منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وتوضيحه : قصور حديث الرفع عن إثبات إطلاق الأقل حتى بناء على كون تقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، إلّا مع تسليم اعتبار مثبتات الأصول ، وذلك لأن مدلول الحديث عدم تقيد الأقل بوجود الجزء المشكوك فيه ، وهذا ليس مساوقا للإطلاق ، إذ ليس حقيقته عدم التقيد بالخصوصية فحسب ، لأن هذا المعنى يتضمنه اعتبار «بشرط لا» أيضا ، لعدم كونه مقيدا بوجود القيد ، مع وضوح أن «بشرط لا» قسيم الإطلاق ، وحقيقة الإطلاق أي «لا بشرط» هو عدم التقيد بكل من وجود الخصوصية وعدمها. وعلى هذا فمعنى إطلاق الأقل هو عدم تقيده مطلقا لا بوجود الجزء المشكوك فيه ولا بعدمه ، ومن المعلوم أن حديث الرفع لا يتكفل لإثبات إطلاق الأقل بهذا المعنى ، إذ مفاده عدم تقيده بوجود المشكوك فيه فحسب ، فدعوى أن مدلوله عين إطلاق الأقل وليس لازما لجريانه حتى يكون من الأصل المثبت مخدوشة ، لما تقدم من أن الإطلاق ـ أي اعتبار لا بشرط ـ ليس مدلول أصالة البراءة ، إلّا مع انضمام أمر آخر إليه وهو القطع بعدم تقيد الأقل في المقام بعدم الأكثر ، فيصير الإطلاق بهذه المئونة من لوازم نفي الأكثر بالأصل ، هذا.

لكن يمكن أن يقال : ان حقيقة الإطلاق وان كانت كما أفاده (قده) نفى التقيد بالوجود والعدم ، وأن مدلول حديث الرفع عدم التقيد بالوجود فقط ، إلّا أنه لا يتوقف مع ذلك جريان الأصل على القول بالأصل المثبت ، حيث ان الغرض من التمسك بالأصل مع اقتضاء العلم الإجمالي لشغل الذّمّة وعدم جريان قاعدة القبح هو تحصيل المؤمن على ترك الأكثر على تقدير كونه متعلق الطلب واقعا ، فالمقصود من التمسك بالبراءة الشرعية نفي جزئية المشكوك فيه ظاهرا وإثبات عدم تقيد الأقل بوجود الجزء المشكوك فيه. وأما عدم تقيده بعدم الأكثر فهو أمر معلوم

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا بحث فيه ، فان طرفي العلم الإجمالي هما تقيد الأقل بوجوده وعدم تقيده به ، وليس من أطرافه احتمال تقيده بعدمه ، إذ ليس المقام من دوران المشكوك فيه بين الجزئية والمانعية حتى يدعى قصور حديث الرفع عن إثبات الإطلاق بمعنى اللابشرط ، وانما همّ العقل تحصيل المؤمّن من مؤاخذة المولى على ترك المشكوك فيه ، ولا ريب في صلاحية البراءة الشرعية للتأمين على تركه ، وإثبات إطلاق الأقل بناء على كون تقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، وجريان الأصل النافي للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي كما يدعيه القائل بالاقتضاء.

والحاصل : أن عدم تقيد الأقل بعدم الجزء المشكوك فيه معلوم تفصيلا ، وليس ذلك طرفا للعلم ، وانما طرفاه احتمال دخل وجود المشكوك فيه وعدمه في المأمور به ، والتأمين منوط بقيام الحجة على نفي جزئية المشكوك فيه ، وليس متوقفا على إثبات الإطلاق بمفاد «لا بشرط» القسيم لاعتبار «بشرط شيء» ومن المعلوم وفاء البراءة الشرعية بما هو المهم بنظر العقل.

وعليه فالمنع عن جريان البراءة يتوقف على المناقشة في المبنى وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد كما قيل.

ومنها : أن الأقل واجب نفسي ذاتي لا عرضي منبسط من الأمر بالكل على كل واحد من الاجزاء ، ويكفي في إثبات هذا الوجوب النفسيّ الخطاب التفصيليّ بوجوب كل واحد من الأجزاء ، مثل «وربك فكبر ، قوموا لله قانتين ، فاقرءوا ما تيسر منه ، اركعوا ، اسجدوا» ونحو ذلك من الخطابات المتضمنة للاجزاء ، وتجري البراءة عن المشكوك فيه بلا شبهة الإثبات ، هذا.

وفيه : أن أدلة الأجزاء وان كانت ظاهرة في مطلوبية كل جزء نفسيا ، إلّا أنه

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا بد من صرف هذا الظهور إلى الإرشاد إلى الجزئية ، إذ من المسلّم أنه لا يتعدد الأمر في المركبات بأن يتعلق أمر بالمركب وأمر نفسي آخر بكل جزء منه ، بل هو أمر واحد ، وحيث ان الواجب في المقام ارتباطي تردد بين الأقل والأكثر ، أشكل إثبات وجوب الأقل بأدلة الأجزاء ، للشك في مطلوبية الأقل المجرد عن الأكثر ، وقاعدة الشغل تقتضي لزوم الاحتياط.

