منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب ( الجزائري ) للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٢

واستحبابه في المستحب ، وإذا قام دليل على أحدهما (١) فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول (٢) وتشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع (٣) في الثاني (٤) فافهم (٥) (*).

______________________________________________________

(١) أي : الإخراج والإلحاق ، فيخرج بدليل الإخراج أو يدرج بدليل الإلحاق.

(٢) وهو الإخراج عن الميسور العرفي كصلاة فاقد الطهورين على المشهور ، حيث انها مما يعد ميسورا لصلاة واجد الطهورين ، لكن الشارع لم يعتن بهذا الميسور العرفي وأخرجه منه ، إما تخطئة للعرف في تمييز الميسور ، وإما تخصيصا لعموم قاعدة الميسور.

وان شئت فقل : ان الإخراج إما موضوعي ان كان تخطئة ، وإما حكمي ان كان تخصيصا.

(٣) كالتنزيلات الشرعية ، نظير تنزيل الطواف منزلة الصلاة في الحكم مع عدم تصرف في الموضوع.

(٤) وهو الإلحاق ، والأولى إضافة التخطئة إلى التشريك كما ذكرها في قوله : «نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف» فحق العبارة أن تكون هكذا : «وتشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع ، أو تخطئة للعرف بالإدراج في الموضوع في الثاني».

(٥) لعله إشارة إلى : أن المعيار في صدق الميسور على الباقي ان كان هو قيامه

__________________

(*) وقد تلخص من جميع ما ذكرناه حول قاعدة الميسور أمور :

الأول : أن الحق تمامية الاستدلال بالخبر الثاني والثالث على قاعدة الميسور.

الثاني : أن مورد القاعدة هو المركب ذو الأجزاء دون الكلي الّذي تعذر بعض أفراده ، ودون الطبائع المتعددة التي تعذر بعضها ، سواء كان المتعذر في المركب

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

بتمام الغرض القائم بالمأمور به الواجد ، أو بمقدار يوجب التشريع كان ذلك مسقطا لنظر العرف عن الاعتبار في تشخيص الميسور في الماهيات المخترعة الشرعية ، ضرورة أن العرف لا يطلع غالبا أو دائما على الملاكات حتى يقدر على تمييز ميسورها عن غيره ، فاللازم حينئذ إناطة العمل بقاعدة الميسور بعمل الأصحاب في كل مورد بالخصوص ، إذ المفروض عدم قدرة العرف على معرفة الميسور ، فعملهم يكشف عن كون ذلك المورد ميسورا ، وموردا للقاعدة. ولعل هذا صار منشأ لذهاب المشهور إلى عدم العمل بها إلّا مع إحراز عملهم بها ، وإلّا فمع البناء على اعتبار الميسور العرفي لا وجه لتوقف في العمل بها وإناطته بعمل المشهور.

أو إشارة إلى : أن تصرف الشارع بالإدراج أو الإخراج ليس تخطئة للعرف في الموضوع ، بل هو إما تشريك واما تخصيص ، وكلاهما تصرف في الحكم. وعليه فيكون نظر العرف في تشخيص الميسور متبعا إلّا فيما قام الدليل على التخصيص أو التشريك ، فمع عدم قيام دليل عليهما يكون الميسور العرفي مجرى لقاعدة الميسور ، من دون توقف جريانها فيه على عمل الأصحاب ، إذ الملحوظ هو الميسور بالنظر إلى أجزاء المأمور به ، لا إلى ملاكه حتى يتوقف العمل بها على عملهم الكاشف عن كونه ميسورا ملاكيا عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام.

__________________

جزءا من أجزائه أم مرتبة من مراتب بعض أجزائه كمرتبة من مراتب القيام أو الركوع كما يظهر من الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) حيث انه جعل الإيماء باليد ميسورا للإيماء بالرأس والعين للسجود على ما هو المنصوص ، فأوجب هو (قده) الإيماء باليد لقاعدة الميسور. وما أفاده (ره) وان كان متينا في نفسه ، إلّا أن في تطبيق القاعدة على المورد المذكور تأملا ، حيث ان ميسور الإيماء بالرأس والعين للسجود هو الإيماء بأحدهما ، لا الإيماء باليد.

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة في المرتبة النازلة من كل جزء من أجزاء المركب مع تعذر المرتبة العالية ، كعدم الإشكال في جريانها في تعذر جميع مراتب جزء من الأجزاء مع تيسر بعضها الآخر.

