرد آخر غير المعلوم بالإجمال ، والمفروض أنه مشكوك الحدوث.

(١) أي : بعض الأطراف ، وضميرا «حاله ، كونه» راجعان إلى «غيرها».

(٢) الصواب «بحكمه» باتصال الضمير به ، يعني : وان كان حال ذلك الغير المغاير للأطراف ـ وهو الملاقي ـ حال بعض الأطراف وهو الملاقى بحسب الواقع من حيث الطهارة أو النجاسة.

(٣) أي : ومما ذكرناه ـ من اختصاص حكم العقل بلزوم الاجتناب من باب

__________________

في المتن ان كان العطف بالواو بدل «أو» لحصول التطابق حينئذ بين الصفة والموصوف ، فالأولى سوق العبارة هكذا : بإتيان الواجب المعلوم في البين أو ترك الحرام كذلك دون غيرها.

(*) الأولى تبديله بـ «بعض» لأن المناط في جريان الأصل في الملاقي هو الشك في حكمه ، وذلك يتوقف على عدم ملاقاته لجميع الأطراف سواء لاقى واحدا منها أم أكثر ، إذ مع ملاقاته لجميعها يعلم حكمه تفصيلا. كما يتوقف على عدم كون عدد الملاقي بمقدار عدد الأطراف ، فإذا كانت الأطراف ثلاثة مثلا وعدد الملاقي ثلاثة أيضا ، ثم لاقى كل من هذه الثلاثة كل واحد من أطراف الشبهة وجب الاجتناب عن جميع الأفراد الملاقية لها كوجوب الاجتناب عن نفس الأطراف ، وذلك لوجود العلم الإجمالي المنجز في نفس الملاقيات أيضا ، كما لا يخفى.

١٤٠