إلّا أن يقال : ان أوامر الاجزاء وان كانت إرشادا إلى الجزئية ، إلّا أن بيان الأجزاء لمّا كان وظيفة الشارع صحّ التمسك بالإطلاق المقامي لنفي جزئية المشكوك فيه وإثبات كون الواجب هو الأقل من دون لزوم إشكال الإثبات.

ومنها : أن نفس العلم الإجمالي يتكفل وجوب الأقل ، ولا حاجة إلى ضم حديث الرفع إليه حتى يتوجه محذور مثبتية الأصل.

وفيه : أن الأقل المعلوم وجوبه بالعلم الإجمالي انما هو الأقل في ضمن الأكثر للعلم بتعلق الطلب النفسيّ به استقلالا أو ضمنا ، وأن تركه موجب لاستحقاق العقوبة اما عليه واما على فوات الأكثر به. وهذا لا يوجب تعين وجوبه ، لوضوح أن العلم بمطلوبية الأقل مرددا بين كونه بشرط شيء ولا بشرط لا يصلح لإثبات العلم بمطلوبيته مجردا عن الجزء المشكوك فيه مع فرض الارتباطية.

هذا ما يتعلق بجريان البراءة الشرعية في المقام ، والوجوه الدافعة لشبهة الإثبات.

بقي الكلام في الاستصحاب ولم يتعرض له المصنف ، ولا بأس بذكره تتميما للبحث ، وقد استدل به للاشتغال تارة وللبراءة أخرى ، فنقول وبه نستعين : أما الاستدلال به على الاحتياط ، فقد يجعل المستصحب الاشتغال الثابت بحكم العقل بعد العلم

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإجمالي ، وقد يجعل نفس التكليف المتعلق بالواقع المردد عندنا بين الأقل والأكثر ، وليكن المراد به هنا هو الأخير أي استصحاب القدر المشترك من الوجوب ، فيتردد الواجب بعد فعل الأقل بين ما هو مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء ، فيستصحب ذلك المجعول الشرعي ، وهو من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، نظير استصحاب الحيوان المردد بين البق والفيل ، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه من القطع بهذا التكليف سابقا والشك في بقائه بعد الإتيان بالأقل.

لكن أورد عليه بأنه قاصر عن إثبات وجوب الأكثر إلا على القول بالأصل المثبت ، إذ لازم بقاء التكليف المردد بعد فعل الأقل هو تعلقه بالأكثر ، هذا.

إلّا أن يقال : بعدم كون الأصل مثبتا هنا ، إذ الثابت بالاستصحاب نفس مجعول الشارع أعني الوجوب المعلوم إجمالا ، فيحكم ببقائه تعبدا ، ووجوب الإتيان بالأكثر انما هو بحكم العقل من باب وجوب الإطاعة لكل حكم إلزاميّ واقعي أو ظاهري ، فالمترتب على الاستصحاب مجرد الحكم ظاهرا ببقاء التكليف المعلوم الإجمالي ، من دون إثبات أن الواجب خصوص الأكثر ، فالإتيان به انما هو بحكم العقل تحصيلا للعلم بالفراغ عما اشتغلت به الذّمّة قطعا ، فكلام الشيخ الأعظم (قده) «أن استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت الّذي لا نقول به» لا يخلو من تأمل (١) ، فتأمل.

ثم ناقش (قده) فيه بوجه آخر ، وهو حكومة أخبار البراءة عليه ، قال : «لأنه إذا

__________________

(١) وجهه : أنه بناء على عدم الانحلال يكون نفس الشك في الامتثال بفعل الأقل موجبا للإتيان بالأكثر بلا حاجة إلى استصحاب الكلي ، إذ هو من إحراز ما هو حاصل وجدانا بالتعبد.

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الّذي حجب العلم بوجوبه كان المستصحب وهو الاشتغال المعلوم سابقا غير متيقن إلّا بالنسبة إلى الأقل ، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة كون الواجب هو الأكثر منفي بحكم هذه الأخبار».

وأورد عليه المصنف في حاشية الرسائل بما لفظه : «لا يخفى أن استصحاب الاشتغال على تقدير صحته حسب ما عرفت كما هو وارد على حكم العقل بالبراءة لو سلّم على ما بيناه ، فكذلك هو وارد على هذه الاخبار ، فان الأكثر حيث يتعين به الخروج عن عهدة التكليف الثابت بالاستصحاب على تقدير الإتيان بالأقل ، فوجوب الإتيان به عقلا تفريغا للذمة وخروجا عن العهدة معلوم ، فكيف يكون داخلا فيما حجب ، هذا لو لم نقل بالأصل المثبت ، وأما على القول به فالأكثر معلوم الوجوب شرعا ليس مما أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على تركه لأجل حجب العلم بوجوبه ، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى مزيد بيان» (١).