الثالث : أن قاعدة الميسور كغيرها من القواعد العامة الملقاة إلى العرف في كون المتبع في تشخيص مفادها فهم العرف ، لأنهم المخاطبون بها ، إذ ليس للميسور حقيقة شرعية ، فلا بد في معرفة مفهومه من الرجوع إليهم. وإناطة الميسور باشتماله على معظم ملاك التام الّذي لا سبيل للعرف إلى معرفته دعوى بلا برهان ، فما عن المحقق النائيني وغيره بل المشهور من عدم حجية نظر العرف في تشخيص الميسور ، وإناطة جريانها في كل مورد بعمل الأصحاب ، وكذا ما يظهر من المصنف من قيام الميسور بمعظم ملاك الواجد حيث قال : «وان عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد ... إلخ» وقال أيضا : «ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه أو بمقدار يوجب .. إلخ» لا يخلو من الغموض إذ مرجع ذلك إلى تأسيس قاعدة كلية لا يجوز لغير المعصوم عليه الصلاة والسلام تطبيقها على مواردها ، وهذا بمكان من الغرابة ، إذ لازم ذلك عدم جريان قاعدة الميسور في الماهيات المخترعة الشرعية مطلقا ، وفي التوصليات التي لم يطلع العرف على ملاكاتها كما لا يخفى.

الرابع : أن القاعدة تجري في كل ما يصدق عليه عرفا ميسور المركب سواء كان حكمه الوجوب كالصلاة ، أم الحرمة كحلق اللحية ، وحرمة حلق الرّأس على المحرم ، وحرمة تصوير ذوات الأرواح ، فانه إذا جاز ارتكاب بعض متعلق الحرمة لإكراه أو غيره لم يجز ارتكاب ما تيسر منه ، لقاعدة الميسور القاضية بعدم سقوط

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحرمة عن الميسور بسبب سقوطها عن المعسور ، فجواز حلق طرفي اللحية أو مقدم الرّأس لمرض أو غيره لا يسوغ حلق البعض الميسور منهما ، فلا يجوز حلق الباقي من الرّأس واللحية ، وكذا تصوير بعض ذي الروح. وإذا شك العرف في صدقه على مورد ولم يكن دليل على حكمه يرجع فيه إلى الأصل العملي.

الخامس : أن قاعدة الميسور من العمومات القابلة للتخصيص كصلاة فاقد الطهورين ، والفاقدة لركن ولو مع الإتيان بجميع أجزائها ، فانه مع صدق الميسور العرفي عليهما قطعا قد خرجتا عن حيز قاعدة الميسور بالنص الخاصّ ، والتخطئة ان لم ترجع إلى التخصيص الّذي مرجعه إلى الإخراج الحكمي لا يظهر لها معنى صحيح.

السادس : أن قاعدة الميسور من الأدلة الاجتهادية المقدمة ورودا أو حكومة على الأصول العملية مطلقا وان كانت تنزيلية كالاستصحاب ، وقاعدة الميسور متممة لدلالة أدلة أجزاء المركب وشرائطه حيث لا يكون لها دلالة على كيفية دخل الجزء أو الشرط من حيث الإطلاق والاشتراط.

السابع : أن شأن القاعدة التوسعة في أفراد المأمور به وجعل الفاقد للجزء أو الشرط من مصاديقه ، وعليه فلو كان للمأمور به بدل اضطراري كالتيمم الّذي هو بدل طولي للغسل والوضوء ، وجرت قاعدة الميسور فيهما كالجبيري منهما لم يشرع التيمم حينئذ ، لأنهما ببركة القاعدة صارا من مصاديق المبدل أعني به الغسل والوضوء ، ومن المعلوم أنه مع التمكن من المبدل لا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري الّذي هو في طول المبدل.

وان شئت فقل : ان قاعدة الميسور حاكمة على أدلة بدلية التيمم ، لأن القاعدة

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بإثبات حكم الواجد للفاقد توجد فردا للمبدل ، ومن المعلوم أنه مع التمكن منه لا تصل النوبة إلى البدل الّذي موضوعه الاضطرار وعدم التمكن من المبدل ، فما ذكره شيخنا العظم في الفرائد بقوله : «الثاني لو جعل الشارع للكل بدلا اضطراريا كالتيمم ففي تقديمه على الناقص وجهان ... إلخ» من التردد في تقديم الناقص على البدل لا يخلو من الغموض ، ضرورة أن الفرد الاضطراري لكونه فردا للمبدل مقدم على البدل المترتب على العجز عن المبدل.

الثامن : جريان قاعدة الميسور في المستحبات كجريانها في الواجبات ، لما عرفت من دلالة «لا يسقط» في الخبر الثاني على عدم سقوط الميسور عن موضوعيته للحكم الّذي ثبت له قبل العسر ، من غير فرق بين كونه وجوبا وندبا ، ومعه لا حاجة إلى دعوى تنقيح المناط العرفي لإجراء القاعدة في المستحبات كما أفاده الشيخ (قده) بقوله : «إلّا أن يعلم جريانها في المستحبات بتنقيح المناط العرفي».

التاسع : الظاهر عدم اختصاص القاعدة بالعبادات ، فتجري في غيرها أيضا كالوصايا والأوقاف ، فإذا أوصى شخص بصرف ثلثه في استئجار أشخاص لقضاء صلوات عشر سنين مثلا عنه ، أو وقف بستانا أو دكانا أو غيرهما على أن تصرف أجرتها في إطعام عدد معين من الفقراء في كل ليلة من ليالي الجمعة ، ولم يف الثلث بما أوصى به ، وكذا عوائد الوقف بالموقوف عليه ، فان الظاهر مع الغض عن دليل خاص في بعض الموارد جريان قاعدة الميسور فيها ، وصرف الثلث والوقف في المقدار الميسور ، وعدم جواز صرفهما في مطلق الوجوه البرّية.