والتحقيق أن يقال : ان كان مفاد حديثي الرفع والحجب نفي المؤاخذة على المجهول كما يرشد إليه قول الشيخ (قده) : «فإذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر» وبنينا على اعتبار مثبتات الأصول ، فدعوى ورود الاستصحاب على البراءة النقليّة أو حكومته عليها في محلها ، إذ يحرز وجوب الأكثر حينئذ بالتعبد الاستصحابي ، لوضوح أن البيان الموضوع عدمه لقاعدة القبح ما هو أعم من الواقعي والظاهري ، وحيث إن الاستصحاب محرز للواقع عملا ، فلازمه اشتغال الذّمّة بالأكثر ، لقيام الحجة عليه. ولا مجال لنفي المؤاخذة عليه بحديث الرفع ، لزوال الشك تعبدا ببركة الاستصحاب ، لأن حديث الرفع بناء على اقتضائه لنفي المؤاخذة مساوق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا ريب في كونها حينئذ مورودة

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٥٣

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالأدلة الشرعية التي منها الاستصحاب ، لأنه بيان ، ولا يحصل التأمين مع وجود أصل مثبت للتكليف في طرف الأكثر مقدم على حديث الرفع.

وان كان المرفوع هو الحكم الواقعي ظاهرا كما هو مختار الماتن ، فالظاهر حكومة الاستصحاب أو وروده أيضا على حديث الرفع ، لإحراز وجوب الأكثر بالأصل ، فلا شك حتى يتحقق موضوع البراءة النقليّة.

وأما دعوى حكومة أصالة عدم وجوب الأكثر على استصحاب بقاء الجامع ، لتسبب الشك في بقائه عن الشك في وجوب الأكثر واقعا ، فهي ممنوعة ، ضرورة أنه يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسببي أن يكون التسبب شرعيا كما في طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء محكوم بالطهارة لاستصحابها أو قاعدتها ، ومن الواضح فقدان هذا الشرط في المقام ، حيث ان تسبب بقاء الكلي عن بقاء الفرد عقلي ، وليس أثرا تعبديا له. فضابط الحكومة مفقود هنا ، ومن العجيب أن المدّعي مع تصريحه باعتبار هذا الشرط في الحكومة التزم هنا بحكومة استصحاب الجامع ، تسرية لقاعدة حكومة الأصل السببي على المسببي فيه.

وان كان المرفوع هو الحكم الواقعي وقلنا بعدم اعتبار مثبتات الأصول فالظاهر حكومة حديث الرفع على الاستصحاب ، إذ المنفي حينئذ وجوب الأكثر المشكوك فيه ، والاستصحاب قاصر عن إثبات هذه الخصوصية ، لأن المستصحب هو الجامع دون الفرد ، فالشك في وجوبه باق.

ثم ان التعبير بالورود هنا لا يخلو من مسامحة ، لعدم زوال الشك عن وجوب الأكثر وجدانا ، وانما ألغاه الشارع تعبدا عن الاعتبار ببركة جريان حديث الرفع

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيه ، فالشك الموضوع للأصل العملي سواء أكان أصلا تنزيليا أم غيره كأصالة البراءة موجود وجدانا.

نعم يمكن أن يوجه ذلك بناء على كون المرفوع بالحديث المؤاخذة ، وحينئذ يتحد مفاد كلتا البراءتين العقلية والنقليّة ، وهل يكون تقدم الأصول الشرعية بعضها على بعض بالحكومة أم الورود؟ وجهان ، اختار أولهما الشيخ وثانيهما المصنف ، وقد أشرنا إلى مجمل النزاع في مسألة أصالة عدم التذكية ، وتحقيق المسألة في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

ودعوى ورود الاستصحاب على البراءة النقليّة هنا مع عدم العبرة بالأصل المثبت تتوقف على جريانه في نفس وجوب الأكثر ، دون الجامع ، ومن المعلوم اختلال بعض أركانه ، وهو اليقين السابق بوجوب خصوص الأكثر ، إذ المتيقن هو الجامع لا الفرد ، ومع عدم اليقين السابق بوجوبه بالخصوص كيف يجري فيه الاستصحاب حتى يدعى وروده على البراءة النقليّة؟

وبالجملة : فدعوى ورود استصحاب وجوب خصوص الأكثر على البراءة النقليّة في غير محلها ، فلا مجال للتعبد ببقاء الأكثر أصلا.

هذا ما يقتضيه التأمل في المقام. ومنه يظهر منع إطلاق كلامي الشيخ والمصنف.

وأما المنع من استصحاب الاشتغال بما في تقريرات المحقق النائيني (قده) «فقد تقدم في المتباينين من أنه لا يجري في شيء من موارد العلم الإجمالي» فلا يخلو من غموض ، إذ ما تقدم منه هناك قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الإجمالي ، ولزوم إحرازين تعبديين على خلاف الإحراز الوجداني. والظاهر

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن المقام سليم عن هذا المحذور ، لفرض جريان الاستصحاب في المعلوم بالإجمال لا في كل واحد من الطرفين حتى يمتنع التعبد بإحرازين على خلاف الإحراز الوجداني. وكان المناسب التعرض لهذا الإشكال فيما سيأتي من استصحاب عدم وجوب الأكثر.

هذا كله في استصحاب الاشتغال ، وقد عرفت أن وجوب الأكثر لا يثبت به ، لعدم العبرة بالأصل المثبت ، مضافا إلى معارضته باستصحاب عدم وجوبه.

وأما التمسك به للبراءة فيمكن تقريبه بوجوه ، من عدم لحاظ الأكثر حين جعل التكليف ، أو عدم المجعول ، وهو إما بنحو عدم وجوب الأكثر أو خصوص الجزء المشكوك فيه أو الجزئية ، وكل منها اما بنحو العدم الأزلي أو العدم قبل البلوغ أو قبل الوقت في الموقتات ، وقد تعرض شيخنا الأعظم (قده) لبعض محتملات هذا الاستصحاب والمناقشة فيه ، وأطال المحقق النائيني (قده) الكلام فيه بذكر شقوق أخرى ، والإشكال على كل واحد من محتملات هذا الاستصحاب ، فينبغي تحرير المسألة على ضوء ما أفاده ثم النّظر في كلماته الشريفة ، فنقول :

ان كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه بالعدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام ، بأن يقال : ان لحاظ الجزئية وتعلق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومقتضى الأصل عدم تعلق اللحاظ والجعل بها ، فيرد عليه : أنه ان أريد من العدم العدم النعتيّ الّذي هو مفاد ليس الناقصة وهو عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك فيه حين تشريع المركب ولحاظ أجزائه ، فهذا العدم لم يكن متيقنا في زمان سابق حتى يستصحب ، فانه في ظرف تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بأجزاء المركب اما أن يكون قد شملته عناية الجعل أوّلا ، وليس تعلق الجعل به

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

متأخرا رتبة أو زمانا عن تعلق الجعل بالمركب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.

وان أريد من العدم العدم المحمولي الّذي هو مفاد ليس التامة وهو العدم السابق على لحاظ أجزاء المركب وتعلق الجعل به ، فهو وان كان متيقنا قبل ذلك ، لأن أصل الجعل واللحاظ أمر مسبوق بالعدم ، إلّا أن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلق الجعل بالمركب غير مفيد ، إلّا إذا أريد إثبات تعلق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل ، ولا يمكن إثبات ذلك الا على القول بالأصل المثبت.

هذا كله مضافا إلى أن مجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل بالجزء أو الشرط المشكوك فيه لا أثر له ، لأن الآثار الشرعية بل العقلية من الإطاعة والعصيان وغيرهما انما تترتب وجودا وعدما على المجعول لا نفس الجعل ، فان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف انما هو المجعول ، ولا أثر لنفس الجعل بما هو قول إلّا باعتبار أنه يستتبع المجعول فأصالة عدم تعلق الجعل بالمشكوك فيه لا أثر لها ، إلّا إذا أريد بها إثبات عدم المجعول ، وذلك مبني على حجية الأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة.

وان كان المستصحب عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه بأن يقال : ان تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بالصلاة مع السورة أمر حادث والأصل عدمه ، أورد عليه أمران : أحدهما : أنه مثبت ، لترتب الأثر على عدم المجعول ، واستصحاب عدم جعل الأكثر ولحاظه لا أثر له إلّا إذا أريد منه عدم مجعولية وجوب الأكثر ، وهو مثبت بواسطتين واسطة اللحاظ السابق على الجعل ، وواسطة الجعل السابق على المجعول.

وثانيهما : معارضته بأصالة عدم لحاظ الأقل بحده ، فان لحاظ الأقل لا بشرط

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يباين لحاظه بشرط شيء ، وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم.

هذا كله ان أريد بالعدم العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام.

وان كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو عدم وجوب الأكثر بالعدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، نظير استصحاب عدم وجوب السورة أو عدم وجوب الصلاة المشتملة على السورة قبل الزوال ، فيرد عليه ما أورد على العدم الأزلي ، لأنه ان أريد به عدم وجوب الجزء بالعدم النعتيّ فلا يقين به سابقا. وان أريد به عدم وجوبه المحمولي قبل الزوال فهو وان كان متيقنا ولو لعدم وجوب سائر الأجزاء ، إلّا أن بقاء العدم المحمولي إلى حين الزوال لا ينفع إلّا إذا أريد منه انبساط الوجوب على خصوص الأقل ، وهو مثبت.

وان كان المستصحب عدم وجوب الأكثر قبل الزوال ، فيرد عليه : أنه معارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، إذ لا وجوب قبل الزوال لا للأكثر ولا للأقل ، وهذا العدم قد انتقض بعد الزوال ، ولم يعلم أن انتقاضه كان في أي الطرفين ، فتجري أصالة عدم كل منهما وتسقط بالمعارضة.

وان كان المستصحب العدم حال الصغر السابق على البلوغ ، فيرد عليه : أن عدم التكليف بالأكثر أو بالجزء المشكوك فيه ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ، فان معنى عدم وضع قلم التكليف على الصبي كونه مرخى العنان ، وأنه لا حرج عليه عقلا في كل من الفعل والترك ، واللاحرجية الشرعية تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف عليه ، وذلك انما يكون بعد البلوغ. وعليه فالمستصحب ليس مجعولا شرعيا ولا مما يترتب عليه أثر شرعي. وعدم استحقاق العقاب الّذي هو أثر عقلي مترتب على ترك الأكثر محرز بالوجدان بنفس الشك فيه ، ولا معنى

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لإحرازه بالتعبد ، فانه من أردإ وجوه تحصيل الحاصل. هذا محصل ما في تقرير بحثه الشريف (١).