العاشر : مقتضى ما تقدم من جريان القاعدة في تعذر الشرط عدم اختصاصها بالأحكام التكليفية ، وجريانها في الأحكام الوضعيّة أيضا ، فتجري في موانع الصلاة

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كلبس الحرير للرجال وما لا يؤكل واللباس أو البدن المتنجس ، فانه مع العجز عن تطهير البدن أو اللباس أو الاضطرار إلى لبس الحرير أو ما لا يؤكل تسقط هذه الأمور عن المانعية ، لقاعدة الميسور وان لم يكن هناك دليل خاص على الحكم. وكذلك تجري القاعدة في مراتب المانع ، كما إذا تمكن من تخفيف النجاسة عن بدنه ، فانه يجب ذلك ، لأنه ميسور مانعية النجاسة ، فلا يسقط بتعذر إزالة جميعها ، وكذلك سائر الموانع.

وكذا الحال في السببية ، فان سبب حل الحيوان وهو التذكية أمور ، فإذا تعذر بعضها كالاستقبال أو التسمية مثلا جرت فيها قاعدة الميسور ، ومقتضاها عدم سقوط سببية ما عدا المعسور منها للتذكية. وكذا في سببية العقود لما يترتب عليها من الملكية أو غيرها. فانه لا مانع من جريان قاعدة الميسور فيها بعد تعذر بعض ما يعتبر في سببيتها كالعربية ، وإثبات سببية ما عدا المعسور منها ، والمراد بالسببية هو الموضوعية ، فعقد البيع مثلا سبب أي موضوع للحكم بالملكية أو غيرها ، وكذلك التذكية سبب للحل أي موضوع لحكم الشارع به ، وكذا سببية الحيازة وإحياء الموات للملكية.

الحادي عشر : الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام : «ما لا يدرك كله» صدور العجز عن فعل تمام المركب لا عن اختيار ، فان عدم الإدراك ظاهر في الفوت القهري لا مطلقا ، فلا يشمل التفويت الاختياري كما هو الأظهر في «من أدرك الوقت» أيضا ، فلا يشمل من أخّر الصلاة عمدا إلى أن بقي من الوقت مقدار ركعة. وعليه فمن كان متمكنا من الصلاة التامة خالية عن الموانع ولم يأت بها بلا عذر حتى ابتلي بموانعها لا تجري القاعدة في الموانع ، بل المرجع الأدلة

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الخاصة الواردة في تلك الموارد.

وقد ظهر مما ذكرناه من القيود المعتبرة في قاعدة الميسور ـ من كون موردها تعذر بعض أجزاء المركب ، وعدم كون التعذر بسوء الاختيار ـ عدم ورود إشكال تخصيص الأكثر عليه ، بل في حاشية المصنف على الرسائل : «أن الباقي تحت هذه القاعدة بالنسبة إلى الخارج كالقطرة من البحر» وذلك لخروج كثير من الموارد عن حيز القاعدة تخصصا ، ولورود نصوص خاصة في جملة منها توافق القاعدة ، ومن المعلوم عدم قدح تلك النصوص الخاصة في عموم القاعدة.

الثاني عشر : أنه قد ظهر من اختصاص القاعدة بالمركب ذي الأجزاء عدم جريانها في الواجبين المتزاحمين اللذين لا يقدر المكلف على الإتيان بهما معا ، بأن يقال : ان الميسور منهما لا يسقط بالمعسور ، بل المرجع حينئذ في المتساويين العقل الحاكم بالتخيير ، وبإتيان الأهم منهما في غير المتكافئين ملاكا.

ولنختم الكلام بالبحث عن سند الروايات التي استدل بها على قاعدة الميسور ، بعد أن كنت مرسلة أرسلها ابن أبي جمهور إلى النبي والولي صلوات الله عليهما بلا ذكر مأخذها من كتاب أو أصل ، ويمكن إثبات اعتبارها بأحد طريقين :

الأول : وهو الجاري على ألسنة المتأخرين من دعوى جبر ضعف الإرسال بتحقق الشهرة على العمل بها كما في الرسائل وشرح الميرزا الآشتياني وغيرهما ، وقد نقل العلامة المتتبع الميرزا فتاح (ره) في عناوينه فروعا كثيرة تزيد على خمسين استشهد بها على استناد الأصحاب إلى هذه القاعدة وعملهم بها ، قال (قده) : «ومن جملة القواعد المتلقاة من الشرع الكثيرة الدوران المتشتتة الفروع قاعدة الميسور ولزوم الإتيان بالمستطاع ، ويتمسك بها في لزوم تخفيف النجاسة كمّا وكيفا كالغسل

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مرة وان لم يطهر ، وفي غسلات الولوغ ، ومنزوحات البئر ، وتباعد البالوعة ، وقيام غير التراب مقامه في التطهير ، ووضوء الأقطع ، والجبيرة في أعداد غسلات الوضوء ، والمضمضة ، وغسل اليد ، والمباشرة في جميع ما تعتبر فيه ، وحكاية ما أمكن من الأذان ، والإتيان بسائر الدعوات المندوبة ، وأعداد مسحات الاستبراء وخرطاته ، وجلوس الحائض في مصلاها ، ومندوبات الاحتضار والموت ، والغسل بالقراح مع تعذر الخليط من سدر أو كافور ، ومن وراء الثياب ، وقيام غير الساتر مقامه ، والواحد مقام الثلاثة في الكفن ، وكفاية التكبيرات في صلاة الميت ، والممكن من التربيع للجنازة ، وطلب الماء وان لم يكن غلوة أو غلوتين ، والمسح مقام الغسل ، وظهر اليد موضع بطنها ... إلى أن قال : وفوات القيد من زمان أو مكان ، أو وصف أو حالة ذاتي أو عرضي قابل للتبدل أم لا ، ونظائر ذلك مما لا يخفى على المتتبع».

ولا ريب في أن استناد المشهور في العشرات من الفروع إلى قاعدة الميسور مما يشرف الفقيه على القطع بصدور روايات الباب واعتبارها سندا ودلالة.

إلّا أن المتتبع في الأخبار يجد أن أكثر تلك الفروع منصوصة ، وليس مستند الحكم فيها هذه القاعدة ، ولو لا مخافة التطويل لسردت عليك مقدارا منها. وبعضها أجنبي عن تعذر الجزء أو الشرط ، لكون المورد من الاستقلاليين ، وبعضها مستند إلى قاعدة الاحتياط ، ولو بقي بعض الفروع التي يستند فيها إلى القاعدة لم يكن كافيا لتحقق صغرى الجبر بالعمل.

مع أن دعوى استناد المشهور إلى هذه القاعدة اجتهاد منه (ره) ، وهو ممنوع كما عرفت ، لعدم كفاية مجرد الموافقة بين الفتوى والرواية الضعيفة في

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تحقق الجبر ، لأنها أعم من الاستناد كما هو ظاهر. وعليه فإثبات اعتبار القاعدة بهذا الطريق غير تام.

الثاني : إخراج هذه الروايات عن الإرسال وإثبات سند لها ، ببيان : أنها وان رويت في الغوالي مرسلة كسائر ما روي فيها ، إلّا أن مؤلف الكتاب ذكر في مقدمته طرقا سبعة لجميع ما رواه فيه ، وكلها تنتهي إلى العلامة (قده) ومنه إلى الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، فتكون مسندة ، قال في الفصل الأول من مقدمة كتابه : «في كيفية إسنادي وروايتي لجميع ما أنا ذاكره من الأحاديث في هذا الكتاب ، ولي في ذلك طرق ...» وقال بعد بيان الطريق السابع : «فهذه الطرق السبعة المذكورة لي جميعها تنتهي عن المشايخ المذكورين إلى الشيخ جمال المحققين ثم منه ينتهي الطريق إلى الأئمة المعصومين إلى رسول رب العالمين ..».

وقال : «فبهذه الطرق وبما اشتملت عليه من الأسانيد المتصلة المعنعنة ، الصحيحة الإسناد المشهورة الرّجال بالعدالة والعلم وصحة الفتوى وصدق اللهجة أروي جميع ما أرويه وأحكيه من أحاديث الرسول وأئمة الهدى عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام ، فجميع ما أنا ذاكره في هذا الكتاب من الأحاديث النبوية والإمامية طريقي في روايتها وإسنادها وتصحيحها هذه الطرق المذكورة عن هؤلاء المشايخ المشهورين بالعمل والفضل والعدالة ...».

وعلى هذا فروايات كتاب الغوالي ليست مرسلة ، بل هي مسندة بفضل ما ذكره في أول الكتاب من مشيخته وطرقه لها ، فهي لا تقصر عن بعض مراسيل الصدوق التي حذف وسائطها عند بيان الرواية وذكرها في المشيخة ، لخروج الرواية بذلك عن الإرسال.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وراجعنا شرح سيدنا الجد ـ السيد الجزائري ـ أعلى الله مقامه على الكتاب المسمى بالجواهر العوالي فيما يرتبط بالمقام ، وأفاد ما حاصله : أما مشايخه وأساتيذه فهم إلى فخر الدين موثقون بتوثيقه ، لأنه أثنى على كل واحد منهم بما يناسب حاله ، وحيث انه ثقة كما نصّ عليه جماعة من المتأخرين فتوثيقه لهم حجة أيضا. ثم قال حول شبهة الإرسال : «اننا تتبعنا ما تضمنه هذا الكتاب من الأخبار فحصل الاطلاع على أماكنها التي انتزعها منه مثل الأصول الأربعة وغيرها من كتب الصدوق وغيره من ثقات أصحابنا أهل الفقه والحديث».