أقول : ما أفاده بالنسبة إلى استصحاب عدم وجوب الجزء بالعدم الأزلي في غاية المتانة.

وأما إيراده على أصالة عدم جعل وجوب الأكثر بأنه مثبت بالنسبة إلى عدم مجعولية الأكثر ، فيمكن أن يقال فيه : ان محذور الإثبات متجه لو كان عدم مجعولية الأكثر من لوازم عدم جعله عقلا ، ولكن الظاهر اتحاد الجعل والمجعول حقيقة وتغايرهما اعتبارا ، فهما كالإيجاب والوجوب فان الجعل بالمعنى الاسم المصدري عين المجعول ولا يغايره ، فلا يلزم لغوية من استصحاب عدم الجعل بلحاظ ما يترتب على عدم المجعول ، كما لا يلزم إشكال الإثبات.

وأما إشكال معارضته بأصالة عدم جعل وجوب الأقل لا بشرط ، فيمكن دفعه بأن معروض الوجوب انما هو ذوات الأجزاء من دون ملاحظتها لا بشرط أو بشرط شيء ، وانما ينتزع هذا الاعتبار من حدّ الواجب بعد عروض الوجوب على الماهية ، ولا شك في أن وجوب ذوات الأجزاء المحدودة بحد الأقل بلا دخل لتقيدها بذلك الحد معلوم ، فلا مورد لاستصحاب عدم وجوبها ، فأصالة عدم وجوب الأكثر سليم عن إشكال المعارضة.

وبهذا يندفع أيضا إشكال الإثبات عن استصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك فيه بالعدم المحمولي قبل الوقت ، وذلك فان الأقل معلوم الوجوب ، والاستصحاب انما ينفي الوجوب المشكوك للسورة مثلا. واعتبارات الماهية وان كانت متقابلة ،

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٤ ، ص ٦٠

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلّا أن الغرض ليس إثبات وجوب الأقل لا بشرط حتى يكون من الأصل المثبت بل الغرض نفي وجوب المشكوك فيه ، واعتبار اللابشرطية خارج عن معروض الوجوب كما تقدم.

وأما إشكال معارضة أصالة عدم وجوب الأكثر بعد دخول الوقت بأصالة عدم وجوب الأقل ، فقد تبين الخلل فيه ، للعلم بعد الوقت بانتقاض عدم وجوب الصلاة مثلا بالعلم بوجوب عدة من الأجزاء وهي الأقل ، وكون الشك متمحضا في تقيدها بالمشكوك فيه ، فلا مقتضي لجريان الأصل في طرف الأقل بعد العلم بوجوبه أصلا.

وأما الإشكال على استصحاب عدم الوجوب المتيقن حال الصغر بأنه ليس حكما شرعيا وانما هو اللاحرجية العقلية ، فقد أورد عليه مقرر بحثه الشريف (ره) بأنه انما يتم في الصبي غير المميز ، وأما المميز فله قابلية الخطاب ، ولذا التزموا بمشروعية عباداته. وهذا هو الحق ، فانه لا قصور في شمول عموم الخطابات المتضمنة للأحكام الإلزامية له ، وحديث رفع القلم انما يرفع الإلزام ، وعليه فعدم الوجوب قبيل البلوغ ليس لا حرجية عقلية ، بل خصوص التكليف الشرعي فيستصحب بعده ، ويترتب عليه عدم استحقاق العقاب على ترك الأكثر ، ولا يعارض باستصحاب عدم وجوب الأقل ، لما تقدم من العلم بوجوبه.

وقد تحصل : أنه لو اندفع الإشكال عن جريان الاستصحاب هنا ولو في بعض صور المسألة لم يبق مجال لنفي الأكثر بالبراءة. لكن الكلام في قصور أدلة الأصول العملية عن شمولها لأطراف العلم الإجمالي ، وقد تقدم في بحث العلم الإجمالي من مباحث القطع المنع عن جريان شيء من الأصول في الأطراف ، فراجع.

٢٥٢

وينبغي التنبيه على أمور (١):

الأول (٢) : أنه ظهر

______________________________________________________

(تنبيهات الأقل والأكثر)

(١) هذه الأمور التي نبه عليها المصنف وغيره وكذا المباحث المتقدمة عليها كلها مما يتعلق بالأقل والأكثر الارتباطيين ، غاية الأمر أن تلك المباحث تتعلق بالشك في الأجزاء الخارجية كالشك في جزئية السورة مثلا للصلاة ، وهذه التنبيهات بالشك في الأجزاء التحليلية كالشك في تقيد الصلاة مثلا بالطهارة ، وفي الاجزاء الخارجية لكن مع كون منشأ الشك في الجزئية غير الجهل كالنسيان وعدم القدرة على ما سيأتي توضيح ذلك كله إن شاء الله تعالى.