أقول : والأمر كما أفاده (قده) فان كثيرا من تلك الروايات موجودة في الكتب الأربعة وغيرها ، فمن الممكن أن المؤلف ظفر بكتاب أو أصل معتبر ونقل بعض الأخبار منه. وقد نقل المحدث النوري (١) شطرا من كلام سيدنا الجد وأيد به مختاره في عدّ كتاب غوالي اللئالي من الكتب المعتبرة. وقد ارتضاه العلامة المجلسي أيضا على ما حكاه السيد في مقدمة شرحه بعد أن كان راغبا عنه في أول الأمر. هذا غاية ما يمكن بيانه بهذا الصدد.

لكن مع ذلك كله في النّفس دغدغة تثبطني عن الركون إلى ما أفيد ، وذلك فانه وان لم يكن وقوف ابن أبي جمهور على أصل حاو لروايات قاعدة الميسور واطلاعه عليه مستبعدا كما وقع لغيره ، بعد أن كان ذلك الأصل مخفيا عن المتقدمين ، إلّا أن المانع من الالتزام به تصريح المؤلف بأن جميع ما يرويه ينتهي إلى العلامة ، ومنه إلى الأئمة عليهم‌السلام ، ومن المعلوم أن في طريق العلامة إليهم عليهم‌السلام أرباب الكتب الأربعة وغيرها من جوامع الأخبار كالصدوق

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، الخاتمة ، ص ٣٦٤

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والمفيد والشيخ وغيرهم ، فكيف لم يرو واحد منهم هذه الروايات الثلاث في كتابه ، ـ مع كونها كما ادعاه الميرزا فتاح مستندا ومدركا لكثير من الأحكام الإلزامية وغيرها ـ على حدّ نقل سائر الأخبار الصحاح والضعاف.

ودعوى إمكان خفاء ذلك الأصل عليهم إلى زمان ابن أبي جمهور تنافي تصريحه بأن ما يرويه معنعن السند إلى المحمدين الثلاثة ثم إلى الأئمة عليهم‌السلام. واحتمال إجازتهم لرواية أصل اختفي على المجيز كاد أن يلحق بالمحالات ، كما لا يخفى على من له معرفة بديدن الأصحاب في نقل الاخبار وتثبتهم ودقتهم فيه.

وقد تحصل : أن إثبات اعتبار روايات قاعدة الميسور مشكل ، لا من ناحية جبر إرسالها بالعمل ، لما عرفت من عدم إحرازه ، ولا من ناحية جعلها من الأخبار المسندة المعتبرة ، إلّا أن الموجب للبحث عن دلالتها دعوى جمع شهرة العمل بها. وحيث كان المدار في الحجية على الوثوق الشخصي بالصدور ، فمن حصل له الاطمئنان به فهو ، وإلّا فيشكل الاستدلال بها ، وان ذكر صاحب الجواهر (قده) رواية الميسور في عداد الأدلة في عدة موارد كوضوء الأقطع وتعذر الخليط في غسل الميت وصلاة المتوسط في دار مغصوبة وغيرها ، إلّا أن النصوص الخاصة فيها مضافا إلى قاعدة الاشتغال تمنع عن الوثوق بتحقق الجبر بالعمل.

٣٧١

تذنيب (١) : لا يخفى أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من

______________________________________________________

(الدوران بين الجزئية والمانعية ونحوهما)

(١) الغرض من عقده بيان حكم شيء دار أمره بيان الجزئية والمانعية والقاطعية ، أو بين الشرطية والمانعية والقاطعية ، ولا بد قبل التعرض لحكمه من بيان صوره ، فنقول وبه نستعين : ان صور المسألة أربع :

الأولى : دوران شيء بين جزئيته ومانعيته كالاستعاذة بعد تكبيرة الإحرام ، لاحتمال كل من جزئيتها ومانعيتها ، وكالسورة الثانية ، لاحتمال جزئيتها ومانعيتها ، وكونها مبطلة للصلاة بناء على مبطلية القران بين السورتين.

الثانية : دورانه بين جزئيته وقاطعيته ، كما إذا فرض أن الاستعاذة ان لم تكن جزءا كانت من القواطع المبطلة للصلاة وان وقعت بين الأجزاء ، لا في نفس الأجزاء ، وهذا هو الفارق بين القاطع وبين المانع الّذي تختص مبطليته بما إذا وقع في نفس الأجزاء ، ويعبر عن بعض الموانع بالقاطع ، لكونه قاطعا للهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة على ما قيل.

٣٧٢

الدوران بين المحذورين (١) (*) ،

______________________________________________________

الثالثة : دورانه بين الشرطية والمانعية ، كالجهر بالقراءة في ظهر الجمعة ، للقول بوجوبه أي شرطيته والقول بمبطليته.

الرابعة : دورانه بين الشرطية والقاطعية ، كهذا المثال إذا فرض أن القائل بمبطليته يذهب إلى قاطعيته.