١ ـ الاجزاء التحليلية والذهنية

(٢) هذا التنبيه متكفل لحكم موضوعين : أحدهما الشك في الشرطية وعدمها ، والآخر الشك في ما دار أمره بين التعيين والتخيير ، كذا أفيد. لكن يمكن دعوى أن المبحوث عنه فيه ليس خصوص هذين الأمرين ، بل هو الأعم منهما ، بشهادة أنه في

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بيان أقسام الأقل والأكثر في حاشية الرسائل جعل الجزء الذهني والتحليلي في قبال الجزء الخارجي وحيث تقدم الكلام في الجزء الخارجي فينبغي أن يكون المبحوث عنه فعلا غيره. وعليه فالمراد مطلق ما يقابل الأجزاء الخارجية ، لا خصوص الشك في الشرطية وفي التعيين والتخيير كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فحاصل ما أفاده : عدم جريان البراءة العقلية في الشك في الشرط والعام والخاصّ ، وخصوص النقليّة في الثاني ، بل عدم جريان البراءة العقلية هنا أولى من عدم جريانها فيما تقدم من الشك في الجزئية في الأجزاء الخارجية كما سيظهر إن شاء الله تعالى.

وقبل توضيح مرامه ينبغي التعرض لما أفاده شيخنا الأعظم هنا ، لأن كلام المصنف ناظر إليه وإشكال عليه فنقول : قال (قده) بعد بيان حكم الأجزاء الخارجية في القسم الأول : «وأما القسم الثاني وهو الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به فقد عرفت أنه على قسمين ... إلخ» وحاصله : أنه (قده) تعرض لحكم موارد ثلاثة من الأجزاء التحليلية أحدها المطلق والمشروط ، وثانيها المطلق والمقيد ، وثالثها الدوران بين التعيين والتخيير ، واختار في كل منها انحلال العلم الإجمالي ، فقال في الأول : «فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدم فلا نطيل بالإعادة».

وقال في الثاني بعد التعرض لمقالة المحقق القمي ـ وهي التفصيل بين المطلق والمقيد وبين المطلق والمشروط بجريان البراءة في الثاني والاشتغال في الأول ـ والمناقشة فيها : «فالتحقيق أن حكم الشرط بجميع أقسامه واحد سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين».

والفرق بين هذين القسمين هو : أن الخصوصية وهي التقيد في الأول منتزعة

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

من موجود أصيل ممتاز عن وجود الواجب سواء كان التقيد بالوجود كتقيد الصلاة بوجود الطهارة في مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» أم بالعدم ، مثل تقيد الصلاة بعدم كون اللباس مما لا يؤكل. وفي الثاني منتزعة مما يتحد مع الواجب ويقوم به قيام العرض بمعروضه كالإيمان القائم بالرقبة ، وقد اصطلحوا على الأول بالمطلق والمشروط وعلى الثاني بالمطلق والمقيد.

وقال في الثالث : «ومما ذكرنا يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث ، فان في إلحاق ذلك بالأقل والأكثر ، فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد أو المتباينين وجهين بل قولين» إلى أن قال بعد الاستدلال للوجهين : «لكن الأقوى فيه الإلحاق ، فالمسائل الرابع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء» فراجع (*).

وتقريب جريان البراءة العقلية والنقليّة بالبيان المتقدم في الأجزاء الخارجية هو : أن المشروط ـ كالصلاة عن طهارة ـ متقوم بأمرين أحدهما الذات المؤلفة من أجزاء أولها التكبير وآخرها التسليم ، وثانيهما التقيد بالطهارة وهو جزء ذهني ، وهذا كالمركب من الاجزاء الخارجية ، غاية الأمر أن بعض أجزاء المشروط والمقيد ذهني وبعضها خارجي ، ولكن أجزاء المركب كلها موجودة في الخارج.

وعلى هذا فالأقل هنا وهو الذات معلوم الوجوب تفصيلا اما بالوجوب النفسيّ لو كان هو متعلق الأمر ، واما بالوجوب الغيري لو كان متعلقه هو المشروط ، وتكون ذات الصلاة مقدمة لتحقق الصلاة المشروطة حتى يتجه دعوى وجوبها الغيري المقدمي ، فقوله : «صل متطهرا» ينحل إلى وجوب ذات الصلاة ووجوبها مع

__________________

(*) ثم انه (قده) نبه في آخر كلامه على أمرين متعلقين بالشرط والمانع.

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التقيد بالطهارة ، وتكون نفس الصلاة مقدمة لتحقق العنوان وهو الصلاة عن طهارة ، فتتصف بالوجوب الغيري كما تتصف به الجزء التحليلي منها وهو التقيد.

ففي المقام يكون وجوب الذات وحدها معلوما تفصيلا إما بالوجوب النفسيّ واما بالوجوب الغيري ، ومع التقيد غير معلوم ، فيجري فيه البراءة العقلية لعدم قيام بيان عليه ، وكذا البراءة النقليّة لما في اعتباره من الكلفة الزائدة ، وهذا معنى انحلال العلم الإجمالي الدائر بين المطلق والمشروط ونحوه من الأجزاء التحليلية.

هذا محصل كلام الشيخ (قده) والمصنف أورد عليه في حاشية الرسائل كما في المتن بالمنع من الانحلال ، وفساد قياس المقام بالأجزاء الخارجية ، وذلك لأن الأجزاء الخارجية لوجوداتها المستقلة يمكن أن تتصف بالوجوب مطلقا نفسيّا أو غيريا ، فيدعى العلم التفصيليّ بوجوبها كذلك الموجب لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بعلم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر ، وهذا بخلاف الأجزاء التحليلية التي لا يميزها إلّا العقل ، ولا ميز لها في الخارج أصلا ، ويعد واجد الجزء التحليلي وفاقده من المتباينين ، لا من الأقل والأكثر.