إذا عرفت صور الدوران ، فاعلم : أن المصنف (قده) بنى على جريان حكم المتباينين فيها ، حيث انه لا جامع بين المشروط بشيء والمشروطة بشرط لا ، فلا يمكن الإتيان بهما معا ، مثلا إذا كان الجهر بالقراءة واجبا كانت الأجزاء مشروطة بوجوده ، وإذا كان الإخفات واجبا والإجهار مبطلا كان الأجزاء مشروطة بعدم الجهر ، ولا جامع بين الوجود والعدم ، فلا يمكن الإتيان بالطبيعة المأمور بها في واقعة واحدة إلّا بأحدهما ، ويمكن الاحتياط بإتيانها مع كليهما في واقعتين. وهذا هو ضابط المتباينين ، فلا يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المحذورين حتى يكون الحكم فيه التخيير كما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قده) بتقريب : أنه على تقدير جزئيته أو شرطيته يجب الإتيان به ، وعلى فرض المانعية أو القاطعية يحرم الإتيان به ، فيدور أمره بين الوجوب والحرمة ، وهذا هو الدوران بين المحذورين.

(١) هذا إشارة إلى ما أفاده الشيخ (قده) من اندراج المقام في الدوران بين المحذورين ، لإجرائه البراءة فيما إذا دار أمره بين الجزئية والمانعية ، أو الشرطية والقاطعية ، بناء على عدم حرمة المخالفة القطعية غير العملية كما في دوران الأمر

__________________

(*) كما لا يكاد يكون من صغريات الأقل والأكثر ، كما يظهر أيضا من كلمات شيخنا الأعظم (قده) بتقريب : أن المتيقن وجوبه ذوات الأجزاء ، والشك انما يكون في اعتبار شيء زائد عليها ، ومقتضى الأصل عدمه. وذلك لما تقدم من دخل هذا الزائد قطعا ، غاية الأمر أنه لا يعلم كيفية دخله في المركب من حيث

٣٧٣

لا مكان الاحتياط (١) بإتيان العمل مرتين مع ذاك

______________________________________________________

بين المحذورين على ما صرّح هو (قده) بذلك في العلم الإجمالي من مباحث القطع ، والمخالفة الالتزامية المترتبة على الأصل الجاري في الطرفين لا محذور فيها ، لعدم وجوبها عنده ، فلا محالة يكون الحكم في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير بين الفعل والترك.

(١) هذا دفع توهم كون المقام من الدوران بين المحذورين. توضيح هذا الدفع : أن ضابط الدوران بين المحذورين ـ وهو احتمال الموافقة والمخالفة في كل من الفعل والترك وعدم إمكان الموافقة القطعية كما في المرأة المحلوف على مباشرتها أو تركها في وقت خاص ، حيث ان في كل من فعل المباشرة وتركها احتمال الموافقة والمخالفة ـ لا ينطبق على المقام ، لإمكان الموافقة القطعية فيه بتكرار العمل بأن يؤتى بالصلاة تارة مع الجهر بالقراءة وأخرى بدونه ، مع عدم وجود احتمال المخالفة مع كل من الفعل والترك الناشئين عن احتمال المطلوبية. غاية الأمر أن ما لا ينطبق عليه الواجب يقع لغوا واقعا مع صدوره لغرض عقلائي وهو القطع بامتثال أمر الشارع.

والحاصل : أنه مع العلم الإجمالي بالتكليف وإمكان الامتثال القطعي ولو بالاحتياط المستلزم لتكرار العمل لا يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك ، ولا يرخص في ترك الإطاعة.

__________________

الجزئية أو الشرطية أو غيرها ، فيعلم إجمالا بمطلوبية الطبيعة في ضمن أحد الخاصّين ، ومن المعلوم مباينة أحدهما للآخر ، كالصلاة المقيدة بالحرم الشريف أو الجامع ، فان كلّا منهما مباينة للأخرى.

وبالجملة : فالمقام أجنبي عن باب الأقل والأكثر ، فليس من موارد جريان أصالة البراءة وان قلنا بها في الأقل والأكثر كما هو الصحيح.

٣٧٤

الشيء (١) مرة وبدونه أخرى كما هو أوضح من أن يخفى (*).

______________________________________________________

(١) أي : الشيء الّذي دار أمره بين الجزئية والمانعية والقاطعية ، أو بين الشرطية والمانعية والقاطعية ، وضمير «بدونه» راجع إلى «ذاك الشيء».

__________________

(*) لم يظهر لهذه العبارة الدائرة في الألسن والكتب معنى صحيح ، إذ لا بد في المفضل عليه من وجود المبدأ فيه كـ «زيد أعلم من عمرو» فلو لم يكن عمرو عالما لم يصح هذا الكلام ، ومن المعلوم أنه ليس في الخفاء وضوح حتى يقال : ان المطلب الكذائي أوضح منه ، فالصحيح أن يقال في أمثال هذا المقام : أوضح من الواضحات ، أو : أوضح من كل واضح.

٣٧٥

خاتمة في شرائط الأصول (١)

أما الاحتياط (٢) فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا (*) بل يحسن

______________________________________________________

(شرائط الأصول العملية)

(١) وهي الاحتياط والبراءة بقسميها وأصالة التخيير.

(٢) الّذي موضوعه احتمال الحكم الواقعي ، وفائدته المترتبة عليه هي الإحراز العملي للواقع على تقدير ثبوته ، لكن شيخنا الأعظم (قده) جعل هذا الإحراز العملي موضوع الاحتياط ، حيث قال : «ويكفي في موضوعه ـ أي الاحتياط ـ إحراز الواقع المشكوك فيه به» فتدبر.

__________________

(*) إلّا إذا احتمل أداء الاحتياط بدون الفحص إلى ترك واجب أهم ، كما إذا صرف ماءه في الوضوء مع احتمال وجوب صرفه فيما هو أهم من الوضوء فانه يجب عليه الفحص لئلا يفوت عنه الواجب الأهم بتقصيره ، كما يجب الفحص في البراءة. ومجرد كون الاحتياط انقيادا إلى المولى لا يجوّز ترك الفحص ، ولا يرفع قبح تفويت الواجب عقلا.

وبالجملة : لما كان حسن الاحتياط عقلا لكونه محرزا للواقع على فرض ثبوته فلا بد من اعتبار عدم مزاحمته لما يوجب قبحه.

٣٧٦

على كل حال (١) ، إلّا (٢) إذا كان موجبا لاختلال النظام (*) ولا تفاوت

______________________________________________________

(١) أي : سواء أقامت حجة غير علمية على خلافه أم لا ، وسواء أكان احتمال الحكم الواقعي قويا أم ضعيفا ، وسواء أكان قبل الفحص أم بعده ... إلى غير ذلك من الصور ، وسواء أكان الاحتياط حقيقيا أم إضافيا كالأخذ بأحد القولين أو الأقوال في المسائل الفرعية.

(٢) هذا استثناء عن حسن الاحتياط ، وغرضه : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء إلّا عدم كونه موجبا لاختلال النظام ، فالاحتياط الّذي ينجرّ إلى ذلك لا حسن فيه ، وظاهر كلام الشيخ هنا عدم اعتبار شيء في حسنه حتى عدم اختلال النظام. وكيف كان فقوله : «إلّا إذا» ظاهر في كون الاختلال رافعا لحسن الاحتياط لا لنفسه المحرز للواقع ، لظهور السلب في القضايا السالبة في رجوعه إلى المحمول لا الموضوع ، فالاحتياط المخل بالنظام محرز للواقع ، لكنه ليس بحسن لإخلاله بالنظام.

وان كان من المحتمل رجوع الاستثناء إلى الموضوع بأن يقال : ان حقيقة الاحتياط هي إحراز الواقع عملا مع عدم مزاحمة جهة مقبّحة له عقلا ، ومع وجود المزاحم ينتفي موضوع الاحتياط ، فتكون السالبة بانتفاء الموضوع. لكن هذا الاحتمال ضعيف جدا ، لأن حقيقة الاحتياط هي الإحاطة بالواقع ، وحسنه أو قبحه أحيانا لعارض خارج عن هويته ، وظهور قوله : «إلّا إذا كان موجبا لاختلال النظام» في نفي هذا الاحتمال ورجوع السلب إلى المحمول مما لا مجال لإنكاره ، لأن معناه : إلّا إذا كان الاحتياط موجبا لاختلال النظام ، فالاختلال الرافع لحسنه

__________________

(*) أو لحصول الوسوسة الشيطانية ، فان كان الاحتياط معرضا لها أعاذنا الله وجميع إخواننا المؤمنين منها خرج عن الحسن إلى القبح ، لكونه حينئذ تعويدا للخبيث وإطاعة له ، وقد نهي في النصوص عنهما.

٣٧٧

فيه (١) بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو (٢) كان موجبا للتكرار فيها.

وتوهم (٣) كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة فاسد (٤) ، لوضوح أن التكرار ربما يكون

______________________________________________________

مترتب على وجود الاحتياط ، لا رافع لحقيقته ، فان الحسن والقبح من المحمولات المترتبة على وجود شيء.

(١) أي : حسن الاحتياط ، وهذا إشارة إلى الخلاف في حسنه في العبادات كما نسب إلى جمع من الفقهاء تبعا للمتكلمين ، بزعم : أن الاحتياط فيها مخل بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مع التمكن منهما.

(٢) كلمة «لو» وصلية ، وبيان لوجه الإطلاق وإشارة إلى خلاف آخر ، وهو أن الاحتياط يحسن ان لم يكن مستلزما لتكرار العبادة ، وإلّا فلا حسن فيها ، لما سيشير إليه وتقدم أيضا في الجزء الرابع في سابع الأمور المتعلقة بمباحث القطع ، وقد نسب إنكار حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة إلى صاحب الحدائق. وضمير «فيها» راجع إلى العبادات.