__________________

الأول : أنه لا فرق في نفي الشرط المشكوك فيه بالأصل بين كونه وجوديا وعدميا ، فما تقدم من الكلام لا يختص بالشرائط الوجودية ، بل يجري في الموانع أيضا. نعم لا بد من التفصيل في العدمي بين المانع والقاطع ، وهو ما لا دخل له في الماهية المأمور بها الا من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في العمل شرعا. والأول داخل في محل النزاع وتجري البراءة فيه على المختار ، بخلاف الثاني ، لوجود الأصل الحاكم فيه وهو استصحاب الهيئة الاتصالية ، ومعه لا تصل النوبة لنفي الشك في قاطعيته إلى أصالة البراءة. وهذا الاستصحاب سيأتي الحديث عنه.

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فدعوى الانحلال فيها بتخيل أن ذات المطلق كالرقبة والعام كالحيوان مطلوبان قطعا بالطلب النفسيّ أو الغيري ، ومطلوبية المقيد والخاصّ مشكوكة ، مدفوعة بأن ذاتي المطلق والعام ليستا مقدمتين للمقيد والخاصّ حتى تكونا واجبتين على كل تقدير ، كوجوب الأقل في الأجزاء الخارجية المعلوم مقدميا أو نفسيا.

والسّر في ذلك : أن قياس الخاصّ والمقيد بالمركب الارتباطي في الأجزاء الخارجية في الانحلال مع الفارق ، لوضوح أن كل واحد من أجزائه كالتكبيرة والقراءة والسجود ونحوها لمّا كان موجودا مستقلا أمكن اتصافه بالوجوب ، ويقال : ان هذه الأشياء واجبة قطعا ، والزائد عليها مشكوك الوجوب ، فتجري فيه البراءة. بخلاف ذات المقيد كالرقبة أو ذات العام كالحيوان ، فان شيئا منهما لا يتصف بالوجوب حتى يقال «ان وجوب ذاتهما معلوم تفصيلا أما نفسيا واما غيريا» حيث ان المقدمة المتصفة بالوجوب الغيري هي ما تقع في سلسلة علل وجود ذي المقدمة كنصب السلم للصعود على السطح. وهذا المعنى لا يتحقق هنا ، لأن ذات المقيد مباينة للذات بدون القيد ، وكذا ذات العام المتخصص بالخصوصية الكذائية ، إذ الرقبة بدون

__________________

الثاني : أن منشأ انتزاع الشرطية قد يكون هو التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها مثل النهي الغيري عن الصلاة فيما لا يؤكل ، فانه مأخوذ في موضوع الأمر والخطاب. وقد يكون هو التكليف النفسيّ من دون ارتباط له بالماهية المأمور بها نظير إباحة مكان المصلي ولباسه ، فان منشأ اعتبارها في الصلاة هو الحرمة النفسيّة للغصب بناء على الامتناع ، واتحاد الصلاة معه مصداقا المانع من تحقق الامتثال والتقرب بالفرد الخاصّ من العبادة ، لأنه من التقرب بالمبغوض. وعلى هذا فشرطية الإباحة للصلاة ليست كشرطية الستر والاستقبال ونحوهما مما دل الدليل على كونها بعناوينها الخاصة شرطا لها.

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الإيمان مباينة لها معه ، وليست ذات الرقبة مقدمة لوجود الرقبة المؤمنة حتى يقال : «ان المتيقن هو وجوب ذات الرقبة ووجوب تقيدها بالايمان مشكوك فيه ، فينفى بالبراءة» لمغايرة الرقبة المؤمنة وجودا للكافرة منها ، فالرقبة المتخصصة بكل من هاتين الخصوصيّتين مباينة للرقبة المتخصصة بالخصوصية الأخرى.

وكذا الحيوان ، فانه ليس مقدمة للخاص أعني الإنسان ، لعدم وجود الجنس بدون وجود فصل من الفصول ـ حتى يقال : ان وجوب إطعام الحيوان معلوم تفصيلا ويشك في اعتبار خصوصية الإنسانية فيه ـ فان الجنس لا وجود له بدون الفصل حتى يقال : «ان وجوبه معلوم تفصيلا ، ووجوب الفصل مشكوك فيه ، فيجري فيه الأصل» فوجوده مع كل فصل مغاير لوجوده مع فصل آخر ، فيندرج الجنس مع كل فصل من فصوله في المتباينين ويخرج عن باب الأقل والأكثر ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

__________________

فان كان من قبيل الأول كان من صغريات الأقل والأكثر وجرت فيه البراءة.

وان كان من قبيل الثاني كان خارجا عن المقام ، لوجود الأصل الحاكم الجاري في الحرمة النفسيّة المشكوكة ، وبه ينتفي الشك تعبدا عن الشرطية كما هو الحال في كل أصل سببي ومسببي ، هذا.