(٣) هذا أحد الوجوه التي نوقش بها في حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، ومحصله : أن التكرار عبث لا يترتب عليه غرض عقلائي ، ولعب بأمر المولى ، وهو ينافي قصد القربة أي امتثال أمره المعتبر في العبادة. وعليه فمع التكرار لا يحصل ما هو قوام العبادة من قصد القربة ، وهذا الوجه يوجب امتناع الاحتياط في العبادات ، وضمير «هو» راجع إلى التكرار.

(٤) خبر «وتوهم» ودفع له بوجهين : أحدهما : ما أشار إليه بقوله :«لوضوح»

٣٧٨

بداع صحيح عقلائي (*).

______________________________________________________

وحاصله : أن التكرار ليس لازما مساويا للعبثية المنافية لقصد الامتثال ، لإمكان نشوه عن غرض عقلائي ، كما إذا كان التكرار موجبا لتعوده على العبادة أو دافعا لضرر عدو عن نفسه إذا استحيا العدوّ من الإضرار به ما دام مصليا ، أو كان الفحص والسؤال سببا للذل والمهانة ، أو غير ذلك من الأغراض العقلائية الموجبة لتكرار العبادة المخرجة له عن العبثية المنافية لقصد الامتثال المعتبر في العبادة.

وبالجملة : فالعبثية لا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، لكونها أخص من المدعى كما لا يخفى.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «مع أنه لو لم يكن» ومحصله : أن مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى ، بحيث لا يكون له داع سواه ، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدى وظيفته وان لم يكن التكرار ناشئا من غرض عقلائي وكان لعبا في كيفية الامتثال ، لكنه لا ينافي قصد الإطاعة ، حيث ان حقيقتها كما عرفت هي الانبعاث إلى الفعل عن بعث المولى ، وتحركه عن تحريكه ، والمفروض تحققها.

__________________

(*) يمكن أن يريد منكر حسن الاحتياط المستلزم للتكرار عبثية هذا الاحتياط بنظر العقل مع التمكن من الامتثال العملي التفصيليّ ، وأن الاحتياط ليس امتثالا عقلا ، والغرض العقلائي من التكرار لا يسوغه ولا يدرجه تحت عنوان الإطاعة أصلا. وعليه فلا يندفع الإشكال بوجود الغرض العقلائي من التكرار كما يقول به من يلتزم بترتب مراتب الإطاعة وطوليتها كما لا يخفى.

مضافا إلى : أن ذلك الغرض العقلائي الراجح أو المباح ان كان مانعا عن استقلال القربة في الداعوية ، فالظاهر بطلان العبادة ، فلا بد من تقيد ذلك الغرض العقلائي بعدم إسقاطه للقربة عن استقلالها في الداعوية حتى لا يندرج في الضميمة

٣٧٩

مع (*) أنه لو لم يكن بهذا الداعي (١) وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه (٢) لما (٣) ينافي قصد الامتثال وان كان لاعبا في كيفية امتثاله (٤) (**) فافهم.

______________________________________________________

(١) أي : داع صحيح عقلائي ، وضمير «أنه» راجع إلى «التكرار» ويمكن أن يكون للشأن.

(٢) أي : سوى أمر مولاه ، وضميرا «مولاه ، له» راجعان إلى المكلّف المفهوم من الكلام ، وضمير «إتيانه» إلى الفعل المستفاد من العبارة.

(٣) جواب «لو» يعني : لو كان أصل الإتيان بداعي أمر المولى لم يكن التكرار غير الناشئ عن غرض عقلائي منافيا لقصد الامتثال وقادحا في حسن الاحتياط المستلزم للتكرار ، إذ اللعب انما هو في كيفية الإطاعة لا في نفسها ، إذ المفروض كون الإتيان بالمحتملات ناشئا من أمر المولى.

(٤) لعله إشارة إلى صحة هذا الجواب ، فانه لا يلزم اللعب في كيفية الامتثال

__________________

المانعة عن كون داعي القربة صالحا للاستقلال في البعث إلى العبادة.

إلّا أن يقال : ان هذه الضميمة ليست في عرض قصد القربة ، بل في طولها حيث ان الداعي إلى الإطاعة هو الأمر فقط ، والانبعاث يكون عن البعث مجردا عن كل ضميمة ، والضميمة انما تقع في كيفية الإطاعة ، وهي متأخرة عن نفس الإطاعة ، فليتأمل.

(*) لا يخفى أن الترتيب الطبعي يقتضي تقديم هذا الجواب على الأول ، بأن يقال : «فاسد أولا بعدم منافاة التكرار لقصد الامتثال ، وثانيا : بإمكان نشوء التكرار عن غرض عقلائي على تقدير منافاته له».

(**) كيفية الامتثال هي فعل المحتملات التي يحرز بها الواقع ، فلو فرض كونها لعبا امتنع انطباق المأمور به على أحد المحتملات حتى يتحقق الامتثال

٣٨٠