وقد أورد عليه شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) بمنع إطلاق حكمه بمرجعية الأصل الحاكم في منشأ الانتزاع إذا كان الشك في الشرطية للشك في الحرمة النفسيّة ، وذلك لأن منشأ الانتزاع يكون تارة هو التكليف النفسيّ بوجوده التنجزي المتقوم بوصوله إلى المكلف كما هو أقوى الوجهين في باب الغصب ، فان اشتراط عدمه في الصلاة انما هو لأجل وقوع المزاحمة بين خطابي «صل ولا تغصب» وتغليب جانب النهي وتعذر التقرب بالمبغوض ، ومن المعلوم أن تقديم

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : متعلق الوجوب هو الموجود الخارجي بحيث يصح أن يشار إليه ويقال : «هذا واجب» وذلك متحقق في المركب الخارجي الّذي يكون خارجا متعددا حقيقة وواحدا اعتبارا كالصلاة ، فان أجزائها هي التي يكون كل منها موجودا مستقلا في الخارج ، فيتعلق به الوجوب ، بخلاف الجزء التحليلي ، فانه ليس له وجود مستقل في الخارج حتى يصح تعلق الوجوب به ، فان الجنس كالحيوان والمطلق كذات الرقبة ـ في الرقبة المطلقة ـ جزء تحليلي ، إذ لا وجود لهما في الخارج ، فلا يتعلق بهما الوجوب حتى يدعى العلم به تفصيلا وينحل به العلم الإجمالي.

فلا فرق بين المطلق وبين العام من هذه الجهة وان كان بينهما فرق من جهة أخرى ، وهي : أن الخصوصية في مثل الرقبة المؤمنة انما تنتزع عن أمر مغاير للماهية ، فان الإيمان الّذي هو منشأ انتزاع تقيد الرقبة به أمر مغاير منضم إلى الرقبة ، بخلاف خصوصية الإنسان ، فانها منتزعة عن ذات ماهية الإنسان ، وليست من الحالات الطارئة على ذات واحدة ، كزيد الّذي يعرضه العلم تارة والجهل أخرى. ففرق بين ناطقية الحيوان وناهقيته اللتين هما من الفصول المنوّعة الموجبة لتعدد حصص

__________________

أحد الخطابين من باب التزاحم متوقف على تنجزهما المنوط بوصولهما ، وإلّا لم يقع التزاحم بينهما كما اتضح في محله.

وأخرى بوجوده الواقعي وان لم يتنجز بوصوله إلى المكلف.

فعلى الوجه الأول تدور الشرطية مدار تنجز التكليف ، ومع عدمه لا شرطية واقعا ، لعدم تحقق منشأ الانتزاع بنفس عدم وصول التكليف ، فلا مجال لجريان البراءة عن الشرطية حينئذ ، لأنه من تحصيل ما هو محرز وجدانا بالتعبد ، بداهة أن الشرط على هذا مقطوع العدم ، لعدم تنجز منشئه.

٢٥٩

مما مر (١) حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه (٢) ، وبين الخاصّ

______________________________________________________

الحيوان وتباينها ، وبين الرقبة التي يعرضها الإيمان تارة والكفر أخرى ، كذا قيل.

(١) يعني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الأجزاء الخارجية من امتناع الانحلال عقلا لوجهين من الخلف والاستحالة. ووجه ظهور حكم المقام مما مرّ هو وحدة المناط في استحالة انحلال العلم الإجمالي.

(٢) كالشك في شرطية الإقامة للصلاة مع خروج ذاتها عنها ، وانما اعتبر التقيد بها في ماهيتها ، وكلام الماتن يشمل المطلق والمشروط والمطلق والمقيد ، لدخل التقيد في كل منهما في الواجب وان كان منشأ التقيد في المشروط موجودا خارجيا كالطهارة ، وفي المقيد أمرا متحدا معه كالإيمان.

__________________

وعلى الوجه الثاني يكون الشك في التكليف النفسيّ ملازما للشك في الشرطية ، ولا بد حينئذ من علاج الشك في الشرطية اما بإجراء الأصل النافي في منشأ الانتزاع فقط فيما كان من الأصول التنزيلية ، لارتفاع التكليف الواقعي ظاهرا ، وبرفعه ترتفع الشرطية المترتبة عليه أيضا ، فلا مجال لجريان الأصل في نفس الشرطية ، لارتفاع الشك فيها تعبدا بإجراء الأصل في السبب وهو التكليف.

واما من إجراء الأصل أيضا في نفي الشرطية ان كان الجاري في نفي الحرمة النفسيّة من الأصول غير التنزيلية كأصالتي البراءة والحل ، لأنهما لا تتكفلان رفع التكليف الواقعي ليترتب عليه نفي الشرطية ، بل أقصى ما تقتضيانه هو الترخيص في الفعل والترك ، ويبقى الشك في الشرطية على حاله ، وعلاجه منحصر بجريان الأصل فيها ، ولا يكفي جريان الأصل في منشأ انتزاعها ، هذا.

لكن الظاهر عدم توجه الإشكال على كلام الشيخ ، وذلك أما ما أفيد من الاستغناء عن جريان الأصل فيما كانت الحرمة النفسيّة المشكوكة بوجودها التنجزي لا الواقعي منشأ لانتزاع المانعية ، فلأنه مبني على انحصار المنجز في العلم والعلمي ، وذلك

٢٦٠